حَيَاةُ الامامِ مُحمَّد الجَواد ( عليه السَّلام ) ::: 251 ـ 260
(251)
    ( ملكت الدنيا ، وذلّت لي صعابها ، وبلغت آرابي ).
    وكان يذكر وصول الرطب في أكثر أوقاته ، وهو يقول : آخر عهدي بأكل الرطب ، فكان كما قال : فقد ألمّت به الأمراض واشتدّت به العلّة ، وكان نازلاً في دار خاقان المفلحي ، خادم الرشيد ، ولمّا دنا منه الموت أمر أن يفرش له الرماد ، ويوضع عليه ، ففعل له ذلك ، وكان يتقلّب على الرماد ، وهو يقول : ( يا من لا يزول ملكه ، ارحم من زال ملكه ) (1).
    واشتدّ به النزع ، وكان عنده من يلقّنه فعرض عليه الشهادة ، وكان ابن ماسويه الطبيب حاضراً ، فالتفت إلى من يلقّنه قائلاً :
    ( دعه فإنّه لا يفرّق في هذه الحال بين ربّه وماني .. ).
    وفتح المأمون عينيه ، فقد لذعته هذه الكلمات ، وقد أراد أن يبطش به إلاّ أنّه لم يستطع فقد عجز عن الكلام (2) ، ولم يلبث قليلاً حتى وافاه الأجل المحتوم ، وكان عمره ( 49 سنة ) أمّا مدّة خلافته فعشرون سنة ، وخمسة أشهر وثمانية عشر يوماً (3) ، ويقول فيه أبو سعيد المخزومي :
هل رأيت النجوم أغنت عن المأ خلفوه بعرصتي طرطوس مون في ثبت ملكه المأسوس مثل ما خلّفوه أباه بطوس (4)
    وكان عمر الإمام أبي جعفر ( عليه السلام ) في ذلك الوقت يربو على اثنين وعشرين عاماً ، وكان ـ فيما يقول المؤرّخون ـ ينتظر موت المأمون بفارغ الصبر لعلمه أنّه لا يبقى
1 ـ الأنباء في تاريخ الخلفاء : ص 104.
2 ـ تاريخ ابن الأثير : ج 5 ص 227.
3 ـ التنبيه والأشراف : ص 404.
4 ـ أخبار الدول : ص 154.


(252)
بعده إلاّ قليلاً ثمّ يرحل إلى جوار الله ، ويفارق هذا العالم المليء بالفتن والأباطيل ، وقد قال :
    ( الفرج بعد وفاة المأمون بثلاثين شهراً .. ).
    ولم يلبث بعد وفاة المأمون إلاّ ثلاثين شهراً حتى توفّي (1) وسنذكر ذلك في البحوث الآتية من هذا الكتاب.
    وفي نهاية هذا الحديث نودّ أن نبيّن أن المأمون أسمى شخصيّة سياسية وعلمية من ملوك بني العباس فقد استطاع أن يتخلّص من أشدّ الأزمات السياسية التي أحاطت به ، وكادت تقضي على ملكه وسلطانه وكان من ذكائه الخارق أنّه تقرّب إلى العلويين وأتباعهم فأوعز إلى أجهزة الأعلام بنشر فضل الإمام أمير المؤمنين ( عليه السلام ) على جميع الصحابة كما ردّ فدكاً إلى العلويّين ، وعهد إلى الإمام الرضا ( عليه السلام ) بولاية العهد ، وزوّج الإمام الجواد ( عليه السلام ) من ابنته أمّ الفضل ، ولم يصنع ذلك عن إيمان أو إخلاص لأهل البيت ( عليهم السلام ) وإنّما صنع ذلك ليتعرّف على الحركات السرية والأجهزة السياسية التي كانت تعمل تحت الخفاء للإطاحة بالحكم العباسي وإرجاع الخلافة إلى العلويّين.
    لقد استطاع المأمون بعد هذه العمليات التي قام بها أن يتعرّف على الخلايا وما تقوم به من النشاطات السياسية ضدّ الحكم العباسي وقد جهد قبله ملوك بني العباس أن يتعرّفوا على ذلك فلم يستطيعوا ولم يهتدوا إلى ذلك بالرغم ممّا بذلوه من مختلف المحاولات التي كان منها التنكيل الشديد بأنصار العلويّين وشيعتهم ، وإنزال أقصى العقوبات بهم ، فإنّهم لم يصلوا إلى أيّة معلومات عنهم ، ولم يكشفوا أي جانب من جوانبهم السياسية.
1 ـ إثبات الهداة : ج 6 ص 190.

(253)
نهاية المطاف


(254)

(255)
وقبل أن أبدأ الحديث عن النهاية الأخيرة من حياة الإمام العظيم أبي جعفر الجواد ( عليه السلام ) ، اقدم عرضاً موجزاً لسيرة المعتصم العباسي ، الذي اغتال الإمام بالسمّ ، فإنّ لذلك صلة موضوعية في البحث عن حياة الإمام ( عليه السلام ) وفيما يلي ذلك :

    صفات المعتصم :
    أما صفات المعتصم ونزعاته التي عُرِف بها فهي كما يلي :
    الحماقة :
    وكان من صفات المعتصم الحماقة ، وقد وصفه المؤرّخون بأنّه إذا غضب لا يبالي من قتل ولا ما فعل (1) وهذا منتهى الحمق الذي هو من أرذل نزعات الإنسان.
    كراهته للعلم :
    وكان المعتصم يكره العلم ، ويبغض حملته ، وقد كان معه غلام يقرأ معه في الكتاب ، فتوفّي الغلام فقال له الرشيد : يا محمد مات غلامك قال : نعم يا سيدي واستراح من الكتاب ، فقال له الرشيد : وان الكتاب ليبلغ منك هذا دعوه لا تعلّموه (2).
    وبقي أمّياً ، وحينما ولي الخلافة كان لا يقرأ ولا يكتب ، وكان له وزير عامّي ،
1 ـ الإسلام والحضارة العربية : ج 2 ص 237 ، أخبار الدول : ص 155.
2 ـ أخبار الدول : ص 155.


(256)
وقد وصفه أحمد بن عامر بقوله :
    ( خليفة أمّي ووزير عامّي ) (1).
    لقد كان عارياً من العلم ، والفضل ، وعارياً من كل صفة شريفة يستحق بها منصب الخلافة في الإسلام التي هي أخطر منصب يناط به إقامة الحق والعدل بين الناس ، هذه بعض الصفات الماثلة فيه.
    بغضه للعرب :
    وكان المعتصم شديد الكراهية والبغض للعرب وقد بالغ في إذلالهم والاستهانة بهم فقد أخرجهم من الديوان وأسقط أسماءهم ، ومنعهم العطاء كما منعهم الولايات (2).
    ولاؤه للأتراك :
    كان المعتصم يكنّ في أعماق نفسه خالص الولاء والحب للأتراك ، فقد أخذ يستعين بهم في بناء دولته ، ويعود السبب في ذلك إلى أن أمه ( ماردة ) كانت تركية فكان يحكي الأتراك في طباعهم ونزعاتهم ، وقد بعث في طلبهم من فرغانة ، واشروسنة واستكثر منهم (3) وقد بلغ عددهم في عهده سبعين ألفاً ، وقد حرص المعتصم على أن تبقى دماؤهم متميزة فجلب لهم نساءً من جنسهم فزوجهم بهن ، ومنعهم من الزواج بغيرهن (4) وقد ألبسهم أنواع الديباج ، والمناطق الذهبية (5) وقد
1 ـ وفيات الأعيان.
2 ـ الإسلام والحضارة العربية ج2 ص449.
3 ـ مروج الذهب ج4 ، ص9.
4 ـ ظهر الإسلام ج1 ص4 ـ 5.
5 ـ تاريخ الخلفاء : ص223.


(257)
أسند لهم قيادة الجيش ، وجعل لهم مراكز في مجال السياسة والحرب وحرم العرب ممّا كان لهم من قيادة الجيوش ، وقد آثرهم على الفرس والعرب في كلّ شيء.
    وقد أساء الأتراك إلى المواطنين فكانوا يسيرون في شوارع بغداد راكبين خيولهم دون أن يعبأوا بالمارّة فكانوا يسحقون الشيخ والمرأة والطفل وقد ضجّت بغداد من اعتدائهم وعدم مبالاتهم (1).
    وقد وصف دعبل الخزاعي مدى تسلّط الأتراك على المعتصم وبنوع خاصّ وصيف واشناس التركيّين يقول :
لقد ضاع أمر الناس إذ ساس ملكهم وصيف واشناس وقد عظم الكرب
    وذكر دعبل أنّ المعتصم عهد بوزارته إلى الفضل بن مروان وكان نصرانيّاً في الأصل قال :
وفضل بن مروان سيثلم ثلمة يظلّ لها الإسلام ليس لها شعب

    مع الإمام الجواد :
    وأترعت نفس المعتصم بالحقد والكراهية للإمام الجواد ( عليه السلام ) فكان يتميّز من الغيظ حينما يسمع بفضائل الإمام ومآثره ، وقد دفعه حسده له أن قدم على اغتياله كما سنتحدّث عن ذلك.

    إشخاص الإمام إلى بغداد :
    وأشخص المعتصم الإمام الجواد إلى بغداد فورد إليها لليلتين بقيتا من المحرم سنة ( 220 هـ ) (2).
1 ـ تاريخ الحضارة الإسلامية في الشرق : ص 24.
2 ـ شرح ميمية أبي فراس : ص 36. الفصول المهمة : ص 262.


(258)
    وقد فرض عليه الإقامة الجبرية فيها ليكون على علم بجميع شؤونه وأحواله كما فرض عليه في نفس الوقت الرقابة الشديدة ، وحجبه من الاتصال بشيعته ، والقائلين بإمامته.

    الوشاية بالإمام :
    ومن المؤسف حقّاً أن تصدر الوشاية بالإمام الجواد ( عليه السلام ) من أبي داود السجستاني الذي كان من أعلام ذلك العصر ، أمّا السبب في ذلك فيعود إلى حسده للإمام ( عليه السلام ).
    والحسد داء خبيث ألقى الناس في شرّ عظيم ، لقد حقد أبو داود على الإمام كأشدّ ما يكون الحقد وذلك حينما أخذ المعتصم برأيه في مسألة فقهية وترك بقية آراء الفقهاء ، فتميّز أبو داود غيظاً وغضباً على الإمام ( عليه السلام ) ، وسعى إلى الوشاية به ، وتدبير الحيلة في قتله ، وبيان ذلك ما رواه زرقان الصديق الحميم لأبي داود قال : إنّه رجع من عند المعتصم وهو مغتمّ ، فقلت له : في ذلك .. قال : إنّ سارقاً أقرّ على نفسه بالسرقة وسأل الخليفة تطهيره بإقامة الحدّ عليه ، فجمع لذلك الفقهاء في مجلسه ، وقد أحضر محمد بن عليّ ( عليه السلام ) فسألنا عن القطع في أي موضع يجب أن يقطع؟ فقلت : من الكرسوع (1) لقول الله في التيمّم : ( فامسحوا بوجوهكم وأيديكم ) واتّفق معي على ذلك قوم ، وقال آخرون : بل يجب القطع من المرفق ، قال : وما الدليل على ذلك؟ قالوا : لأنّ الله قال : ( وأيديكم إلى المرافق ) قال : فالتفت إلى محمد بن علي ( عليه السلام ) فقال : ما تقول في هذا يا أبا جعفر؟ قال : قد تكلّم القوم فيه يا أمير المؤمنين قال : دعني ممّا تكلّموا به ، أي شيء عندك؟ قال : اعفني عن هذا يا أمير المؤمنين ، قال : أقسمت عليك بالله لما أخبرتني بما عندك فيه ، فقال : إذا أقسمت عليّ بالله إنّي أقول :
1 ـ الكرسوع : طرف الزند الذي يلي الخنصر.

(259)
إنّهم أخطأوا فيه السنّة ، فإنّ القطع يجب أن يكون من مفصل أصول الأصابع فيترك الكفّ ، قال : لِمَ؟ قال : لقول رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) : السجود على سبعة أعضاء : الوجه واليدين والركبتين والرجلين فإذا قطعت يده من الكرسوع أو المرفق لم يبق له يد يسجد عليها ، وقال الله تبارك وتعالى : ( وإنّ المساجد لله ) يعني به هذه الأعضاء السبعة التي يسجد عليها ( فلا تدعوا مع الله أحداً ) وما كان لله لم يقطع ، قال : فأعجب المعتصم ذلك فأمر بقطع يد السارق من مفصل الأصابع دون الكفّ.
    قال زرقان : إنّ أبا داود قال : صرت إلى المعتصم بعد ثالثة فقلت : إنّ نصيحة أمير المؤمنين عليّ واجبة ، وأنا أكلّمه بما أعلم إنّي أدخل به النار قال : ما هو؟ قلت : إذا جمع أمير المؤمنين في مجلسه فقهاء رعيّته وعلماءهم لأمر واقع من أمور الدين فسألهم عن الحكم فيه ، فأخبروه بما عندهم من الحكم في ذلك.
    وقد حضر المجلس أهل بيته وقوّاده ووزرائه ، وكتّابه ، وقد تسامع الناس بذلك من وراء بابه ، ثمّ يترك أقاويلهم كلّهم ، لقول رجل : يقول شطر هذه الأمّة بإمامته ، ويدّعون أنّه أولى منه بمقامه ، ثمّ يحكم بحكمه دون حكم الفقهاء.
    قال : فتغيّر لونه ، وانتبه لما نبّهته له ، وقال : جزاك الله عن نصيحتك خيراً .. ) (1).
    لقد اقترف أبو داود أخطر جريمة في الإسلام ، فقد دفع المعتصم إلى اغتيال إمام من أئّمة أهل البيت ( عليهم السلام ) الذين فرض الله مودّتهم على هذه الأمة ، والويل لكلّ من شَرِك في دمائهم.

    تنبّأ الإمام بوفاته :
    واستشفّ الإمام الجواد ( عليه السلام ) من وراء الغيب أنّ الأجل المحتوم سيوافيه وأنّ عمره
1 ـ تفسير العياشي : ج 1 ص 319 ، البرهان : ج 1 ص 471 ، البحار : ج 12 ص 99 ، وسائل الشيعة : ج 18 ص 490.

(260)
كعمر الزهور ، وقد أعلن ذلك لشيعته في كثير من المواطن وهذه بعضها :
    1 ـ روى محمد بن الفرج قال : كتب إليّ أبو جعفر ( عليه السلام ) : احملوا إليّ الخمس ، لست آخذ منكم سوى عامي هذا ، ولم يلبث ( عليه السلام ) إلاّ قليلاً حتى قبض واختاره الله إلى جواره (1).
    2 ـ روى أبو طالب القمّي ، قال : كتبت إلى أبي جعفر بن الرضا ( عليه السلام ) أن يأذن لي أن أندب أبا الحسن ـ يعني أباه ـ قال : فكتب أن اندبني واندب أبي (2).
    3 ـ وأخبر ( عليه السلام ) عن وفاته في أيام المأمون ، فقد قال : ( الفرج بعد المأمون بثلاثين شهراً ) ولم يلبث بعد المأمون بثلاثين شهراً حتى قبض واختاره الله إلى جواره (3).
    4 ـ روى إسماعيل بن مهران أنّ المعتصم العباسي لمّا أشخص الإمام أبا جعفر ( عليه السلام ) إلى بغداد قال : قلت له : جعلت فداك أنت خارج فإلى مَن هذا الأمر من بعدك؟ فبكى حتى اخضلّت لحيته ، ثمّ التفت إليّ فقال : عند هذه يخاف عليّ ، الأمر من بعدي إلى ابني عليّ (4).
    لقد كان الإمام عالماً بأحقاد المعتصم عليه ، وأنّه لا يتورّع من اغتياله والإجهاز عليه ، فلذا أحاط أصحابه وشيعته علماً بمفارقته للحياة في عهد هذا الطاغية الجبّار.

    تعيينه لولده الهادي :
    ونصّ الإمام الجواد ( عليه السلام ) على إمامة ولده عليّ الهادي ، ونصبه علماً ومرجعاً للأمّة
1 ـ المحجّة البيضاء : ج 4 ص 308.
2 ـ الكشيّ : ج 2 ص 838.
3 ـ إثبات الهداة : ج 6 ص 190.
4 ـ الإرشاد : ص 369.
حَيَاةُ الامامِ مُحمَّد الجَواد ( عليه السَّلام ) ::: فهرس