|
|||
صلح الحسن عليه السلام
سماحة الأمام المجاهد الشيخ راضى آل ياسين
طيب الله ثراه منشورات الشريف الرضي
(3)
بقلم
سماحة آية الله الأمام المُصلح الكبير السيّد عبد الحسين شرف الدّين (قدس سره) (4)
بِسِمِ اللّهِ الرَحمنِ الرَحيِم
كان صلح الحسن عليه السلام مع معاوية ، من أشد ما لقيه أئمة أهل البيت من هذه الامة بعد رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلم.
لقي به الحسن عليه السلام محناً يضيق بها الوسع ، لا قوة لاحد عليها الا باللّه عز وجل. لكنه رضخ لها صابراً محتسباً ، وخرج منها ظافراً بما يبتغيه من النصح للّه تعالى ، ولكتابه عز وجل ، ولرسوله ، ولخاصة المسلمين وعامتهم ، وهذا الذي يبتغيه ويحرص عليه في كل ما يأخذ أو يدع من قول أو فعل. ولا وزن لمن اتهمه بأنه أخلد بصلحه الى الدعة ، وآثر العافية والراحة ، ولا لمن طوحت بهم الحماسة من شيعته فتمنوا عليه لو وقف في جهاد معاوية فوصل الى الحياة من طريق الموت ، وفاز بالنصر والفتح من الجهة التي انطلق منها صنوه يوم الطف الى نصره العزيز ، وفتحه المبين. ومن الغريب بقاء الناس في عشواء غماء من هذا الصلح الى يومهم هذا ، لا يقوم أحد منهم في بيان وجهة الحسن في صلحه ، بمعالجة موضوعية مستوفاة ببيانها وبيناتها ، عقلية ونقلية ، وكم كنت أحاول ذلك ، لكن اللّه عز وجل شاء بحكمته أن يختص بهذه المأثرة من هو أولى بها ، وأحق بكل فضيلة ، ذلك هو مؤلف هذا السفر البكر « صلح الحسن » فاذا هو في موضوعه فصل الخطاب ، ومفصل الصواب ، والحد الفاصل بين الحق والباطل. وقفت منه على فصول غرّ ، تمثل فضل مؤلفها الاغر الابر ، في كل ما (5)
يشتركان فيه من التحقيق ، والدقة والاعتدال ، وسطوع البيان والبرهان ، والتأنق والتتبع ، والورع في النقل ، والرحابة في المناظرة ، والاحاطة بما يناسب الموضوع ، مع سهولة الاسلوب ، وانسجام التراكيب ، وبلاغة الايجاز اذا أوجز ، وقبول الاطناب اذا أطنب.
فالكتاب يخضع لفكر منظم مبدع حجة ، يصل وحدته بجداول دفاقة بالثراء العقلي والنقلي ، وبروادف غنية كل الغنى ، في كل ما يرجع الى الموضوع ، ويتم عليه عناصره القيمة. فالاناقة فيه تخامر الاستيعاب ، والوضوح يلازم العمق ، والنقد التحليلي مرتكز هذه الخصائص. أما المؤلف ـ اعلى اللّه مقامه ـ فانك تستطيع أن تستشف ملامحه ، من حيث تنظر الى مواهبه في كتابه هذا ، ولو لم أره لقدرت أن ارسم له صورة أستوحي قسماتها من هذا السفر ، اذ يريكه واضح الغرة ، مشرق الوجه ، حلو الحديث ، هادئ الطبع ، واسع الصدر ، لين العريكة ، وافر الذهن ، غزير الفهم والعلم ، واسع الرواية ، حسن الترسل ، حلو النكتة ، لطيف الكناية ، بديع الاستعارة ، تنطق الحكمة من محاسن خلاله ، ويتمثل الفضل بكل معانيه في منطقه وأفعاله ، لا ترى أكرم منه خلقاً ، ولا أنبل فطرة ، عليماً زاخراً بعلوم آل محمد ، علامة بحاثة ، أمعن في التنقيب عن أسرارهم ، يستجلي غوامضها ، ويستبطن دخائلها ، لا تفوته منها واردة ولا شاردة ، الى خصائص في ذاته وسماته يمثلها كتابه هذا بجلاء. ومن أمعن فيما اشتمل عليه هذا الكتاب ، من أحوال الحسن ومعاوية ، علم انهما لم ترتجلهما المعركة ارتجالاً ، وانما كانا في جبهتيهما خليفتين ، استخلفهما الميراث على خلقين متناقضين : فخلق الحسن انما هو خلق الكتاب والسنة ، وان شئت فقل خلق محمد وعلي. وأما خلق معاوية فانما هو خلق « الاموية » ، وان شئت فقل : خلق أبي سفيان وهند ، على نقيض ذلك الخلق. (6)
والمتوسع في تاريخ البيتين وسيرة أبطالهما من رجال ونساء يدرك ذلك بجميع حواسه.
لكن لما ظهر الاسلام ، وفتح اللّه لعبده ورسوله فتحه المبين ، ونصره ذلك النصر العزيز ، انقطعت نوازي الشر « الاموي » ، وبطلت نزعات أبي سفيان ومن اليه مقهورة مبهورة ، متوارية بباطلها من وجه الحق الذي جاء به محمد عن ربه عز وجل ، بفرقانه الحكيم ، وصراطه المستقيم ، وسيوفه الصارمة لكل من قاومه. وحينئذ لم يجد أبو سفيان وبنوه ومن اليهم بداً من الاستسلام ، حقناً لدمائهم المهدورة يومئذ لو لم يستسلموا ، فدخلوا فيما دخل فيه الناس ، وقلوبهم تنغل بالعدواة له ، وصدورهم تجيش بالغل عليه ، يتربصون الدوائر بمحمد ومن اليه ، ويبغون الغوائل لهم. لكن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلم كان ـ مع علمه بحالهم ـ يتألفهم بجزيل الاموال ، وجميل الاقوال والافعال ، ويتلقاهم بصدر رحب ، ومحيا منبسط ، شأنه مع سائر المنافقين من أهل الحقد عليه ، يبتغي استصلاحهم بذلك. وهذا ما اضطرهم الى اخفاء العداوة له ، يطوون عليها كشحهم خوفاً وطمعاً ، فكاد الناس بعد ذلك ينسون « الاموية » حتى في موطنها الضيق ـ مكة ـ. اما في ميادين الفتح بعد رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم ، فلم تعرف « الاموية » بشيء ، سوى أنها من أسرة النبي ومن صحابته. ثم أتيح بعد النبي لقوم ليسوا من عترته ، أن يتبوأوا مقعده ، وأتيح لمعاوية في ظلهم أن يكون من أكبر ولاة المسلمين ، أميراً من أوسع أمرائهم صلاحية في القول والعمل. ومعاوية اذ ذاك يتخذ بدهائه من الاسلام سبيلاً يزحف منه الى الملك العضوض ، ليتخذ به دين اللّه دغلاً ، وعباد اللّه خولاً ، ومال الله دولاً ، كما انذر به رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلم ، فكان ذلك من اعلام نبوته. (7)
نشط معاوية في عهد الخليفتين الثاني والثالث ، بامارته على الشام عشرين سنة ، تمكن بها في أجهزة الدولة ، وصانع الناس فيها وأطمعهم به فكانت الخاصة في الشام كلها من أعوانه ، وعظم خطره في الاسلام ، وعرف في سائر الاقطار بكونه من قريش ـ أسرة النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم ـ وأنه من أصحابه ، حتى كان في هذا أشهر من كثير من السابقين الاولين الذين رضى اللّه عنهم ورضوا عنه ، كأبي ذر وعمار والمقداد وأضرابهم.
هكذا نشأت « الاموية » مرة أخرى ، تغالب الهاشمية باسم الهاشمية في علنها ، وتكيد لها كيدها في سرها ، فتندفع مع انطلاق الزمن تخدع العامة بدهائها ، وتشتري الخاصة بما تغذقه عليهم من أموال الامة ، وبما تؤثرهم به من الوظائف التي ما جعلها اللّه للخونة من أمثالهم ، تستغل مظاهر الفتح واحراز الرضا من الخلفاء. حتى اذا استتب أمر « الاموية » بدهاء معاوية ، انسلت الى احكام الدين انسلال الشياطين ، تدس فيها دسها ، وتفسد افسادها ، راجعة بالحياة الى جاهلية تبعث الاستهتار والزندقة ، وفق نهج جاهلي ، وخطة نفعية ، ترجوها « الاموية » لاستيفاء منافعها ، وتسخرها لحفظ امتيازاتها. والناس ـ عامة ـ لا يفطنون لشيء من هذا ، فان القاعدة المعمول بها في الاسلام ـ أعني قولهم : الاسلام يجبُّ ما قبله ـ ألقت على فظائع « الاموية » ستراً حجبها ، ولا سيما بعد أن عفا عنها رسول اللّه وتألفها ، وبعد أن قربها الخلفاء منهم ، واصطفوها بالولايات على المسلمين ، وأعطوها من الصلاحيات ما لم يعطوا غيرها من ولاتهم. فسارت في الشام سيرتها عشرين عاماً ( لا يتناهون عن منكر فعلوه ) ولا ينهون. وقد كان الخليفة الثاني عظيم المراقبة لعماله ، دقيق المحاسبة لهم ، لا يأخذه في ذلك مانع من الموانع أصلاً : تعتع بخالد بن الوليد ، عامله على « قنسرين » اذ بلغه أنه اعطى الاشعث عشرة آلاف ، فأمر به فعقله « بلال الحبشي » بعمامته ، وأوقفه بين يديه على رجل واحدة ، مكشوف الرأس ، (8)
على رؤوس الاشهاد من رجال الدولة ووجوه الشعب في المسجد الجامع بحمص ، يسأله عن العشرة آلاف : أهي من ماله أم من مال الامة ؟ فان كانت من ماله فهو الاسراف ، واللّه لا يحب المسرفين. وان كانت من مال الامة فهي الخيانة ، واللّه لا يحب الخائنين ، ثم عزله فلم يولّه بعد حتى مات.
ودعا أبا هريرة ، فقال له : « علمت أني استعملتك على البحرين ، وأنت بلا نعلين! ثم بلغني أنك ابتعت أفراساً بألف دينار وستمائة دينار! » قال : « كانت لنا أفراس تناتجت ، وعطايا تلاحقت ». قال : « حسبت لك رزقك ومؤونتك وهذا فضل فأدِّه ». قال : « ليس لك ذلك ». قال : « بلى وأُوجع ظهرك ». ثم قام اليه بالدرة فضربه حتى أدماه. ثم قال : « إئت بها ». قال : « احتسبها عند اللّه ». قال : « ذلك لو أخذتها من حلال ، وأديتها طائعاً!. أجئت من أقصى حجر البحرين يجبي الناس لك لا للّه ولا للمسلمين؟ ما رجعت بك أميمة ـ يعني أمه ـ الا لرعية الحمر ». وفي حديث أبي هريرة : « لما عزلني عمر عن البحرين ، قال لي : يا عدو اللّه وعدو كتابه ، سرقت مال اللّه! فقلت : ما أنا عدو الله وعدو كتابه ، ولكني عدو من عاداك ، وما سرقت مال الله. قال : فمن أين اجتمعت لك عشرة آلاف ؟ فقلت : خيل تناتجت ، وعطايا تلاحقت ، وسهام تتابعت. قال : فقبضها مني » الحديث. وكم لعمر مع عماله من أمثال ما فعله بخالد وأبي هريرة يعرفها المتتبعون. عزل كلاً من أبي موسى الاشعري ، وقدامة بن مظعون ، والحارث بن وهب ، أحد بني ليث بن بكر ، بعد أن شاطرهم أموالهم (1). هذه مراقبة عمر لعماله ، لا هوادة عنده لاحد منهم ، لكن معاوية كان أثيره وخلصه ، على ما كان من التناقض في سيرتيهما. ما كف يده عن شيء ولا ناقشه الحساب في شيء ، وربما قال له : « لا آمرك ولا أنهاك » يفوض له العمل برأيه. 1 ـ فيما رواه الزبير بن بكار في كتابه ـ الموفقيات ـ ونقله عنه ابن حجر في ترجمة الحارث بن وهب في القسم الاول من اصابته. (9)
وهذا ما أطغى معاوية ، وأرهف عزمه على تنفيذ خططه « الاموية ». وقد وقف الحسن والحسين من دهائه ومكره ازاء خطر فظيع ، يهدد الاسلام باسم الاسلام ، ويطغى على نور الحق باسم الحق ، فكانا في دفع هذا الخطر ، أمام امرين لا ثالث لهما : اما المقاومة ، واما المسالمة. وقد رأيا أن المقاومة في دور الحسن تؤدي لا محالة الى فناء هذا الصف المدافع عن الدين وأهله ، والهادي الى اللّه عزّ وجل ، والى صراطه المستقيم. اذ لو غامر الحسن يومئذ بنفسه وبالهاشميين وأوليائهم ، فواجه بهم القوة التي لا قبل لهم بها (1) مصمماً على التضحية ، تصميم أخيه يوم « الطف » لانكشفت المعركة عن قتلهم جميعاً ، ولانتصرت « الاموية » بذلك نصراً تعجز عنه امكانياتها ، ولا تنحسر عن مثله أحلامها وأمنياتها. اذ يخلو بعدهم لها الميدان ، تمعن في تيهها كل امعان ، وبهذا يكون الحسن ـ وحاشاه ـ قد وقع فيما فر منه على أقبح الوجوه ، ولا يكون لتضحيته أثر لدى الرأي العام الا التنديد والتفنيد (2).
1 ـ كما اوضحه الشيخ في كتابه هذا. 2 ـ لان معاوية كان يطلب الصلح ملحاً على الحسن بذلك ، وكان يبذل له من الشروط للّه تعالى وللامة كل ما يشاء ، يناشده اللّه في حقن دماء أمة جده ، وقد أعلن طلبه هذا فعلمه المعسكران ، مع ان الغلبة كانت في جانبه لو استمر القتال ، يعلم ذلك الحسن ومعاوية وجنودهما ، فلو أصر الحسن ـ والحال هذه ـ على القتال ، ثم كانت العاقبة عليه لعذله العاذلون وقالوا فيه ما يشاؤون. ولو اعتذر الحسن يومئذ بأن معاوية لا يفي بشرط ، ولا هو بمأمون على الدين ولا على الامة ، لما قبل العامة يومئذ عذره ، اذ كانت مغرورة بمعاوية كما اوضحناه. ولم تكن الاموية يومئذ سافرة بعيوبها سفوراً بيناً بما يؤيد الحسن أو يخذل معاوية كما أسلفنا بيانه من اغترار الناس بمعاوية وبمكانته من أولي الامر الاولين ، لكن انكشف الغطاء ، في دور سيد الشهداء فكان لتضحيته عليه السلام من نصرة الحق وأوليائه آثاره الخالدة والحمد للّه رب العالمين. اقرأ فصل « سر الموقف » من هذا الكتاب. (10)
ومن هنا رأى الحسن عليه السلام أن يترك معاوية لطغيانه ، ويمتحنه بما يصبو اليه من الملك ، لكن أخذ عليه في عقد الصلح ، أن لا يعدو الكتاب والسنة في شيء من سيرته وسيرة أعوانه ومقوية سلطانه ، وأن لا يطلب أحداً من الشيعة بذنب أذنبه مع الاموية ، وأن يكون لهم من الكرامة وسائر الحقوق ما لغيرهم من المسلمين ، وأن ، وأن ، وأن. الى غير ذلك من الشروط التي كان الحسن عالماً بأن معاوية لا يفي له بشيء منها وأنه سيقوم بنقائضها (1).
هذا ما أعده عليه السلام لرفع الغطاء عن الوجه « الاموي » المموّه ، ولصهر الطلاء عن مظاهر معاوية الزائفة ، ليبرز حينئذ هو وسائر أبطال « الاموية » كما هم جاهليين ، لم تخفق صدورهم بروح الاسلام لحظة ، ثأريين لم تنسهم مواهب الاسلام ومراحمه شيئاً من أحقاد بدر واُحد والاحزاب. وبالجملة فان هذه الخطة ثورة عاصفة في سلم لم يكن منه بد ، أملاه ظرف الحسن ، اذ التبس فيه الحق بالباطل ، وتسنى للطغيان فيه سيطرة مسلحة ضارية. ما كان الحسن ببادئ هذه الخطة ولا بخاتمها ، بل أخذها فيما أخذه من ارثه ، وتركها مع ما تركه من ميراثه. فهو كغيره من أئمة هذا البيت ، يسترشد الرسالة في اقدامه وفي احجامه. امتحن بهذه الخطة فرضخ لها صابراً محتسباً وخرج منها ظافراً طاهراً ، لم تنجسه الجاهلية بأنجاسها ، ولم تلبسه من مدلهمات ثيابها. أخذ هذه الخطة من صلح « الحديبية » فيما أثر من سياسة جده صلى اللّه عليه وآله وسلم ، وله فيه أسوة حسنة ، اذ أنكر عليه بعض الخاصة من أصحابه ، كما أنكر على الحسن صلح « ساباط » بعض الخاصة من أوليائه ، فلم يهن بذلك عزمه ، ولا ضاق به ذرعه. وقد ترك هذه الخطة نموذجاً صاغ به الائمة التسعة ـ بعد سيدي 1 ـ اقرأ ما يتعلق بنصوص المعاهدة وشروطها ومدى وفاء معاوية بكل منها في فصول هذا الكتاب. (11)
شباب أهل الجنة ـ سياستهم الحكيمة ، في توجيهها الهادئ الرصين ، كلما اعصوصب الشر. فهي اذاً جزء من سياستهم الهاشمية الدائرة أبداً على نصرة الحق ، لا على الانتصار للذات فيما تأخذ او تدع.
تهيأ للحسن بهذا الصلح أن يغرس في طريق معاوية كميناً من نفسه يثور عليه من حيث لا يشعر فيرديه ، وتسنى له به أن يلغم نصر الاموية ببارود الاموية نفسها. فيجعل نصرها جفاءاً ، وريحاً هباءاً. لم يطل الوقت حتى انفجرت اولى القنابل المغروسة في شروط الصلح ، انفجرت من نفس معاوية يوم نشوته بنصره ، اذ انضم جيش العراق الى لوائه في النخيلة. فقال ـ وقد قام خطيباً فيهم ـ : « يا أهل العراق ، اني واللّه لم أقاتلكم لتصلوا ولا لتصوموا ، ولا لتزكوا ، ولا لتحجوا ، وانما قاتلتكم لاتأمر عليكم ، وقد أعطاني اللّه ذلك وانتم كارهون !. ألا وان كل شيء اعطيته للحسن بن علي جعلته تحت قدميَّ هاتين ! ». فلما تمت له البيعة خطب فذكر علياً فنال منه ، ونال من الحسن ، فقام الحسين ليرد عليه ، فقال له الحسن : « على رسلك يا أخي ». ثم قام عليه السلام فقال : « أيها الذاكر علياً! أنا الحسن وأبي علي ، وأنت معاوية وأبوك صخر ، وأمي فاطمة وأمك هند ، وجدي رسول اللّه وجدك عتبة ، وجدتي خديجة وجدتك فتيلة ، فلعن اللّه أخملنا ذكراً ، وألأمنا حسباً ، وشرنا قديماً ، وأقدمنا كفراً ونفاقاً ! » فقالت طوائف من أهل المسجد : « آمين ». ثم تتابعت سياسة معاوية ، تتفجر بكل ما يخالف الكتاب والسنة من كل منكر في الاسلام ، قتلاً للابرار ، وهتكاً للاعراض ، وسلباً للاموال ، وسجناً للاحرار ، وتشريداً للمصلحين ، وتأييداً للمفسدين الذين جعلهم وزراء دولته ، كابن العاص ، وابن شعبة ، وابن سعيد ، وابن ارطأة ، وابن جندب ، وابن السمط ، وابن الحكم ، وابن مرجانة ، وابن عقبة ، وابن سمية الذي نفاه عن ابيه الشرعي عبيد ، والحقه بالمسافح أبيه أبي سفيان ليجعله بذلك أخاه ، يسلطه على الشيعة في العراق ، يسومهم سوء العذاب ، (12)
يذبح أبناءهم ، ويستحيي نساءهم ، ويفرقهم عباديد ، تحت كل كوكب ، ويحرق بيوتهم ، ويصطفي أموالهم ، لا يألو جهداً في ظلمهم بكل طريق.
ختم معاوية منكراته هذه بحمل خليعه المهتوك على رقاب المسلمين ، يعيث في دينهم ودنياهم ، فكان من خليعه ما كان يوم الطف ، ويوم الحرة ، ويوم مكة اذ نصب عليها العرادات والمجانيق !. هذه خاتمة أعمال معاوية ، وانها لتلائم كل الملاءمة فاتحة أعماله القاتمة. وبين الفاتحة والخاتمة تتضاغط شدائد ، وتدور خطوب ، وتزدحم محن ، ما أدري كيف اتسعت لها مسافة ذلك الزمن ، وكيف اتسع لها صدر ذلك المجتمع ؟ وهي ـ في الحق ـ لو وزعت على دهر لضاق بها ، وناء بحملها ، ولو وزعت على عالم لكان جديراً أن يحول جحيماً لا يطاق. ومهما يكن من أمر ، فالمهم أن الحوادث جاءت تفسر خطة الحسن وتجلوها. وكان أهم ما يرمي اليه سلام اللّه عليه ، أن يرفع اللثام عن هؤلاء الطغاة ، ليحول بينهم وبين ما يبيتون لرسالة جده من الكيد. وقد تم له كل ما أراد ، حتى برح الخفاء ، وآذن أمر الاموية بالجلاء ، والحمد للّه رب العالمين. وبهذا استتب لصنوه سيد الشهداء أن يثور ثورته التي أوضح اللّه بها الكتاب ، وجعله فيها عبرة لأولي الالباب. وقد كانا عليهما السلام وجهين لرسالة واحدة ، كل وجه منهما في موضعه منها ، وفي زمانه من مراحلها ، يكافئ الآخر في النهوض بأعبائها ويوازنه بالتضحية في سبيلها. فالحسن لم يبخل بنفسه ، ولم يكن الحسين أسخى منه بها في سبيل اللّه ، وانما صان نفسه يجندها في جهاد صامت ، فلما حان الوقت كانت شهادة كربلاء شهادة حسنية ، قبل ان تكون حسينية. وكان يوم ساباط أعرق بمعاني التضحية من يوم الطف لدى اولي (13)
الالباب ممن تعمق.
لان الحسن عليه السلام ، أعطي من البطولة دور الصابر على احتمال المكاره في صورة مستكين قاعد. وكانت شهادة « الطف » حسنية أولاً ، وحسينية ثانياً ، لان الحسن أنضج نتائجها ، ومهد أسبابها. كان نصر الحسن الدامي موقوفاً على جلو الحقيقة التي جلاها ـ لاخيه الحسين ـ بصبره وحكمته ، وبجلوها انتصر الحسين نصره العزيز وفتح اللّه له فتحه المبين. وكانا عليهما السلام كأنهما متفقان على تصميم الخطة : أن يكون للحسن منها دور الصابر الحكيم ، وللحسين دور الثائر الكريم ، لتتألف من الدورين خطة كاملة ذات غرض واحد. وقد وقف الناس ـ بعد حادثتي ساباط والطف ـ يمعنون في الاحداث فيرون في هؤلاء الامويين عصبة جاهلية منكرة ، بحيث لو مثلت العصبيات الجلفة النذلة الظلوم لم تكن غيرهم ، بل تكون دونهم في الخطر على الاسلام وأهله. رأى الناس من هؤلاء الامويين ، قردة تنزو على منبر رسول اللّه ، تكشِّر للامة عن أنياب غول ، وتصافحها بأيد تمتد بمخالب ذئب ، في نفوس تدب بروح عقرب. رأوا فيهم هذه الصورة منسجمة شائعة متوارثة ، لم تخفف من شرها التربية الاسلامية ، ولم تطامن من لؤمها المكارم المحمدية. فمضغ الاكباد يوم هند وحمزة ، يرتقي به الحقد الاموي الاثيم ، حتى يكون تنكيلاً بربرياً يوم الطف ، لا يكتفي بقتل الحسين ، حتى يوطئ الخيل صدره وظهره. ثم لا يكتفي بذلك ، حتى يترك عارياً بالعراء ، لوحوش الارض وطير السماء ، ويحمل رأسه ورؤوس الشهداء من آله وصحبه على أطراف الاسنة الى الشام. ثم لا يكتفي بهذا كله ، حتى يوقف حرائر الوحي من بنات رسول اللّه على درج السبى !!! ... (14)
رأى الناس الحسن يسالم ، فلا تنجيه المسالمة من خطر هذه الوحشية اللئيمة ، حتى دس معاوية اليه السم فقتله بغياً وعدواناً. ورأوا الحسين يثور في حين أتيح للثورة الطريق الى أفهامهم تتفجر فيها باليقظة والحرية ، فلا تقف الوحشية الاموية بشيء عن المظالم ، بل تبلغ في وحشيتها أبعد المدى.
وكان من الطبيعي أن يتحرر الرأي العام على وهج هذه النار المحرقة منطلقاً الى زوايا التاريخ وأسراره ، يستنزل الاسباب من هنا وهناك بلمعان ويقظة ، وسير دائب يدنيه الى الحقيقة ، حقيقة الانحراف عن آل محمد ، حتى يكون أمامها وجهاً لوجه ، يسمع همسها هناك في الصدر الاول ، وهي تتسار وراء الحجب والاستار ، وتدبر الامر في اصطناع هذا « الداهية الظلوم الاموي » اصطناعاً يطفئ نور آل محمد ، أو يحول بينه وبين الامة. نعم أدرك الرأي العام بفضل الحسن والحسين وحكمة تدبيرهما كل خافية من أمر « الاموية » وأمور مسددي سهمها على نحو واضح. أدرك ـ فيما يتصل بالامويين ـ أن العلاقة بينهم وبين الاسلام انما هي علاقة عداء مستحكم ، ضرورة أنه اذا كان الملك هو ما تهدف اليه الاموية ، فقد بلغه معاوية ، وأتاح له الحسن ، فما بالها تلاحقه بالسم وأنواع الظلم والهضم ، وتتقصى الاحرار الابرار من أوليائه لتستأصل شأفتهم وتقتلع بذرتهم ؟! ... واذا كان الملك وحده هو ما تهدف اليه الاموية ، فقد أزيح الحسين من الطريق ، وتم ليزيد ما يريد ، فما بالها لا تكف ولا ترعوي ، وانما تسرف اقسى ما يكون الاسراف والاجحاف في حركة من حركات الافناء على نمط من الاستهتار ، لا يعهد في تاريخ الجزارين والبرابرة ؟؟ .. أما ما انتجته هذه المحاكمة لأولي الالباب ، فذلك ما نترك تقديره وبيانه للعارفين بمنابع الخير ، ومطالع النور في التاريخ الاسلامي ، على انا فصلناه بآياته وبيناته في مقدمة « المجالس الفاخرة في مآتم العترة الطاهرة » (15)
فليراجع ، ولنكتف الآن بالاشارة الى ما قلناه في التوحيد بين صلح الحسن وثورة الحسين ، والتعاون بين هذين المظهرين ، على كشف القناع عن الوجه الاموي المظلم ، والاعلان عن الحقيقة الاموية ، فأقول عوداً على بدء : كانت شهادة الطف حسنية اولاً ، وحسينية ثانياً. وكان يوم ساباط ، أعرق بمعاني الشهادة والتضحية من يوم الطف عند من تعمق واعتدل وأنصف.
الفضل في كشف هذه الحقيقة انما هو لمولانا ومقتدانا علم الامة ، والخبير بأسرار الأئمة ، حجة الاسلام والمسلمين ، شيخنا المقدس الشيخ راضي آل ياسين أعلى اللّه مقامه. ذلك لان أحداً من الاعلام لم يتفرغ لهذه المهمة تفرغه لها في هذا الكتاب الفذ الذي لا ثاني له ، وها هو ذا مشرف من القمة على الامة ، ليسد في مكتبتها فراغاً كانت في فاقة الى سده ، فجزاه اللّه عن الامة وعن الائمة ، وعن غوامض العلم التي استجلاها ، ومخبآته التى استخرجها ، ومحص حقائقها ، خير جزاء المحسنين ، وحشره في أعلى عليين [ مع الذين أنعم اللّه عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن اولئك رفيقاً ] . حرر في صور ( جبل عامل ). في الخامس عشر من رجب سنة اثنتين وسبعين وثلاثمائة والف من الهجرة. عبد الحسين شرف الدين
الموسوي العاملي |
|||
|