221
    ـ مد الله في عمرك إذا كان الذي لابد منه فمن يخلفك في سفارتك :
    التفت الرجل صوب ابنه فقال بصوت فيه حشرجة :
    ـ محمد ابني !
    ـ انت اخترته ؟!
    ـ بل اختاره حجة الله .
    أعاد محمد رسالة الامام الى مكانها وأغلق الصندوق وأراد أن يعيده الى والده الذي مد كفاً ترتجف : أن اتركه عندك !
    وفي لحظات السحر من تلك الليلة الخريفية ودع الرجل العالم بعد عمر قضاه في جهاد عميق الغور .. كان كمن يبذر في مساحات الوجدان حبات الحلم الأخضر .. يوم تشرق الشمس من وراء السحب فتغمر العالم بالدفء والنور والربيع .
    وكان لرحيل عثمان بن سعيد العمري في تلك الظروف المريرة أصداء حزينة ، وألقى الأسى بكلاكله على بيوت أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه .
    ووصلت ابنه محمد رسالة عزاء رقيقة من الامام جاء فيها :
    « إنّا لله وإنا اليه راجعون ..
    تسليماً لأمره ورضاءً بقضائه ..
    عاش أبوك سعيداً ، ومات حميداً .
    فرحمه الله وألحقه بأوليائه ومواليه .
    فلم يزل مجتهداً في أمرهم .. ساعياً فيما يقرّبه الى الله عز


222
وجل وإليهم ..
    نضّر الله وجهه وأقال عثرته » (200) .
    وبلغ من حزن الامام عليه أن بعث بكلمات تواسي الى ابنه الذي نهض بمهمة السفارة الخطيرة :
    ـ « أجزل الله لك الثواب ، وأحسن لك العزاء .
    رزئت ورزئنا ، وأوحشك فراقه وأوحشنا .
    فسرّه الله في منقلبه ..
    كان من كمال سعادته أن رزقه الله تعالى ولداً يخلفه من بعده ويقوم مقامه بأمره ويترحّم عليه » (201) .
    ونهض محمد بن عثمان بأعباء السفارة في زمن يضج بالأحداث وكان كل شيء يتزلزل ، ولم يعد هناك من ثبات في زمن غادره السلام ..
    ودجلة وهو يخترق بغداد يشطرها شطرين .
    الفقراء في أكواخهم ينطوون على جوعهم وعريهم .. تشتعل في أعماقهم الأماني الخضراء بغدٍ أفضل يتطلعون الى شمس تمنحهم الدفء في زمن الزمهرير ..
    بينما تنهض قصور الاثرياء وتجار الحروب المترعة بالليالي الحمراء .
    أما الأرض الاسلامية فقد غدت أسلاباً لذوي الاطماع والطموح وفرّت كل الاشياء الجميلة .


223
30
    كان عام 268 هـ زاخراً بالأحداث العاصفة ، فقد استأنف « الموفق » عملياته الحربية ضد حركة الزنوج ، وبدأت الاستعدادات للهجوم الشامل على « المختارة » عاصمة التمرد الخطير خاصة بعد نجاح « أبو العباس بن الموفق » (202) وغلامه « رشيق » (203) بقطع طريق الامدادات التي تصل المختارة من البادية العربية .
    فقد عبرت الجيوش العباسية الأنهار والمسطحات المائية ، واصبح الهجوم العام وشيكاً جداً .
    وقد أدّى الحصار الشديد الى تصدع الجبهة الداخلية وبدأت عمليات هروب كبرى ولجوء الى القوات الحكومية التي راحت تشجع على هذه الظاهرة ، بل أن الموفق استخدم بعض الزنوج الأقوياء وضمهم الى قواته ..
    وكان موسم الحج مهدداً ذلك العام عندما حاولت قوات موالية لحركة الزنوج الهجوم على مكة ، فراحت تعيش في الطريق وتنهب الطعام وتعور عيون المياه فارتفعت اسعار الخبز في مكة بشكل جنوني ، كما شن الأعراب غارات على قوافل الحجيج ..


224
    وبالرغم من الاخطار المحدقة قرر عيسى الجوهري وهو رجل قد اجتاز الأربعين الحج ، وكان همه لقاء صاحب الزمان فقد دار همس كثير حول ظهوره في المدينة المنورة ، فشد الرحال الى مكة لأداء مراسم الحج ..
    كانت سماء حزيران (204) تزخر بالنجوم عندما غادر الجوهري مكة باتجاه المدينة وعندما وصل هضاب « فيد » شعر بوعكة في صحته ، وتاقت نفسه الى تناول السمك والتمر .
    وفي المدينة راح الجوهري يتنسم الاخبار من إخوانه حتى تأكد له أن الامام قد ظهر في واد يدعى « صابر » .
    وانطلق الجوهري يطوي الأودية والكثبان الرملية حتى أشرف على واد فسيح قبيل الغروب ولاح في طرف الوادي منزل تسرح بالقرب منه عنيزات عجاف ..
    ما إن وصل المنزل حتى ظهر له بدر الخادم انه يعرفه جيداً فقد رآه آخر مرة منذ ثمانية أعوام في وفاة الامام الحسن .
    هتف بدر :
    ـ يا عيسى الجوهري ! ادخل .
    ودخل الرجل الذي يحلم برؤية الامام يسبح الله ويحمده ..
    ووقعت عيناه على منظر جميل في الفناء الظليل .. كل شيء كان هادئاً وقد انصرف بدر لشأن ما ..
    ظهرت نجيمات المساء ، ونهض الجوهري للصلاة ..


225
    كان يشعر بالسكينة تترقرق في جنبات المنزل ..
    ان للزمن في هذا المكان المغمور بالصمت نكهته الفريدة .. كل الاشياء لها لون خاص في هذا المكان الغارق بالجلال ..
    يستطيع المرء أن يراقب في هذه البقعة من دنيا الله حركة الوجود المنتظمة .. حيث جميع الاشياء ثابتة مستقرة منذ أمد طويل ..
    وانطلق ذهنه المتوقد الى اماكن بعيدة الى حيث يقتتل الاخوة وتنزف الدماء ، وتهتز الأرض تحت سنابك خيول مجنونة .. آه متى ينعم الانسان بالسلام ؟!
    وأفاق الجوهري على صوت « بدر » الذي احضر المائدة :
    ـ مولاك يأمرك أن تأكل ما اشتهيت في علتك وأنت خارج من « فيد » !
    خشع قلب عيسى وقال :
    ـ حسبي بهذا برهاناً .. فكيف آكل ولم أر سيدي ؟
    وجاء صوت رخيم مفعم بالحب :
    ـ يا عيسى كل من طعامك فانك تراني ..
    جلس عيسى الى المائدة .. فرآى سمكاً وتمراً ولبناً قال في نفسه :
    ـ عليل وسمك ولبن وتمر ؟!!
    وجاءت كلمات الامام هادئة من وراء ستر :


226
    ـ يا عيسى اتشك في أمرنا ؟ أفأنت تعلم بما ينفعك ويضرك ؟
    واهتز وجدان القادم من بعيد وهتف بندم .
    ـ استغفر الله ؟
    ومد يده ليأكل .. انه لم يأكل طوال حياته طعاماً طيباً كهذا الطعام ..
    همس في نفسه :
    ـ التمر يشبه تمورنا ولكن له طعم آخر .. ان حلاوته تكاد تفقد المرء صوابه !
    آه هل أنا في حلم ؟؟ .. انني لا استطيع أن اكف عن الأكل !
    وشعر بأن شهيته للطعام تنفتح ونسي أنه لم يبل من وعكته بعد .. ولكن من المخجل أن يأكل المرء هكذا فهذا مخالف لآداب الضيف ..
    وجاء صوت الامام مرّة أخرى كأنه قد قرأ خلجات ضميره :
    ـ لا تستح يا عيسى فإنه من طعام الجنة .. لم تصنعه يد مخلوق ونظر الجوهري الى السماء المرصعة بالنجوم فشكر الله على أن اكرمه وراح يأكل حتى شعر بالشبع فكف يده ..
    والتفت عله يرى ابريقاً ليغسل يديه ، وسمع الامام يهتف به :
    ـ اقبل يا عيسى !
    قال عيسى :


227
    ـ حتى أغسل يدي .
    قال الامام :
    ـ وهل لما أكلت غمر ؟
    شم عيسى يديه .. آه إنها تفوح برائحة المسك لا السمك .. وتقدم عيسى بخطى متعثرة صوب حجرة مضيئة ، وهناك ألفى الامام جالساً .. آه انه لم ير فتى له مثل هذا الجلال وهذه المهابة .. انه يبدو في العشرين من عمره ..
    قال الفتى الأسمر الذي سيملأ الأرض بالعدالة والربيع :
    ـ يا عيسى ما كان لك أن تراني لولا المكذبون القائلون :
    أين هو ؟ ومتى كان ؟ وأين ولد ؟ ومن رآه ؟ وما الذي خرج اليكم منه ؟ وبأي شيء نبأكم ؟
    يا عيسى فأخبر أولياءنا بما رأيت .. وإياك أن تخبر عدوّنا .
    قال عيسى بحبّ :
    ـ يا مولاي ! ادع لي بالثبات .
    قال الذي سيصحح مسار التاريخ :
    ـ لو لم يثبتك الله ما رأيتني ..
    وسكت لحظات ليقول بأدب الأنبياء :
    ـ امض راشداً (205) .
    ونهض الجوهري وقد امتلأ قلبه بالايمان والأمل ..
    ان الله لن يترك أرضه دون كوكب يضيء الطريق لعباده ..


228
    ان المهدي حقيقة كبرى .. شمس مستورة وراء الغيوم .. سيدخل المهدي ضمير الأجيال كأمل أخضر .. وسيبقى هذا الفتى يرافق حركة الزمن الى ما شاء الله ..


229
31
    الجيوش العباسية تواصل تشديد حصارها على مدينة « المختارة » عاصمة التمرد ، وقد أدى الحصار الى نفاد المؤن داخل المدينة ، ووصلت أنباء مؤكدة تفيد بتطاحن داخلي فجره الجوع والحصار وانتشرت شائعات عن أكل المحاصرين للحوم الموتى بل وأكلهم لحوم الاطفال (206) !
    وكان التمزق يفتك بالبلاد الاسلامية التي باتت اصقاعاً موزعة على ولاة طامعين أو قادة عسكريين طموحين .. واصبح واضحاً ان الخليفة الحقيقي ليس في سامراء بل في البصرة ممثلاً بشخص اخيه « الموفق » القائد العام لجيوش الدولة .. وقد أثار هذا الوضع حنق الخليفة الذي راح يراسل حاكم مصر والشام « احمد بن طولون » الذي أسس منذ سنوات حكما مستقلاً عن الخلافة .
    وفي يوم السبت 15 جمادي الأولى 269 هـ خريف سنة 882 م قرر المعتمد مغادرة العاصمة باتجاه مصر فتوجه الى « الكحيل » بحجة القيام برحلة للصيد ، فيما أرسل احمد بن طولون


230
قوات عسكرية الى الرقة لاستقباله .
    وأُستقبل المعتمد في الأراضي التابعة لاقليم الموصل بقيادة « ابن كنداج » الذي شكك في نوايا المعتمد من هذه الرحلة فيما كان أخوه يخوض حرباً مصيرية في جنوب العراق !
    وخلال اللقاء في المخيم الذي أقيم في الفلاة قريباً من الرقة ، اعترف الخليفة بنواياه .. وقد حاول ابن كنداح ثني القادة المرافقين للمعتمد عن عزمهم في اللجوء الى مصر واكد لهم انهم سيصبحون العوبة في يد ابن طولون لتحقيق المزيد من أطماعه التوسعية .
    ولكن ذلك لم يجد شيئاً مما دفع بابن كنداج الى ترتيب خطة ذكية والقاء القبض على جميع القادة وإعادتهم مع الخليفة الى سامراء .
    وعندما وصلت الانباء الى الموفق أمر بفرض الاقامة الجبرية على أخيه الخليفة ، وأصدر مرسوماً يقضي بتنصيب ابن كنداج أميراً على مصر فرد احمد ابن طولون باعلانه خلع الموفق من ولاية العهد .. وفي مطلع صيف سنة 882 بدأت عمليات العبور الى الجانب الغربي من دجلة لاقتحام عاصمة التمرد الذي استمر خمسة عشر سنة .
    وفي بغداد وفيما كان الأهالي مستائين من مظاهر ركوب النصارى للدواب الفارهة وتجولهم في شوارع المدينة .. دخلت أول