حَيَاةُ الامامِ مُحمَّد الجَواد ( عليه السَّلام ) ::: 11 ـ 20
(11)
وممّا يدلّل على مدى ثرواته العلمية ، وهو بهذا السن انّ فقهاء الشيعة بعد وفاة الإمام الرضا ( عليه السلام ) قد خفّوا إلى يثرب للتعرّف على الإمام القائم من بعده ، فأرشدهم الثقات إلى الإمام الجواد فمثلوا أمامه وسألوه عن أعمق المسائل ، وأكثرها تعقيداً فأجابهم عنها ، ويقول الرواة : انّه سئل في موضع آخر عن ثلاثين ألف مسالة فأداب عنها ، ومن الطبيعي أنّه لا تعليل لهذه الظاهرة المحيّرة والمذهلة للفكر إلاّ بما تذهب إليه الشيعة الإمامية من أنّ أئمّة أهل البيت ( عليه السلام ) قد منحهم الله تعالى العلم وآتاهم من الفضل ما لم يؤت أحداً من الناس.
(3)
ويقول بعض المؤرّخين : إنّ مواهب الإمام الجواد ( عليه السلام ) وعبقرياته قد ملكت عواطف المأمون ، ومشاعره فأخلص له في الحبّ والولاء فقدّمه على أبنائه ، وأهل بيته ، وزوّجه من ابنته اُمّ الفضل ، ووفّر له العطاء الجزيل ، وأوعز إلى جهاز حكومته وسائر الأوساط الرسمية باحترامه وتبجيله. إلاّ أنّه واقع لذلك كما سنعرض له في بحوث هذا الكتاب.
(4)
ولم يلق الإمام الجواد ( عليه السلام ) أي ضغط اقتصادي طيلة حياته وإنّما عاش مرفهاً عليه غاية الترفيه فقد أجرى له المأمون مرتباً سنوياً يبلغ حوالي مليون درهم ، وهي كثيرة في ذلك العصر الذي كان الدرهم فيه يساوي قيمة شاة.
وكانت ترد إليه الأموال الطائلة من الحقوق الشرعية التي تذهب الشيعة إلى لزوم دفعها إلى الإمام ، كنصف الخمس الذي يسمّيه فقهاء الشيعة الإمامية بحقّ
(12)
الإمام ( عليه السلام ) وكمجهول المالك وغيره من سائر الحقوق الشرعية بالإضافة إلى واردات الأوقاف التي وقفها على أهل البيت ( عليهم السّلام ) بعض المحسنين من الشيعة في ( قم ) وغيرها وكان ( عليه السلام ) يقتصد في صرفه على نفسه ، وينفق تلك الأموال الطائلة على فقراء المسلمين وذوي الحاجة والمظرين ، ولهذا السخاء المنقطع النظير ، فقد لقّب ( عليه السلام ) بالجواد وكان هذا اللقب من أميز ألقابه وأشهرها حتى عُرِف واشتهر به بين الناس.
(5)
واُحيط الإمام محمّد الجواد ( عليه السلام ) بهالة من الحفاوة والتكريم ، وقابلته جميع الأوساط بمزيد من الاكبار والتعظيم ، فكانت ترى في شخصيّته امتداداً ذاتياً لآبائه العظام الذين حملوا مشعل الهداية والخير إلى الناس. إلاّ أنّه لم يحفل بتلك المظاهر التي اُحيط بها ، وإنّما آثر الزهد في الدنيا والتجرّد عن جميع مباهجها.
وقد رآه الحسين في بغداد ، وقد إلتفّت حوله الجماهير ، فحدّثته نفسه بأنّه لا يرجع إلى ما كان عليه من الزهد في الدنيا والاقبال على الله ، وشعر الإمام منه ذلك ، فأقبل عليه بلطف ورفق قائلاً :
( يا حسين ، إن خبز الشعير ، وملح الجريش في حرم جدّي رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) أحبُّ إليَّ ممّا تراني فيه ... ) (1).
وكانت هذه الظاهرة إحدى العناصر البارزة في سيرة الإمام محمّد الجواد ( عليه السلام ) كما كانت السمة البارزة في سيرة أئمّة أهل البيت ( عليهم السلام ) ، فلم يؤثر عن أي أحد منهم أنّه سعى للدنيا ، أو اتّجه نحو مباهجها ، وإنّما آثروا جميعاً طاعة الله وابتغوا الدار الآخرة ، وعملوا كلّ ما يقرّبهم إلى الله زلفى.
1 ـ إثبات الهداة 6 : 185.
(13)
(6)
وعاش الإمام محمّد الجواد عليه السلام في تلك الفترة القصيرة من حياته متّجهاً صوب العلم فرفع مناره ، وأرسى اُصوله وقواعده ، فاستغل مدّة بقائه في بغداد بالتدريس (1) وإشاعة العلم ، وبلورة الفكر بالمعارف والآداب الإسلامية ، وقد احتف به جمهور كبير من العلماء والرواة وهم يأخذون منه العلوم الإسلامية من علم الكلام والفلسفة ، وعلم الفقه ، والتفسير ، ويعرض هذا الكتاب إلى تراجمهم وإعطاء صورة مفصّلة عن حياتهم حسبما تنصّ عليه مصادر التراجم ، فإنّ الحديث عنهم من مكمّلات البحث عن شخصيّة الإمام ( عليه السلام ).
(7)
أمّا عصر الإمام الجواد ( عليه السّلام ) فهو من أروع العصور الإسلامية على امتداد التاريخ وذلك لانتشار الحضارة فيه على نطاق واسع ، وكان من أروع صور تلك الحضارة تطوّر العلوم ، وانتشار المعاهد ، وإنشار المعاهد ، وإنشاء المكتبات وترجمة الكتب الطبيّة ، والفلسفية من اللغة اليونانية وغيرها إلى اللغة العربية ، وقد صارت بغداد حاضرة من أعظم حواضر العلم والفكر في الإسلام فقد ازدهرت بكبار العلماء والمتخصّصين في علوم الطبّ واللغة والفقه وغيرها إلى اللغة وغيرها كما تطوّرت الحياة الاقتصادية في بغداد إلى حدّ غريب إلاّ أنّه من المؤسف أنّه قد تكدّست الملايين من الأموال عند بعض الطبقات ، وهي التي كانت تخدم السلطة العبّاسية ، وتعمل لصالحها ، فقد أثرت هذه الطبقة ثراءً فاحشاً حتى حارت في صرف ما عندها من الأموال ، حتى صنعت أبواب بيوتها من الذهب ،
1 ـ عقيدة الشيعة : ص 200.
(14)
وتفنّنت في أنواع الترف والشهوات في حين أنّ الأكثرية الساحقة من الشعوب الإسلامية كانت تعاني مرارة العيش والفقر والحرمان.
ونحن مدعوّون إلى دراسة عصر الإمام محمّد الجواد ( عليه السلام ) والوقوف على جميع معالمه الحضارية والاقتصادية والسياسية والاجتماعية ، فقد أصبحت دراسة العصر بهذا اللون من البحوث المنهجية التي لاغنى للباحث عنها ، ولم يعهد هذا الكتاب دراسة خاصّة عن حياة الإمام الجواد ( عليه السلام ) فقط وإنّما هو دراسة شاملة ومستوعبة للعصر الإسلامي الذي نشأ فيه.
(8)
أمّا البحث عن حياة الملوك الذين عاصرهم الإمام الجواد ( عليه السلام ) فإنّه يرتبط ارتباطاً وثيقاً وموضوعيّاً بحياة الإمام فإنّه يصوّر مدى ما عاناه من المشاكل وما عانته الاُمّة الإسلامية من المصاعب والخطوب في دور اُولئك الملوك الذين جهدوا على ظلم الناس وارغامهم على ما يكرهون.
وقد قضى الإمام أبو جعفر ( عليه السلام ) أكثر أيام حياته في عهد المأمون الذي هو من أبرز ملوك العبّاسيّين فكراً وسياسة ، ومقدرته للتغلب على الأحداث ، وقد عرضنا بصورة موضوعيّة إلى دراسة ، ودراسة الأحداث السياسية التي وقعت في عهده ، والتي كان من أبرزها :
عقده لولاية العهد للإمام الرضا ( عليه السلام ) والحروب الطاحنة التي وقعت بينه وبين أخيه الأمين ، وواقعة أبي السرايا ، وغير ذلك من الأحداث ، وقد ذكرنا الأسباب التي أدّت إلى أن يزوّج المأمون ابنته اُمّ الفضل من الإمام الجواد ( عليه السلام ) كما ذكرنا دراسة عن حياة المعتصم العبّاسي الذي قاسى الإمام في عهده أشد ألوان الاضطهارد فأرغمه على مغادرة يثرب والإقامة الجرية في بغداد ، وأقام عليه المباحث تحصي عليه جميع
(15)
تصرّفاته ، وتراقب جميع من يتّصل به ، ولمّا استبان له سموّ شخصية الإمام وأنّه لا يجاريه ولا يسايره ولا يقرّ سياسته الهادفة إلى نشر الظلم والفساد في الأرض فحينئذٍ دسّ له السمّ على يد زوجته اُمّ الفضل فاغتاله ، وكان الإمام في غضارة العمر وريعان الشباب ، ويعرض هذا الكتاب إلى تفصيل ذلك كله.
(9)
لا أرى هناك عائدة على الاُمّة ، أو خدمة تؤدّي إليها أفضل من نشر حياة أئمّة أهل البيت ( عليهم السلام ) وإذاعة مآثرهم ، ونشر فضائلهم بين الناس فإنّهم سلام الله عليهم المصدر الأصيل لكرامة الإنسان ، وشرفه ، والينابيع الفيّاضة للفكر والوعي ، لالهذه الاُمّة فحسب ، وإنّما للناس جميعاً على اختلاف قوميّاتهم ، وأديانهم ، وميولهم .. وقد رفعوا راية الحق عالية خفّاقة ، وهي ترشد الضالّ ، وتهدي الحائر ، وتوضّح القصد ، وتدللّ على الإيمان بالله الذي تبتني عليه قوى الخير والسلام في الأرض. إنّ البحث عن سير أئمّة أهل البيت ( عليهم السلام ) يكشف عن كنوز مشرقة من العلم والحكمة ويكشف عن ذوات أخلصوا للحقّ ، وخلقوا للإيمان واتّجهوا صوب الله تعالى ، وتبنّوا الدعوة إليه ، وعانوا في سبيل ذلك من فراعنة عصورهم مالم يعانه أي مصلح اجتماعي في الأرض ، إنّ الإمام الجواد ( عليه السلام ) أحد كواكب تلك العترة الطاهرة ، وهو ممّن رفع كلمة الله ، فامتحن كأشدّ ما يكون الامتحان من أجل ذلك قابله فراعنة عصره وطواغبت زمانه ، بألوان قاسية من الاضطهاد والجور ويوضّح هذا الكتاب جميع هذه الجوانب.
(10)
ولم تحظّ المكتبة العربية بدراسة عن حياة الإمام أبي جعفر الجواد ( عليه السلام ) الذي هو من
(16)
منابع الفكر والعلم في الإسلام ، وأحد مفاخره هذه الاُمّة وقادتها الطليعيّين فلم يكتب أحد عن سيرته سوى محمّد بن وهبان فقد ألّف كتاباً عن حياته أسماه ( أخبار أبي جعفر الثاني ) (1) لكنّه لم يوجد في مكتباتنا. ولعلّه من جملة ما ما فقدته الاُمّة من ثرواتها المخطوطة ، أو أنّه في بعض خزائن المخطوطات في مكتبات العالم.
وقد وفّقت ـ والحمدلله ـ إلى البحث عن سيرة هذا الإمام العظيم الذي ملأ الدنيا بفضائله وعلومه وزهده وتقواه ، ولا أدّعي أنّي ألممت بجميع جوانب حياته المشرقة ، فذاك أمر لا يتّفق مع الواقع الذي نخلص له ، وإنّما ألقينا أضواءً خافتة على بعض معالم شخصيّته التي هي امتداد ذاتي ـ بلا شكّ ـ لحياة آبائه الطاهرين الذين أضاؤا الحياة الفكرية والاجتماعية في الإسلام.
(11)
وأرى من الحقّ عليَّ وأنا في نهاية هذا التقديم أن أرفع بكلّ تقدير واعتزاز آيات الشكر والإخلاص إلى سماحة الحجّة العلاّمة الكبير الأخ الشيخ هادي القرشي على ما تفضّل به من مراجعة كثير من الموسوعات كوسائل الشيعة ، وغيرها من المصادر التي أمدّتنا بكثير من المعلومات عن حياة الإمام أبي جعفر ( عليه السلام ) بالاضافة إلى ملاحظاته القيّمة في هذا الكتاب سائلاً منه تعالى أن يجعله من ذخائر الفضل والعلم .. كما أنّ من الحقّ أن اُشيد بولدنا المهذّب النبيل السيّد عبدالرسول نجل السيّد رضا الحسيني الصائغ لمساهمته في الانفاق على طبع هذا الكتاب في طبعته الاُولى سائلاً منه تعالى أن يوفّقه لكلّ مسعىً نبيل.
1 ـ الذريعة 1:315 ، الأعلام 7:155.
وقبل أن أخوض في ميدان البحث عن معالم شخصيّة الإمام أبي جعفر
الجواد ( عليه السلام ) وأتحدث عن سيرته ، وسائر شؤونه ، أعرض إلى حسبه الوضاح ، وما
رافقه من بيان ولادته وملامح شخصيّته ، وغير ذلك ممّا يعتبر مفتاحاً للحديث عن
شخصيته ، وفيما يلي ذلك :
نسبه الوضّاح وليس في دنيا الأنساب نسب أسمى ، ولا أرفع من نسب الإمام أبي
جعفر ( عليه السلام ) فهو من صميم الأسرة النبوية التي هي من أجلّ الأسر التي عرفتها
الإنسانية في جميع أدوارها ، تلك الأسرة التي أمدّت العالم بعناصر الفضيلة والكمال ،
وأضاءت جوانب الحياة بالعلم والإيمان .. أما الأصول الكريمة ، والأرحام المطهرة التي
تفرع منها فهي :
الأب : أما أبوه فهو الإمام علي الرضا ابن الإمام موسى بن جعفر ابن
الإمام محمد الباقر بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب ( عليهم السلام ) وهذه هي
السلسلة الذهبية التي لو قرأت على الصمّ البكم لبرئوا بإذن الله عزوجل ـ كما يقول
المأمون العباسي (1) ـ ويقول الإمام أحمد بن حنبل : ( لو
قرأت هذا الإسناد على مجنون لبرئ من جُنّته ) (2)1 ـ عيون أخبار الرضا : ج 2 ص 147. 2 ـ الصواعق المحرقة : ص 207.
(20)
وفي بعض أعلام هذه الأسرة الكريمة يقول أبو العلاء المعري الذي كان يسيء الظن بأكثر
الناس :
والشخوص التي أضاء سناهاقبل أن تخلق السماوات
قبل خلق المريخ والميزانوتؤمر أفلاكهن بالدوران
من هذه الشجرة الطيبة الكريمة على الله ، والعزيزة على كلّ مسلم
تفرّع الإمام محمد الجواد ( عليه السلام ).
الأمّ : أما السيدة الفاضلة الكريمة أم الإمام محمد الجواد ( عليه
السلام ) فقد كانت من سيدات نساء المسلمين عفّة وطهارة ، وفضلاً ويكفيها فخراً وشرفاً
أنها ولدت علماً من أعلام العقيدة الإسلامية ، وإماماً من أئمة المسلمين ، ولا يحطّ
من شأنها أو يُوهن كرامتها أنها أمة ، فقد حارب الإسلام هذه الظاهرة واعتبرها من
عناصر الحياة الجاهلية التي دمرها ، وقضى على معالمها فقد اعتبر الفضل والتفوّق
إنّما هو بالتقوى ، وطاعة الله ولا اعتبار بغير ذلك من الأمور التي تؤوّل إلى التراب.
إن الإسلام ـ بكلّ اعتزاز وفخر ـ ألغى جميع ألوان التمايز
العنصري واعتبره من أهمّ عوامل التأخّر والانحطاط في المجتمع لأنّه يفرّق ، ولا يوحد
ويشتّت ولا يجمع ، ولذلك فقد سارع أئمة أهل البيت إلى الزواج بالإماء للقضاء على هذه
النعرات الخبيثة وإزالة أسباب التفرقة بين المسلمين فقد تزوج الإمام زين العابدين ،
وسيد الساجدين ، بأمة أولدت له الشهيد الخالد ، والثائر العظيم زيداً. وتزوّج الإمام
الرضا ( عليه السلام ) أمة فأولدت له إماماً من أئمة المسلمين وهو الإمام الجواد
( عليه السلام ).. لقد كان موقف الأئمة ( عليهم السلام ) من زواجهم بالإماء هو الردّ
الحاسم على أعداء الإسلام الذين جهدوا على التفرقة بين المسلمين.
حَيَاةُ الامامِ مُحمَّد الجَواد ( عليه السَّلام ) ::: فهرس