61
    ـ يا مبشر : انك من ولد الأنصار .. وهذه الموالاة لم تزل فيكم يرثها خلف عن سلف ، وانتم ثقاتنا أهل البيت .. وانّي مزكيك ومشرفك بفضيلة تسبق بها سائر الشيعة .. بسر اطلعك عليه .. وانفذك في ابتياع أمة !
    ونشر الامام في ضوء القنديل قرطاساً وراح يسطر بلغة رومية وحروف رومية رسالة .. ولصق الامام الرسالة وختمها .. ثم أخرج « شنتقة » (52) صفراء فيها 220 ديناراً وسلمها الى بشر النخاس قائلاً :
    ـ خذها وتوجه الى بغداد الى معبر الصراة .. وانتظر قدوم زوارق السبايا فإذا برزن الجواري فستحدق بهن طوائف المبتاعين من وكلاء قواد بني العباس وشراذم من فتيان العراق ، فإذا رأيت ذلك ، فأشرف من البعد على المسمى عمر بن يزيد النخاس عامة نهارك .. الى أن تبرز الى المبتاعين جارية رومية ترتدي حريرتين صفيقتين تمتنع من السفور ولمس المعترض ، والانقياد لمن يحاول لمسها ويشغل نظره بتأمل مكاشفها من وراء الستر الرقيق ..
    في الصباح الباكر كان بشر يتجه صوب شارع الخليج حيث ترسو السفن القادمة من بغداد أو التي تنتظر مسافرين يتجهون اليها ..
    رائحة المياه الغرينيه تملأ صدره ، وكانت الشمس قد اشرقت فوق ذرى النخيل على امتداد جبهة النهر ..


62
    القى الملاح نظرة فربما يأتي مسافر آخر ولكن المرسى كان خالياً إلامن بعض صيادي السمك وانسابت السفينة الشراعية يحملها التيار المائي برفق تساعده نسائم الصباح التي تهب من الشمال .. في الضحى اجتازت السفينة معبر « الشماسية » ولاحت بعض جذوع النخيل المحترقة الحرب الأهلية قبل أكثر من عام ، وما تزال آثار الحرب واضحة في الضفاف .. بقايا السور الطويل الذي صمد بوجه الاتراك ، وبعض الدور المهدمة .
    رست السفينة قرب نهر الصراة ، وغادرها بشر متجهاً نحو المعبر واتخذ مكانه في مكان تغمره شمس الضحى الدافئة ..
    على مقربة من المعبر ينهض سوق الرقيق ، وقد تشكل وفق متطلبات هذه التجارة .. دكة ينادي عليها النخاس ومكان تعرض فيه الفتيات من وراء ستر شفاف .. أما إذا كان الرقيق غلماناً فيقفون قرب النخاس ..
    وصلت الزوارق وترجلت منها فتيات يرتدين اشكالاً مختلفة من الثياب .. وبدأ سوق الرقيق يضج بالحركة والحياة ..
    وبدأ أحد النخاسين باطلاق أول نداءات هذه التجارة البشرية :
    ـ حسناء تجيد الطهي وشيئاً من الغناء وتحفظ أخباراً مليحة ..
    قال رجل تبدو عليه الخبرة :
    ـ وكم عمرها ؟


63
    ـ عشرون سنة .
    ـ لتبرز حتى نراها .
    صاح النخاس :
    ـ خيزران !
    نهضت فتاة عليها ملامح سكان أرمينيا .
    حضر رجال آخرون يرتدون بزات رسمية تدل على أنهم موظفون في الدولة أو وكلاء لبني العباس .. كما تحلق بعض الشبان يمتعون النظر في وجوه الفتيات الجميلات .
    وقف بشر قرب دكة عمر بن يزيد النخاس .. يراقب عن كثب ما يجري .. كان النخاس قد باع جاريتين حتى الآن وينادي على الثالثة وكانت هناك فتاة رابعة تختبىء وراءها وعندما بيعت الثالثة بقيت فتاة في الرابعة أو الخامسة عشر من عمرها .. نادى النخاس بغلظة :
    ـ عمرها أربعة عشر سنة رومية تحسن العربية كادت الفتاة تذوب حياء وهي تحاول الاختباء تحت ثيابها الفضفاضة .
    صاح شاب :
    ـ لكننا لا نرى شيئاً !!
    وعلق آخر :
    ـ نعم دعنا نراها أولاً :
    أزاح النحاس الستر جانباً وأراد أن يمسك بردنها لكنها


64
جذبته وصاحت وبلسان رومي .
    وآراد أحدهم أن يجذب نقابها فانكفأت الى الوراء وقد اشتعل غضب الكرامة في عينيها .
    قال رجل :
    ـ كيف تريدنا ابتياعها هكذا ؟!
    انهال النخاس عليها بسوط كالافعى فصرخت الفتاة بألم وحزن .. آه ما أسوأ أن يباع الانسان ويشرى في السوق كالحيوان ؟!
    هتف رجل تبدو عليها سيماء الصلاح :
    ـ انني اشتريها بثلاثمئة دينار .. فقد زادني العفاف فيها رغبة .
    قالت الفتاة بلغة عربية فيها لهجة رومية :
    ـ لو برزت في زي سليمان بن داود وعلى مثل سرير ملكه ما بدت لي فيك رغبة .. فأشفق على مالك .
    صاح النخاس :
    ـ وماذا أفعل أنا ؟ ولابد من بيعك ؟
    قالت الفتاة :
    ـ ولم العجلة ؟ انني لن اختار الاّ من يسكن اليه قلبي واطمئن الى وفائه وأمانته .
    وأراد النخاس أن يصفعها ولكنه تراجع في اللحظة الأخيرة ..
    انفض الناس وانصرفوا الى غيره .. وفي هذه اللحظة تقدم بشر وحيا النخاس بأدب قائلاً :


65
    ـ ان معي كتاباً ملصقاً لبعض الاشراف ، كتبه بلغة رومية وخطّ رومي ، ووصف فيه كرمه ووفاءه ونبله وسخاءه ، فناولها لتتأمل منه أخلاق صاحبه ، فإن مالت إليه ورضيت فأنا وكيله في ابتياعها منك ..
    هز النخاس رأسه موافقاً وتقدم بشر الى الفتاة التي كانت ترتدي زياً رومانياً اضفت عليه حشمة النصارى حياءً وستراً ..
    فضت الفتاة الرسالة المختومة وراحت تتأمل كلماتها وقد تألق وجهها بالفرح ..
    وامتلأت عيناها بالدموع قالت بصوت تهدّج بعاطفة نبيلة :
    ـ بعني من صاحب هذا الكتاب !
    التفت النخاس الى بشر :
    ـ لن أرضى بأقل من ثلاثمئة دينار .
    هتف بشر :
    ـ هذا ثمن باهض !!
    ـ لقد سمعت بنفسك الرجل الذي دفع هذا المبلغ .
    ـ هذا صحيح ولكن أنا أيضاً يا صاحبي اعمل في الرقيق .. ان ثمنها مرتفع .
    ـ لن ابيعها بأقل من ثلاثمئة .
    هتفت الفتاة :
    ـ سوف أقتل نفسي اذا امتنعت !


66
    وقال بشر :
    ـ ان معي هذه « الشنتقة » وهي لصاحب الكتاب .
    ـ كم فيها :
    ـ مئتان وعشرون ديناراً .
    ـ هاتها .
    ـ على بركة الله .
    وسجل الرجلان وثيقة البيع ، وانصرف بشر الى حجرة كان يأوي اليها كلما قدم الى بغداد .. وكانت الفتاة تتبعه كحمل وديع وقد غمرتها سكينة المؤمنين ..
    في الحجرة وريثما يحين موعد العودة الى سامراء ، أخرجت الفتاة الرسالة لتقرأها مرة أخرى .. ولثمتها ثم وضعتها على عينيها واستنشقت نفساً طويلاً لكأنها تريد أن تملأ صدرها بشذى الكلمات ..
    ولم يتحمل بشر اكثر مما يرى !! هل هو حقيقة أم حلم كل ما يراه ؟!
    ربما يستطيع أن يدرك تصرفات الامام فهو رجل مبارك آتاه الله الحكمة وورث علوم جده محمد صلى الله عليه وآله وسلم ولن ينسى أبداً كيف تنبأ بهلاك المتوكل ذلك الطاغية الأرعن .. تنبأ بسقوطه في وقت كان الناس يرهبون حتى اسمه .. ولكن ما يراه لا يجد له تفسيراً فتاة رومية تقبل كتاباً لا تعرف صاحبه !! قال بشر وقد اتسعت عيناه


67
دهشة :
    ـ أتلثمين كتاباً لا تعرفين صاحبه ؟!!
    لاذت الفتاة بالصمت ، ثم قالت :
    ـ أعرف أنك أمين ، وأن من أرسلك قد استودعك سرّاً لم يطلعه على أحد .. أعرني سمعك وفرغ لي قلبك ، لاستودعك سرّاً لم اطلعه على أحد ..
    أنا « مليكا » بنت يشوعا بن قيصر وأمي من ولد الحواريين تنتسب الى وصي المسيح شمعون .. وراحت الأميرة الرومية تروي قصتها وقد اشتعلت المشاهد المثيرة في ذاكراتها الغضة (53) .


68
9
    في المركب الشراعي بدأت المناظر تنساب الى الوراء والنخيل على امتداد جبهة النهر بدا كرموش حورية ، وبالرغم من بقايا آثار الحرب الاهلية ، إلا أن دجلة في ذلك الاصيل بدا موحياً يبتسم بأمل .. و « نرجس » تلك الفتاة الطاهرة ما برحت مأخوذة بشمس الاصيل التي أثارت في ذاكرتها الغضة مشاهد لا تنسى ..
    مشاهد سوف تبقى متألقة مدى العمر .. مشاهد حبيبة الى روحها .. كم تعذبت طوال الشهور الماضية ؟ لقد قاست الكثير .. كانت الغيوم تعبر سماء دجلة .. غيوم بيضاء ناصعة ظهرت بعد تلك الليلة المطيرة .. ذكرتها الغيوم بحلة العرس .. آه كم هو مقيت الزواج من انسان تافه .. ذلك الأمير الذي لا يعرف من الحياة سوى ظاهرها البراق .. ان ذكراتها تشتعل بالمشاهد المثيرة :
    « كان القصر المهيب يجع بالحركة وباحة القصر تشهد بناء عجيب .. منصة عالية حيث يجثم عرش مرصع من الجواهر واعمدة من خشب يحسبها المرء رخاماً ، ومدرج خشبي أنيق تنهض على جانبيه الصلبان ..


69
    ووصل الأمير المغرور ليرتقي المدرج الى حيث العرش ..
    اما هي فقد كانت تعيش مشاعر الفجيعة .. سوف تقضي العمر الى جانب انسان تافه أحمق ..
    في البداية رفضت ، ولكن هناك تقاليد تحكم القصر .. الأميرات للأمراء اتجهت الى الكنيسة توسلت بالعذراء .. بكت ..
    عندما وجدت نفسها في الطريق الى المنصة وقد احتف عشرات الاساقفة والأمراء والجنود كانت قد استسلمت لقدرها .. وفي تلك اللحظات حدثت المعجزة .. اهتزت الأرض وتساقطت الأعمدة الخشبية وانهار العرش ومعه الامير المذعور الذي فقد وعيه ..
    حدث كل شيء في لحظات .. وعندما سكنت الأرض ظهرت على وجوه الاساقفة ملامح تشاؤم وعطلوا مراسم عقد القران .. مثل طائر حبيس عادت « مليكا » الى مخدعها ورمت بعيداً حلة العرس وارتدت ثوباً اكثر حشمة ووقاراً ، ثوباً يشبه مسوح السيدة العذراء وانطلقت صوب الكنيسة لتسجد أمام الصليب وتمثال مريم .. شكرت من كل قلبها الرب وصلت بخشوع وبكت فرحاً .. ودعت الرب أن تكون زوجة لانسان طاهر .. انسان لم يتدنس قلبه بوساوس الأرض !


70
    ـ يا الهي هل هو حلم ما أراه أم يقظة ؟! في باحة القصر هوت المنصة والعرش نهض عرش من نور .. السيد المسيح جالس على العرش ويدخل رجل مهيب .. رجل يرتدي ثياباً عربية شعره يشبه تموجات بحيرة رائقة .. سوالفه تتلألأ .. وابتسامة تشرق وجهه المضيء .. وينهض السيد المسيح فيعانقه وادركت أنه « أحمد » الذي بشر به انجيل « برنابا » ..
    قال أحمد : يا روح الله جئتك خاطباً من وصيك شمعون فتاته مليكا لابني هذا !
    وأومأ الى فتى أسمر .. عيناه نجلاوان تتألقان بالصفاء لكأنهما نافذتان تطلان على عالم من نور ..
    شمعون يبتسم ، والحواريون ..
    عندما انتبهت وجدت نفسها بين أيدي الراهبان وكان جبينها يلتهب من الحمى ..
    آه أنها لا تستطيع أن تبوح لأحد بما رأته .. عزفت روحها عن الطعام .. نحل جسمها .. وكانت روحها تشتد سطوعاً وعجز الطب عن فعل شيء ..
    وجاء جدها فجلس عند الأميرة التي ما تزال تخبو كشمعة في نهايات ليل طويل قال لها بحنو : هل تشتهين شيئاً قالت الفتاة : يا جدي أرى أبواب الفرج علي مغلقة .. فلو كشفت العذاب عن أسرى المسلمين .. وفككت عنهم الأغلال .. لرجوت أن يهب المسيح