المشهد الثالث : الشمس تغمر مسجد النبي صلى الله عليه وآله بالضوء الرسول صلى الله عليه وآله والذين آمنوا يصلّون خلفه صفوفاً ؛ الصمت يغمر المكان ما خلا تمتمات الصلاة .
ولما انفتل النبي صلى الله عليه وآله من الصلاة دخل اعرابي .. يحكي في
(1) عن رواية « وكانت صدّيقة » .
( 62 )
هيئته عناء الصحراء وقسوتها ، الثياب مهلهلة ممزّقة خرّقتها ريح السموم ، والعينان غائرتان منطفئتان ذهبت ببريقهما مرارة الأيّام .
لم يجد الاعرابي سوى اللجوء إلى رسول السماء .. إلى ظلال وارفة ، واحة مضمخة بشذى جنّات الفردوس . واطلق السائل صيحة استغاثة ، فخلف جدران المسجد صبية وبنات .. اجساد عارية تنشد الستر ، وبطون خاوية تبحث عن رغيف الخبز .
وظلّت نداءات الاعرابي دون جواب ، ورمق الاعرابي السماء بعينين غارقتين في حزن مرير :
ـ اللهم اشهد أني سألت في مسجد رسول الله فلم يعطني أحد شيئاً .
وفيما كان الاعرابي يهمّ بالانصراف رأى رجلاً يومي إليه .خفّ اليه الاعرابي بلهفة كان الرجل يصلّي كان راكعاً لله ويده ممدودة ، لم تكن الكفّ خالية ففي الخنصر خاتم فضي .
نزع الاعرابي الخاتم ، وعادت كفّ الرجل خالية .
ومضى الاعرابي فرحاً فيما ظلّ الرجل يصلّي لله . وتأثر النبي صلى الله عليه وآله فرفع يديه إلى السماء قائلاً : اللهم ان أخي موسى سألك فقال : « رب أشرح لي صدري ويسّر لي امري * واحلل عقدة من لساني يفقهوا قولي * واجعل لي وزيراً من أهلي * هارون اخي * اشدد به ازري * واشركه في أمري » فانزلت عليه قرآناً ناطقاً : « سنشد عضدك باخيك
( 63 )
ونجعل لكما سلطاناً فلا يصلون اليكما بآياتنا » اللهم وأنا محمد نبيك وصفيك ، اللهم اشرح لي صدري ويسر لي امري واجعل لي وزيراً من أهلي عليّاً اشدد به ازري .
وعرجت الكلمات تطوي المسافات وتخترق مدارات الزمن ، وهبط جبريل ..
تصفّد جبين النبي صلى الله عليه وآله ، تألقت فوق جبينه الأزهر حبّات العرق كقطرات الندى ، وفاحت في فضاء المسجد عطور الفردوس وافاق النبي صلى الله عليه وآله وانسابت كلمات السماء كنهر هادئ :
ـ « انّما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون * ومن يتولّ الله ورسوله والذين آمنوا فان حزب الله هم الغالبون » .
ان السماء ولا شك بأخذ بيد علي وترفعه علياً تمنحه منحت سيد الخليقة محمد صلى الله عليه وآله إلا النبوة .
محطّات الجهاد :
دخلت السنة السابعة من الهجرة ، وكلمة الإسلام تطوف ربوع الجزيرة العربية كفراشة تبشر بالربيع القادم .
وتهيأ سيدنا محمد صلى الله عليه وآله ومعه ألفان من الذين أمنوا إلى قضاء عمرة الحج ، واخليت مكّة للزائرين ؛ وكان زعماء قريش يراقبون
( 64 )
عن كثب أفواج المسلمين وهي تنحدر من شمال مكّة إلى بطن الوادي ؛ كان عبد الله بن رواحة (1) آخذاً بخطام ناقة النبي ، وعندما انكشف البيت للوافدين تصاعدت هتافات التوحيد من اعماق القلوب المومنة :
ـ لبيك اللهم لبيك ... لبيك لا شريك لك لبيك ان الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك ... ودخل النبي المسجد والتفت إلى اصحابه قائلاً :
ـ رحم الله امرأً أراهم اليوم من نفسه قوّة .
واستلم الركن ثم بدأ يهرول حول البيت ، وهرول المسلمون خلف النبي صلى الله عليه وآله سبعة اشواط وكان منظراً ادهش الوثنيين ... وربّما تساءل بعضهم كيف امكن لهذا الطريد الذي خرج قبل سبع سنوات فارّاً يعود الآن ومعه الفان من انصاره فيدخل مكّة دخول الفاتحين ...
وفي تلك اللحظات دوّت نداءات لها مغزاها الخالد وتجاوبت جنبات الوادي لهتافات المسلمين :
ـ لا إله إلا الله وحده .. نصر عبده .. واعزّ جنده وهزم
(1) عبد الله بن رواحة بن امرئ القيس من بني مالك بن ثعلبة كنيته أبو محمد ، صحابي جليل القدر ومن الشعراء الراجزين كان يدافع عن النبي صلى الله عليه وآله بشعره ، ويثير حماس المسلمين والمجاهدين وكان احد النقباء الاثني عشر في بيعة العقبة استشهد في معركة مؤتة 8 هـ حيث مرقد الآن | اُسد الغابة 3 : 156 .
( 65 )
الأحزاب وحده ..
وشعر الوثنين بالغيظ والحقد وتذكروا تلك الأيام المريرة في ذلك الشتاء القارس ، واستعادوا تفاصيل ذلك المشهد الخالد يوم سقط بطل الوثنية عمرو بن عبد ود عند قدمي فتى الإسلام علي بن أبي طالب .
وكان همّ سيدنا محمد صلّى الله عليه وآله أن يرسم صورة مشرقة لثقافة الإسلام الجديدة ، ولا شك أن بعض اولئك الوثنيين قد تأثر لمنظر المسلمين وهم يطوفون حول الكعبة ؛ وهم يصطفّون للصلاة فتنساب آيات السماء معبّرة بليغة جميلة .
ومرّت ثلاثة أيام ، وارسلت قريش وفداً يذكر النبي بانتهاء الأجل الذي نصّت عليه معاهدة « الحديبية » (1) وعرض النبي صلى الله عليه وآله أن
في السنة السادسة للهجرة عزم النبي صلى الله عليه وآله على اداء العمرة ، وكان من المفروض ان تسمح قريش لهم بذلك اسوة بسائر القبائل العربية ، ولكن مشركي مكّة رفضوا ذلك بعناد ، وعسكر النبي صلى الله عليه وآله في الحديبية قرب المكّة وارسل وفداً يشرح لهم اهداف زيارته ، وتأزم الوضع بشكل انذر بوقوع حرب مدمّرة ، وخيراً اتفق الفريقان على ابرام معاهدة سلام جاء فيها :
1ـ انهاء حالة الحرب مدّة عشر سنين .
2ـ ان يرجع النبي صلى الله عليه وآله واصحابه هذا العام دون عمرة على أن يعودوا في العام القادم ، وتلتزم قريش باخلاء مكّة مدّة ثلاثة أيام .
وعندما اراد علي بن أبي طالب عليه السلام تحرير بنود الاتفاق وكتب : « بسم =
( 66 )
يقيم مأدبة طعام لأهل مكّة ، فرفضت قريش اقتراح النبي وطلبت من المسلمين مغادرة مكّة .
جعفر الطيار :
في جمادي الأولى من السنة الثامنة للهجرة الشريفة وقعت معركة مؤتة في شمال الجزيرة العربية عندما اصطدم الجيش الإسلامي بحشود الرومان والتي قدّر بعض المؤرخين انها ناهزت المئتي ألف جندي ، حيث هوى زيد بن حارثة وجعفر بن أبي طالب (1) وعبد الله بن رواحة شهداء ، فيما قاد خالد بن الوليد الذي
= الله الرحمن الرحيم ، اعترض المفاوض الوثني واصرّ على كتابة « باسمك اللهم » وكتب علي هذا ما صالح عليه محمد رسول الله سهيل بن عمرو واعترض الأخير أيضاً قائلاً بل اكتب اسمك واسم ابيك ، ولم تطاوع نفس علي ان يمحو صفة الرسالة عن سيدنا محمد فاخذ النبي صلى الله عليه وآله الصحيفة ومحاها بنفسه والتفت إلى علي وقال بحزن :
ـ ان لك مثلها يا علي !
لقد كان سيدنا محمد صلى الله عليه وآله ينظر إلى المدى البعيد إلى ابعد من ثلاثين سية قادمة ؛ سوف يحارب علي في صفين « القاسطين » معاوية واتباعه وسوف يضطر علي إلى وقف القتال والتفاوض .
وعندما يحرر عبد الله بن عباس بنود الاتفاق ويكتب : هذا ما صالح عليه علي أمير المؤمنين معاوية بن أبي سفيان ، سوف يعترض المفاوض الشامي قائلاً : لو شهدت بان علياً أمير المؤمنين ما قاتلته ، بل اكتب علي بن أبي طالب ويرفض عبد الله بن عباس ذلك فيأخذ علي صحيفة الاتفاق ويمحو « امير المؤمنين » وهو يستعيد تفاصيل ما وقع في « الحديبية » .
(1) شقيق علي من السابقين إلى الإسلام قاد الهجرة الثانية إلى الحبشة ، وكان =
( 67 )
اسلم حديثاً عملية انسحاب ناجحة .
وجاء نصر الله :
خرقت قريش صلح الحديبية بتحريضها « بني بكر » على (1) قبيلة خزاعة حليفة المسلمين ، وحاول بعض سادة قريش تدارك الموقف وفي طليعتهم أبو سفيان ، الذي شدّ الرحال إلى المدينة لاستقبال الزمن وتجديد معاهدة الحديبية مع سيدنا محمد صلى الله عليه وآله .
غير أنه قد فات الأوان فقد سبقه وفد خزاعة الذي اطلق صيحه استغاثة بالنبي صلى الله عليه وآله مذكّراً اياه بالتحالف .
والتقى أبو سفيان سيدنا محمد صلى الله عليه وآله .
قال أبو سفيان :
ـ جئت أجدد العهد وازيد في أمده .
سأل النبي :
الهذا جئت يا أبا سفيان ؟!
= لخطابه أمام النجاشي ابلغ الأثر في تجذير الإسلام وكسب تعاطف ملك الحبشة الذي اسلم فيما بعد . وتزامنت عودته إلى المدينة مع انتصارات الإسلام في خيبر ، قال سيدنا محمد صلى الله عليه وآله فيه : اشبهت خلقي وخُلُقي ، كان يلقب بأبي المساكين لاحسانه إلى الفقراء . | الطبري 2 : 37 .
(1) أغار بنو بكر على قبيلة خزاعة ليلاً ، وكانت قريش قد مدّت المعتدين بالرجال والسلاح ، وذلك في شعبان سنة 8 هـ ، ولجأت خزاعة إلى الحرم المكي ولكن المعتدين استمروا في عدوانهم منتهكين حرمة البيت العتيق .
( 68 )
أجاب أبو سفيان بخبث :
ـ نعم .
فسأل النبي صلى الله عليه وآله :
ـ فهل حدث عندكم ما يوجب ذلك ؟
اجاب أبو سفيان وهو يخفي الحقائق الدامية :
ـ كلا .. نحن على صلحنا في الحديبية لا نغير ولا نبدّل .
وشعر أبو سفيان أن النبي صلى الله عليه وآله يعرف ما حصل فانطلق إلى ابنته رملة زوجة النبي صلى الله عليه وآله وفوجئ بموقف لم يكن يتوقعه ابداً فقد طوت أم حبيبة فراش النبي صلى الله عليه وآله وسلّم وقالت بشجاعة :
ـ انه فراش رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم وانت امرؤ مشرك نجس .
فقال الوثني متظاهراً بالأسى :
ـ لقد اصابك بعدي شرّ .
فاجابت المرأة المؤمنة :
ـ بل هداني الله إلى الإسلام .
واردفت تدعوه إلى النور :
ـ واعجباً لك وانت سيد قريش وكبيرها تعبد حجراً لا يسمع ولا يبصر ولا يغني عنك شيئاً .
فقال أبو سفيان وهو يتشظى حقداً :
ـ بل الأعجب انكِ تريدين ان اترك دين آبائي واتبع
( 69 )
دين محمد !! .
اخفق أبو سفيان في مهمّته ، ولكنه اضحى كالغريق الذي يتشبث بأي شيء من اجل النجاة (1) ؛ فراح يستنجد بهذا وذاك دون جدوى ؛ وانطلق الزعيم الوثنى إلى علي بن أبي طالب فلم يجد لديه استعداداً للوساطة فاستشاره فيما يتوجب عليه أن يفعل في هذه الظروف السيئة فقال علي :
ـ انك من سادة كنانة ... ولا أرى لك إلا أن تقوم فتجير بين الناس ... ولا اظن ان ذلك يجديك شيئاً .
وهكذا عاد أبو سفيان إلى مكّة صفر اليدين ؛ واعتبرته قريش فاشلاً في رحلته وراح بعضهم يتهكم منه قائلاً :
ـ لقد لعب فيك علي بن أبي طالب .
وفي ظروف بالغة السرّية كان النبي يعدّ العدّة للزحف باتجاه مكّة وكان أكبر همّه أن يفاجئ قريش بحشود هائلة فيضطرها إلى الاستسلام دون اراقة للدماء ؛ وبالرغم من كل الاجراءات فقد تسرّب النبأ إلى أحد الصحابة (2) فسطّر اخباره المثيرة في رسالة
(1) تذكر كتب السيرة انه ذهب إلى ابي بكر والى عمر وعثمان فلم يجد لديهم تجاوباً ، كما ذهب إلى فاطمة بنت النبي صلى الله عليه وآله وسلّم فقد اجارت اختها زينب أبا العاص بن الربيع يوم كان مشركاً ، غير أنها رفضت ان تتدخل .
(2) حاطب بن ابي بلتعة .
( 70 )
وبعث بها إلى مكّة ، وكان قد استأجر امرأة لهذا الغرض .
وهبط الوحي يفضح هذه المؤامرة ، فبعث سيدنا محمد صلى الله عليه وآله وسلّم علياً والزبير على وجه السرعة لتدارك الموقف ، وفي منطقة الحليفة (1) أوقف الفارسان المرأة ، واستجوبها الزبير ابن العوام ، فاقسمت انها لا تحمل أية رسالة وانخرطت في البكاء ، فقال الزبير لعلي بعد أن فتش الرحل تفتيشاً دقيقاً .
ـ ليس معها شيء ارجع بنا إلى رسول الله نخبره .
فقال علي بلهجة تتدفق ايماناً بصدق النبوّات :
ـ يخبرني رسول الله ان معها كتاباً ويأمرني بأخذه فتقول لا شيء معها !!
واقبل علي على المرأة مهدداً :
ـ والله لأن لم تخرجي الكتاب لاكشفنك ، وانهارت المرأة وهي ترى سيف علي فقالت :
ـ اعرض عني .
واستخرجت المرأة الكتاب من جدائلها .
واجتمع المسلمون في المسجد وقد بان الغضب على وجه النبي صلى الله عليه وآله وسلّم :
(1) على بعد أميال من المدينة المنوّرة .
( 71 )
أيها الناس ! لقد كنت سألت الله ان يخفي اخبارنا عن قريش وان رجلاً منكم كتب اليهم يخبرهم ... فليقم صاحب الكتاب قبل أن يفضحه الوحي .
وساد صمت رهيب ، وكرّر النبي دعوته ، واخيراً نهض حاطب وهو يرتجف كسعفة في ريح باردة :
ـ انا صاحبه يارسول الله .
ودمعت عيناه وهو يقول :
والله اني لمسلم مؤمن بالله ورسوله ما غيّرت وما بدّلت ولكني امرأ ليس لي في مكّة عشيرة ولي فيها أهل وولد فاردت أن اصانعهم .
وأمر النبي باخارجه من المسجد ، وراحت الجماهير تدفعه إلى خارج المسجد ، وهو ينظر إلى سيدنا محمد بعينين فيهما ذلّة الانكسار ؛ وتدفق نبع الإنسانية في قلب رسول السماء فأمر باعادته واوصاه الا يعود إلى مثلها ابداً .
واستكمل المسلمون استعداداتهم العسكرية وبلغت الحشود عشرة آلاف مقاتل ، وغادر الجيش الإسلامي المدينة المنوّرة في رمضان المبارك سنة 8 هـ .
وصلت القوات الزاحفة مرتفعات « مرّ الظهران » (1) المطلّة على
تبعد عن مكّة 24 ميلاً عربياً أي ما يعادل 48 كم .
( 72 )
مكّة ، واراد النبي صلى الله عليه وآله وسلّم التهويل من ضخامة الزحف الإسلامي فأمر جنوده بايقاد النار فوق المرتفعات ، وشعر أبو سفيان بالانهيار وهو يراقب النار وهي تضيء الصحراء المترامية .
ولم يجد الوثنيون سوى الإستسلام وفتح أبواب مكّة للفاتحين .
وفوجئ أهل مكّة بمنظر سيدنا محمد وهو يدخل مكّة على ناقته مطرقاً برأسه تواضعاً ولم تبد عليه أية ملامح تدلّ على نشوة النصر ولا شهوة الانتقام ، لقد اتسع قلبه الكبير لكل الناس حتى لأولئك الذين آذوه وعذبوه وشرّدوه عن مرابع صباه ؛ ولقد كان بامكانه ان يحيل مكّة إلى خرائب ، ولكن محمد صلى الله عليه وآله وسلّم لم يكن يفكر بافتتاح المدائن ابداً فهمّة الوحيد أن يفتح القلوب ويقود الإنسان الحائر إلى ينابيع النور والأمل والحرّية .