حَيَاةُ الامامِ مُحمَّد الجَواد ( عليه السَّلام ) ::: 71 ـ 80
(71)
كرمه كان منها ما يلي :
1 ـ روى المؤرّخون أنّ أحمد بن حديد قد خرج مع جماعة من أصحابه
إلى الحجّ ، فهجم عليهم جماعة من السرّاق ونهبوا ما عندهم من أموال ومتاع ، ولما
انتهوا إلى يثرب انطلق أحمد إلى الإمام محمد الجواد وأخبره بما جرى عليهم فأمر
( عليه السلام ) له بكسوة وأعطاء دنانير ليفرقها على جماعته ، وكانت بقدر ما نهب منهم (1).
لقد أنقذهم الإمام من المحنة وردّ لهم ما سلب منهم.
2 ـ روى العتبي عن بعض العلويّين إنّه كان يهوى جارية في يثرب ،
وكانت يده قاصرة عن ثمنها فشكا ذلك إلى الإمام الجواد ( عليه السلام ) فسأله عن
صاحبها فأخبره عنه ، ولمّا كان بعد أيام سأل العلوي عن الجارية فقيل له : قد بيعت
وسأل عن المشتري لها ، فقالوا له : لا ندري ، وكان الإمام الجواد قد اشتراها سرّاً
ففزع العلوي ، نحو الإمام ، وقد رفع صوته.
( بيعت فلانة ).
فقابله الإمام ببسمات فيّاضة بالبشر قائلاً :
( هل تدري من اشتراها ).
( لا ).
وانطق معه الإمام إلى الضيعة التي فيها الجارية ، فانتهى إلى
البيت الذي فيه الجارية ، فأمره ( عليه السلام ) بالدخول إلى الدار فأبى العلوي لأنّها
دار الغير ولم يعلم أنّ الإمام قد اشتراها ، وأصرّ عليه الإمام بالدخول ، ولم يلتفت
إلى أنّها ملك الإمام ، ثمّ إنّه دخل الدار مع الإمام فلمّا رأى الجارية التي
يهواها ، قال ( عليه السلام ) له :
أتعرفها؟
1 ـ الوافي بالوفيات : ج 4 ص 105 ، بحار الأنوار : ج 12 ص 109.
(72)
نعم.
هي لك ، والقصر والضيعة ، والغلة وجميع ما في القصر ، فأقم مع
الجارية.
وملأ الفرح قلب العلوي وحار في شكر الإمام (1).
هذه بعض البوادر التي ذكرها المؤرّخون من كرمه وبرّه بالفقراء
والمستضعفين ويقول الرواة : إن كرم الإمام ومعروفه قد شمل حتى الحيوانات فقد روى
محمد بن الوليد الكرماني قال : أكلت بين يدي أبي جعفر الثاني ( عليه السلام ) حتى إذا
فرغت ورفع الخوان ذهب الغلام ليرفع ما وقع من فتات الطعام فقال ( عليه السلام ) له :
ما كان في الصحراء فدعه ولو فخذ شاة ، وما كان في البيت فتتبعه والقطه (2)
لقد أمره ( عليه السلام ) بترك الطعام الذي في الصحراء ليتناوله الطير وسائر
الحيوانات التي ليس عندها طعام.
الإحسان إلى الناس : أما الإحسان إلى الناس والبرّ بهم فإنّه من سجايا الإمام الجواد
ومن أبرز مقوماته ، وقد ذكر الرواة بوادر كثيرة من إحسانه كان منها ما يلي :
روى أحمد بن زكريا الصيدلاني عن رجل من بني حنيفة من أهالي بست
وسجستان (3) قال : رافقت أبا جعفر في السنة التي حجّ فيها في أوّل خلافة المعتصم
1 ـ مرآة الزمان : ج 6 ، ورقة 105 من مصوّرات مكتبة الإمام أمير المؤمنين.
2 ـ وسائل الشيعة : ج 6 ص 499.
3 ـ سجستان : بكسر أوله وثانيه ، وهي جنوبي هراة ، قال محمد بن
بحر الرهني : سجستان : إحدى بلدان المشرق ، ولم تزل لفاحاً على الضيم ممتنعة من الهضم
منفردة بمحاسن ، متوحّدة بمآثر لم تعرف لغيرها من البلدان ، ما في الدنيا سوقة أصحّ
منهم معاملة ، ولا أقلّ منهم مخاتلة وأضاف في تعداد مآثرها أنّه لُعن عليّ بن أبي
طالب على منابر الشرق والغرب ، ولم يلعن على منابرها إلاّ مرّة ، وامتنعوا على بني
أمية حتى زادوا في عهدهم أن لا يلعن على منبرهم أحد .. وأي شرف أعظم من امتناعهم من
لعن أخي رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) على منبرهم ، وهو يلعن على منابر الحرمين
مكّة والمدينة؟ ـ المعجم : ج 3 ص 190 ـ 191.
(73)
فقلت له : وأنا على المائدة : إنّ والينا جعلت فداك يتولاّكم أهل البيت ويحبّكم وعليّ في ديوانه خراج ، فإن رأيت جعلني الله فداك أن تكتب إليه بالإحسان إلي ، فقال ( عليه السلام ) : لا أعرفه ، فقلت : جعلت فداك انّه على ما قلت : من محبّيكم أهل البيت ، وكتابك ينفعني واستجاب له الإمام فكتب إليه بعد
البسملة :
( أمّا بعد : فإنّ موصل كتابي هذا ذكر عنك مذهباً جميلاً ، وإنّ ما
لك من عملك إلاّ ما أحسنت فيه ، فأحسن إلى إخوانك ، واعلم أنّ الله عزوجل سائلك عن
مثاقيل الذرة والخردل .. ) (1).
ولما ورد إلى سجستان عرف الوالي وهو الحسين بن عبد الله
النيسابوري إنّ الإمام قد أرسل إليه رسالة فاستقبله من مسافة فرسخين ، وأخذ الكتاب
فقبّله ، واعتبر ذلك شرفاً له ، وسأله عن حاجته فأخبره بها ، فقال له : لا تؤدِّ لي
خراجاً ما دام لي عمل ، ثمّ سأله عن عياله فأخبره بعددهم فأمر له ولهم بصلة ، وظلّ
الرجل لا يؤدّي الخراج ما دام الوالي حيّاً ، كما انّه لم يقطع صلته عنه (2)
كلّ ذلك ببركة الإمام ولطفه.
مواساته الناس : وواسى الإمام الجواد ( عليه السلام ) الناس في سرّائهم وضرائهم ،
ويقول المؤرّخون : إنّه قد جرت على إبراهيم بن محمد الهمداني مظلمة من قِبل الوالي ،
فكتب إلى الإمام الجواد ( عليه السلام ) يخبره بما جرى عليه ، فتألّم الإمام وأجابه
بهذه الرسالة :
( عجّل الله نصرتك على من ظلمك ، وكفاك مؤنته ، وابشر بنصر الله عاجلاً
1 ـ الخردل : نبات حبّه صغير جداً.
2 ـ بحار الأنوار : ج 12 ص 129.
(74)
إن شاء الله ، وبالآخرة أجلاً ، وأكثر من حمد الله ... ) (1).
ومن مواساته للناس تعازيه للمنكوبين والمفجوعين ، فقد بعث رسالة
إلى رجل قد فجع بفقد ولده ، وقد جاء فيها بعد البسملة :
( ذكرت مصيبتك بعليّ ابنك ، وذكرت أنّه كان أحبّ ولدك إليك ، وكذلك
الله عزوجل إنّما يأخذ من الولد وغيره أزكى ما عند أهله ، ليعظم به أجر المصاب
بالمصيبة ، فأعظم الله أجرك ، وأحسن عزاك ، وربط على قلبك ، إنّه قدير ، وعجّل الله عليك
بالخلف ، وأرجو أن يكون الله قد فعل إن شاء الله ... ) (2) ،
وأعربت هذه الرسالة الرقيقة عن مدى تعاطف الإمام مع الناس ، ومواساته لهم في البأساء والضرّاء.
ومن مواساته للناس أنّ رجلاً من شيعته كتب إليه يشكو ما ألمَّ
به من الحزن والأسى لفقد ولده ، فأجابه الإمام ( عليه السلام ) برسالة تعزية جاء فيها :
( أمَا علمت أنّ الله عزوجل يختار من مال المؤمن ، ومن ولده
أنفسه ليؤجره على ذلك ... ) (3).
لقد شارك الناس في البأساء والضراء ، وواساهم في فجائعهم ومحنهم ،
ومدَّ يد المعونة إلى فقرائهم ، وضعفائهم ، وبهذا البرّ والإحسان فقد احتلّ القلوب
والعواطف وأخلص له الناس وأحبّوه كأعظم ما يكون الإخلاص والحبّ.
هذه بعض مثل الإمام الجواد وقيمه ، وقد رفعته إلى المستوى الرفيع
الذي بلغه آباؤه الذين فجرّوا ينابيع العلم والحكمة في الأرض ، ورفعوا مشعل الهداية والإيمان
1 ـ بحار الأنوار : ج 12 ص 126.
2 ـ وسائل الشيعة : ج 2 ص 874.
3 ـ وسائل الشيعة : ج 2 ص 893.
(75)
بالله تعالى.
لقد كان الإمام الجواد ( عليه السلام ) من أروع صور الفضيلة
والكمال في الأرض ، فلم ير الناس في عصره من يضارعه في علمه وتقواه وورعه ، وشدّة
تحرّجه في الدين ، فقد كان نسخة لا ثاني لها في فضائله ومآثره التي هي السرّ في
إمامته.
لقد عجبت الأوساط الإسلامية بالإمام الجواد فقد هالتهم مواهبه ،
وملكاته العلمية التي لا تحدّ ، وهي مما زادت الشيعة إيماناً ويقيناً بصحّة ما تذهب
إليه وتعتقد به من أنّ الإمام لابدّ أن يكون أعلم أهل زمانه وأفضلهم واتّقاهم ..
وبهذا ينتهي بنا الحديث عن بعض مثل الإمام أبي جعفر الجواد ( عليه السلام ).
أمّا سعة علوم الإمام ومعارفه فإنّها مذهلة للفكر ، فهو ـ بحقّ ـ
معجزة الإسلام الكبرى لقد خاض مختلف العلوم والفنون ، وهو في سنّه المبكر وسأله
العلماء والفقهاء ، والفلاسفة والمتكلّمون ، وعلماء الحديث عن أدقّ المسائل وأعمقها
فأجابهم عنها ، وقد ذهلوا من ذلك وتحيّروا ، وآمن بعضهم بإمامته ، ومن الطبيعي أنّه لا
تعليل لهذه الظاهرة المحيّرة سوى القول بالإمامة ، وهو ما تذهب إليه الشيعة من أنّ
أئمة أهل البيت ( عليهم السلام ) قد منحهم الله العلم والحكمة وفصل الخطاب ، كما منح
أولي العزم من أنبيائه ورسله.
ونعرض ـ بإيجاز ـ إلى بعض ما أثر عنه من العلوم ، وروائع الحكم
والآداب وفيما يلي ذلك :
الحديث : روى الإمام محمد الجواد ( عليه السلام ) طائفة من الأحاديث بسنده
عن جده رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) كما روى كذلك عن جدّه الإمام أمير المؤمنين ،
وعن جدّه الإمام الصادق ( عليه السلام ) ، وعن أبيه الإمام الرضا ( عليه السلام ) وفيما
يلي ذلك :
رواياته عن رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) : أمّا ما رواه عن رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) فمجموعة من
الأخبار ، وهذه بعضها :
1 ـ روى ( عليه السلام ) بسنده أنّ رسول الله ( صلى الله عليه
وآله ) قال : ( إنّ فاطمة أحصنت فرجها
(80)
فحرّمها الله وذرّيتها على النار ) (1).
2 ـ روى ( عليه السلام ) بسنده عن جدّه الإمام أمير المؤمنين أنّه
قال : بعثني رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) إلى اليمن فقال لي : وهو يوصيني : ( يا علي
ما خاب من استخار ، ولا ندم من استشار ، يا علي عليك بالدلجة (2)
فإنّ الأرض تطوى بالليل ولا تطوى بالنهار ، يا علي أغد بسم الله ، فإنّ الله بارك
لأمّتي في بكورها .. ) (3).
3 ـ روى ( عليه السلام ) أنّ رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) قال : ( من عتب على الزمان طالت معتبته ) (4).
4 ـ روى ( عليه السلام ) بسنده أنّ رسول الله ( صلى الله عليه
وآله ) قال : ( المرء مخبوء تحت لسانه .. ) (5).
ما يرويه عن الإمام أمير المؤمنين : وروى عن الإمام أمير المؤمنين ( عليه السلام ) طائفة من الأخبار
وكان من بينهما ما يلي :
قال ( عليه السلام ) : قام إلى أمير المؤمنين رجل بالبصرة ، فقال :
أخبرنا عن الإخوان؟ فقال : الإخوان صنفان : إخوان الثقة ، وإخوان المكاشرة فأمّا إخوان
الثقة فهم كالكفّ ، والجناح والأهل ، والمال ، فإذا كنت من أخيك على ثقة فابذل له مالك
ويدك ، وصاف من صافه ، وعاد من عاداه واكتم سرّه ، وأعنه ، واظهر منه الحسن ، واعلم
أيّها السائل أنّهم أعزّ من الكبريت الأحمر ، وأمّا إخوان المكاشرة فإنّك تصيب
1 ـ نزهة الجليس : ج 2 ص 111 ، الوافي بالوفيات : ج 4 ص 106 الأئمّة الاثنا عشر : ص 103.
2 ـ الدلجة : المسير في الليل.
3 ـ مرآة الجنان : ج 2 ص 81 ، نزهة الجليس : ج 2 ص 111 ، الوافي
بالوفيّات : ج 4 ص 106 ، الأئمّة الاثنا عشر : ص 103.
4 ـ بحار الأنوار : ج 12 ص 101.
5 ـ نفس المصدر.
حَيَاةُ الامامِ مُحمَّد الجَواد ( عليه السَّلام ) ::: فهرس