51
    وقامت القوات المدافعة بغارة ليلية جريئة فاكتسحت المناطق المحتلة ورمى الجنود الفارون انفسهم في دجلة لعبور النهر الى معسكر أبي أحمد في الجانب الشرقي ، ولكن « التيارات » المشحونة بالمقاتلين قطعت عليهم الطريق فتم أسرهم فيما غرق الباقون .
    وقد أدى هذا النصر الساحق الى أن يغير الاتراك الزاحفون خططهم وعندما وصلت انباء هذه الهزيمة الى سامراء انتعشت آمال الناس وحدثت حركة شعبية مضادة لخلافة المعتز (37) .
    وكان سير المعارك والاشتباكات يسير لغير صالح الاتراك . وفي غمرة الحرب الاهلية وتدهور الاوضاع الاقتصادية اندلعت سلسلة من الثورات العلوية ، في « اردبيل » و « الري » وثورة في مكة وفي الكوفة وفي قزوين وزنجان .
    تبادل المتحاربون النصر والهزيمة وكانت أمطار آذار تخفف من حدة الاشتباكات التي حصدت عشرات الأرواح من السكان ، وظهر عبيد الله بن يحيى وزير المتوكل في بغداد بشكل محيّر وليلعب دوراً في تمزيق جبهة بغداد بعد أن اقنع ابن طاهر بالتخلي عن المستعين مؤكداً له أن الأخير يتآمر عليه بل أنه طلب من وصيف وبغا اغتياله والقضاء عليه .
    وقد كان لهذه الخطوة اضافة الى تدهور الاوضاع الاقتصادية وغلاء الاسعار وتذمر السكان من الحصار أثراً كبيراً في تحرّط ابن


52
طاهر وضغطه على المستعين للتنازل عن الخلافة وقد حصل ذلك بعد انشقاق بغا ولجوئه الى المعتز .
    وفي شهر ذي الحجة 251 هـ شتاء عام 866 م وقع المستعين وثيقة التنازل مقابل ضمان سلامته وأفراد اسرته وسلم حلة الخلافة ليغادر بغداد منفياً الى مدينة واسط العراقية .
    وأطل عام 252 هـ فيما كانت رياح كانون الباردة تلفح الوجوه ورعود الثورات تدوي في كل الآفاق ، وبدا تمثال الفارس حائراً لا يدري أين يشير برمحه الطويل 38 ؟!
    وتصاعدت في هذه الفترة المتفجرة وتيرة الاغتيالات ، التي تحدث لأقل الشكوك .
    وظهرت « قبيحة » أم المعتز كذئبة مجنونة تريد الانتقام من الجميع ولم يكن المعتز الذي ناهز التاسعة عشرة من عمره سوى أداة طيعة في يدها وأيدي القادة الاتراك الذين أثروا ثراء فاحشاً في الحرب الاهلية .
    ولعب الجواسيس دوراً في انتشار الرعب ، وانعدام الثقة .
    وكانت أم المعتز تدير شخصياً شبكة مرعبة من الجواسيس وفي ضوء التقارير الصحيحة والكاذبة تسقط الرؤوس ويموت الناس في ظروف غامضة .
    كان المعتز قد زج بأخويه في السجن « المؤيد » و « طلحة » الذي قاد الزحف على بغداد وحصل على لقب « الموفق » .


53
    استدعى المعتز « بغا الشرابي » حول معلومات تفيد بعزم الاتراك على اطلاق سراح المؤيد من السجن .. ولكن بغا الشرابي نفى ذلك بشدة مؤكداً ان الاتراك يكنون احترامهم فقط لقائد الحملة على بغداد !
    وفي مدينة « بلد » توفى أحد ابناء الامام الهادي في ظروف غامضة ، وكان « محمد » الذي يبلغ من العمر إحدى وعشرين سنة قد غادر سامراء مفضلاً العودة الى المدينة المنورة (39) .
    وقد هزت الحادثة الأسرة الطاهرة ، فلقد كان ذلك الشاب النبيل محط الآمال 40 ؛ خاصة الذين عرفوه وعرفوا اخلاقه الكريمة .
    وسرعان ما توفى المؤيد في سجنة ورتب محضر رسمي في أن الوفاة كانت طبيعية !
    كانت « قبيحة » تصر على تصفية « المستعين » المخلوع ، فصدرت أوامر شخصية من المعتز الى « أحمد بن طولون » حاكم « واسط » باغتياله الذي رفض ذلك ، لكنه وافق فيما بعد على ترحيله الى سامراء .
    وفي « سامراء » تم تسليمه الى « سعيد الحاجب » .
    ولم يمهله سعيد وقتاً فأهوى عليه بالسيف ليتدحرج رأسه قرب النهر .
    كان المعتز يلعب الشطرنج عندما جاءوا اليه برأس ابن عمه فلم يلتفت اليه وقال وهو يشير الى رف .


54
    ضعوه هناك حتى انتهي من « الدست » (41) .
    واكتفى بنظرة عابرة ثم أشار الى حرسه بأخذه .
    وصدر « عفو رسمي » عن وصيف وبغا بعد مساع قام بها اسماعيل بن « قبيحة » وشقيق المعتز وضغوط الاتراك (42) .
    وتم تنصيب اسماعيل ولياً للعهد (43) .
    كما توفى « زرافة » أحد المؤيدين لحركة المنتصر بعد نجاحها (44) .
    وبدا واضحاً أن هناك حرباً خفية للسيطرة على البلاط .
    وارتفعت حمى الاغتيال وسيطر جو المؤامرات على سامراء .
    وفي غمرة هذه الاجواء كان منزل الامام يخضع لمراقبة خانقة ومع ذلك فقد تدفق الناس الى منزله لتقديم التعازي في ولده الشاب محمد .
    كان المنزل يغص بعشرات المعزين ، وقد بدأ « أبو الحسن » حزيناً وهو جالس على كرسي يتقبل العزاء .. وجهه الاسمر تغمره هيبة النبوّات وجاء ابنه الحسن فوقف عن يمين والده ..
    التفت اليه الوالد بحنو قائلاً :
    ـ يا بني أحدث لله شكراً فقد أحدث فيك أمراً (45) .
    قال الحسن بخشوع :
    ـ الحمد لله رب العالمين .. واياه أسال تمام نعمه لنا منك ..


55
وإنا لله وإنا اليه راجعون (46) .
    وكان أبو هاشم يصغي الى همسات البعض يتحدثون عن توقعاتهم في ان الشاب سيكون هو الإمام بعد رحيل والده .
    واشتعلت في ذهن أبي هاشم قصة قديمة عندما توفى « اسماعيل » في زمن والده « الصادق » وظن بعض الشيعة أنه الامام بعد والده فانكروا امامة موسى الكاظم بل وانكروا حتى وفاة « اسماعيل » فظهرت فرقة « الاسماعيلية » منذ ذلك الوقت .. آه ما اشبه قصة الحسن مع أخيه محمد ، قال الامام الهادي كما لو أنه قرأ ما يموج في قلب صاحبه :
    ـ نعم يا أبا هاشم هو كما حدثتك نفسك وإن كره المبطلون ..
    وسكت لحظات نظر خلالها الى ابنه الحسن عن يمينه ثم قال :
    ـ أبو محمد ابني الخلف من بعدي .. عنده ما يحتاج اليه ومعه آلة الامامة والحمد لله رب العالمين .
    واعتصم بصمت الانبياء ثم تمتم لكأنه ينظر الى الزمن القادم :
    ـ كيف لكم بالخلف بعد الخلف ؟!
    تساءل أبو هاشم :
    ـ ولم جعلني الله فداك ؟!
    قال الامام مبشّراً :


56
    ـ لأنكم لا ترون شخصه ولا يحل لكم ذكر اسمه .
    ـ فكيف نذكره ؟!
    ـ قولوا : الحجة من آل محمد (47) !


57
8
    البلاط الآن في أخريات عام 252 هـ تسيره قدرة غامضة مؤلفة من أم المعتز زوجة المتوكل والمرأة الأكثر ثراء في سامراء يعاونها الوزير النصراني ابن اسرائيل وغلام المتوكل النصراني وكان الشخص الوحيد الذي يرافق المتوكل واستطاع الفرار عشية اغتيال الضباط الاتراك للخليفة ، وهاهو الآن يصبح من ابرز الشخصيات في بلاط المعتز !
    وكانت سياسة المعتز تصفية أعداء والده المتوكل ايا كانت اتجاهاتهم ولذا قام بترقية الضباط المغاربة ليكونوا عماد حرسه الخاص ويفرض بذلك سطوته فكان لوليد المغربي حصة الأسد واصبح قائدا عسكرياً مرموقاً في تلك الفترة العاصفة .
    واجتاحت بغداد وسامراء حملة اعتقالات واسعة طالت عشرات العلويين أو ممن تشم فيهم رائحة الولاء لأهل البيت وكان في طليعة من اعتقل أبو هاشم الجعفري بأوامر شخصية من المعتز بذريعة ان البلاط يفكر في ارساله الى « طبرستان » للتفاوض 48 مع الثائر العلوي « الحسن بن زيد » وتهدئة القلاقل هناك فنقل


58
مخفوراً الى سامراء في تلك الفترة .
    وبدت خزانة الدولة بسبب الفوضى عاجزة عن سد نفقات الاتراك والمغاربة الذين قدرت ميزانيتهم بـ 000/000/200 دينار سنوياً وهو ما يساوي ايراد الدولة في عامين 49 !
    ولذا توقف صرف المرتبات الى بعض القطعات العسكرية التي تضم المغاربة والاتراك المنضوين تحت قيادة بايكباك الذي كان مستاء من عودة وصيف وبغا وتسنمها مواقع قيادية كبيرة .
    وفي 26 شوال اندلعت حركة عسكرية سادتها مظاهر الشغب وكانت تطالب بدفع مرتبات اربعة أشهر .
    وقد استدعت الاوضاع ان يتوجه « بغا الشرابي » و « وصيف » و « سيما » بأنفسهم للسيطرة على الموقف ..
    وعد بغا المشاغبين بأنه سوف يفاتح الخليفة شخصياً وغادر المكان فوراً فيما أقدم « وصيف » على خطوة حمقاء إذ قذفهم بحفنة من التراب صائحاً :
    ـ خذوا تراباً بدل المال !
    وقد فجرت هذه الخطوة الموقف إذ هاجم بعضهم وصيفاً وسدد له ضربتين وطعنه آخر بسكين ولكن أحد القادة المرافقين له انقذه ونقل الى منزل قريب .
    وشعر المشاغبون بالخطر عندما تأخر بغا في العودة ولذا هاجموا المنزل وانهالوا بالطبرزينات على وصيف حتى الموت ثم


59
احتزوا رأسه ، واندفع الغوغاء الى نهب قصوره في سامراء وفي تلك اللحظات المصيرية ظهر ابنه « صالح » فقاد حركة جريئة وسيطر على الاوضاع بنجاح مما اضطر « الخليفة » الى منحه جميع امتيازات والده .
    وفي ذي القعدة أقدم صالح على خطبة ابنة بغا بعد أن وجد القائدان نفسيهما بحاجة الى ترتيب جبهتهما ضد الخليفة وأنصاره من المغاربة والاتراك بقيادة بايكباك .
    وهكذا سيطر جو محموم من التآمر والقى الرعب ضلاله الرهيبة وانعدمت الثقة بين الناس .. وكانت رائحة الشائعات تزكم الانوف .. وفي ذلك الزمن الردىء سمع الامام الهادي يقول :
    ـ « إذا كان زمان العدل فيه أغلب من الجور ، فحرام أن يُظن بأحد سوء حتى يُعلم ذلك منه ، واذا كان زمان الجور أغلب فيه من العدل فليس لأحد أن يظن بأحد خيراً ما لم يعلم ذلك منه .. » (50) .
    كان قد مضى شطر من الليل عندما كان « كافور » الخادم يجوس ازقة سامراء متجهاً صوب منزل بشر بن سليمان النخاس الذي اكتسب سمعة طيبة في تجارة الرقيق ، فهو يتاجر بشراء العبيد والجواري ولكن وفق مبادىء اخلاقية دقيقة ولا يتورط في صفقات يمكن أن تكون مشبوهة ..
    لقد تدنست تجارة الرقيق وغلب عليها الحرام .. الثورات والقلاقل الداخلية وبطش وقسوة الحاكمين وعدم تورعهم من بيع


60
السبايا المسلمات (51) جعل من تجارة الرقيق سوقاً دنسة .. ومع ذلك فلا يعدم المرء أن يعثر بين النخاسين من يترفع عن ارتكاب الحرام ويتاجر بالمسلمات اللائي غارت القوات الحكومية على منازلهن في المناطق المتوترة هنا وهناك .
    مضى شطر من الليل ورياح كانون تجوس سامراء الأبواب موصدة وعواء ذئاب بعيد يتناهى خلال الريح الباردة سرعان ما يضيع بين سنابك حصان يمرق على عجل ..
    عندما جاء بشر لم يكن ليدرك بعد ماذا يريد الامام منه ، ولكنه خمن أن الأمر يتعلق بالرقيق على كل حال .
    اتخذ بشر النخاس مجلسه قبال الامام وراح يتأمل بخشوع الوجه الأسمر والعينين اللتين تكادان تختصران العالم !
    آه ما أنبل هذا الانسان .. انه لا يعرف رجلاً يعامل عبيده وجواريه هذه المعاملة لكأنهم أولاده وبناته .. أي قلب ينطوي عليه صدر هذا الرجل المبارك ؟!
    ان من يراه لن يصدق أنه لم يبلغ الأربعين بعدا ولكن الشيب اشتعل في رأسه فهو يبدو في الستين !
    أية أهوال أحالت هذا الشاب الى شيخ وهو لم يناهز الأربعين سنة ؟! .. انه يحدث أخته الجالسة وراء الستر بصوت فيه عذوبة الينابيع ..
    ابتسم الامام لضيفه وقال بود :