وتجسّدت في شخصية الإمام أبي جعفر الجواد ( عليه السلام ) جميع
المثل العليا والنزعات الرفيعة التي يعتزّ بها هذا الكائن الحيّ من بني الإنسان ،
وكان من بينها ما يلي :
الإمامة : وتقلّد الإمام أبو جعفر ( عليه السلام ) الإمامة والزعامة الدينية
العامة ، وكان عمره الشريف سبع سنين وأشهر ، كما تقلّد عيسى بن مريم النبوّة وهو دون
هذا السنّ.
لقد بنيت الإمامة على فلسفة عميقة تهدف إلى رفع مستوى الإنسان
وتحقيق ما يصبو إليه من إقامة الحقّ والعدل .. ولابدّ لنا من وقفة قصيرة للتحدّث عن
بعض شؤونها.
أهدافها : وعنت الإمامة بتحقيق الأهداف الأصلية التي ينعم في ظلالها
الإنسان وكان من بين تلك الأهداف :
أ ـ إقامة العدل في جميع أنحاء البلاد من دون فرق بين أن يكون
العدل اجتماعياً أو سياسياً ، فلا تواجه الأمّة في ظلّ الإمامة الرشيدة أي غبن
اجتماعي أو فردي ، ولا يوجد أي امتياز لقوم على آخرين فالجميع سواء أمام العدل
والحقّ ، وبإقامة هذا العدل الخالص يكون الإنسان خليفة لله في أرضه ولا تجد الأمّه
أي التواء في
(64)
مسيرتها.
ب ـ الثورة على الظلم والطغيان ، ومناجزة البطش ، ومنع سيطرة
القويّ على الضعيف ، وقد تبنّت الشيعة بصورة إيجابية هذه الجهة ، فقد ثارت بثورات
متلاحقة ضدّ الظلم والبغي ، وحاربت القوى الغادرة ، وقد رفعت رؤوس إعلامهم وأئمّتهم
على الرماح وهي تنير طريق الحرية والكرامة فقد قتل معاوية جماعة منهم عمرو بن الحمق
الخزاعي داعي الحقّ وعلم الحرية والنضال ، وبعد قتله رفع رأسه يطاف به في الأقطار
والأمصار ، وهو ينير للناس طريق الكفاح ، وقتل يزيد بن معاوية العترة الطاهرة من
أبناء الرسول ورفع رؤوسهم على الرماح وقد خلدت تلك الثورات للإسلام مجداً على
امتداد التاريخ فقد عرفت العالم أنّ الإسلام دين الكفاح والثورة على الظلم والبغي
والاستبداد.
إنّ الثورات المدوّية التي قامت في الإسلام لم تكن إلاّ بوحي من
الإمامة التي استوعبت أفكارها المشرقة قلوب أولئك الثوّار الذين ألغموا قصور
الظالمين بعبوات ناسفة أتت على معالم زهوهم وجبروتهم.
ج ـ صيانة اقتصاد الأمة ، وعدم التصرف في الخزينة المركزية إلاّ
في الصالح العام ، والعمل على تنمية القدرات الاقتصادية في البلاد ، وزيادة الدخل
الفردي ، وتطوير الاقتصاد العامّ بما يضمن رفع البؤس الذي هو رديف الكفر والإلحاد
وليس للحاكم وغيره من المسؤولين في جهاز الحكم التلاعب في مقدّرات الدولة أو اصطفاء
شيء منها لنفوسهم وذويهم .. وقد كان السبب الرئيسي في الثورة التي أطاحت بحكومة
عثمان عميد الأسرة الأمويّة هو تلاعب بني أميّة بأموال الدولة واصطفائها لهم ولمن
سار في جهازهم.
د ـ إشاعة الإيمان بالله الذي تبتني عليه قوى الخير والسلام في
الأرض فإنّ
(65)
الإيمان بالله إذا استقرّ في أعماق النفس ودخائل الذات يستحيل أن يقترف
الشخص ظلماً أو جوراً أو اعتداءً على الغير وإنّما يكون مصدر رحمة وخير إلى الناس.
هـ ـ العمل على تزكية النفوس ، وطهارة القلوب وغرس النزعات
الكريمة والصفات الفاضلة فيها ليكون فعل الخير والابتعاد عن الشرّ عنصراً من
عناصرها ومقوّماً من مقوّماتها ، وبذلك يتحقّق للبشرية أهمّ ما تصبو إليه.
و ـ نشر الأمن العامّ ، والقضاء على جميع ألوان الاضطرابات ،
فيعيش الفرد آمناً مطمئناً لا يلاحقه رعب ، ولا يطارده خوف ، فتعيش الشاة إلى جانب
الذئب لا تخشى منه ، ولا تحذره.
هذه بعض الأهداف الرفيعة التي تنشدها الإمامة التي تقول بها
الشيعة الإمامية ، وهي أسمى قاعدة للتطوّر البشري في جميع مراحل التاريخ.
صفات الإمام : ولابدّ أن تتوفّر في الإمام الصفات الرفيعة ، والمثل الكريمة ،
ومن بينها ما يلي :
العلم : وتجمع الشيعة على أنّ الإمام لا يدانيه أحد في سعة علومه
ومعارفه وأنّه لابدّ أن يكون أعلم أهل زمانه ، وأدراهم بشؤون الشريعة وأحكام الدين ،
والإحاطة بالنواحي السياسية والإدارية وغير ذلك ممّا يحتاج إليه الناس ، أمّا الأدلة
على ذلك فهي متوفّرة لا يتمكّن أحد أن ينكرها أو يخفيها فالإمام أمير المؤمنين سيد
العترة الطاهرة هو الذي فتق أبواباً من العلوم بلغت ـ فيما يقول العقّاد ـ اثنين
وثلاثين علماً ، وهو الذي أخبر عن التقدّم التكنولوجي الذي يظهر على مسرح الحياة ،
فقد قال ( عليه السلام ) :
(66)
يأتي زمان على الناس يرى من في المشرق مَن في المغرب ، ومن
في المغرب يرى مَن في المشرق ، وقال ( عليه السلام ) : ( يأتي زمان على الناس يسمع مَن
في المشرق مَن في المغرب ومَن في المغرب يسمع مَن في المشرق ، وتحقّق ذاك بظهور جهاز
التلفزيون والراديو ، وقال ( عليه السلام ) : ( يأتي زمان على الناس يسير فيه الحديد ،
وتحقّق ذلك بظهور القطار والسيارات وغيرهما ، وأمثال هذه الأمور التي أخبر عنها ،
يجدها المتتبّع في الكتب التي تبحث عن هذه الأمور كالغيبة للشيخ الطوسي وبعض أجزاء
البحار ، وغيرهما ممّا ألِّف في هذا الموضوع.
أمّا الإمام الصادق ( عليه السلام ) معجزة العلم والفكر في الأرض ،
فقد أخبر عن تلوّث الفضاء والبحار ، وما ينجم عنهما من الأضرار البالغة للإنسان كما
أخبر عن وجود الحياة في بعض الكواكب ، وهو الذي وضع قواعد التشريح ، وخصوصيّة أعضاء
الإنسان والعجائب التي في بدنه والتي منها الأجهزة المذهلة ، وقد عرض لذلك كتابه
المسمّى بتوحيد المفضل ويعتبر المؤسّس الأوّل لعلوم الفيزياء والكيمياء ، فقد وضع
أصولها على يد تلميذه جابر بن حيّان مفخرة الشرق ، ورائد التطوّر البشري في الأرض.
وقد دلّل الجواد على ما تذهب إليه الشيعة في الإمامة ، فقد كان
وهو في سنّه المبكر قد خاض مختلف العلوم وسأله العلماء والفقهاء عن كلّ شيء فأجاب
عنه ، ممّا أوجب انتشار التشيّع في ذلك العصر وذهاب أكثر العلماء إلى القول
بالإمامة.
لقد احتفّ بالإمام الجواد وهو ابن سبع سنين وأشهر العلماء
والفقهاء والرواة وهم ينتهلون من نمير علومه ، وقد رووا عنه الكثير من المسائل
الفلسفية والكلامية ، ويعتبر ذلك من أوثق الأدلّة على ما تذهب إليه الشيعة في
الإمامة.
العصمة : وأمر آخر بالغ الأهمّية تذهب إليه الشيعة في أئمتها وهو عصمتهم
من الزيغ ،
(67)
وامتناعهم من الولوج في أي ميدان من ميادين الإثم والباطل وهو حقّ لا شبهة
فيه ، فإنّ من يمعن النظر في سيرة الأئمة الطاهرين تتجلّى له هذه الحقيقة بوضوح
فالإمام أمير المؤمنين ( عليه السلام ) ـ على حدّ تعبيره ـ لو أعطي الأقاليم السبع
بما تحت أفلاكها على أن يعصي الله في جلب شعيرة يسلبها من فم جرادة ما فعل ، أليست
هذه هي العصمة؟
أما الإمام الحسين سيد الأحرار فإنّه لو سالم السياسة الأمويّة
لما واجه أهوال كربلاء وخطوبها ، لقد كانت العصمة من أبرز ذاتيّاتهم ، ومن أظهر
صفاتهم فقد كانوا يملكون رصيداً قوياً من الإيمان ، وطاقات هائلة من التقوى تمنعهم
من اقترف أي ذنب من الذنوب.
إنّ العصمة بهذا الإطار لا تنافي العلم ، ولا تشذّ عن سنن
الحياة ، ومن أنكرها في أئّمة أهل البيت ( عليهم السلام ) فقد انحرف عن الحقّ ، ومال
إلى الباطل والضلال .. وبهذا ينتهي بنا الحديث عن إمامته.
عبادته : كان الإمام الجواد أعبد أهل زمانه ، وأشدّهم خوفاً من الله
تعالى ، وأخلصهم في طاعته وعبادته ، شأنه شأن الأئّمة الطاهرين من آبائه الذين وهبوا
أرواحهم لله ، وعملوا كلّ ما يقرّبهم إلى الله زلفى .. أمّا مظاهر عبادة الإمام
الجواد ( عليه السلام ) فهي :
نوافله : كان الإمام الجواد كثير النوافل ، ويقول الرواة : كان يصلي ركعتين
يقرأ في كلّ ركعة سورة الفاتحة ، وسورة الإخلاص سبعين مرّة (1).
وكان كثير العبادة في شهر رجب ، وقد روى الريّان بن الصلت قال : صام
1 ـ وسائل الشيعة : ج 5 ص 298.
(68)
أبو جعفر الثاني ( عليه السلام ) لمّا كان ببغداد يوم النصف من رجب ، ويوم سبع
وعشرين منه ، وصام معه جميع حشمه ، وأمرنا أن نصلّي بالصلاة التي هي اثنتا عشرة ركعة ،
تقرأ في كلّ ركعة الحمد وسورة ، فإذا فرغت قرأت الحمد أربعاً ، وقل هو الله أحد
أربعاً والمعوذتين أربعاً ، وقلت : لا إله إلاّ الله والله أكبر ، وسبحان الله والحمد
لله ، ولا حول ولا قوّة إلاّ بالله العلي العظيم أربعاً ، الله الله ربّي ، ولا أشرك
به شيئاً أربعاً ، لا أشرك بربّي أحداً أربعاً (1).
وكان يقول : إنّ في رجب لليلة خير ممّا طلعت عليه الشمس ، وهي ليلة سبع وعشرين من
رجب ، وذكر ( عليه السلام ) فيها صلاة خاصّة (2).
حجّه : وكان الإمام أبو جعفر ( عليه السلام ) كثير الحجّ ، وقد روى الحسن
بن علي الكوفي بعض أعمال حجّه قال : رأيت أبا جعفر الثاني ( عليه السلام ) في سنة خمس
عشرة ( خ ) ( وعشرين ) ومائتين ودّع البيت بعد ارتفاع الشمس ، وطاف بالبيت يستلم الركن
اليماني في كل شوط ، فلمّا كان الشوط السابع استلمه واستلم الحجر ومسح بيده ثمّ مسح
وجهه بيده ، ثمّ أتى المقام ، فصلّى خلفه ركعتين ثمّ خرج إلى دبر الكعبة إلى الملتزم ،
فالتزم البيت ، وكشف الثوب عن بطنه ، ثمّ وقف عليه طويلاً يدعو ، ثمّ خرج من باب
الحناطين وتوجّه ، قال : فرأيته في سنة ( 219 هـ ) ودّع البيت ليلاً يستلم الركن
اليماني والحجر الأسود في كلّ شوط فلمّا كان في الشوط السابع التزم البيت في دبر
الكعبة قريباً من الركن اليماني وقوف الحجر المستطيل وكشف الثوب عن بطنه ثمّ أتى
الحجر فقبّله ومسحه وخرج إلى المقام فصلّى خلفه ثمّ مضى ولم يعد إلى البيت ، وكان
وقوفه على الملتزم بقدر ما طاف بعض أصحابنا سبعة أشواط وبعضهم ثمانية (3).
1 ـ وسائل الشيعة : ج 5 ص 243.
2 ـ وسائل الشيعة : ج 5 ص 242.
3 ـ وسائل الشيعة : ج 10 ص 232.
(69)
وروى عليّ بن مهزيار بعض الخصوصيات في حجّ الإمام ( عليه السلام )
قال : رأيت أبا جعفر الثاني ( عليه السلام ) ليلة الزيارة طاف طواف النساء ، وصلّى خلف
المقام ثمّ دخل زمزم فاستقى منها بيده بالدلو الذي يلي الحجر وشرب منه وصبّ على بعض
جسده ، ثمّ اطلع في زمزم مرّتين ، وأخبرني بعض أصحابنا انّه رآه بعد ذلك في سنة فعل
مثل ذلك .. (1).
وكان هذا التدقيق من الرواة في نقل هذه الخصوصيّات باعتبار أنّ
فعل الإمام ( عليه السلام ) من السنة التي يتعبّد بها عند الشيعة.
من أدعيته : للإمام الجواد أدعيّة كثيرة تمثّل مدى انقطاعه إلى الله تعالى ،
فمن أدعيته هذا الدعاء : ( يا من لا شبيه له ، ولا مثال ، أنت الله لا إله إلاّ أنت ،
ولا خالق إلاّ أنت تفني المخلوقين ، وتبقى أنت ، حلمت عمّن عصاك ، وفي المغفرة رضاك .. ) (2).
وكتب إليه محمد بن الفضيل يسأله أن يعلمه دعاءً فكتب إليه هذا
الدعاء الشريف تقول : إذا أصبحت وأمسيت :
( الله الله ربّي ، الرحمن الرحيم ، لا أشرك به شيئاً ) وإن زدت على
ذلك فهو خير ، ثمّ تدعو بذلك في حاجتك ، فهو لكلّ شيء بإذن الله تعالى يفعل الله ما
يشاء (3).
وتمثّل أدعية الأئمة الطاهرين جوهر الإخلاص والطاعة لله فقد
اتّصلوا بالله تعالى ، وانطبع حبّه في مشاعرهم وعواطفهم ، فهاموا بمناجاته والدعاء
له.
زهده : أمّا الزهد في الدنيا فإنّه من أبرز الذاتيات في خُلق أئّمة أهل
البيت ( عليهم السلام ) فقد
1 ـ وسائل الشيعة : ج 9 ص 515.
2 ـ أعيان الشيعة : ج 2 و 4 ص 245.
3 ـ أصول الكافي : ج 2 ص 534.
(70)
أعرضوا عن زهرة هذه الدنيا ، وفعلوا كلّ ما يقربهم إلى
الله زلفى.
لقد كان الإمام علي أمير المؤمنين ( عليه السلام ) رائد العدالة
الكبرى في الأرض في أيام خلافته يلبس أخشن الثياب ويأكل أجشب العيش ، ولم يتّخذ من
غنائمها وفراً ولم يضع لبنة على لبنة ، وعلى ضوء هذه السيرة المشرقة الواضحة سار
الأئمة الطاهرون ، فقد زهدوا جميعاً في الدنيا وأعرضوا عن رغائبها.
لقد كان الإمام الجواد ( عليه السلام ) شاباً في مقتبل العمر ،
وكان المأمون يغدق عليه الأموال الوافرة البالغة مليون درهم. وكانت الحقوق الشرعية
ترد إليه من الطائفة الشيعية التي تذهب إلى إمامته بالإضافة إلى الأوقاف التي في
( قم ) وغيرها إلاّ أنّه لم يكن ينفق شيئاً منها في أموره الخاصّة وإنّما كان ينفقها
على الفقراء والمعوزين والمحرومين .. وقد رآه الحسين المكاري في بغداد ، وكان محاطاً
بهالة من التعظيم والتكريم من قِبل الأوساط الرسمية والشعبية فحدّثته نفسه أنّه لا
يرجع إلى وطنه يثرب وسوف يقيم في بغداد راتعاً في النعم والترف ، وعرف الإمام قصده ،
فانعطف عليه وقال له :
( يا حسين ، خبز الشعير ، وملح الجريش في حرم جدّي رسول الله ( صلى
الله عليه وآله ) أحب إليَّ ممّا تراني فيه .. ) (1).
إنّه لم يكن من عشاق تلك المظاهر التي كانت تضفيها عليه الدولة ،
وإنّما كان كآبائه الذين طلّقوا الدنيا ، واتّجهوا صوب الله تعالى لا يبغون عنه
بديلاً.
كرمه : كان الإمام أبو جعفر ( عليه السلام ) من أندى الناس كفّاً وأكثرهم
سخاءً ، وقد لُقِّب بالجود لكثرة كرمه ومعروفه وإحسانه إلى الناس وقد ذكر المؤرّخون
بوادر كثيرة من
1 ـ إثبات الهداة : ج 6 ص 185.
حَيَاةُ الامامِ مُحمَّد الجَواد ( عليه السَّلام ) ::: فهرس