121
    ـ « وأسفر لنا عن نهار العدل .
    وأرناه سرمداً لا ظلمة فيه .
    ونوراً لا شوب معه !
    وأهطل علينا ناشئته !
    وأنزل علينا بركته .
    وأدل له ممن ناواه .
    وانصره على من عاداه .
    اللهم واظهر الحق .. واصبح به في غسق الظلم وبهم الحيرة اللهم !
    واحي به القلوب الميتة !
    واجمع به الاهواء المتفرقة .
    والآراء المختلفة .
    وأقم به الحدود المعطلة .
    والاحكام المهملة .
    واشبع به الخماص الساغبة .
    وأرح به الأبدان اللاغبة المتعبة ..
    لكأن الامام ينظر الى المديات البعيدة وهو يدعو الى تلك المدينة الصغيرة المقهورة فيراها في رحم الأيام القادمة مخزن الرجال الاشداء الذين سينهضون لمواجهة الظلم تحت راية إمام عادل ينصرونه فينصرهم الله :


122
    ـ « واجعله اللهم في أمن مما يشفق عليه منه ..
    ورد عنه من سهام المكائد ما يوجهه أهل الشنآن .
    إليه والى شركائه ، ومعاونيه على طاعة ربه .. الذين جعلتهم سلاحه وحصنه ، ومفزعه وأنسه .. الذين سلوا عن الأهل والأولاد ، وجفوا الوطن ..
    « فاجعلهم اللهم في أمن من حرزك وظل كنفك ، ورد عنهم بأس من قصد اليهم بالعداوة من عبادك ..
    اللهم واملأ بهم كل أفق من الآفاق ، وقطر من الاقطار قسطاً وعدلاً ..
    انك تفعل ما تشاء وتحكم ما تريد » (124) .
    انبلج عمود الفجر الصادق واستيقظت حمامة بيضاء كانت قد اتخذت لها عشاً فوق سطح المنزل منذ أمد ، وارتفع أذان الصبح من فوق المئذنة الملوية التي ما تزال ترسل أنواراً ضعيفة الى القوافل القادمة من الشام وفلسطين ..
    ومع صياح الديكة هدأت الأزقة تماماً ولم يعد المرء يسمع وقع حوافر خيول الدوريات التي تجوس خلال الدروب الغارقة في الظلام .


123
16
    انفجرت الاوضاع بشكل مفاجىء ، وتسارعت الاحداث ولم يعد يمكن التكهن بوقوع أي شي .
    بدأت الاحداث باندلاع البلبلة في معسكرات الاتراك في الكرخ الذين ما انفكوا يطالبون بدفع مرتباتهم المتأخرة وتحسين أوضاعهم المعاشية وحاول المهتدي مناورتهم واطالة أمد التفاوض وتوجيه ضغوطهم صوب القائد موسى وبايكباك اللذين يرابطان خارج سامراء لمواجهة تهديد الخوارج .
    أراد المهتدي تفتيت جبهة الاتراك فبعث برسالة سرية الى « بايكباك » وأغراه باغتيال القائد « موسى بن بغا » والانفراد بالقيادة العامة وشاء القدر الا يستجيب « بايكباك » بل أخذ الرسالة ودخل على خيمة القائد موسى واطلعه على خطة المهتدي .
    وفي داخل الخيمة المصنوعة على الطريقة التركية قال بايكباك بلغة الأجداد الذين عاشوا في الجبال القاسية والصحاري :
    ـ هذه رسالة الخليفة يطلب فيها اغتيالك .. وأن تكون لي القيادة العامة للجيوش .. انني لن أفعل ذلك لأنه ينوي القضاء


124
علينا جميعاً .. وإذا فعل بك اليوم فسيفعل ذلك بي غداً .
    سكت بايكباك لحظات قبل أن يقول :
    ـ ما رأيك ؟
    ـ اذهب الى سامراء وأخبره أنك في طاعته وناصره على موسى و « مفلح » (125) . حتى يطمئن اليك .
    ـ وبعد ؟
    قال موسى وقد برقت عيناه بالشر :
    ـ ثم ندبر في قتله !
    وفي اليوم التالي تحركت القطعات التي تحت قيادة بايكباك صوب سامراء .. وشعر المهتدي أن هناك من يدبر له في الخفاء فأمر بالقاء القبض على « أبي نصر » بن بغا شقيق موسى ، ولكن أبا نصر استطاع الهرب فأرسل اليه المهتدي أربعة رسائل كلها تعده بالأمان فسلم نفسه وسيق الى مكان مجهول ثم تم إعدامه ورميت جثته في آبار القناة ولم يعلن عن ذلك !
    وكان المهتدي ولاسباب مجهولة قد أمر بزج الامام الحسن في السجن الخاص بالعلويين فسجن في زنزانة تجمع العلويين وفي طليعتهم « أبو هاشم الجعفري » الذي تألم لحال الامام .
    اليوم هو 11 رجب وقد وصل بايكباك سامراء ومعه مساعده أحمد بن خاقان واتجها صوب قصر الجوسق وقد استاء المهتدي من موقفه فصاح به :


125
    ـ تركت العسكر وقد أمرتك أن تقتل موسى ومفلحاً وداهنت في أمرهما .
    قال بايكباك مراوغاً :
    ـ يا أمير المؤمنين ! وكيف اقتلهما وهما أعظم جيشاً مني ؟ لقد حصل خلاف بيني وبين مفلح فلم استطيع الانتصاف منه !
    وها أنا قد جئتك بجيشي لأنصرك عليهما .
    وأمر المهتدي بتجريده من السلاح ، وثم توقيفه في حجرات القصر .
    حاول بايكباك الاعتراض :
    ـ ان مثلي لا يعامل هذه المعاملة .. . دعني أذهب الى منزلي أولاً .
    قال الخليفة :
    ـ احتاج الى مناظرتك .
    وفي خارج القصر شعر احمد بن خاقان أن بايكباك قد وقع في مأزق فقام بتحريض القطعات العسكرية التي تعمل تحت إمرته وسرعان ما حوصر القصر ..
    واطل المهتدي من إحدى نوافذ القصر ونظر الى مئات الجنود الاتراك فقال لمستشاره :
    ـ ماذا ترى ؟
    قال الرجل وهو يستعيد حادثة قديمة :


126
    ـ لقد كان ابو مسلم الخراساني أعظم شأناً لدى أهل خراسان من هذا التركي عند أصحابه .. وقد هاجوا على المنصور فما أن رمى اليهم برأسه حتى سكنوا ، وقد كان فيهم من يعبده .. فلو فعلت ذلك سكنوا وأنت أشد من المنصور اقداماً !
    التفت الى رجل كان يعمل حداداً في الكراخ وأمره أن يقطع رأس بايكباك .. وعبأ المهتدي المغاربة والفراغنة ضد الاتراك تحسباً للواجهة .
    وخيم الظلام على سامراء ، واستحالت البيوت الى أشباح مخيفة ، واقفرت الدروب من العابرين ..
    وكانت أنباء ما يجري تنعكس داخل السجن حيث يترقب الجميع ما تسغى عنه الحوادث .
    وفي الزنزانة التي يمكث فيها الامام قال أبو هاشم بأسى :
    ـ المهتدي يتهدد الشيعة بالتشريد ، وقد سمع يقول « لأجلينهم عن جديد الأرض » .
    قال الامام وهو ينظر الى ما وراء الاحداث :
    ـ ذاك أقصر لعمره .. عد من يومك هذه خمسة أيام ويقتل في اليوم السادس .. بعد هوان واستخفاف يمر به .
    وأطرق أبو هاشم وقد استغرقته الكلمات الواثقة تخترق حجب الزمن (126) .
    ولم يكن أبو هاشم ليهتم بالأخبار كثيراً ، فقد وطن نفسه


127
على تحمل السجن منصرفاً الى العبادة ... ولكن الكلمات أيقظت في روحه هاجس ما يجري ... أن حادثة كبرى في المخاض لا يعرفها أحد الا الله وهذا الفتى الطاهر الذي أودعه الله سره .
    كان أحمد بن المتوكل الذي تم توقيفه وايداعه في زنزانات قصر الجوسق قد سمع بنبوءة الامام الحسن حول مصير المهتدي . وفي يوم الثلاثاء 13 رجب عبأ المهتدي قواته وأمر بضرب مخيم معسكره خارج سامراء في المنطقة التي تشتمل على قصور الخلافة التي بنيت في عهد المتوكل (127) .
    وكانت قواته تتألف من الفراغنة والمغاربة وبعض الاتراك وبين قوات بايكباك التي انضوت تحت قيادة أخيه « طغوتيا » الذي خاض المعركة سكراناً كعادته .
    طالب الاتراك بالافراج عن بايكباك فأمر المهتدي أن يرمى برأسه اليهم ونفذ العملية قائد المرتزقة عتاب بن عتاب .
    وقد اثارت هذه الخطوة غضب الاتراك جميعاً حتى ان انصار الخليفة منهم انحازوا الى « طغوتيا » فتضعضت خطوط جيش الخليفة إثر هجوم جرىء قاده « طغوتيا » وأضطر الخليفة الى الفرار شاهراً سيفه يصيح :
    ـ يا معشر الناس ! أنا أمير المؤمنين ... قاتلوا عن خليفتكم ! فلم يكترث له أحد !
    فاتجه الى السجن وأمر باطلاق السجناء متوقعاً عونهم


128
ولكنهم اختفوا في الازقة القريبة .
    تساءل أبوهاشم وهو يصغي الى انباء الحارس المثيرة ؟
    ـ واين الخليفة الأن ؟!
    قال الحارس:
    ـ لا احد يدري اختفي هو الأخر والأتراك جادّون في البحث عنه (128) .
    اضحت سامراء ثكنة عسكرية كبري ولم يعد المرء يري عابراً من أهلها ... الأبواب مغلقة والأزقة مقفرة .. وحدهم فرسان الاتراك يدكون الارض بسنابك خيل مجنونة .
    القي القبض على الخليفة الهارب في نفس اليوم وسيق مخفوراً الى مكان مجهول الى حيث يقيم الاتراك حفلات التعذيب .
    وفي نفس اليوم أفرج عن أحمد بن المتوكل السجين في قصر الجوسق الذي تعرض لعملية نهب .
    وفي يوم 16 رجب أعلن عن تنصيب الخليفة الجديد « المعتمد » الذي خرج من السجن ليصبح خليفة .
    وفي يوم 18 رجب أعلن عن وفاة الخليفة المهتدي وتم ترتيب محضر يؤكد بأن الوفاة كانت طبيعية !!
    وأصبح الأتراك حكام البلد ولم يكن للخليفة المعتمد سوي الأسم ليظهر فيما بعد أخوة طلحة بن المتوكل الذي يحمل لقب « الموفق » منذ سقوط بغداد في الحرب الاهلية مطلع سنة 252 هـ


129
    أما الآن فقد عادت الحياة الطبيعية الى « سامراء » بعد تنصيب « عبيد الله بن يحيى بن خاقان » رئيساً للوزراء في الثاني من شعبان سنة 256 هـ (129) ... وتدور رحى الأيام وينمو القمر في السماء .
    يخيم على سامراء هدوء مشوب بالحذر ، وما يزال القلق يسيطر على مؤسسات الحكم الجديدة ، وبدا على الجميع العزوف عن المغامرة والركون الى الراحة ، والاستعداد لمواجهة أخطار مصيرية من قبيل ثورة الزنوج في جنوب العراق والتصدي لدولة « الحسن بن زيد الطالبي » في شمال ايران .
    أما موقف الحكم الجديد من الامام الحسن العسكري الذي عرف آنذاك بـ « الصامت » (130) فقد كان غامضاً وقد تقرر فقط مراقبته وفرض الحضور الاجباري عليه الى القصر مرتين في الاسبوع في يومي الاثنين والخميس (131) .
    وبشكل عام فقد كانت العلاقات بين الامام والقصر علاقة هادئة يشوبها حذر من قبل الدولة .
    ولعل مرد هذا يعود الى أن رئيس الوزراء عبيد الله بن يحيى وهو سياسي قديم شهد مصرع المتوكل وكان يومها وزير كبيراً في البلاط وأن الامام علي الهادي والد الامام الحسن قد تنبأ بمصير المتوكل كما أن الكثيرين ايضاً سمعوا بنبوءة الامام الحسن حول مصير الخليفة المهتدي الذي لقي حتفه على أيدي الاتراك أيضاً !
    على أن زيارة الامام العسكري والاتصال به كانت متعذرة لما


130
يترتب عليها من الملاحقة والمطاردة ، كما أن الامام الحسن هو الآخر كان يميل الى تعويد أتباعه على قبول الاتصالات عبر الرسائل المحررة والشفاهية بواسطة رجال ثقات من اصدقائه الاوفياء ... كل هذا تمهيداً لقبول فكرة الامام الذي سيغيب عن الانظار منتظراً الظروف المواتية للظهور .
    بدا بيت الامام الحسن العسكري في « درب الحصا » أشبه بقلعة محاصرة ... بابه مغلق أغلب الاوقات الاّ في يومي الاثنين والخميس حيث يغادر الامام منزله متجها الى قصر الخلافة برفقة بعض مسؤولي الدولة وخلال الطريق المؤدية الى القصر يصطف البعض لرؤية الامام عن بعد ...
    ولم يكن لأحد أن يجرؤ على زيارة الامام باستثناء عمته التي تزوره زيارات متقطعة وكانت في الحقيقة تترقب ميلاد الصبي الموعود والذي سمعت من شقيقها أنه قد أطل زمانه .
    شمس غروب تموز (132) تقرض المنازل بغلالة ذهبية وكانت نسائم ندية تهب من ناحية دجلة ، وقد بدت المئذنة الملوية تستعد لرفع الأذان .
    انفتح باب منزل الامام ليخرج خادم أسود تفوح منه رائحة المسك آخذاً سمته الى منزل قريب هو منزل المرأة الصالحة حكيمة بنت الجواد عمة الامام الحسن التي ما انفكت تتفقد ابن اخيها وتزور زوجته الطيبة « نرجس » تلك الفتاة التي امضت شهوراً