هزيمة الشعر الجاهلي :
ورأى زعماء مكّة مواجهة خطر الدين الجديد باستخدام
( 23 )
امضى الأسلحة وهو الشعر الذي بلغ العرب فيه الذروة آنذاك ، وهكذا انبرى أبو سفيان بن الحارث وعمرو بي العاص وابن الزبعري وغيرهم إلى مقارعة النبي ، ولكنهم وجدوا أنفسهم خاسرين لدى أول منازلة ولم يصمد الشعر الجاهلي برمّته أمام بلاغة آيات القرآن التي فتنت العربي بحلاوتها وطلاوتها وانسيابها وتأثيرها العميق .
ووقف العربي مشدوهاً أمام ظاهرة بالغية لم تكن لتخطر على باله ؛ وقد نصح الوليد بن المغيرة قريشاً بعد أن اعترف قائلاً : ان له لحلاوة وان عليه لطلاوة وانه ليحطم ما تحته ، وانه ليعلو ولا يعلى عليه ؛ نصحهم ان يقولوا : « ما هو إلا سحر يؤثر أما رأيتموه يفرق بين الرجل وأهله وولده » .
وقد لج كفار قريش في صراعهم مع النبي وقالوا أن ما يردده محمد لا يعدو أن يكون اساطير الأولين اكتتبها فهي تملي عليه بكرة واصيلا ؛ وينبري النضر بن حارث إلى ترديد اساطير قديمية من قبيل حكايات « اسفنديار ورستم » الفارسية الأصل ، واتخذ مكانه في المسجد الحرام حيث يجلس النبي لتلاوة القرآن ، ولم تجد كل المحاولات في صرف المأخذوين بروعة البيان السماوي عن الاصغاء لمحمد ، ولم يجدوا سبيلاً سوى ابداء الناصئح قائلين :
« لا تسمعوا لهذا القرآن والغوا فيه لعلكم تغلبون » .
اننا نذكر ذلك لأننا سنجد الفتى علي بن أبي طالب سوف
( 24 )
يبهر العرب ببلاغته بعد عقود من السنين ، فلقد تشرّب آيات السماء منذ اعتناقه الأسلام يوم الثلاثاء (1) .
سنوات الرماد :
تفتق ذهن ابي جهل عن فكرة شيطانية تقضي بمقاطعة بني هاشم اقتصادياً واجتماعياً ، وقد تحمس لها زعماء قريش فحرّروا بذلك صحيفة قاسية وقعها اربعون رجلاً منهم يمثلون طوائف قريش ؛ وعلّقت الصحيفة في جوف الكعبة لكي تكتسب صفة مقدّسة .
جدير بالذكر ان فكرة المقاطعة هذه قد تم تداولها في « دار الندوة » وهو المكان الذي تجتمع فيه قريش لمناقشة القضايا المصيرية .
وكان أبو طالب عم النبي صلى الله عليه وآله في مستوى التحدّي الجديد ، فنصح قبيلته بالنزوح إلى احد أودية مكّة لأن روح المقاطعة يتضمن شكلاً من اشكال اعلان الحرب ، وبات من المتعذر على المحاصرين مغادرة الوادي إلا في موسمي الحج والعمرة (2) ؛ وقد تفقد أبو طالب الثغرات الموجودة في الوادي وبنى فيها تحصينات منيعة للحؤول دون تسلل من يهمة الاعتداء على حياة النبي الذي
(1) تذكر كتب السيرة أن النبي صلى الله عليه بعث يوم الاثنين وصلّى علي يوم الثلاثاء .
(2) شهري رجب وذو الحجة .
( 25 )
اضحى رمزاً لأكبر تحدٍ يواجهه بنو هاشم وبنو عبد المطلب (1) .
ولقد كانت تجربة الحصار تجربة مريرة عانى فيها المحاصرون من الجوع والظمأ ولكنهم صمدوا حتى النهاية وكان أكبر همّ أبي طالب حماية النبي بأي ثمن ، واصبح من المشاهد المتكرّرة انه كان يطلب من ابن اخيه العظيم أن يأوى إلى فراشه في ساعة الغروب حتى يراه الجميع ، فاذا غمر الظلام الوادي طلب من ابنه علي أن ينام في فراش ابن عمّه فاذا كان هناك من يراقب النبي ويترصّده ليعيّن مكانه قبل أن يتسلّل لتنفيذ جريمته فانه سوف يطعن قلب علي وبذلك ينجو محمد صلى الله عليه وآله وتستمر رسالة السماء .
وليس هناك ما يفسر هذا الموفق سوى الايمان .. الايمان العميق لذلك الشيخ الوقور والسيّد المهاب .
ولنتصور مشاعر ذلك الفتى الشجاع وهو يتقدم كل ليلة طائعاً لينام في فراش رجل تترصّده عيون الحقد وسهام الغدر ، انه يعانق الموت كل ليلة فداءً للحبيب محمد صلى الله عليه وآله .
ولقد استمرت أيام الحصار ثلاث سنين وكانت الارضة تقضم خلالها البنود الظالمة فلم تترك في الصحيفة سوى كلمة مقدّسة هي باسمك اللهم .
ولقد بلغت النذالة لدى زعماء قريش انهم كانوا يشترون ما
(1) استثني من المقاطعة كل من ابي لهب وابي سفيان الحارث بن عبد المطلب .
( 26 )
يعرض من طعام في مطّة لتخلوا الأسواق منه في الأيام التي يخرج فيها المحاصرون في موسم الحج حتى إذا جاءوا ليشتروا طعاماً لم يجدوا شيئاً فيعودوا لمواصلة رحلة الجوع المضنية .
واستكملت الارضة التهام الصحيفة الظالمة ما خلا باسمك اللهم واتصلت السماء بالأرض ، وجاء محمد يبشر عمه أبا طالب ووقف زعماء مكّة مذهولين أمام معجزة السماء ، لقد قهرت هذه الحشرة الصغيرة كبرياء قريش ، مرّغت غرورهم بالوحل .
ولنتخيل فرحة الصغار وهم يعودون إلى احضان مدينتهم بعد معاناة طويلة في الوادي .
العام الحزين :
مضت كهور على انتهاء الحصار وكان أبو طالب الذي تخطّى الثمانين يخطو صوب النهاية .. نهاية كل الحيوات لقد هدّته السنون والحوادث .
وقف علي يتأمل أباه بعينين غارقتين بالدموع ، لقد توقف القلب الكبير ,, وسكنت تلك الأنفاس الدافئة ووقف النبي صلى الله عليه وآله يبكي بمرارة وهو يؤبن الراحل الكبير :
ـ رحمك الله يا عم .. ربيتني صغيراً وكفلتني يتيماً ونصرتني كبيراً ..
ولم يجد أحداً يواسيه سوى أخيه وربيبه فعانقه وقد
( 27 )
اجهش بالبكاء .
ويسدد القدر سهماً آخر واذا بخديحة تلك الزوجة المؤمنة الوفية تسقط هي الاُخرى فريسة المرض ولم تلبث أن ودّعت زوجها العظيم .
يا لعذاب الأنبياء يا لصبر محمد ! الزمان يتخطّف احبّته مذ كان جنيناّ في بطن امه وعندما بلغ ست سنين ويوم بلغ الثامنة ؛ غير أن أبا طالب ام يغادر الدنيا حتى خلف فتى يفدي أخاه بروحه ، ولم ترحل خديجة حتى قدّمت لزوجها فتاة تذوب حناناً ورحمة لأبيها .
بدأ زمن الزمهرير والذئاب التي كانت تهاب أبا طالب ذات يوم ، هي الأن تعوي ، عيونها تبرق حقداً وقد ذرّ الشيطان قرنيه (1) .
الحياة في موتكم قاهرين :
سوف يبقى الموت والحياة لغزاً في حياة البشر ، فالضباب الذي يهيمن على العيون سوف يحجب الرؤية بوضوح لمن يريد الخلود فأي الطريقين يسلك طريق الموت ام طريق الحياة ؛ دعنا نراقب منزلاص كريماً في مكّه وقد مضت ثلاثة عشر عاماً على هبوط جبريل في غار حراء .
شعر المشركون بالخطر وهم يرون ابناء مكّة يفرّون بدينهم
(1) قال رسول الله صلى الله عليه وآله : والله ما نالت قريش مني شيئاً اكرهه إلا بعد موت ابي طالب .
( 28 )
متجهن شمالاً إلى مدينة يثرب لقد قيضّ الله لهم قوماً لنصرة رسالة السماء ، وقد تتابعت هجرة المسلمين حتى اقفرت احياء بكاملها (1) .
ولدركت قريش ان وقوفها مكتوفة الأيدي يعني تنامي الخطر يوماً بعد آخر ؛ وانبرى أبو جهل ليضع خطّة جهنمية لتصفية محمد إلى الأبد .
وهبط جبريل يفضح خطّة الشيطان لاطفاء النور اللذي اضاء جبل حراء (2) وسوف يضيء العالم باسره :
ـ« ولذ يمكن بك الذين كفروا ليثبتوك أو يقتلوك أو يخرجوك ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين » .
وفي تلك اللحظات التاريخية بدأت واحدة من أعظم قصص الفداء في تاريخ الإنسان .
ولا يمكن للمرء أن يتصور مهما أوتي من سعة الخيال ان يتصور مشاعر شاب في الثالثة والعشرين من عمره وهو يتقدم إلى معانقة الموت .
تشارعت الأحداث بشكل مثير ، ونسجت قريش اخطر مؤامراتها كما تنسج العنكبوت بيتاً هو أوهن البيوت ، ودعا النبي
(1) مرّعتبة بن ربيعة بدور بني جحش وكانت خالية تماماً فانشد :
وكل دار وان طالت سلامتها
*
يوماً ستدركها النكباء والحوب
(2) اصبح اسمه فيما بعد « جبل النور » .
( 29 )
ابن عمه الحبيب واطلعه على فصول المؤامرة ؛ وكان المطلوب من علي ان يرقد في فراش النبي وكان همّ ابن أبي طالب الوحيد هو أن يسأل :
ـ أو تسلم يا رسول الله أن فديتك بنفسي ؟ (1)
ـ نعم ... بذلك وعدني ربّي .
وارتسمت مشاعر فرح على وجه علي ، وتقدم إلى فراش النبي ليرقد بسلام آمناً مطمئناً ، فيما كانت عيون اربعني ذئب تبرق في الظلام ، وتمرّ اللحظات مثيرة وانسلّ رسول الله خارجاً من المنزل متجهاً صوب الجنوب إلى غار في جبل ثور .
واقتحم المتآمرون منزل رسول الله والسيوف تبرق في غبش الفجر وكانت المفاجأة ان هبّ علي من الفراش واسقط في ايديهم . وشهدت مكّة في الساعات الأولى من الصباح حركة غير عادية لقد فرّ الإنسان الذي ارسلته السماء ليغمر الأرض بنور ربّها . فرسان الدوريات تبحث في كل مكان ، وقد رصدت قريش الجوائز المغرية لمن يأتيها بمحمد حيّاً أو ميتاً أو يدلي بمعلومات تساعد في القبض عليه .
ومكث علي في مكّة أياماً كان أياماً كان خلالها يتجه إلى الا بطح في الغدوّ والأصال فينادي :
(1) وفي هذا نزل قوله تعالى : « ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضاة الله » .
( 30 )
ـ ألا من كانت له قبل محمد أمانة فليأت لتؤدّى له أمانته .
رسالة من قبا :
وصل سيدنا محمد « قبا » (1) وحط رحله في تلك البقعة من ارض الله ؛ ومن قبا بعث النبي صلى الله عليه وآله رسالة إلى ابن عمّه يأمره فيها بالقدوم ، وانطلق أبو واقد الليثي إلى مكّة وسلّم الرسالة علياً .
ترى لماذا هذا الاصرار على انتظار علي ؟ لماذا ظلّ النبي على أبواب المدينة حتى يقدم ابن عمة وأخوه ؟ ولقد وقف التاريخ الهجري ينتظر تلك اللحظات الدافئة في لقاء محمد وعلي هناك في اعماق علي سرّ عجيب ، عندما تضطرم الحقيقة الكبرى في الذات الإنسانية فتحيل كل ما حولها اشياءً متألّقة بضوء لا يستمد شعاعه من شمس ولا قمر أنه الضوء القادم من قلب السموات وهكذا كان ايمان ذلك الفتى أنه لا يعرف في الوجود سيّداً غير محمد .. محمد الذي فتح عينيه على ينابيع النور في سفوح حراء .
لا شيء في الاُفق سوى الرمال وذلك الخط الأزرق الذي يعانق سمرة الرمال ، ولاحت قافلة تسير على هون قافلة فيها أربعة فواطم .. فاطمة بنت اسد وفاطمة بنت محمد ، وفاطمة بنت الحمزة وفاطمة بنت الزبير . وفي « ذي طوى » كان المقهوون ينتظرون علياً لينقذهم من القرية الظالم أهلها ، وسارت القافلة تشق طريقها في
(1) قرية على بعد ميلين من المدينة المنورة .
( 31 )
بطون الأودية ، ولا شيء سوى السماء الزرقاء والرمال السمراء .
علي يعرف اشياء كثيرة ... منذ عشرين سنة وهو يرافق رجلاً اختارته السماء ، انه لا يرافقه فحسب بل يذوب فيه يندمج معه .. لهذا فهو يعرف سرّ العالم .
شيء واحد كان يجهله تماماً لا يعرف له معنى هو الخوف ، لقد وقف الإنسان عاجزاً أمام لغز الموت نهاية كل الحيوات ، هل هو نهاية ؟ أم بداية ، ولكن علياً الذي اكتشف نبع الخلود قهر الموت أكثر من مرّة وكان الموت يهرب منه ، يفرّ من بين يديه كلما اراد عناقه .
لقد التحف قبل أيام ببردة النبي واغمض عينيه في فراش تغمره رائحة الفردوس ، انه يقدّم نفسه قرباناً لأخر الأنبياء في تاريخ الإنسان ؛ وإذا كان اسماعيل قد اسلم وجهه لله فأنّه كان يدرك أن أباه سيذبحه على هون ، ولكن علي أغمض عينيه ليفتحمها على عشرات الخناجر المسمومة ولسوف تبضعه وسوف تتدفق دماؤه من خلال مئات الجراح .
لقد تناسفت الملائكة من أحل الحياة ، لم يفد جبريل ميكال اختار كلاهما الحياة ولكن الإنسان الذي صاغتة السماء حطّم حاجز الموت كسّر قضبان الزمن الصدئة واختار الفداء (1) .
(1) « أوحى الله إلى جبريل وميكائيل اني قضيت على احدكما بالموت ، فايكما يفدي =
( 32 )
القافلة تطوي المسافات حتى إذا وصلت قريباً من « ضجنان » ادركها « الطلب » واذا بثمانية فرسان يعترضون القافلة يريدون اعادة التاريخ إلى الوراء ، وفي ذلك المكان فوجئت جزيرة العرب بـ « ذو الفقار » يتألق في دنيا الفروسية ؛ كانوا ثمانية فرسان يريدون اعادة القافلة ألى مكّة .. إلى القرية الظالم أهلها .. العيون تبرق حقداً ؛ هتف فارس لم يكتشف علياً بعد :
ـ أظننت يا غدّار أنك ناج بالنسوة .. ارجع لا أباً لك .
اجاب علي بثبات جبل حراء :
ـ فان لم أفعل ؟
ـ لترجعن راغماً .
واغار « جناح » (1) على النوق لا ثا رتها فاعترضه علي فاهوى عليه جناح بضربة تفاداها علي وسدّد له ضربة جبّارة ، « فقضى عليه » ؛ تسمر الباقون وقد اذهلتهم المفاجأة انهم لم يروا في حياتهم ضربة كهذه ؛ صاح احدهم وقد رأى الفتى يستعد لشنّ هجوم معاكس :
= صاحبه ؟ فاختار كلاهما الحياة ؛ فاوحى إليهما هلا كنتما كعلي لقد آخيت بينه وبين محمد وجعلت عمر أحدهما اطول من الآخر فاختار علي الموت وآثر محمداً بالحياة ، اهبطا فاحفظاه من عدوه » | تاريخ اليعقوبي ، اسد الغابة لابن الأثير ، احياء علوم الدين للغزالي .
(1) مولى لحرب بن أمية .
( 33 )
ـ احبس نفسك عنّا يا ابن ابي طالب .
وهتف علي كأنما يتحدّى العالم الوثني باسره :
ـ اني منطلق إلى أخي وابن عمّي رسول الله .
وانطلقت القافلة صوب يثرب ، وكان رسول الله ما يزال ينتظر في قبا ؛ ووقف التاريخ الإنساني ينتظر قبل أن يلج عهداً جديداً من فصوله المثيرة في المنعطفات التي تغيّر فيها المدن اسماءها (1) .
وفي السادس عشر من ربيع الأول الموافق 20 أيلول عام 622 للميلاد وصلت قافلة التاريخ الهجري مدينة يثرب وكانت الحشود المسلمة تحدّق في « ثنيّات الوداع » تترقب وصول آخر الأنبياء في تاريخ البشرية .
وكانت « القصوى » تشق طريقها إلى بقعة اختارتها السماء لتكون ؛ منزلاً ومسجداً وطهورا ؛ وتوقفت الناقة في « مربد » (2) لغلامين يتيمين من بني النجار .
وبوشر العمل في بناء مسجد النبي صلى الله عليه وآله وكان ذلك ايذاناً بميلاد امّة جديدة ؛ وانسابت كلمات الأذان معبّرة أخّاذة كلحن قادم من السماء .
(1) اكتسبت يثرب اسماً جديداً هو « مدينة الرسول » .
(2) مكان يجفّف فيه التمر .