131
طويلة في منزلها قبل ان تنتقل الى منزل أخيها .
طرق كافور الخادم الباب على عمة الامام قائلاً :
ـ ان سيدي يقول : اجعلي افطارك الليلة عندنا !
خفق قلب السيدة لهذه الدعوة ، وشعرت أن أمراً مهماً يكمن وراء ذلك .
عندما غطست الشمس في بحيرة المغيب كانت السيدة حكيمة تلج منزل ابن أخيها ... المنزل تفوح فيه روائح ورود ربيعية ..
استغرفتها حالة فرح عندما استذكرت انها ليلة جمعة حيث تحلو أحاديث السمر في سماء صيفية تزخر بالنجوم .
منذ أيام وهي لم تسعد برؤية فتاتها الطاهرة نرجس .
استقبل الامام عمته بابتسامة أضاءت وجهه الاسمر ، وهي ايضاً فرحت بلقاء ابن أخيها .. ولكنها سرعان ما شعرت بالألم لمنظر الشيب في ذقنه رغم أنه لم يبلغ الخامسة والعشرين من ربيع العمر !
نظرت في عينيه وقد تألق فيهما نور سماوي كانت تريد استكشاف ما وراء هذه الدعوة في هذا الوقت !
قال الذي عنده علم الكتاب :
ـ إنها ليلة النصف من شعبان ..
وأردف وهو ينظر الى السماء .
ـ وان الله تبارك وتعالى سيظهر في هذه الليلة حجته في
132
الأرض ..
والتفت اليها قائلاً بصوت فيه أصداء النبوءات البعيدة :
ـ سيولد في هذه الليلة المولود الكريم على الله عز وجل .. الذي يحيي الله به الأرض بعد موتها .
كانت حكيمة تتوقع ذلك منذ أمد ولكن التوقيت أدهشها لأنها كانت تتفقد جواريه فلعل « نسيم » أو « ماريا » قد حملت منه .. وعهدها بنرجس قبل ايام قالت بلهجة فيها تساؤل مشوب بدهشة :
ـ ومن أمه ؟!
ـ نرجس
ـ نرجس ؟! فداك يا بن أخي ما بها من أثر .
قال الذي مسته السماء :
ـ هو ما أقول لك !
وجاءت نرجس تستقبل المرأة التي علمتها كلمة الاسلام :
ـ يا سيدتي وسيدة أهلي كيف أمسيت ؟
عندما وقعت عينا حكيمة على « نرجس » خفت اليها وعانقتها قائلة !
 
ـ بل أنت سيّدتي وسيّدة أهلي!
غمرت الدهشة وجه نرجس البريء :
ـ ما هذا يا عمة ؟!
وانحنت لتخلع خفي المرأة الصالحة التي تشعر قربها
133
بالسكينة :
ـ ناوليني خفك ياسيدتي ؟!
قالت السيدة حكيمة وقد أشرقت الفرحة في عينيها :
ـ بل أنت سيدتي ومولاتي .. والله لا أدفع خفي لتخلعيه ، ولا لتخدميني .. بل أنا أخدمك على بصري !
ارتسمت في عيني نرجس النجلاوين علامات سؤال كبرى ، ورمقت باجلال زوجها العظيم الذي ابتسم قائلاً :
ـ جزاك الله ياعمة خيراً !
وقادت السيدة حكيمة نرجس الى الحصير وقد غادر ابن اخيها المكان .. قالت وهي تقبل على الفتاة بفرح :
ـ يا بنية ان الله سيهب لك في هذه الليلة غلاماً سيداً في الدنيا والآخرة .
وأطرقت نرجس وقد توردت وجناتها بوهج الحياء .
134
17
القمر يتألق في سماء بهية مغمورة بنور شفيف ، وكانت السيدة حكيمة قد تناولت افطارها بعد أداء فريضة العشاء وأخذت مضجعها تسبح الله وتحمده .. وبقربها رقدت السيدة نرجس .. أما الامام فقد أخذ مضجعه فوق صفة في فناء البيت ..
عيناه تسافران عبر المدبات البعيدة حيث تومض النجوم سامراء غارقة في هدأة الليل والمنارة الملوية تبعث ضوء خابياً يرشد القوافل المسافرة ..
البدر ما يزال بهياً في الهزيع الأخير من الليل ، وقد كفت الذئاب البعيدة عن العواء .
استيقظت السيدة حكيمة كعادتها في مثل هذا الوقت لأداء صلاة الليل .. ونهضت تسبغ وضوءها .. ألقت نظرة على نرجس كانت تغفو بسلام .. أنفاسها منتظمة ووجهها الملائكي يعكس ما تزخر به أعماقها من طهر ونقاء ..
كان الامام قد استيقظ وأسبغ وضوءه لرحلة الليل يرافق القمر والنجوم .. قلبه يطوف السماوات البعيدة .. لم يكن الامام ذاق
135
من النوم سوى لحظات .. وكيف له أن ينام وهو يترقب ميلاد البشارة .. بشارة الرسالات القديمة ..
في هذه الليلة المباركة سيولد شبيه موسى بن عمران وعيسى بن مريم ..
أدت السيدة حكيمة وردها في غمرة الليل .. وعندما جلست تسبح لله .. هبت نرجس من رقادها تغمرها حالة من ذعر وترقب ..
غادرت الحجرة تسبغ الوضوء لصلاة الليل ..
كانت السيدة حكيمة تراقبها طوال الوقت ولم يكن يبدو عليها أي من آثار الحمل ..
الفتاة الطاهرة مستغرقة في العبادة وشلال من الصلاة يتدفق في جنبات المكان .. وقد غمرت الفضاء أنفاس السحر الندية ..
لحظات السحر الأخيرة .. لحظات لا تنتمي لليل ولا للنهار ..
الفجر الأول على وشك الانفلاق .. وقد نفذ صبر العمة المؤمنة .. خرجت لتنظر الى السماء وقد تداخلها شك في وعد الأمام .. هتف الامام من مصلاه في فناء البيت وقد اشتد سطوع النجوم :
ـ لا تعجلي يا عمة .. فان الأمر قد قَرُب !!
وفيما هي تهم بالعودة ناداها الأمام :
ـ لا تشكّي ..
136
شعرت المرأة بالخجل من طبيعة مشاعرها وهي المرأة التي نشأت في دفء أهل البيت ..
وفي باب الحجرة وقعت عيناها على نرجس مذعورة خاطبتها العمة بلهفة :
ـ هل تحسين شيئاً يا ابنتي ؟
ـ نعم يا عمة ! اني أجد أمراً شديداً .
قالت حكيمة وهي تهدي من روعها :
ـ اسم الله عليك .. اجمعي نفسك ... واجمعي قلبك .. فهو ما قلت لك ..
ـ أنا خائفة يا عمة !!
ـ لا خوف عليك يا ابنتي .
وقادت السيدة حكيمة الفتاة الطاهرة سليلة مريم البتول الى وسط الحجرة .
والقت لها وسادة واجلستها برفق استعداداً للحظة الميلاد الموعودة ..
كانت السيدة حكيمة في حال يرثى لها ، وعرق جبينها بسبب ما تبذله من جهد للسيطرة على مشاعرها التي راحت تضطرم في أعماقها ..
ان لحظات الميلاد تقترب سوف يأتي الى الدنيا الصبي الذي بشرت به الأنبياء ..
137
أمسكت نرجس بيد العمة الطيبة وراحت تعصرها عصراً شديداً .. إنها لحظات المخاض الكبير ..
انطلقت أنه تجسد كل آلام الميلاد ...
الفضاء يغمره جو غريب لم تألفه من قبل أنها تكاد تحس خفق أجنحة الملائكة ..
وخيل اليها أنها تسمع همهمة تشبه تلاوة لآيات القرآن ..
السيدة حكيمة تكاد تفقد توازنها .. وسمعت الامام يناديها من وراء الحجرة :
ـ اقرأي عليها سورة الدخان
وراحت السيدة حكيمة تتلو آيات الدخان :
بسم الله الرحمن الرحيم
حاء ، ميم ... والكتاب المبين .. انا انزلناه في ليلة مباركة .. إنا كنا منزلين .. فيها يفرق كل أمر حكيم ...
غمر فضاء الغرفة جو عجيب .. وكانت نرجس تطلق أنات الميلاد وتعصر بشدة كف السيدة الطيبة ... فجأة انبثق نور بهر عيني السيدة ولم تعهد ترى ما حولها .. فكأن نرجس نفسها قد اختفت ..
دق قلبها خوفاً .. وهبت صوب باب الحجرة تستنجد بابن اخيها ..
كان الامام على مقربة من الباب فنادى عمته :
ـ ارجعي يا عمة .. انك ستجدينها في مكانها ..
138
كان وجه نرجس يسطع نوراً سماوياً .. وبدت وكأنها مريم ابنة عمران وقد جاءها المخاض عند جذع النخلة ..
ورأت الصبي متلقياً الأرض بهيئة السجود ..
كان نظيفاً .. طاهراً ليست فيه آية آثار الميلاد ..
كلؤلؤة تشع على شاطىء بحر .. أو كقطرة ندى تتألق فوق زهرة في أول الفجر ...
وكان الأب ينظر الى السماوات وقد بدت النجوم قلوباً تنبض بالأمل ..
الصبي القادم من رحم البشارات يحمل ملامح النبوات الغابرة .. يحمل من موسى بن عمران خشية الفرعون ، وكان يبحث عنه جنيناً .. ويحمل من المسيح عيسى بن مريم كلماته في المهد صبياً .. . ويحمل من نوح عمره الطويل ومن ابراهيم فأسه التي هشم بها وجوه الآلهة المزيفة ومن محمد الأمين اسمه وكنيته ورسالته ...
اخذت حكيمة الصبي الطاهر بكتفيه وضمته الى صدرها وأجلسته في حضنها .. وناداها الأب بلهفة من يريد رؤية الوليد المبارك :
ـ هلمي اليّ بإبني ياعمة .
وحملته السيدة حكيمة وقد غمرتها حالة من الخشوع لكلمة الله ووعده الصادق .
139
أخذ الأب ابنه وأجلسه على راحته اليسرى وجعل راحته اليمنى على ظهره وراح يشم ابنه الطاهر في عينيه وأذنيه وفمه وهمس بصوت فيه ترجيعة لأصوات الرسل :
ـ تكلم يا بني ! انطق بقدرة الله !
تكلم يا حجة الله !
وبقية الانبياء .. وخاتم الاوصياء !!
تكلم يا خليفة الاتقياء !
وحدثت المعجزة : وتدفق صوت ملائكي من الصبي الذي تلا آية تجسد أهداف السماء وطريق الانبياء .
ـ بسم الله الرحمن الرحيم .. « ونريد أن نمن على الذين استضعفوا في الأرض ، ونجعلهم أئمة ونجعلهم الوارثين ..
ونمكن لهم في الأرض ونري فرعون وهامان وجنودهما منهم ما كانوا يحذرون »
وغمرت الدموع عين الأب لقد تحقق وعد الله .. ان الله لا يخلف الميعاد ..
وانفلق الفجر .. وارتفع الأذان من مآذن سامراء ، وقال الأب لعمته التي طفح على وجهها الفرح الأكبر .
ـ يا عمة رديه الى امه كي تقر عينها ، ولا تحزن ولتعلم أن وعد الله حق ، ولكن أكثر الناس لا يعلمون (133) .
كلمات الآذان ما تزال تنساب في لحظات الفجر الندية ..
وضعت السيدة حكيمة الصبي الطاهر في احضان والدته
140
التقية وغادرت المكان .
كانت الفرحة تتألق في عينيها بالرغم من مسحة الحزن .. فهذا الصبي يجب أن يبقى ميلاده سراً !!
وغمرت الأم ابنها بنظرات تزخر بالرحمة والحنان .. يا ولدي الحبيب .. كيف تعيش بين أناس يبحثون عنك ليقتلوك ؟!
الصبي نائم تتألق فوق وجهه هالة من أنوار النبوات الغابرة وبشائر الرسالات القديمة ...
أنفاسه الهادئة فيها أنغام الزبور .. تراتيل التوراة .. بشارة الأنجيل وآيات القرآن العظيم ..
لقد سمعت من زوجها النبيل أنها ستنجب صبياً يملأ الأرض بالعدالة والحقيقة ..
وتوهجت في أعماقها كلمات مقدسة كانت قد حفظتها وهي تتردد على الكنيسة :
ـ « وأما اسماعيل فقد سمعت قولك فيه ، وها أنا ذا أباركه وانميه وأكثر عدده جداً جداً ويلد اثني عشر رئيساً واجعله امة عظيمة » (134) .
هاهي تنجب الامام الثاني عشر .. خاتم الاوصياء .. والانسان الذي يحقق احلام الانبياء .
قبل ان تغيب نجمة الصبح كان الامام قد طلب من عمته ومن زوجته أن يبقى ميلاد الصبي سراً مكتوماً عن الجميع .