231
وجبة من أسرى التمرد الزنجي تضم أفراداً من أسرة قائد التمرد ..
    وفي صفوف الشيعة الذين باتوا يشكلون نسبة كبيرة من سكان بغداد بدأ همس يدور حول توقيع صدر من الامام المهدي يذم فيه « أحمد بن هلال العبرتائي » ويصفه بـ « الصوفي المتصنع » (207) فكيف يمكن لعن رجل عابد زاهد حج بيت الله أربعاً وخمسين مرة عشرون منها مشياً على الاقدام ؟!
    وبالرغم من وفاته قبل عام إلاّ أن هذه المسألة ظلت محوراً لجدل عقيم فكتب الشيعة مليئة برواياته .. لقد كان رجلاً مؤمناً صالحاً ، فما الذي حصل يا ترى ؟!
    هل كان يتمنى أن يكون السفير بعد عثمان بن سعيد ، وعندما لم يتحقق ذلك أنكر سفارة محمد بن عثمان ؟!
    وهل كان الجنوح الى عالم التصوف الذي يعج بالأوهام ضخم وجوده فلم يعد يرى من حوله ؟!
    ان هناك أسراراً في النفس الانسانية لا يسبر غورها أحد إلا الله الذي يراقب الاعماق .. أجل لا أحد يدري ، ولكن بعض الشيعة الذين لم يرق لهم ذم « العبرتائي » اجتمعوا بالوكيل « القاسم بن العلا » وطلبوا منه أن يكتب الى الامام بشأنه ولم تمض سوى أيام قلائل حتى صدر توقيع الامام المهدي جاء فيه :
    « قد كان أمرنا نفذ اليك في المتصنع ابن هلال ـ لا رحمه الله ـ بما قد علمت ، ولم يزل لا غفر الله له ذنبه ولا أقاله عثرته ـ يداخل


232
في أمرنا بلا أذن منا ولا رضى يستبد برأيه .. لا يمضي من أمرنا اياه الاّ بما يهواه ويريده أرداه الله بذلك في نار جهنم ..
    فصبرنا عليه حتى بتر الله بدعوتنا عمره وكنا قد عرّفنا خبره قوماً من موالينا في أيامه ـ لا رحمه الله ـ وأمرناهم بالقاء ذلك الى الخاص من موالينا ، ونحن نبرأ الى الله من ابن هلال ـ لا رحمه الله ـ وممن لا يبرأ منه .. » (208) .
    ولم تكد هذه الفتنة تنتهي حتى اشتعلت فتنة أخرى عندما رفض « محمد بن علي بن بلال » الاعتراف بسفارة محمد بن عثمان ، مستحوذاً على الأموال التي تجمعت لديه بوصفه أحد وكلاء الامام الحسن عليه السلام .
    وبالرغم من أن السفير قد رتب له لقاء خاصاً له مع الامام الذي أمره بتسليم الأموال الى سفيره لكنه ظل على موقفه مما استدعى محمد بن عثمان أن يزوره في منزله بعد أن تأكد لديه وجود شخصيات بارزة تؤيد ابن بلال على موقفه ..
    كان الوقت مساءً وسماء تموز تزخر بالنجوم .. وسمع ابن بلال وجلساؤه طرقات على الباب مالبث أن حضر الخادم يقول :
    ـ أبو جعفر العمري على الباب .
    شعر الحاضرون بالفزع لأن علاقات ابن بلال مع محمد بن عثمان قد توترت بشدة بسبب اصرار ابن بلال على الاحتفاظ بالأموال لديه مستغلاً عجز العمري عن استردادها لأنه لا يستطيع


233
أن رفع شكوى ضده !!
    نظر الحاضرون الى ابن بلال بدهشة عندما سمعوه يقول للخادم :
    ـ ليدخل !
    وتقدم أبو جعفر ونهض الجميع وافسح ابن بلال عن صدر المجلس ليجلس غريمه !
    وقد تعمد الحاضرون استئناف احاديثهم متظاهرين بعدم اكتراثهم به .. فالتزم الصمت المدوي منتظراً سكوتهم ..
    وما لبث الصمت أن هيمن على المكان .. ان قوة ما تدفعهم الى السكوت احتراماً لهذا القادم ..
    ترى ما الذي يريده من زيارته ؟!
    قال أبو جعفر محطماً الصمت ومفاجئاً غريمه بسؤال له وقع الصاعقة :
    ـ يا أبا طاهر ! انشدتك الله ألم يأمرك صاحب الزمان بحمل ما عندك من المال اليّ ..
    قال ابن بلال مستسلماً :
    ـ اللهم نعم .
    وفغر الحاضرون أفواههم دهشة للسؤال وللجواب :
    وكان أخوه أبو الطيب أكثرهم دهشة .. وعاد الصمت المهيب مرة أخرى يهيمن على الحاضرين ..


234
    نهض أبو جعفر منهياً اللقاء .. لقد حقق هدفه من الزيارة ..
    وأقام عليه الحجة .. كان ابن بلال يخطط لإدّعاء السفارة فاجهض العمري مخططه قبل أن يستفحل (209) .
    وعندما غادر السفير المنزل انبرى أبو الطيب يستجوب أخاه :
    ـ هل رأيت صاحب الزمان حقاً !
    ـ نعم !
    ـ أين ؟!
    قال أبو طاهر وهو يستعيد مشهداً توهج في ذاكرته :
    ـ اصطحبني أبو جعفر الى بعض دوره .. وهناك عندما وقفت في باحة الدار إذا بصاحب الزمان يشرف علي من السطح ويأمرني بحمل ما عندي من المال اليه !
    قال أبو الطيب وقد برقت عيناه :
    ـ ومن أين علمت انه صاحب الزمان ؟!
    قال ابن بلال بلهجة فيها احساس بالهزيمة :
    ـ شعر قلبي بالهيبة له .. وداخلني احساس بالرعب .. ما جعلني أؤمن بانه صاحب الزمان ..
    ومرة أخرى عاد الصمت وكان هناك رجل يؤيد ابن بلال في مناهضته السفير فنهض وقد غمر قلبه ايمان بان محمد بن عثمان هو سفير الامام الحق (210) .


235
32
    ومرّت عشر سنوات عصفت الأحداث خلالها بالبلاد شرقاً وغرباً .. ففي سنة 270 هـ 884 م بلغ الموفق ذروة مجده السياسي عندما قضى الى الابد على ثورة الزنوج .
    وفي نفس السنة توفى احمد بن طولون حاكم مصر المتمرد على الخلافة فتسنم الحكم بعد ابنه خمارويه ، كما توفى مؤسس الدولة العلوي في طبرستان الحسن بن زيد فيخلفه أخوه الملقب بـ « القائم بالحق » .
    وفي سنة 271 هـ 885 م انخفض منسوب المياه في نهر النيل مما هدد مصر بالقحط والمجاعة .. وتزامنت هذه الكارثة الطبيعية مع زحف الجيوش العباسية لاسترداد مصر وانهاء عصيان حاكمها الجديد .
    ولكن خمارويه جهز هو الآخر قوّاته وتقدم نحو الشام فاشتبكت الجيوش في منطقة الرملة بفلسطين في معارك ضارية انتهت بهزيمة ساحقة للجيوش العباسية وتكريس سيطرة الشام وفلسطين لخمارويه .


236
    وفي عام 272 هـ وقعت في بغداد حوادث شغب وعنف استهدفت السكان النصارى حيث هاجم الناس الدير العتيق ودمروا بعض جدرانه ، مما استدعى تدخل الشرطة بأمر من حاكم بغداد الذي أمر ايضاً باعادة بناء ما تهدم .
    وفي نفس العام تجددت المعارك مع الصفاريين لتستمر حتى سنة 274 هـ (211) .
    وخلال تلك المدة تم الاعتراف رسمياً بولاية خمارويه على مصر والشام والمناطق الحدودية المتاخمة للروم ، التي توفى امبراطورها باسيل الأول (212) .
    وشهد عام 273 هـ ثورة للزنوج في مصر تم قمعها بوحشية ، وفيما كان الاندلس يتابع انباء ثورة عارمة في مدينة طليطلة توفى العالم الفلكي عباس بن فرناس متأثراً بجراحه بعد اخفاق أول محاولة بشرية للطيران نفذت من فوق مئذنة قرطبة (213) .
    وفي نفس الوقت تعرّضت سامراء الى غارات اللصوص ، وكان الخليفة المعتمد قد غادر سامراء الى بغداد حيث حل في قصر « بوران » بنت الحسن زوجة المأمون .
    وتوترت الأجواء في بغداد سنة 275 بعد إقدام الموفق على توقيف ابنه العباس الذي سيعرف في سنة 279 بالمعتضد ... فشغب اتباعه الذين احتشدوا في باب الرصافة ..
    ولكن الموفق سارع الى لقائهم قائلاً :


237
    ـ اترونكم اشفق منّي على ابني ؟ هو ولدي واحتجت الى تقويمه ، وفي محرم سنة 276 تم تنصيب محمد بن الليث الصفار قائداً لشرطة بغداد وكتب اسمه على الاعلام (214) .
    وفي أواخر عام 277 اصيب الموفق بداء النقرس فعاد من ايران الى العراق على سرير يحمله أربعون حمالاً ووصل بغداد في مطلع صفر 278 ..
    وأصبحت بغداد مسرحاً للشائعات حول وفاته فيما كان ابنه ما يزال سجيناً ..
    كان المعتمد في المدائن مع أسرته خليفة بلا خلافة ، وبرز أبو الصقر أحد كبار القادة ففرض سيطرته على بغداد . وعندما اشتدت الشائعات حول موت الموفق اندفع اتباع ابنه الى السجن وكسروا الاقفال وأخرجوه وانطلقوا به الى منزل والده الذي دخل في غيبوبة ..
    وفي 9 صفر 278 مارس 891 م وصل المعتمد وافراد اسرته وفي طليعتهم ابنه وولي عهده « المفوض الى الله » .
    وتدهورت صحة الموفق ، وتوترت الأجواء في بغداد ثم ما لبثت الفوضى أن انفجرت فجأة وهوجمت بعض قصور القادة خاصة قصر أبي صقر ونهبت حتى اصبحت قاعاً صفصفاً !
    وكسرت أبواب السجون حتى سجن المطبق الرهيب .
    وتصدى أبو العباس بن الموفق فعين غلامه « بدر » قائداً على


238
الشرطة وفي منتصف صفر استطاع ابن الموفق اعادة الهدوء الى بغداد .
    وفي يوم الاربعاء 22 صفر اعلن عن وفاة الموفق ، وفي يوم الخميس اعلن عن بيعة أبي العباس بولاية العهد بعد المعتمد وابنه المفوض وفي يوم الجمعة سمع الناس بلقب ولي العهد الجديد « المعتضد » (215) .
    وفي 26 صفر ألقي القبض على أبي الصقر وصودرت جميع ممتلكاته وممتلكات أقاربه الذين اختفوا عن الانظار وفي يوم الثلاثاء 27 صفر أعلن عن تنصيب عبيد الله بن سليمان بن وهب رئيساً للوزراء ..
    وشم الناس عهداً يفوح برائحة الدم .. لقد بدأ عصر الارهاب من جديد ، وأن مسلسل الرعب الذي عاشته بغداد في عهد أبي العباس السفاح والمنصور سيعود في عهد أبي العباس المعتضد .
    وفي مطلع سنة 279 هـ منع منعاً باتاً جلوس أي حكواتي لسرد القصص كما منع بيع وتداول الكتب الكلامية والفلسفية (216) .
    وفي 22 محرم اعلن عن خلع ولي العهد المفوض ، واعتبار المعتضد ولي العهد الرسمي الوحيد وابلغت جميع الاقاليم الاسلامية بهذا الاجراء فاسقط المفوض عن الخطب الاسبوعية .
    وفي تشرين الثاني سنة 892 م 17 رجب 271 أقام الخليفة


239
المعتمد احتفاله الترفيهي مساءً في حدائق قصر الحسني المطلة على دجلة .. وراح يكرع كؤوس الخمر ، مع شرائح اللحم المشوي .. وفيما كانت اصوات الموسيقى والمطربين تملأ الفضاء سقط المعتمد فجأة .. وتضاربت الشائعات حول سبب الوفاة وتناقل الناس شرهة في الطعام تلك الليلة وانه مات مبطوناً فيما أكد بعضهم أنه اغتيل بوضع السم في اللحم أو في الخمر (217) !!
    وفي يوم الثلاثاء 18 رجب أعلن عن بيعة الخليفة الجديد المعتضد .. وجلس على دست الحكم وله من العمر ثلاثون سنة ..
    وبدأ عصر الأرهاب الشامل .. فالخليفة الجديد سفاك للدماء مع رغبة شديدة في تعذيب ضحاياه باساليب بشعة (218) .
    تسكن روحه حمى الشهوات شبق جنسي وميل جارف لبناء القصور الفخمة (219) .
    كان أول شيء قام به صلحه مع « خمارويه » الذي ارسل اليه عارضاً ابنته « قطر الندى » زوجة لابن الخليفة ..
    فوافق الخليفة على أن تكون زوجة له شخصياً ، وبدأ العمل في بناء قصر الثريا المنيف استعداداً لاستقبال « قطر الندى » .
    وفي عام 280 هـ القي القبض على محمد بن الحسن بن سهل شقيق بوران مالكة القصر الحسني الذي يسكنه الخليفة حالياً والذي اصبح قصر الخلافة ..
    وقد عثر في منزله على جرائد تضم اسماء أشخاص يبايعون


240
رجلاً علوياً لم يصرّح باسمه ..
    وكشفت التحقيقات عن وجود خطة لاغتيال المعتضد وقلب نظام الحكم .
    ودوهمت منازل بعض الذين وردت اسماؤهم في الجرائد وسيقوا ، جميعاً الى القصر وتعرضوا للتعذيب فاعترفوا انهم لا يعرفون الرجل العلوي وأنهم يعرفون « شميلة » فقط !
    تساءل المعتضد متوجساً وهو ينظر الى عبيد الله بن وهب .
    ـ من يكون شميلة ؟!
    أجاب رئيس الوزراء :
    ـ انه محمد بن الحسن نفسه فهو معروف بشميلة .
    أصدر المعتضد أحكام الاعدام بحقهم فاعدموا فوراً ، أما شميلة فقد ظل رهن التحقيق ، وكان المعتضد يأمل منه أن يكشف عن اسم الرجل العلوي الذي سيقود الثورة في قلب بغداد (220) !
    وفي قصر الحسني بدأت أولى حفلات التعذيب المعتضدية سبقها استجواب طويل .. حاول المعتضد اغراءه بالمال ولكن الرجل اظهر إباءً فراح يهدد بالويل والثبور .. فرد شميلة متحدياً :
    ـ لو شويتني على النار فلن تسمع مني إقراراً .. أتريدني ادلك على رجل اعتقد بإمامته وادعو الناس الى طاعته ؟!
    اشتعلت عينا الخليفة بالشرر .. وقال وهو يصرّ على أسنانه بغيظ :