41
في البداية حاول رئيس الوزراء الفرار من القصر ولكنه اخفق ، فاستجار بالخليفة الذي رفض ذلك .. حوصر القصر ثلاثة أيام ثم اقتحم في يوم السبت وعثر عليه مختبئاً في قبو وتم اعدامه مع كاتبه وصودرت جميع ممتلكاته (34) .
وفي يوم الخميس الثالث من جمادى الأولى سنة 249 هـ 14 حزيران 863 م تحركت قطعات عسكرية من الزنوج المغاربة ورابطت عند الجسر ثم تفرقت في اليوم التالي .
وفي 16 تموز من الذي يصادف يوم الجمعة 25 جمادي الأولى اشتعلت البروق في سماء مثقلة بغيوم مشحونة وهطلت الامطار بغزارة طوال اليوم ؛ ثم سكنت الطبيعة بعد اصفرار الشمس قبيل الغروب (35) .
وفي غمرة الفوضى والفساد اشتعلت ثورة علوية كبرى بقيادة يحيى بن عمر من ذرية زيد الشهيد بشعارها المتألق « الرضا من آل محمد » وكانت الكوفة مخزن الثوار على مدار الزمن مركز الثورة ، وسرعان ما امتد لهيبها الى بغداد بعد أن تعاطف أهل السنة مع الثائر العلوي الذي بدأ اصلاحاته باطلاق السجناء في الكوفة .
واصبحت الثورة أملاً بالخلاص من ليل العباسيين الطويل ..
ولكن غياب الخبرة العسكرية وفنون الحرب النظامية قد حسم الصراع لصالح العباسيين بالرغم من الانتصارات الباهرة
42
التي أحرزها الثوار .
وكان دخول رأس يحيى على رمح طويل مدينة سامراء يوم حداد عام (36) فيما عم الاستياء مدينة بغداد ، وكانت الكوفة تغلي غضباً .
43
6
تصدعت الجبهة التركية واستشرت حمى الاطماع والتآمر واستحال الضباط الاتراك الى ذئاب يتربص أحدها بالآخر .
وفي الخفاء كان هناك صراع مرير يجري بين مساعدي الاتراك من اليهود والنصارى للحصول على المزيد من الأسلاب وظهر باغر كذئب أغبر لا يتورع عن الفتك بكل من يقف في طريقه ، وشاء القدر أن تصطدم المصالح والمنافع الشخصية بين « بغا الشرابي » و « باغر » وكانت نقطة الاصطدام في الكوفة . فقد دس وكيل باغر اليهودي على ابن مارما النصراني وتآمر عليه فزجه في السجن ، وفر ابن مارما فيما بعد متجهاً صوب سامراء ، وكان دليل بن يعقوب يعمل كاتباً لبغا فاستغل نفوذ بغا في منع باغر من الانتقام من ابن مارما .
وكان باغر ضابطاً يعمل تحت امرة بغا ، ولكن الأخير كان يخشى باغر ؛ ويحاول ارضاءه .
وبدأت الحوادث بالانفجار عندما جاء باغر سكران ليدخل على بغا وهو في الحمام وهو يتهدد « دليل بن يعقوب » بالقتل ، قال
44
بغا مدارياً الضابط الشرس :
ـ لو أردت أن تقتل ابني فارس ما منعتك فكيف امنعك من قتل دليل ؟!
ـ إذن دعني اقتله !
ـ ان شؤون الخلافة بيده .. دعني أولاً أعين شخصاً آخر يقوم بعمله .
قال باغر بلغة تركية وهو يصر على أسنانه :
ـ لابد من قتله !
سكت بغا ولم يعلق على ما قاله باغر الذي انصرف وهو يترنح سكراناً أوعز بغا الى كاتبه دليل إلا يغادر منزله فقد يتعرض للاغتيال ، كما قام بتعيين شخص آخر ليوهم باغر بعزل دليل عن مسؤولياته .. وحاول أن يصلح العلاقات بين باغر ودليل .. ولكن باغر ما انفك يتهدد دليل بالقتل .
قرر باغر أن يكون له مقر في البلاط ويكون ضابطاً ثابتاً في قصر الخلافة ، ووافق المستعين على مضض خشية من أن يقوم باغر باغتياله ..
وتصاعدت حمى التآمر عندما طلب المستعين من وصيف ترقية باغر ليكون المسؤول عن ادارة شؤون البلاط وأن يكون له دور « ايتاخ » في عهد المعتصم .
وشعر دليل بالخطر فحرض بغا على التدخل لأن السماح
45
بذلك يعني نهاية « بغا » .
وعلى وجه السرعة قام بغا بزيارة مفاجئة للقصر ، وندد بموقف وصيف الذي أبدا استعداده للوقوف الى جانب بغا ، واتفق القائدان سراً على اغتيال « باغر » في أول فرصة .
انتشرت شائعات حول نية القصر بترقية باغر الى رتبة أمير ، وستضاف الى قواته قطعات أخرى من الجيش .
ولكن باغر شعر بان هناك من يتآمر ضده في الظلام فاجتمع سراً بأنصاره وكان بعضهم قد اشترك في عملية اغتيال المتوكل فعاهدوه على الوفاء له ، واستقر رأيهم على القيام بحركة انقلابية تسقط فيها رؤوس كثيرة في طليعتها رأس الخليفة ورأس وصيف وبغا ثم تعيين خليفة آخر من أولاد المعتصم أو الواثق يحكمون باسمه !
وتسربت الأخبار الى المستعين عن طريق زوجة باغر المطلقة والتي باحت بذلك الى المستعين !
وشعر الخليفة الضعيف بالرعب فاجتمع بالقائدين وصيف وبغا الذي وصلته الانباء عن طريق آخر .
واسفر الاجتماع عن تعيين موعد لاغتيال « باغر » في قصر « بغا » بسبب تردد باغر على القصر كجزء من واجبه كضابط ما يزال يخدم تحت إمرة « بغا » !
وسقط باغر في الفخ فاعتقل وسجن في الحمام .
46
وطارت الأخبار المثيرة الى جنوده الذين هبوا لنجدته وحدثت الفوضى في سامراء بسبب عنف التحرك في الكرخ وحركة الجنود المتذمرين الى الجانب الايمن من النهر .
وقام الجنوج باحتلال ونهب بعض قصور الخلافة وحوصر قصر الجوسق الخاقاني .
ولتحطيم هيبة الجنود المشاغبين أمر وصيف بقتل باغر .
وكان المستعين قد لجأ الى قصر وصيف المطل على الشاطىء .
وتضعضعت معنويات الجنود الذين رأوا بأعينهم رأس باغر الضابط العملاق ، لكنهم اصروا على المرابطة مطلقين صيحات بالتركية تتهدد الجميع .
قرر وصيف وبغا اصطحاب الخليفة والهروب الى بغداد فاستقلوا « حراقة » راسية في النهر وانحدروا الى بغداد .
سيطر الجنود الثائرون على سامراء ، ونهبت بعض القصور وقطعوا كافة الاتصالات مع بغداد .
وظهر « بايكباك » و « كلباتكين » و « ارناتجور » قادة للحركة العسكرية الجديدة .
وعندما اطل عام 251 هـ كان الوضع ينذر بوقوع كارثة ، خاصة عندما حاول المستعين تعبئة قوات من الزنوج المغاربة ضد الاتراك المتمردين ؛ أدرك القادة الاتراك في سامراء أن مصيرهم سيكون
47
مجهولاً ، ولذا قرروا ارسال وفد برئاسة القائد « بايكباك » لتقديم اعتذار للخليفة واقناعه بالعودة الى العاصمة وكادت المفاوضات بسفر عن نتيجة مرضية ولكن « بايكباك » تلقى صفعة بسبب تعديه اصول اللياقة في مخاطبة مقام الخليفة ، فعاد الى سامراء وهو يضمر الانتقام من الجميع .
دخلت الاوضاع مأزقاً خطيراً باقدام الاتراك على رفع الاقامة الجبرية عن المعتز واعلانه خليفة بدل المستعين الذي أعلنوا عن خلعه !
وفي هذه الفترة العصيبة ظهر رجال عهد المتوكل لتعزيز موقع المعتز الذي يمثل امتداداً لسياسة أبيه ، وبدأت في سامراء تعبئة جيش كبير للزحف على بغداد التي بدأت هي الأخرى تستعد للمقاومة باقامة خطوط دفاعية واستحكامات كلفت الخزانة مبالغ طائلة .
قام المعتز بمصادرة ممتلكات اقرباء المستعين لتعزيز ميزانية الحرب ، ووقف اليهود الى جانبه بزعامة « الديزج » الذي عين قائداً للشرطة !
كما عُين أحمد بن اسرائيل رئيساً للوزراء لادارة شؤون البلاط والخلافة واصبحت فكرة الزحف لاحتلال بغداد وشيكة التنفيذ .
48
7
لجأ المستعين الى قصر محمد بن عبد الله بن طاهر حاكم بغداد وشرق ايران واصبحت دفة الأمور في يد الحاكم الذي كان يعيش شكلاً من التردد بين مناصرة الخليفة الهارب أو الوقوف الى جانب المعتز ابن المتوكل الذي تربط اسرته معه صداقة قديمة ..
وعملياً كان ابن طاهر يقود حركة الدفاع فاتخذ الى جانب بناء خطوط بغداد الدفاعية اجراءات لعرقلة الزحف القادم من الشمال .
تم تدمير جميع القناطر على كل الانهر المحيطة ببغداد وفتح الانهار لاغراق الأراضي التي تقع في تقدم الاتراك اذا ما راموا الزحف من جهة « الانبار » .
اما بغداد فقد باتت محصنة بسورها الكبير الذي امتد من « الشماسية » شمال بغداد الى « سوق الثلاثاء » الى دجلة ومنها الى « بساتين زبيدة » ، كما استكمل حفر الخنادق على امتداد السور الطويل واصبحت المجانيق الصغيرة والكبيرة جاهزة لاطلاق حممها الملتهبة ، اضافة الى عشرات العوارض المجهزة بمسامير
49
طويلة .
وكان المنجنيق الذي يدعى بـ « الغضبان » رابضاً أمام باب كبيرة معلقة .
كما عبأ ابن طاهر عياري بغداد وهم عشرات الألوف ورصد لهم مكافآت ومرتبات مغرية اضافة الى استخدام مئات المرتزقة .
وهكذا سيطرت أجواء الحرب على الحياة في بغداد وبدأ ارتفاع الاسعار في المواد الغذائية .
وفي مطلع « صفر »251 هـ زحفت قوات الاتراك بقيادة أبو أحمد بن المتوكل العامة فيما كان « كلباتكين » القائد الميداني الذي يصمم وينفذ خطط المعارك القادمة .
 
وخلال الزحف دمّرت القرى الواقعة في الطريق واستولى الاتراك على جميع المحاصيل الزراعية .
 
وفي السابع من « صفر »نقل الجواسيس نبأ وصول القوّات الزاحفة المنطقة المتاخمة للشماسية في أطراف بغداد .
كما أفادت تقارير أخرى عن وجود خطة لاحراق الاسواق في جانبي تقارير أخرى عن وجود خطة لاحراق الاسواق في جانبي بغداد ، فتم كشطها جميعاً .
وفي يوم الثلاثاء 10 صفر قام ابن طاهر القائد العام لقوات الدفاع عن بغداد بحركة لاستعراض قواته أمام الاتراك لارهابهم مصطحباً معه مجموعة من الفقهاء والقضاة لايفادهم الى أبي احمد والتفاوض معه حول تفادي وقوع الحرب مقابل اعلان
50
« المعتز » وليا للعهد ولم تجد هذه الخطوة شيئاً ، فيما قام الاتراك المرابطون قرب الشماسية باستفزازات لتفجير الوضع ولكن ابن طاهر اصر على عدم الرد .
وتقدم بعض الفرسان الاتراك صوب الباب ووجهوا زخة من السهام اكتفى قائد الحامية بالرد عليها بقذيفة منجنيق قتلت أحدهم فانسحب الباقون .
وفي نفس اليوم وصلت تعزيزات من عدة مئات من المرتزقة بغداد للاشتراك في حرب الدفاع .
وصعد الاتراك في اليوم التالي الموقف بتكثيف هجماتهم على باب الشماسية وبات واضحاً أن المعارك الرئيسية سوف تشتمل في هذه المنطقة فارسلت تعزيزات اضافة مؤلفة من الفرسان والمشاة .
وفي أول اشتباك عنيف سقط عشرات الجرحى والقتلى في صفوف الفريقين .
وقامت كتائب من الاتراك بمحاولة لاقتحام بغداد من باب خراسان في الجانب الشرقي فاخفقوا .
ولم يحدث في نهر دجلة أي اشتباك يذكر .
وفي « قطربل » تقدم الزنوج بقيادة ربلة المغربي الذي كان يقود قوات من « الفراغنة » أيضاً واتخذت القوات المتقدمة مواقعها قريباً من الدفاعات ، وحدث تراشق عنيف بالسهام .