151
حضور الموفق .. وما لبث حرسه الخاص أن اصطفوا على امتداد الرواق المؤدي الى مجلس رئيس الوزراء .
نظر الامام الى رئيس الوزراء نظرة لها معنى فوجوده في هذا المكان قد يثير هواجس « الموفق » المعروف بحساسيته تجاه العلويين خاصة في هذه الظروف .. أدرك ابن يحيى رغبة الامام فقال :
اذا شئت جعلني الله فداك !
ونهض اجلالاً له وعانقه .. وأمر الحاجب بمرافقة الامام الى باب فرعية ... وأخذ الامام طريقه خلف الحرس المصطفين كالتماثيل استعداداً لحضور الموفق الذي وصل تواً .
ما إن استقر الموفق في مجلسه حتى دار الحديث حول ثورة الزنوج التي اصبحت تشكل تهديداً خطيراً للدولة .. وانصبّ الاهتمام حول التجهيزات العسكرية اللازمة وضرورة ان يعلن ابن الرضا مواقفه من مزاعم قائد الزنوج حول حقيقة انتسابه الى الامام علي عليه السلام واكد على ضرورة حضور ابن الرضا في مراسم توديع الحملة العسكرية المزمع تنفيذها بعد أيام ..
مضت أيام ثم تقرر الموعد النهائي لاجراء مراسم توديع الموفق قائداً عاماً للجيوش الزاحفة صوب مدينة البصرة لاخماد ثورة الزنوج .. وخلال تلك المدة صدر عن الامام الحسن اعلانه الهام في موقفه من قائد الثورة التي استحالت الى فتنة هوجاء ، وتناقل
152
الناس تصريح الامام : « صاحب الزنج ليس منّا أهل البيت » .
وكان لهذا التصريح آثاره الطيبة في أوساط الناس فأهل البيت يبقون رمزاً للمقاومة الايجابية والعدالة الانسانية ، وان كل من ينتهك حرمات الاسلام والمسلمين ليس من أهل البيت وان ادعى ذلك ... وان انتسب الى ذلك البيت .. سوف ينسلخ كل من لا يسير على خطى آل الرسول .. تلك هي مبادىء أهل البيت ودربهم اللاحب منذ أن اضاءت في سماء المدينة المنورة آية التطهير : ( ليذهب الرجس عنكم أهل البيت ويطهركم تطهيرا ) ..
153
20
كان ذلك الصباح من ربيع الاول سنة 258 هـ أخريات خريف سنة 871 م حافلاً فقد تدفق سكان سامراء لحضور مراسم توديع الخليفة المعتمد لأخيه الموفق .. وقد وجد الشيعة في هذه المراسم فرصة لرؤية الامام الحسن فربما يحظون بلقاء عابر معه في الطريق .. ولذا وقف بعضهم في الطريق بين « درب الحصا » حيث يوجد منزل الامام وبين « الجوسق » قصر الخلافة المهيب والذي يدعى « باب العامة » .
وقد بدا إن « سوق الغنم » الذي يقع في الطريق كان افضل مكان لانتظار موكب الامام ..
كان « محمد بن عبد العزيز البلخي » واقفاً يتظاهر بأنه جاء لشراء ما يلزمه من السوق فيما كان يختلس النظر بين القينة والأخرى صوب نقطة في بداية منعطف على اليمين ..
وظهر موكب الامام .. ولاح ابن الرضا بوجهه الأسمر الوسيم بعينيه الواسعتين لكأنهما نافذتان تطلان على عالم زاخر بالسلام ..
كان الامام يركز نظراته على نقطة ما يبدو لمن يراه أنه ينظر
154
الى عُرف بغلته ..
كان البلخي ينظر الى الامام مأخوذاً بهيبته .. إنه ينظر الى سليل الانبياء ... فهذا الانسان هو الوحيد الذي يحمل الأمانة .. انه حجة الله على العالمين ومن إفترض الله طاعته على العباد .. وكاد الرجل أن يهتف : يا أيها الناس ! هذا حجة الله فاعرفوه !
لكنه فوجىء بالامام يرسل اليه نظرة عندما اصبح قريباً بل إنه أومأ باصبعه ووضعها على فمه أن اسكت ولم يتمالك « البلخي » أن هب اليه ليطبع قبلة على ركبته فهمس الامام بصوت خافت فيه حزن الانبياء :
ـ أما أنك لو اذعت لهلكت .. انما هو الكتمان أو القتل فابقوا على أنفسكم (143) !
أجل ايها البلخي هذا زمن يصلب الانبياء .. ورياح الزمهرير تحاصر الفراشات القادمة وهي تبشر بالربيع ... لقد ولد الذي سيظهر لينقذ الناس من نير الظلم والقهر والعبودية ويغسل الأرض من الآثام .. فانتظر !
انضم موكب الامام الى موكب الخليفة الكبير وبدأت مراسم توديع « الموفق » القائد العام للجيوش العباسية ، وقد بدأت المراسم من « باب العامة » الى ضواحي سامراء بالقرب من قصر « بركوارا » 144 على شاطىء دجلة (145) .
اجتاز موكب الخلافة البساتين في ضواحي سامراء وهناك
155
ودّع الخليفة أخاه الموفق وأركان حربه كما شارك الامام في مراسم التوديع ..
وصادف ذلك اليوم حضور وفد من الشيعة ، قادم من مدينة الأهواز فوجد في المراسم فرصة مناسبة للقاء دون عراقيل ومضاعفات .. فالامام الحسن وخاصة في تلك الايام لم يكن يفضل اللقاءات المباشرة وكثيراً ما يحتبس عن الناس لأسباب غامضة .. فالذين كانوا يسعون الى لقائه يتعرضون الى مراقبة وربما الى مطاردة تسبب لهم عناء هم في غنى عنه ..
كما انه يحاول تعويد اتباعه على قبول فكرة الارتباط بالامام الغائب .. ولذا كان يوصى دائماً بالاتصال بوكيله « عثمان بن سعيد العمري » الذي يشتغل في تجارة الزيت ..
كانوا يتحدثون فيما بينهم فقال أحدهم :
ـ ربما لا يكون طريق العودة من هنا .. من يدري ؟
علق آخر :
ـ أجل هذا صحيح
وقال :
ـ الأفضل أن ننتظره في ثلاثة طرق .. فإن رجع في أحدها رآه رجل منّا ..
وشاء القدر أن يعود موكب الخليفة من طريق يخترق البساتين ..
156
لاح الامام لهم والتفت نظراته نظراتهم ..
ابتسم الامام لهم وهو يرفع قلنسوته ويمسح على رأسه بكفّه ثم يعيد القلنسوة فهتف رجل من أعضاء الوفد :
ـ اشهد انك حجة الله وخيرته
ودهش اصحابه فتساءلوا :
ـ ما شأنك ؟
أجاب الرجل :
ـ كنت شاكاً في إمامته فقلت في نفسي إن رجع وأخذ قلنسوته من رأسه قلت بإمامته ..
قال أحدهم :
ـ هيا بنا ننتظره في درب آخر ، فإن فعل مثل ذلك قلنا جميعاً بامامته ما رأيكم ؟!
هز الرجال رؤوسهم ، وانطلقوا من خلال البساتين مسرعين صوب منعطف في الطريق لا بد وأن يمر به الموكب ..
كان المكان الذي وصلوا إليه مزدحماً بسبب تجمع الكثير من ذوي الحاجات .. ولاح الامام الذي ما إن التقت نظراته بهم حتى مد يده ليرفع قلنسوته مرة أخرى ثم يعيدها ..
وقال : مبتسماً وقد مر بحذائهم :
ـ كم هذا الشك ؟!
هتف رجل بخشوع وقد أسلم قلبه للحقية :
157
ـ اشهد أنّك حجة الله ..
وفي المساء كان أعضاء الوفد يطرقون باب منزله ليوصلوا اليه مجموعة من رسائل تتضمن اسئلة شرعية وهموماً انسانية .
158
21
لم تستطع السيدة حكيمة الصبر أكثر وارتدت بدلة الخروج وشدت نقابها وانطلقت صوب درب الحصا .. إنها لم تحب صبيّا حبّها لمحمد كيف وقد آتاه الله الحكمة صبيا يكلم الناس في المهد .. ولكأن نبع الحب قد تفجر في قلبها فهي لا تستطيع الصبر عن رؤية آخر الحجج الالهية .. والانسان الذي سيملأ الدنيا عدالة وخيراً ويغسل عن الأرض الآثام الخطايا ويرفع عن المقهورين السلاسل والأغلال التي عليهم ..
من أجل هذا فهي لم تعد تنظر اليه كصبي ألقى الله محبته في القلوب فحسب بل تنظر اليه كأمل مشرق ومخلّص ينقذ المقهورين من ويلات الظلم والاستعباد .
كان فضاء المنزل يفوح برائحة طيبة .. عبيراً يشبه شذى الورود الربيعية .. قادتها الجارية « نسيم »
الى الحجرة التي تقطنها السيدة نرجس ووقعت عيناها على الصبي الطاهر في باحة الدار .. كان وجهه يتألق كقمر في سماء صيفية ..
عطست « نسيم » فقال الصبي بلغة فصيحة :
159
ـ يرحمك الله !
ابتهجت نسيم لكلمات تبشرها برحمة الله ..
وقال الصبي مستأنفاً :
ـ ألا أبشرك بالعطاس ؟ هو أمان من الموت ثلاثة أيام (146) .
خفت السيدة حكيمة لاحتضان الطفل المعجزة لكأنها تحتضن الجنة بكل أريجها وعبيرها .. وزهورها الخالدة ..
وجلست السيدة حكيمة عند نرجس وشعرت ان هذه الفتاة الطاهرة قد انتخبتها السماء لتكون أما لأكرم مولود .. وتوهجت في ذاكرتها تفاصيل رحلتها المثيرة وكيف وصلت سامراء على قدر .. كلما نظرت اليها خيل اليها أنها ترى طيفاً لمريم ابنة عمران أو « يوكابد » أم موسى .. أو أُمّاً لنبي أو رسول ..
طرق جعفر الباب بعد أن وجده مغلقاً من الداخل وحدس « ظريف الخادم » هوية القادم فقال لـ « ماريا » ذلك وأمر الامام ولده أن يدخل غرفة خصصت له .. فامتثل الصبي الطاهر وتوارى خلف ستائر الباب ودخل جعفر المنزل واتجه الى حجرته في اقصى اليسار من البيت .. وانتابت طريف هواجس : ماذا لو أراد جعفر أن يدخل الحجرة التي توارى فيها « الحجة » .. قال الامام الحسن لظريف وقد أدرك ما يدور في خلده :
ـ انظر من في البيت ؟
دخل الخادم الحجرة وفوجىء بها خالية .. أين اختفى
160
الصبي المعجزة ؟! لا أحد يدري ؟
هل يوجد ممر سري يفضي الى السرداب ؟! ... وهل أراد الامام أن يختبر ذلك مع انسان يعيش في المنزل ؟
حتى السرداب هو الآخر .. ان هناك ما يشير الى وجود « كهريز » أو قناة جوفية تمد المنزل بالمياه (147) .
فالمنزل لم يكن عادياً لأن مالكه الاصلي هو « دليل بن يعقوب النصراني » (148)
وقد اشتراه الامام علي الهادي فور وصوله سامراء سنة 234 هـ ومن غير المعقول أن يترك المهندس النصراني منزله دون كهريز « يمده بالمياه ! فلم يكن منزل دليل منزلاً عادياً أبداً .. كان منزلاً فخماً أسال لعاب رئيس الوزراء أحمد بن الخصيب سنة 248 هـ
كما أن دليل النصراني هذا اسند إليه المتوكل مهمة شق نهر شمال سامراء لرفد مدينة « المتوكلية » التي أمر الخليفة ببنائها سنة « 245 هـ » بالقرب من قصره الكبير « الجعفري » وقد تجف هذه القنوات صيفا فتستحيل الى نفق تحت الأرض .
استأذنت السيدة حكيمة للانصراف فقال الامام مؤكداً على عمته :
ـ يا عمة اكتمي خبر هذا المولود ، ولا تخبري به أحداً .. حتى يبلغ الكتاب أجله ..
امتلأت عيناها بالدموع .. وأرادت أن تعبر عن كل ما يموج في