صلح الحسن ( عليه السلام ) ::: 16 ـ 30
(16)
بِسمِ اللّهِ الرَحمنِ الرَحيِم
الحمُد للّهِ ربَ العَالمين وَصلى اللّهُ على محَمد وآلهِ وصحبهُ


(17)
    وهأنذا مقدم ـ الآن ـ بين يدي قارئي الكريم ، عصارة بحوث تستملي حقايقها من صميم الواقع غير مدخول بالشكوك ، ولا خاضع للمؤثرات عن الحقبة المظلومة التاريخ ، التي لم يحفل في عرضها ، بما تستحق ـ مؤرخونا القدامى ، ولم يعن في تحليلها ـ كما يجب ـ كتابنا المحدثون.
     تلك هي قطعة الزمن التي كانت عهد خلافة الحسن بن علي في الاسلام والتي جاءت بين دوافع الاولين ، وتساهل الآخرين ، صورة مشوهة من صور التاريخ. وتعرضت في مختلف ادوارها لما كان يجب ان يتعرض له امثالها من الفترات المطموسة المعالم ، المنسية للحقائق ، المقصودة ـ على الاكثر ـ بالاهمال او بالتشويه ، فاذا بالحسن بن علي ( عليه وعلى ابيه افضل الصلاة والسلام ) في عرف الاكثرين من المتسرعين باحكامهم ـ من شرقيين وغربيين ـ الخليفة الضعيف السياسة! التوفر على حب النساء! الذي باع « الخلافة » لمعاوية بالمال !! .. الى كثير من هذا الهذر الظالم ، الذي لا يستند في مقاييسه على منطق ، ولا يرجع في تحكماته الى دليل ، ولا يعنى في ارتجالياته بتحقيق او تدقيق.
     وعمدت هذه الفصول الى تقلية هذه الحقبة القصيرة من الزمن بما هي ظرف احداث لا تقل بأهميتها ـ في ذاتها ـ ولا بموقعها « الاستراتيجي » في التاريخ ـ اذا صح هذا التعبير ـ عن اعظم الفترات التي مرّ بها تاريخ


(18)
الاسلام منذ وفاة الرسول ( صلى اللّه عليه وآله وسلم ) والى يوم الناس ، لانها كانت ظرف الخلافة الفريدة من نوعها في تاريخ الخلائف الآخرين ، ولانها بداية اقرار القاعدة الجديدة في التمييز بين السلطات الروحية والسلطات الزمنية في الاسلام ، واللحظة التي صدَّقت باحداثها الحديث النبوي الشريف الذي انبأ برجوع الامر بعد ثلاثين عاماً الى الملك العضوض ، ولانها الفترة التي تبلورت فيها الحزازات الطائفية لاول مرة في تاريخ العقائد الاسلامية.
     ولم يكن قليلاً من مجهود هذه الفصول ، ان ترجع ـ بعد الجهد المرتخص في سبيلها ـ بالخبر اليقين عن الكثير من تلك الحقائق ـ أبعد ما تكون تأتياً في البحث ، واكثر ما تكون تفسخاً في المصادر ، وأقل ما تكون حظاً من تسلسل الحوادث وتناسق الاحداث ـ فتعرضها في هذه السطور مجلوة على واقعها الاول ، او على اقرب صورة من واقعها الذي تنشأت عليه بين احضان جيلها المختلف الالوان.
     فاذا الحسن بن علي (ع) ـ بعد هذا ـ وعلى قصر عهده في خلافته ، من أطول الخلفاء باعاً في الادارة والسياسة ، والرجل الذي بلغ من دقته في تصريف الامور ، وسموّه في علاج المشكلات ، انه استغفل معاوية بن ابي سفيان اعنف ما يكون في موقفه منه حذراً وانتباهاً واستعداداً للحبائل والغوائل. واذا بزواجه الكثير دليل عظمته الروحية في الناس. واذا « بالصلح » الذي حاكه على معاوية اداته الجبارة للقضاء على خصومه في التاريخ ، دون ان يكون ثمة اية مساومة على بيعة أو على خلافة أو على مال. واذا كل خطوات هذا الامام ، وكل ايجاب او سلب في سياسته ـ مخفقاً او منتصراً ـ آية من آيات عظمته التي جهلها الناس وظلمها المؤرخون.
     وكان من أفظع الكفران لمواهب العظماء ، ان يتحكم في تاريخهم وتنسيق مراتبهم ، ناس من هؤلاء الناس المأخوذين بسوء الذوق ، او المغلوبين بسوء الطوية ، يتظاهرون بالمعرفة ويرتجزون بحسن التفكير ، ثم يتحذلقون


(19)
بالتطاول على الكرامات المجيدة ، دون رويّة ولا تدقيق ولا اكتراث ، فلا يدلون بتفريطهم في احكامهم الا على فرط الضعف في نفوسهم.
     وليس يضر الحسن بن علي أن تظلمه الضمائر البليدة ثم ينصفه التمييز. وان لهذا الامام من مواقفه ومن مواهبه ومن عمقه ومن أهدافه ما يضعه بالمكان الاسنى من صفوة « العظماء » الخالدين.
     وحسبنا من هذه السطور ، أن تجلو عن طريق المنطق الصحيح الذي لا ينبغي أن يختلف عليه الناس ، عظمة هذا الامام ، خالصة من كل شوب ، سالمة من كل عيب ، نقية من كل نقد.
     وكانت النقود التي جرح بها وقاح الرأي سياسة الحسن عليه السلام ، أبعد ما يكونون ـ في تجريحهم ـ عن النصف والعمق والاحاطة بالظرف الخاص ، هي التي نسجت كيان المشكلة التاريخية في قضية هذا الامام عليه السلام ، وكان للشهوة الحزبية من بعض ، ولمسايرة السياسة الحاكمة من آخر ، وللجهل بالواقع من ثالث ، أثره فيما أسف به المتسرّعون الى أحكامهم.
     ونظروا اليه نظرتهم الى زعيم أخفق في زعامته ، وفاتهم أن ينظروا الى دوافع هذا الاخفاق المزعوم ، الذي كان ـ في حقيقته ـ انعكاساً للحالة القائمة في الجيل الذي قدّر للحسن أن يتزعمه في خلافته ، بما كان قد طغى على هذا الجبل من المغريات التي طلعت بها الفتوح الجديدة على الناس ، وأيّ غضاضة على « الزعيم » اذا فسد جيله ، أو خانت جنوده ، أو فقد مجتمعه وجدانه الاجتماعي.
     وفاتهم ـ بعد ذلك ـ أن ينظروا اليه كألمع سياسيّ يدرس نفسيات خصومه ونوازع مجتمعه وعوامل زمنه ، فيضع الخطط ويقرر النتائج ، ويحفظ بخططه مستقبل أمة بكاملها ، ويحفر ـ بنتائجه ـ قبور خصومه قبراً قبراً ، ويمرّ بزوابع الزمن من حوله رسول السلام المضمون النجاح ، المرفوع الرأس بالدعوة الى الاصلاح. ثم يموت ولا يرضى أن يهرق في أمره محجمة دم


(20)
    تُرى ، فأي عظمة أجل من هذه العظمة لو أنصف الناقدون المتحذلقون ؟.
     وان كتابنا هذا ليضع نقاط هذه الحروف كلها ، مملاة عن دراسة دقيقة سيجدها المطالع ـ كما قلنا ـ أقرب شيء من الواقع ، أو هي الواقع نفسه ، مدلولاً عليه بالمقاييس المنطقية ، وبالدراسات النفسية ، وبالشواهد الشوارد من هنا وهناك. كل ذلك هو عماد البحث في الكتاب ، والقاعدة التي خرج منها الى احكامه بسهولة ويسر ، في سائر ما تناوله من موضوعات أو حاوله من آراء ..
     وسيجد القارئ أن الكتاب ليس كتاباً في أحوال الامام الحسن (ع) ، بوجه عام ، وانما هو كتاب مواقفه السياسية فحسب. وكان من التوفر على استيعاب هذا الموضوع أن نتقدم بفصل خاص عن الترجمة له ، وأن نستطرد في أطوائه ما يضطرنا البحث اليه.
     وان موضوعاً من العمق والعسر كموضوعنا ، وبحثاً فقير المادة قصير المدد كبحثنا ـ ونحن نتطلع اليه بعد 1328 من السنين ـ لحريّ بأن لا يدرّ على كاتبه باكثر مما درّت به هذه الفصول ، احرص ما تكون توفراً على استقصاء المواد ، وتنسيق عناصر الموضوع ، وتهذيبها من الزائف والدخيل. ونحن اذ نومئ الى « فقر المادة » وأثره على البحث ، لا نعني بالمادة الا هذه « الموسوعات » التي كان بامكاننا التعاون معها على تجلية موضوعنا بما هي عليه من تشويش للتناسق أو تشويه للحقايق. اما المؤلفات الكثيرة العدد التي وردت أسماؤها في معاجم المؤلفين الاولين ، مما كتب عن قضية الحسن (ع) فقد حيل بيننا وبين الوقوف عليها. وكانت مع الكثير من تراثنا القديم قيد المؤثرات الزمنية ، وطعمة الضياع والانقراض اخيراً. وكان ذلك عصب النكبة في الصحيح الصحيح من تاريخ الاسلام ، وفي المهم المهم من قضاياه الحساسة امثال قضيتنا ـ موضوع البحث ـ.
     فلم نجد ـ على هذا ـ من مصادر الموضوع : كتاب صلح الحسن ومعاوية ، لاحمد بن محمد بن سعيد بن عبد الرحمن السبيعي الهمداني المتوفى سنة 333 هجري ، ولا كتاب صلح الحسن عليه السلام ،


(21)
    لعبد الرحمن بن كثير الهاشمي ( مولاهم ) ، ولا كتاب قيام الحسن عليه السلام ، لهشام بن محمد بن السائب ، ولا كتاب قيام الحسن عليه السلام ، لابراهيم بن محمد بن سعيد بن هلال بن عاصم بن سعد بن مسعود الثقفي المتوفى سنة 283 هجري ولا كتاب عبد العزيز بن يحيى الجلودي البصري في امر الحسن عليه السلام ، ولا كتاب اخبار الحسن عليه السلام ووفاته ، للهيثم بن عدي الثعلي المتوفى سنة 207 هجري ، ولا كتاب اخبار الحسن بن علي عليه السلام ، لابي اسحاق ابراهيم بن محمد الاصفاني الثقفي (1) ، ولا نظائرها.
     اما هذه المصادر التي قدّر لنا ان لا نجد غيرها سنداً ، فيما احتاجت به هذه البحوث الى سند ما ، فقد كان اعجب ما فيها انها تتفق جميعها في قضية الحسن عليه السلام على ان لا تتفق في عرض حادثة ، او رواية خطبة ، او نقل تصريح ، او الحكم على احصاء ، بل لا يتفق سندان منها ـ على الاكثر ـ في تأريخ وقت الحادث او الخطبة من تقديم او تأخير ، ولا في تعيين اسم القائد مثلاً ، او ترتيب القيادة بين الاثنين او الثلاثة ، ولا في رواية طرق النكاية التي اريدت بالحسن (ع) في ميادينه ، او في التعبير عن صلحه ، او في قتله اخيراً ، ولا في كل صغيرة او كبيرة من اخبار الملحمة ، من ألفها الى يائها.
     وللمؤثرات التي تحكمت في رقبة هذه المصادر ، عند نقاطها الحساسة اثرها المحسوس في الكثير الكثير من عروضها.
     واذا كان من اصعب مراحل هذا التأليف ، ارجاع هذه الحقائق الى تسلسلها الصحيح الذي يجب ان يكون هو واقعها الاول ، فقد كان من أيسر
1 ـ تجد ذكر هذه المؤلفات ضمن تراجم مؤلفيها في كتب الرجال ، كفهرست ابن النديم والنجاشي وغيرهما. وستجد معها اسماء كتب اخرى تخص موضوع الحسن عليه السلام في صلحه وفي مقتله ، لا نريد الاطالة باستقصائها بعد ان اصبحت اسماء بلا مسميات.

(22)
    الوسائل الى تحقيق هذا الغرض ، الاستعانة عليه بقرائن الاحوال ، وتناسق الاحداث ، اللذين لا يتم بدونهما حكم على وضع.
     وكان من حسن الصدف ، ان لا نخرج في اختيار النسق المطلوب عن الشاهد الصريح ، الذي بعثرته هذه المصادر نفسها ، في اطواء رواياتها الكثيرة المضطربة ، فكانت ـ بمجموعها ـ وعلى نقص كل منها ، أدلتنا الكاملة على ما اخترناه من تنسيق أو تحقيق ، وذلك أروع ما نعتز به من التوفيق.
     ووقفنا في فلسفة الموقف ـ عند مختلف مراحله ـ وقفاتنا المتأنية المستقرئة الصبور ، التي لا تستسلم للنقل اكثر مما تحتكم للعقل. ورجعنا في كثير مما التمسنا تدقيقه ، الى التصريحات الشخصية التي جاءت ادلّ على الغرض من روايات كثير من المؤرخين.
     وهي ـ بعد ـ بضاعتي المزجاة التي لا اريد منها الا ان تكون مفتاح بحوث جديدة ، من شأنها ان تكشف كثيراً من الغموض الذي دار مع قضية الحسن في التاريخ.
     فان هي وُفِّقَتْ الى ذلك ، فقد أوتيت خيراً كثيراً.
     وما توفيقي الا باللّه عليه توكلت واليه انيب.
المؤلف


(23)


(24)

(25)
    أبوه أمير المؤمنين علي بن أبي طالب. وامه سيدة نساء العالمين فاطمة بنت رسول اللّه. صلى اللّه عليه وعليهم.
    ولا أقصر من هذا النسب في التاريخ ، ولا أشرف منه في دنيا الانساب.
    مولده :
    ولد في المدينة ليلة النصف من شهر رمضان سنة ثلاث للهجرة.
    وهو بكر أبويه.
    وأخذه النبي صلى اللّه عليه وآله فور ولادته. فأذن في اذنه اليمنى ، وأقام في اليسرى ، ثم عق عنه. وحلق رأسه. وتصدق بزنة شعره فضةً فكان وزنه درهماً وشيئاً. وأمر فطُلي رأسه طيباً ، وسُنَّت بذلك العقيقة والتصدّق بوزن الشعر.
    وسماه « حسناً ». ولم يعرف هذا الاسم في الجاهلية.
    وكنّاه « أبا محمد ». ولا كنية له غيرها.
    القابه :
    السبط. السيد. الزكيّ. المجتبى. التقيّ.
    زوجاته :
    تزوج « ام اسحق » بنت طلحة بن عبيد اللّه. و « حفصة » بنت عبد الرحمن بن ابي بكر. و « هند » بنت سهيل بن عمرو. و « جعدة » بنت الاشعث بن قيس ، وهي التي اغراها معاوية بقتله فقتلته بالسم.
    ولا نعهد انه اختص من الزوجات ـ على التعاقب ـ باكثر من ثمان أو عشر .. على اختلاف الروايتين .. بما فيهن امهات اولاده.


(26)
    ونسب الناس اليه زوجات كثيرات ، صعدوا في أعدادهن ما شاؤوا .. وخفي عليهم ان زواجه الكثير الذي أشاروا اليه بهذه الاعداد ، واشار اليه آخرون بالغمز والانتقاد ، لا يعني الزواج الذي يختص به الرجل لمشاركة حياته ، وانما كانت حوادث استدعتها ظروف شرعية محضة. من شأنها ان يكثر فيها الزواج والطلاق معاً ، وذلك هو دليل سمتها الخاصة.
     ولا غضاضة في كثرة زواج تقتضيه المناسبات الشرعية ، بل هو ـ بالنظر الى ظروف هذه المناسبات ـ دليل قوة الامام في عقيدة الناس ـ كما اشير اليه ـ. ولكن المتسرعين الى النقد ، جهلوا الحقيقة وجهلوا انهم جاهلون. ولو فطنوا الى جواب الامام الحسن عليه السلام لعبد اللّه بن عامر بن كريز ، وقد بنى بزوجته ، لكانوا غيرهم اذ ينتقدون.
    اولاده :
    كان له خمسة عشر ولداً بين ذكر وانثى ، هم زيد والحسن وعمرو والقاسم وعبد اللّه وعبد الرحمن والحسن الاثرم وطلحة ، وام الحسن وام الحسين وفاطمة وام سلمة ورقية وام عبد اللّه وفاطمة.
     وجاء عقبه من ولديه الحسن وزيد ، ولا يصح الانتساب اليه من غيرهما.
    أوصافه :
    « لم يكن أحد اشبه برسول اللّه صلى اللّه عليه وآله من الحسن بن علي عليه السلام خلقاً وخلقاً وهيأة وهدياً وسؤدداً ».
     بهذا وصفه واصفوه. وقالوا :
     كان ابيض اللون مشرباً بحمرة ، أدعج العينين ، سهل الخدين ، كث اللحية ، جعد الشعر ذا وفرة ، كأن عنقه ابريق فضة ، حسن البدن ، بعيد ما بين المنكبين ، عظيم الكراديس ، دقيق المسربة ، ربعة ليس بالطويل ولا بالقصير ، مليحاً من أحسن الناس وجهاً.


(27)
    او كما قال الشاعر :
مادب في فطن الاوهام من حسنٍ كأنَّ جبهته من تحت طرّته قد جلّ عن طيب اهل الارض عنبره الا وكان له الحظ الخصوصيُّ بدر يتوّجه الليل البهيميُّ ومسكه فهو الطيب السماويُّ
     وقال ابن سعد : « كان الحسن والحسين يخضبان بالسواد ».
     وقال واصل بن عطاء : « كان الحسن بن علي عليهما السلام ، عليه سيماء الانبياء وبهاء الملوك ».
    عبادته :
    حج خمساً وعشرين حجة ماشياً ، والنجائب لتقاد معه ، واذا ذكر الموت بكى ، واذا ذكر القبر بكى ، واذا ذكر البعث بكى ، واذا ذكر الممر على الصراط بكى ، واذا ذكر العرض على اللّه تعالى ذكره شهق شهقة يغشى عليه منها ، واذا ذكر الجنة والنار اضطرب اضطراب السليم ، وسأل اللّه الجنة وتعوذ باللّه من النار.
     وكان اذا توضأ ، او اذا صلى ارتعدت فرائصه واصفر لونه.
     وقاسم اللّه تعالى ماله ثلاث مرات. وخرج من ماله لله تعالى مرتين. ثم هو لا يمر في شيء من احواله الا ذكر اللّه عز وجل.
     قالوا : « وكان أعبد الناس في زمانه وأزهدهم بالدنيا ».
    اخلاقه :
    كان في شمائله آية الانسانية الفضلى ، ما رآه أحد الا هابه ، ولا خالطه انسان الا أحبه ، ولا سمعه صديق أو عدو وهو يتحدث أو يخطب فهان عليه ان ينهي حديثه أو يسكت.


(28)
    قال ابن الزبير فيما رواه ابن كثير ( ج 8 ص 37 ) : « واللّه ما قامت النساء عن مثل الحسن بن علي ».
     وقال محمد بن اسحق : « ما بلغ احد من الشرف بعد رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم ، ما بلغ الحسن بن علي. كان يبسط له على باب داره فاذا خرج وجلس انقطع الطريق ، فما يمر أحد من خلق اللّه اجلالاً له ، فاذا علم قام ودخل بيته فيمر الناس ».
     ونزل عن راحلته في طريق مكة فمشى ، فما من خلق اللّه احد الا نزل ومشى حتى سعد بن ابي وقاص ، فقد نزل ومشى الى جنبه.
     وقال مدرك بن زياد لابن عباس ، وقد امسك للحسن والحسين بالركاب وسوى عليهما ثيابهما : « انت أسن منهما تمسك لهما بالركاب ؟ ». فقال : « يا لكع! وما تدري من هذان ، هذان ابنا رسول اللّه ، أوَليس مما أنعم اللّه علي به ان امسك لهما واسوي عليهما ! »
     وكان من تواضعه على عظيم مكانته انه مر بفقراء وضعوا كسيرات على الارض ، وهم قعود يلتقطونها ويأكلونها ، فقالوا له : « هلم يا ابن رسول اللّه الى الغداء ! » فنزل وقال : « ان اللّه لا يحب المتكبرين ». وجعل يأكل معهم. ثم دعاهم الى ضيافته فأطعمهم وكساهم.
     وكان من كرمه انه اتاه رجل في حاجة ، فقال له : « اكتب حاجتك في رقعة وارفعها الينا ». قال : فرفعها اليه فأضعفها له ، فقال له بعض جلسائه : « ما كان أعظم بركة الرقعة عليه يا ابن رسول اللّه ! ». فقال : « بركتها علينا أعظم ، حين جعلنا للمعروف اهلاً. أما علمت ان المعروف ما كان ابتداء من غير مسألة ، فاما من أعطيته بعد مسألة ، فانما اعطيته بما بذل لك من وجهه. وعسى ان يكون بات ليلته متململاً أرقاً ، يميل بين اليأس والرجاء ، لا يعلم بما يرجع من حاجته أبكآبة الرد ، ام بسرور النجح ، فيأتيك وفرائصه ترعد وقلبه خائف يخفق ، فان قضيت له حاجته فيما بذل من وجهه ، فان ذلك أعظم مما نال من معروفك ».


(29)
    وأعطى شاعراً فقال له رجل من جلسائه : « سبحان اللّه اتعطي شاعراً يعصي الرحمن ويقول البهتان ! ». فقال : « يا عبد اللّه ان خير ما بذلت من مالك ما وقيت به عرضك ، وان من ابتغاء الخير اتقاء الشر ».
     وسأله رجل فأعطاه خمسين الف درهم وخمسمائة دينار وقال له : « ائت بحمال يحمل لك ». فأتى بحمال ، فأعطاه طيلسانه ، وقال : « هذا كرى الحمال ».
     وجاءه بعض الاعراب. فقال : « اعطوه ما في الخزانة ! ». فوجد فيها عشرون الف درهم. فدفعت اليه ، فقال الاعرابي : « يا مولاي ، ألا تركتني أبوح بحاجتي ، وانشر مدحتي ؟ ». فأنشأ الحسن يقول :
نحن اناس نوالنا خضل تجود قبل السؤال أنفسنا يرتع فيه الرجاء والامل خوفاً على ماء وجه من يسل
     وروى المدائني قال : « خرج الحسن والحسين وعبد اللّه بن جعفر حجاجاً ففاتتهم اثقالهم ، فجاعوا وعطشوا ، فرأوا عجوزاً في خباء فاستسقوها فقالت : هذه الشويهة احلبوها ، وامتذقوا لبنها ، ففعلوا. واستطعموها ، فقالت : ليس الا هذه الشاة فليذبحها أحدكم. فذبحها احدهم ، وكشطها. ثم شوت لهم من لحمها فأكلوا. وقالوا عندها ، فلما نهضوا ، قالوا : نحن نفر من قريش نريد هذا الوجه ، فاذا عدنا فألمي بنا ، فانا صانعون بك خيراً. ثم رحلوا فلما جاء زوجها ، أخبرته فقال : ويحك تذبحين شاتي لقوم لا تعرفينهم ، ثم تقولين : نفر من قريش. ثم مضت الايام ، فأضرت بها الحال ، فرحلت حتى اجتازت بالمدينة ، فرآها الحسن (ع) فعرفها ، فقال لها : أتعرفينني ؟ قالت : لا. قال : أنا ضيفك يوم كذا وكذا ، فأمر لها بالف شاة والف دينار ، وبعث بها الى الحسين (ع) فأعطاها مثل ذلك ، ثم بعثها الى عبد اللّه بن جعفر فأعطاها مثل ذلك ».
     وتنازع رجلان ، هاشمي واموي. قال هذا : « قومي اسمح ». وقال


(30)
هذا : « قومي اسمح ». قال : « فسل انت عشرة من قومك ، وانا اسأل عشرة من قومي ». فانطلق صاحب بني امية فسأل عشرة ، فأعطاه كل واحد منهم عشرة آلاف درهم. وانطلق صاحب بني هاشم الى الحسن بن علي ، فأمر له بمائة وخمسين الف درهم ، ثم أتى الحسين فقال : « هل بدأت بأحد قبلي ؟ ». قال : « بدأت بالحسن » قال : « ما كنت أستطيع أن ازيد على سيدي شيئاً » فأعطاه مائة وخمسين الفاً من الدراهم. فجاء صاحب بني امية يحمل مائة الف درهم من عشر أنفس ، وجاء صاحب بني هاشم يحمل ثلاثمائة الف درهم من نفسين. فغضب صاحب بني أمية ، فردها عليهم ، فقبلوها. وجاء صاحب بني هاشم فردها عليهما ، فأبيا ان يقبلاها ، وقالا : « ما كنا نبالي. أخذتها أم القيتها في الطريق ».
     ورأى غلاماً أسود يأكل من رغيف لقمة ، ويطعم كلباً هناك لقمة فقال له : « ما حملك على هذا ؟ » قال : « اني استحي منه ان آكل ولا اطعمه ». فقال له الحسن : « لا تبرح مكانك حتى آتيك ». فذهب الى سيده ، فاشتراه واشترى الحائط ( البستان ) الذي هو فيه ، فأعتقه ، وملكه الحائط.
     واخبار كرمه كثيرة لسنا بسبيل استقصائها.
     وكان من حلمه ما يوازن به الجبال ـ على حد تعبير مروان عنه.
     وكان من زهده ما خصص له محمد بن علي بن الحسين بن بابويه المتوفى سنة 381 هجري كتاباً أسماه ( كتاب زهد الحسن عليه السلام ). وناهيك بمن زهد بالدنيا كلها في سبيل الدين.
    مناقبه :
    انه سيد شباب أهل الجنة ، وأحد الاثنين اللذين انحصرت ذرية رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله فيهما ، وأحد الاربعة الذين باهل بهم النبي
صلح الحسن ( عليه السلام ) ::: فهرس