161
أعماقها من الحب فقبّلت جبين نرجس التي شهقت هي الأخرى بالعبرة ..
    وغمرت المنزل للحظات سكينة حتى ان المرء يشعر أن أجنحة الملائكة ترفرف فوق المكان في ذلك المنزل الهادىء الذي يمثل قلعة للمقاومة أو سفينة انقاذ تشق طريقها الى شاطىء السلام وسط أمواج الحياة الثائرة ..
    وبدت سامراء ذلك العام اشبه بامرأه ثكلى تتلقى اخباراً حزينة ، خاصة من جنوب العراق حيث الاشتباكات العنيفة مستمرة وجيوش الدولة العباسية تمنى بهزائم متلاحقة اضطرت الموفق الى الانسحاب الى مدينة واسط لأعادة تنظيم قواته (149) .
    وفي ايران كانت ضواحي مدينة الري مسرحاً لعمليات حربية رهيبة بين قوات موسى بن بغا وكتائب الحسن بن زيد .
    وفي منتصف عام 258 هـ وفيما كانت نسائم الربيع تهب من ناحية الشرق وصلت سامراء والدة الامام الحسن ، وهي أمرأة صالحة من بلاد النوبة اقترن بها الامام علي الهادي لما عرف عنها من الصلاح والتقوى (150) .
    ان وراء سفر هذه السيدة وتحملها عناء السفر من المدينة المنورة اسباب كثيرة فهي تريد الاطمئنان على حفيدها الأمل .. وربما للحد من مضايقات جعفر الذي يبدو أنه قد بدأ ينتبه الى ما يجري في المنزل .


162
    وربما شعر بميلاد ابن أخيه بالرغم أنه لم ير له من أثر .. وقد يرتكب جعفر حماقة وتسوّل له نفسه الاتصال بالخليفة واحاطته علماً بالنبأ العظيم ..
    وفي تلك الفترة أصبح لقاء الامام الحسن وجهاً لوجه أمراً متعذراً .. كانت الأجواء بالغة الحساسية بسبب تفاقم التهديدات الخطيرة التي تواجه الدولة في ايران حيث « الصفار » ما يزال يخطط لاقتحام نيسابور عاصمة اقليم خرسان الثري ... وهناك أيضاً دولة طبرستان بقيادة الحسن بن زيد الذي هزم مؤخراً ثم ظهور ثائر علوي آخر في مصر هو « ابراهيم بن محمد بن يحيى » المعروف في بـ « ابن الصوفي » .. والطامة الكبرى تفاقم خطر ثورة الزنوج في البصرة وسقوط المزيد من الأراضي ووصولهم الى ضواحي مدينة « واسط » (151) وفي سامراء كانت الاوضاع تتأزم تنذر بوقوع حادثة ما .. فالخليفة المعتمد بدأ يتوجس من نفوذ أخيه الموفق .. 152 خاصة وأن نفوذ الاتراك وتلاعبهم في الخلافة جعله لا يطمئن الى مستقبله في الحكم وما زاد الطين بلة أن جعفر ابن الامام الهادي قد اتصل به وهو يهذي بأشياء كثيرة (153) حول ولادة الطفل الموعود الذي يدعى عند الشيعة « بالمهدي » ! ومعنى هذا أن نهاية الحكم العباسي قد باتت وشيكة .. ولهذا أوعز بتكثيف المراقبة على منزل الامام .. وشعر الامام بالخطر قد أصبح قاب قوسين أو أدنى .. وقد يتعرض المنزل الى مداهمة ليلية في أية


163
لحظة وفي هذا خطر كبير على حياة ولده ..
    ان ابنه يجب أن يبقى حياً فهو الأمل الأخير في خلاص الانسانية المعذبة والفجر القادم بعد ليالي البرد والصقيع ..
    لك الله أيها الإمام الممتحن !


164
22
    لم يكن الشيعة في حال يحمدون عليها ، وقد أفرز الوضع العام من المطاردة عن قلق فكري وبرزت تساؤلات حول هوية الامام الذي يخلف الامام الحسن ؟!
    كما أن التكتم على ميلاد محمد المهدي ساعد على احاطة الاجواء بالغموض ، ولذا كان الامام الحسن وبالرغم من الظروف الحساسة يستقبل الحيارى فتنفتح أمامهم نوافذ الأمل بالخلاص ..
    وجاء رجل يقال له ابراهيم .. جاء يودع الامام بعد أن قرر الاختفاء عن الأنظار .. كان مطارداً لأنه شيعياً ..
    وعندما دخل المنزل وقابل الامام الحسن وقعت عيناه على صبي بهي الوجه وشعر ابراهيم أن قلبه يخفق له ، حتى أنه نسي كل هواجس الخوف والفرار ..
    قال الصبي المبارك مبادراً :
    ـ يا ابراهيم ! لا تهرب فان الله تبارك وتعالى سيكفيك شره .. شعر ابراهيم بالدهشة ! من يكون هذا الصبي الذي يقرأ


165
موجات القلوب واضطرابات النفوس ، وطيات الضمير ؟!
    قال الامام الحسن مبتسما :
    ـ هو ابني وخليفتي من بعدي ، وهو الذي يغيب غيبة طويلة ويظهر بعد امتلاء الأرض جوراً وظلماً فيملأها عدلاً وقسطاً .
    قال ابراهيم :
    ـ يا سيدي ما اسمه ؟!
    قال الامام :
    ـ هو سمي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وكنيّه ..
    وأردف حفاظاً على حياة الأمل الأخير :
    ـ ولا يحل لأحد أن يسميه باسمه أو يكنيه بكنيته الى أن يظهر الله دولته ..
    وسكت لحظات ليقول :
    ـ فاكتم يا ابراهيم ما رأيت وسمعت من اليوم إلاّ عن أهله قال ابراهيم بخشوع :
    ـ صلى الله عليك وعلى خليفتك ..
    وانطلق ابراهيم سعيداً ينظر الى الحياة بأمل كبير ، لقد رأى بعينيه وبقلبه الأفق الأخضر الكامن وراء بحار الظلمات ..
    ولم تمض سوى أيام حتى لقي « عمرو بن عوف » مصرعه بأمر من الخليفة المعتمد وكان أمر الله قدراً مقدوراً (154) ..
    تأزمت الأوضاع واصبح الجوّ مشحوناً بالخطر وانحدر جعفر


166
الى أسوأ ما ينحدر اليه الانسان عندما يصاب بالحمى ، وشعر الأمام الحسن بالخطر يحدق بأمله الكبير .. فطلب من والدته أن تتهيأ لرحلة الحج وأن تصطحب معها حفيدها العزيز (155) .
    وفي ذلك اليوم قال الامام لوالدته وهو ينظر الى الأفق البعيد لكأنه يشعر بالنهاية القادمة والرحيل وشيك :
    ـ تصيبني في سنة ستين ومئتين حرارة أخاف أن انكب منها .
    نظرت الأم الى ابنها الذي لم يبلغ الثلاثين بعد .. لقد حوّلته الهموم الى شيخ هدمته السنون والأيام ..
    تجمعت في عينيها الدموع كغيوم ممطرة واجهشت بالبكاء .. قال الابن العظيم بصبر الانبياء :
    ـ لا تجزعي يا أماه .. لابد من وقوع أمر الله ..
    واستدعى ابنه ، فاجلسه في احضانه الدافئة وقبله وقال بأمل :
    ـ « الحمد لله الذي لم يخرجني من الدنيا حتى أراني الخلف من بعدي ـ أشبه الناس برسول الله خلقاً وخلقاً .. يحفظه الله في غيبته ، ويظهره فيملأ الأرض قسطاً وعدلاً كما ملئت ظلماً وجوراً » (156) .
    وفي لحظات الوداع الأخيرة سلم الامام نجله سيفاً ورثه عن الآباء والأجداد .. سيفاً يحمل كل معاني الثورة على الظلم والظالمين ويتجسد فيه غضب المقهورين والمستضعفين (157).
    تنتظم قوافل الحج في شهر ذي القعدة وتنهض النوق


167
ميممة وجهها صوب البيت العتيق.. وانضمت السيدة النوبية مع حفيدها الى إحدى القوافل يرافقها الوكيل أبو علي أحمد بن محمد بن مطر...
    كانت رياح الخريف تهب باردة تنذر بشتاء جاف قارس البرد والسماء مسرحاً لغيوم ممزّقة كسفن حربية خسرت الحرب فهي تحاول الفرار..
    وفي بعض المحطّات الكبرى حيث تلتقي بعض طرق القوافل لتشكل فيما بعده جادّة رئيسية يلتقط الحجيج أنفاسهم ، أو يتزوّدون بما يلزمهم من الماء والطعام حيث يعدّ الخبز عماد ذلك .. ولكن السؤال الأكثر الحاحاً هو توفر المياه في المحطّات القادمة وهواجس الأمن ففي مواسم الجفاف والقحط تصبح قوافل الحج عرضه لقطاع الطرق وغارات اللصوص ..
    وصلت القافلة التي انطلقت من سامراء منطقة « القرعاء » (158) وهناك حطّت الرحال.. وفي المساء دارت الأحاديث حول موسم الحج هذا العام..
    الأعراب الذين يسكنون اليوادي هناك خوّفوهم من العطش .. وموسم الأمطار كان شحيحاً لم يغادر إلاّ عن غدران صغيره سرعان ماجفت وان القوافل قد تتعرض الى غارات اللصوص ..
    وتبادل الناس نظرات قلقة وسادت الحيرة الوجوه .. وكان قادة القوافل الذين خبروا السفر في الصحاري يدركون أخطار هذه


168
الرحلة ويعرفون معنى الظمأ في تلك الرمال والكثبان ...
    ولم تطل الحيرة كثيراً بعد أن أسفر الجدل عن قرار بالعودة وعدم المغامرة هذا العام.. ولذا لوت النوق أعناقها عائدة الى الديار.
    نظرت السيدة الى حفيدها فرأت في عينيه إرادة لا تلين وايماناً يصل درجة اليقين أن الله معهم وأنهم يحجّون بيته العتيق (159)..
    وانضمّ بعض الحجاج الى اليهم متوكّلين على الله الذي يطعمهم من جوع ويؤمنهم من خوف.


169
23
    دوهم منزل الامام الحسن ليلاً واعتقل مع أخيه جعفر واقتيدا مخفورين الى سجن خاص بالعلويين .
    وفي قلب الليل وفيما كان السجناء يتسامرون ويتجاذبون خيوط الأحاديث إذا باب تصر وأصوات ينم عنها فتح الأقفال ..
    وسيطرت الرهبة على السجناء قال أبو هاشم وكان متمدداً فوق فراش صغير مصنوع من القطن بسبب وعكة المت به :
    ـ انظروا ما يجري .
    نهض أحدهم ليرى رجلين يدفعان الى الداخل ثم ترد الباب خلفهما وتقفل !
    سأل السجين القادمين .. وكانت تفوح من أحدهما رائحة خمر :
    ـ من أنتما ؟
    قال الحسن : ـ نحن قوم من الطالبية حبسنا !
    كرّر الرجل نفس السؤال ؟


170
    تجشأ جعفر وقال الامام الحسن بأدب :
    ـ أنا الحسن بن علي وهذا جعفر بن علي ..
    وخف الرجل ليطلع ابا هاشم على هوية السجين القادم ..
    هب أبو هاشم لاستقبال أبي محمد وقبله في جبينه .
    وقدم له فراشه القطني ليجلس عليه وجلس جعفر قريباً من أخيه .. وبرقت عيناه .. لقد كان سكران فيما يبدو إذ هتف باسم جاريته صائحاً : واشطناه .
    ظهر الحزن على وجه أخيه الطاهر الذي زجره قائلاً :
    ـ اسكت !
    وسرعان ما غلب النوم جعفراً فنام جالساً (160) !
    ولم يكتم أبو هاشم الجعفري فرحته بلقاء الامام .. حتى لو في السجن .. لقد مرّت عليه سبع سنوات عجاف ولم يزل حبيس السجن منذ اعتقاله بأوامر شخصية من المعتز سنة 252 هـ
    اكتشف الامام وهو يستعرض السجناء وجود جاسوس خطير مكلّف بنقل التقارير الى السلطات .. وتراه يفعل المستحيل وهو يتظاهر بأنه علوي .
    كانت الزنزانة تضم كلاً من أبي هاشم الجعفري والحسن بن محمد العقيقي ومحمد بن إبراهيم العمري قال الامام محذّراً إياهم .
    ـ لولا ان فيكم من ليس منكم لأعلمتكم متى يفرج عنكم ؟
    قال ذلك وهو يومي الى رجل يتظاهر بالنوم ولكنه في