المتزنة وابتعاده عن مطاردة مناؤيه من رجال العهد البائد وعدم امتلاكه لشبكة من الجواسيس سوف يسهل من عملية اغتياله بطريقة ما !
صحيح أن الناس بدأوا يميلون اليه ويحبونه ولكن ما فائدة هذا الحب ما دام الناس لا يملكون سلاحاً للدفاع عنه ولا يمكنهم حراسته أيضاً .. ان القوة الضاربة ما تزال في ايدي الاتراك .. قوات الحرس والجيش ما تزال في قبضة القادة الاتراك .. وكلهم مقتنعون بضرورة التخلص من المنتصر .. باستثناء بغا الكبير فهو الوحيد الذي يعارض ذلك .. لأن الخليفة القوي يساعد في اقرار النظام ومنع الفوضى ..
ولكن « وصيفاً » و « بغا الصغير » كانا يفكران بطريقة أخرى .. ان وجود خليفة ضعيف سوف يضمن للاتراك استمرار نفوذهم .. من أجل هذا كان يترقبان أول فرصة سانحة ..
وما دام كل شيء يباع ويشترى ، والذهب ما يزال يخطف العقول والابصار فلا وجود لشيء مستحيل !
كان المنتصر قد عاد من رحلته اليومية مكدوداً تماماً وبدا أنه قد أمعن في الفرار في الفيافي شرق سامراء وكعادته عندما تجتاحه موجة من الحزن المرير أوى الى عزلته ، والقى بنفسه على وسائد خضراء اللون مشوبه بنقوش حمراء .
كانت نسائم نيسان تدور خلال أروقة القصر وستائر حريرية
32
شفافة تميل مع النسيم الربيعي المفعم برائحة الورد .. ومع ذلك فقد كان المنتصر يتصبب عرقاً لكأنه يعاني من رؤيا تعذبه (16) .
شاء القدر أن يستيقظ المنتصر وهو يلتهب من الحمى مما استدعى الاتصال بـ « الطيفوري » الطبيب لاجراء فحوصاته .. اشتعلت في رؤوس الاتراك حمى التآمر ..
استقبل القادة الاتراك الطبيب قبل أن يدخل على المنتصر وكانت نظراتهم تحرضه بشكل واضح ، فأطرق برأسه ومضى .. أجرى الطيفوري بعض الفحوصات السريرية ، ونصح المريض بإجراء عملية فصاد للدم ، وتم الاتفاق على أن يجري ذلك بعد العشاء ..
عندما عاد الطيفوري الى المنزل وجد من ينتظر عودته ، كان الرجل التركي الذي يرتدي حلة من الديباج الاصفر ساكتاً .. واكتفى بان قدم ثلاثين الف دينار (17) .. انه اكبر مبلغ يراه الطبيب في حياته يستطيع أن يحيا بقية عمره في دعة من العيش .. يكفي أن يبضع المريض بمشراط مسموم (18) .. لم يصمد الطبيب أمام بريق الذهب ، وضجت نفسه بالوساوس فيما خفت صوت العقل الذي اغتاله بريق الدينار الذهبي ..
تمت الجراحة وقد بذل الطيفوري جهد الابالسة في اخفاء مشاعره أمام نظرات المنتصر الثاقبة ..
وعندما غادر القصر كان الطريق الى منزله تغمره ظلمة
33
كثيفة وشعر وهو في منتصف الطريق أن هناك من يطارد خطواته ..
لم يشعر المنتصر بأي تحسن ، وعندما تناول كمثرى (19) شعر بألم شديد في معدته ..
أمه تنظر اليه بحزن .. تبكي بصمت شباب ابنها .. لم يكن محظوظاً في الدنيا حتى أبيه كان يتآمر عليه .. وفي مثل هذا العالم المليء بالذئاب لا يعيش إلا من يكون ذئباً ..
قال المنتصر بأسى :
ـ يا أماه ذهبت مني الدنيا والآخرة .. عاجلت أبي فعوجلت (20) !
كفكفت الأم دمعة ثكلى .
ـ لقد كنت بي باراً ومع الناس طيباً .. ومع نفسك صادقاً كل الناس يموتون وقليلون الذين يواجهون الموت بشجاعة .
أغمض المنتصر عينيه وغط في اغفاءة عميقة فانسحبت امه بهدوء بعد أن طبعت على جبينه قبلة أودعتها كل أمومتها ..
في اليوم التالي طلب رؤية ابنه الصغير « عبد الوهاب » فقبله وتمتم بكلمات خافته أن يحميه الله من شرور الذئاب البشرية التي تعوي في قصره ..
وفي مساء يوم السبت الرابع من شوال سنة 248 هـ كان المنتصر يودع الحياة ..
أطل الهلال متألقاً في سماء حزيران الصافية الشاب المسجى ينظر بعينين فيهما أمل وهو يودع الدنيا الى عالم آخر ..
34
وراح يغمغم بشعر نبع من قلبه الكسير :
فما فرحت نفسي بدنيا أخذتها
ولكن الى الرب الكريم أصير (21)
واغمض عينيه ليغفو بسلام ..
وبدأت الاستعدادات لمواراته الثرى حسب المراسم العباسية في دفن الخلفاء سراً .. ولكن والدته أصرت على إعلان قبره ليكون أول خليفة عرف قبره (22) .
وتم دفنه في الجوسق الخاقاني (23) حيث فتح عينيه على الدنيا فكان أول خليفة عباسي ولد في سامراء وتوفى فيها .
35
5
كشفت وفاة الخليفة المنتصر عن واقع الخلافة العباسية ومدى تغلغل الاتراك في أجهزة الحكم وسيطرتهم على البلاط العباسي الذي اضحى العوبة بين الضباط الاتراك .
لم يكن المنتصر قد دفن بعد حتى انفجر النزاع بين الاتراك الذين اجتمعوا في القصر الهاروني لاختيار الخليفة الجديد .
وفي يوم الأحد تم تحليف عشرات القادة الاتراك والزنوج وهم عماد الجيش والحرس بقبول الاتفاق الذي سيسفر عن اجتماع كل من بغا الكبير ، بغا الصغير ، ووصيف ، أو تامش أحمد بن الخصيب ، أما باغر الضابط التركي الذي قاد عملية اغتيال المتوكل فقد حرم من حضور الاجتماع فأجج ذلك في صدره مشاعر الحسد والحقد والكراهية خاصة لوصيف فانصرف الى تعزيز نفوذه بين الاتراك ، وتحريضهم على وصيف الذي لا يرى سوى مصالحه الخاصة والأنانية !
كانت فكرة بغا الكبير اختيار خليفة قوي يهابه جميع القادة لأن اختيار خليفة ضعيف سيؤدي تطاحن الاتراك فيما بينهم من
36
أجل النفوذ والسيطرة والاستحواذ على مقاليد الحكم ولكن أحمد بن الخصيب اقنع الجميع بأن مبايعة أحد أبناء المتوكل يعني نهاية النفوذ التركي فقد يفكر أحدهم بالانتقام منهم ثأراً للخليفة المقتول ..
وهكذا تم الاتفاق على اختيار أحمد بن محمد بن المعتصم .
فالمعتصم هو الذي أسس مجدهم وجعلهم سلاطين في هذه الدولة الكبرى ، وهو ولي نعمتهم .
لم تكن للخليفة الجديد من ميزة سوى أنه العوبة بيد الاتراك ، وفي مراسم عادية منح لقب « المستعين بالله » وحدثت حركة مضادة في سامراء يقودها بعض رجال العهد البائد وترمي الى فرض خلافة المعتز وتعرض موكب الخلافة الى هجوم زمر من المرتزقة والغوغاء (24) ، واستمرت الاشتباكات ثلاث ساعات وأعيد الخليفة الى القصر الهاروني وخلال القلاقل سقط أحد قصور الخلافة في أيدي الناس فنهبت خزانة الدولة ، وسطا الكثيرون على مشاجب السلاح وكسرت أبواب السجن الكبير .
ولكن الاتراك سيطروا على القلاقل باعلانهم عن توزيع المرتبات في مراسم البيعة العامة .
ولم تلبث قوات الجيش والحرس أن فرضت سيطرتها على الأوضاع .. ولكن الاجواء كان يسودها التوتر ..
وظهر المستعين خليفة مغلوبا على أمره يحفه أحمد بن
37
الخصيب رئيس الوزراء ومجموعة من الضباط الاتراك في طليعتهم أوتامش ، وصيف ، وبغا الصغير في حين غيب باغر التركي الذي انطوى على احقاده وكراهيته للجميع منتظراً فرصة مواتية للانقضاض على خصومه واثقاً من تأييد قطاعات كبيرة من الجنود الاتراك بزعامة « باكيباك » القائد التركي الجرىء .
قام الحكم الجديد بإجراءات احترازية منها القاء القبض على الاميرين المخلوعين المعتز والمؤيد فأودعا تحت الاقامة الجبرية في قصر الجوسق الخاقاني ووضعت عليهما حراسة مشددة ، ثم ارغما على بيع جميع ممتلكاتهما من أرض زراعية وبساتين مقابل أثمان زهيدة .
اما أحمد بن الخصيب فما انفك يحرض على مضايقة الامام الهادي وتشديد المراقبة على منزله بل واجباره على التنازل عن داره وبيعها للدولة (25) !
وبعث أحمد بن الخصيب في تلك الفترة رسالة الى محمد بن فرج يطلب منه الحضور الى سامراء والافادة من خدماته ، كان محمد بن فرج قد اطلق سراحه ، من السجن ولكنه لم يسترد ممتلكاته التي جمدت في عهد المتوكل منذ سنة 432 هـ
وكتب محمد بن فرج بدوره رسالة الى الامام الهادي يستشيره بقبول اقتراح رئيس الوزراء فجاءه الجواب :
38
ـ « أخرج ، فإن فيه فرجك ان شاء الله » (26) .
وعندما وصل محمد بن فرج سامراء حاول استرداد أملاكه المحجورة وعندما صدر القرار بإعادتها اليه كان قد توفى (27) .
وسقط بغا الكبير في فراش المرض وذهب اليه المستعين لعيادته ، ثم توفى في اليوم التالي وتحققت مخاوفه من وجود خليفة ضعيف ، فقد استحال القادة الاتراك الى ذئاب شرسة يأكل بعضها بعضاً ..
حضر احمد بن الخصيب الى منزل الامام الهادي وهدده اذا لم يتنازل عن الدار وتسليمها اليه ..
وكان ابن الخصيب لا يجرؤ على ذلك في عهد المنتصر وفي حياة بغا الكبير الذي عرف عنه احترامه للعلويين منذ الرؤيا التي رآها قبل اكثر من ربع قرن (28) .
وفي العهد الجديد بدأ العلويون بالفرار مرة أخرى .. وبدأ فصل جديد من مسلسل التشرد المرير .. وفي غمرة الاحداث غادر « علي بن محمد » وكان موظفاً في بلاط المنتصر .. غادر سامراء مولياً شطره صوب البحرين فالاحساء فالبصرة .. وليشعل بعد خمسة أعوام ثورة الزنوج في منطقة الأهوار جنوبي العراق (29) .
بلغ من نفوذ ابن الخصيب حداً جعله متغطرساً في تصرفاته ووصلت به الوقاحة الى أن يتهدد الامام ويطلب منه
39
تسليم منزله اليه ..
كان ابن الخصيب ووفقاً لتقارير الجواسيس على اطلاع على حجم الأموال التي ترد منزل الامام خاصة في عهد المنتصر ، وكان يعرف جيداً أن الامام يقوم بصرف الحقوق على الفقراء والمساكين الذين تضاعفت اعدادهم بسبب الفواضى وغياب الاستقرار والنهب .
كما أن انتشار الفكر الامامي بدأ يهدد مركز الحكم في العاصمة بعد أن اصبح الامام الشخصية التي تحظى بالاجلال واحترام الناس جميعاً .
قام رئيس الوزراء بزيارة رسمية الى منزل الامام ، الذي خرج لاستقباله فقال ابن الخصيب :
ـ سر جعلت فداك !
فأجابه الامام بكلمات تزخر بالرموز :
ـ « أنت المتقدم » (30) .
وبعد أن استقر به الجلوس ، وأجال نظره في المنزل ، تأججت أعماقه الخاوية بالاحقاد والأطماع ولم يتمالك نفسه أن قال :
ـ لابد من إخلائها وتسليمها اليّ !
نظر الامام اليه بسكينة ووقار .. ان هذا المخلوق التافه يرى قدرته في ، منصبه الخطير مستنداً الى قدرة الاتراك غافلاً عن قدرة الله المطلقة .. قال الامام وقد تجلت أنوار الايمان في عينيه :
40
ـ لأقعدن لك من الله مقعداً لا تبقى لك معه باقية .
وشاء القدر أن يسدد ضربته بغتة لم تمر سوى أربعة أيام فقط حتى أقبل من منصبه إذ رأى القائد أو تامش أن يفرض نفسه رئيساً للوزراء معتمداً على قابليات كاتبه « شجاع بن القاسم » (31) .
أما احمد بن الخصيب فقد صودرت جميع ممتلكاته وممتلكات أولاده ونفي الى جزيرة كريت (32) .
واصبح أوتامش الحاكم الفعلي للبلاد فيما عين « شاهك » الخادم مسؤولاً عاماً لادارة شؤون القصر بما في ذلك الخزانة العامة للبلاد .
اسفرت شخصية أوتامش عن ذئب أغبر (33) يفتك بكل من يقف في طريقه فهو وراء تعيين « شاهك » الخادم في مناصبه الجديدة التي تمكنه من الاستحواذ على خزانة الدولة ..
ودخلت على شبكة النهب والدة المستعين ، أما الخليفة فقد انهمك في الاستمتاع بلذائذه الرخيصة تاركاً تدبير الأمور للوزير الذي تكفل تربية ابن الخليفة والاستحواذ على مخصصاته المالية الضخمة ..
ولم يقف وصيف وبغا مكتوفي الأيدي ، فقاما بتحريض بعض قطعات الجيش من المتضررين ، فحوصر الجوسق الخاقاني حيث يقيم أوتامش وكاتبه .