311
ـ لخصلتين .. خصّها الله بهما تطوّلاً عليها وتشريفاً واكراماً لها .. إحداهما أنها ورثت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ولم يرث غيرها من ولده والأخرى إن الله تعالى أبقى نسل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم منها ولم يبقه من غيرها .. ولم يخصها بذلك إلاّ لفضل في اخلاقها عرفه من نيتها وانبهر الهروي لهذا الجواب الموجز والعميق وقال :
ـ ما رأيت أحداً تكلم وأجاب في هذا الباب بأحسن ولا أوجز (285) !!
وفي غمرة تلك الأحداث في سنة 314 هـ تسلل الشلمغاني الى بغداد وراح يمارس نشاطه التخريبي سرّا ، مستغلاً مؤلفاته وكتبه التي تملأ منازل الشيعة وهي مؤلفات حديثية تحوي نصوصاً مسندة الى ائمة أهل البيت خاصة كتاب « التكليف » الذي يعد في طليعة كتب الحديث آنذاك .
وقد أثار هذا الكتاب جدلاً في أوساط الشيعة ، فقال أحد الذين يعرفون قصة الكتاب :
ـ وأيش كان لابن أبي العزاقر (الشلمغاني) في كتاب « التكليف » ؟! انما كان يصلح الباب ويدخله الى الشيخ أبي القاسم الحسين بن روح فيعرضه ويحكمه فاذا صح الباب خرج منقوله وأمرنا بنسخه .
كما سئل الشيخ ابن روح عن كتب ابن أبي العزاقر بعدما ذُمّ
312
وخرجت فيه اللعنة :
فكيف نفعل بكتبه وبيوتنا منها ملاء ؟ فأجاب :
ـ أقول فيها ما قاله أبو محمد الحسن بن علي صلوات الله عليهما وقد سئل عن كتب بني فضال فقالوا كيف نعمل بكتبهم وبيوتنا منها ملاء ؟
فقال صلوات الله عليه : « خذوا بما رووا وذروا ما رأوا » .
وفي غمرة الاحداث كان المقتدر ما يزال يمارس تغييراته الوزارية (286) حيث عزل « الوزير الخاقاني » وأسند منصبه الى « الخصيبي » .. وكانت انباء القرامطة الشغل الشاغل لسكان بغداد خاصة في موسم الحج حيث تصبح رحلة الحج مغامرة غير محسوبة النتائج .
وفي عام 314 هـ اقصي الخصيبي عن منصبه بسبب ادمانه على الخمر واسندت الوزارة الى عيسى بن الجراح وأمر الخليفة باستجواب الوزير السابق فاحضر من سجنه وبدأ ابن الجراح باستجواب الوزير السابق في حضور جمع من الفقهاء والقضاة .
ودار الحديث حول حجم ايرادات الدولة من ريع الاراضي الزراعية والمصادرات فكان جواب الخصيبي :
ـ لا أعلم !
ـ فالواصل الى المخزن ؟
ـ لا اعرفه !
313
ـ لم وجهت بابن أبي الساج ليقاتل القرامطة في المناطق الحارة وأنت تعرف أن جنوده قد ألفوا القتال في البلاد الباردة الكثيرة المياه .. وأنهم لا يحتملون القتال في البراري القفراء .. كما أنك لم توفر لهم نفقات كافية ؟
ـ ظننت أنه يقدر على قتال القرامطة ، ولم يكن هناك ما يمكن إنفاقه عليهم !
ـ كيف استجزت في الدين والمروءة ضرب نساء المصادرين وتسليمهن الى حرسك كامرأة ابن الفرات وغيرها فإن كانوا فعلوا ما لا يجوز الست أنت السبب في ذلك ؟!
ـ ...
ـ اسألك عن المحصول وايراداته هذا العام ؟
ـ ...
قال ابن الجراح بعد صمت :
ـ لقد خدعت نفسك وخدعت أمير المؤمنين .. ألا قلت إنني لا أصلح للوزارة فقد كان الفرس اذا ارادوا أن يستوزروا وزيراً نظروا في تصرّفه لنفسه فإن وجدوه حازماً ضابطاً ولّوه ، وإلاّ قالوا من لا يحسن يدبر نفسه فهو عن غير ذلك اعجز .
وانتهى الاستجواب دون الوصول الى ادانة أو إعلان حكم واعيد الى حبسه .
وفي نفس العام استولى السامانيون على اقليم الري فيما
314
اجتاحت قوات من الروم مدينة ملطية يعاونهم مليح الأرمني ودارت معارك ضارية استطاع الاهالي فيها رد المعتدين واطلقوا صيحة استغاثة الى بغداد ولكن أحداً لم يكترث لهم (287) .
لقد كانت بغداد تتابع بقلق تحركات القرامطة الذين يثيرون الرعب في كل مكان ..
فقد فر أهل مكة الى الطائف عندما سمعوا بزحف « أبي طاهر القرمطي » اليها ولكن سرعان ما وصلت الاخبار أنه في طريقه الى العراق .. وان هدفه الاول سيكون الكوفة ..
كتب الخليفة الى يوسف بن أبي الساج الذي يرابط في مدينة واسط أن يتحرك بسرعة صوب الكوفة .. وأخبره بان اطنانا من المؤن بما في ذلك القمح والشعير بانتظاره .
ويشاء القدر أن تسقط هذه المؤن بيد أبي طاهر وعندما وصل الجيش العباسي في الثامن من شوال وجد الطريق الى الكوفة قد سقط بايدي القرامطة .
كان الجيش العباسي يفوق قوات القرامطة اضعافاً مضاعفة ، ولذا شعر ابن ابي الساج بالغرور وأمر باعداد كتاب الفتح قبل أن تبدأ العمليات الحربية ؟
ونشبت المعركة في ضحى يوم السبت 9 شوال واستمرت حتى الغروب ، وقاد أبو طاهر هجوماً مدمراً حطم فيه خطوط الجيش العباسي الذي انهار فجأة ، ووقع يوسف في أسر القرامطة
315
ووكل أبو طاهر طبيباً يعالج جراحه .
وصلت فلول المنهزمين بغداد حفاة عراة وكان لمنظرهم المأساوي الأثر الرهيب في بث الرعب في المدينة واصدر « نازك » قائد الشرطة العام امراً بمنع التجول ليلاً ونفذ الاعدام بالمتخلفين .
وبدأ سكان بغداد يعدون العدة للفرار من المدينة الى همدان في ايران ، فيما وصلت انباء مؤكدة ان القرامطة في طريقهم الى الانبار .
استدعى الخليفة القائد العسكري مؤنس المظفر لمواجهة القرامطة ، فحرك خمسمئة زورق مشحون بالجنود لصد القرامطة اذا حاولوا عبور نهر الفرات .
حرك القائد قطعات من قواته الى الانبار لتعزيز دفاعات المدينة التي قام أهلها بقطع الجسر .
وعسكر القرامطة في الجانب الغربي من النهر ، وفي عملية سريعة قام القرامطة بالافادة من السفن الموجودة في مدينة « حديثة » التي سقطت في ايديهم فعبر ثلاثمئة محارب الى الانبار وسرعان ما فر جنود الخليفة ، فعقد الجسر مرة أخرى وعبرت قوات القرامطة لتدخل الانبار دخول الفاتحين .
وفي غمرة الرعب الذي عم بغداد القي القبض على رجل قرمطي اتهم بمراسلته لأبي طاهر وتسريبه أخبار ومعلومات هامة وسيق الرجل الى قصر رئاسة الوزراء حيث تم استجوابه .
316
ـ هل تقرّ بذلك ؟
ـ نعم !
لماذا ؟
ـ لأنني أرى أبا طاهر على الحق ، وأنت وخليفتك كفار تأخذون ماليس لكم ..
وسكت لحظات ليقول :
ـ ولا بد لله من حجة في أرضه .. وإمامنا المهدي محمد بن أحمد بن عبد الله بن محمد بن اسماعيل بن جعفر الصادق المقيم ببلاد المغرب !!
اننا لسنا كالرافضة ولا الاثني عشرية الذين يقولون بجهلهم إن لهم اماماً ينتظرونه ويكذب بعضهم لبعض .. فيقول رأيته وسمعته وهو يقرأ .. ولا ينكرون بجهلهم وغباوتهم أنه لا يجوز أن يعطى من العمر ما يظنونه ..
سكت رئيس الوزراء ثم قال :
ـ أنت تعرف أشياء كثيرة عن عسكرنا فمن فيهم على مذهبك .
نظر الرجل وافتر عن ابتسامة ساخرة وقال :
ـ انت بهذا العقل تدير الوزارة .. كيف تظنني أسلم قوماً مؤمنين الى قوم كافرين يقتلونهم ؟ لن أفعل ذلك !!
شعر رئيس الوزراء بالغيظ لهذه الاهانة واصدر أوامر بتعذيبه
317
وعدم تقديم الطعام والشراب اليه فظل ثلاثة أيام ثم مات (288) .
آه ياصاحب الزمان ! يظنك الناس اسطورة وهماً وخيالاً والمؤمنين بك اغبياء وجهال !!
يالمحنتك يا سيدي يالشقاء أمة لا تعرفك واللعنة على أولئك الذين يسرقون اسمك ثم يعيثون في الأرض الفساد ..
اللعنة على القرامطة وعلى دجلهم وهم يبايعون مهدياً زائفاً لا يهدي الى الحق ..
أما أنت يا سيدي فما تزال شمسك وراء السحب (289) .. تبعث دفئك رغم رياح الزمهرير .. وترسل بصيصاً من النور حتى لا تغرق الأرض في بحار الظلمات .. ولتقبى يا سيدي حلماً أخضر يراود خيال المقهورين .
318
43
عادت الحياة الطبيعية الى بغداد بعد أنباء مؤكدة عن انسحاب القرامطة من مدينة « هيت » وأعرب الخليفة المقتدر عن سخطه من الجيش الذي بلغت حشوده أثناء الأزمة أكثر من ثمانين ألف جندي في عجزه أمام تقدم قوات القرامطة التي لم تبلغ الثلاثة آلاف محارب فقط !!
واستيقظت بغداد مذعورة في إحدى الليالي على حرائق في « الرصافة » و « مربعة الخرسي » ..
كما شغب الفرسان بسبب تأخر مرتباتهم واقتحموا قصر الثريا وذبحوا ما فيه من حيوانات الغابة .
واسندت قيادة الجيش الى ابن خال الخليفة « هارون بن غريب » بعد وفاة نصر الحاجب كما القي القبض على الوزير علي بن عيسى ليسند منصبه الى أبي علي المعروف بـ « ابن مقلة » .
وفي مطلع عام 316 فوجئت الكوفة باندلاع حركة مؤيدة للقرامطة بقيادة رجل اسمه عيسى بن موسى وأعلنوا بيعتهم للمهدي الذي يحكم الشمال الافريقي وتأييدهم لأبي طاهر الذي
319
أعلن هو الآخر تحالفه مع « المهدي » .
وظهرت أعلامهم بيضاء كتبت عليها الآية الكريمة : ( ونريد أن نمنّ على الذين استضعفوا في الأرض ونجعلهم أئمة ونجعلهم الوارثين ) (290) .
وفي بغداد وقعت اشتباكات بين قوّات من الجيش ورجال الشرطة بسبب له دلالات أخلاقية مؤسفة ! .
فقد بدأت الأزمة بعد أن اشتبك ساسة خيل هارون بن غريب مع ساسة « نازك » قائد الشرطة حول غلام أمرد وتضاربوا بالعصي !
فقام نازك باعتقال ساسة خيل هارون الذي أرسل قوة من جنوده لاقتحام السجن واطلاق سراح المعتقلين ، ووقف الخليفة موقف المتفرج ، الى أن انفجر الوضع باشتباكات واسعة سقط فيها الكثير من القتلى والجرحى .
وعمت الشائعات حول تعيين هارون بن غريب حاكماً عسكرياً فاستفز ذلك القائد مؤنس الذي دفع بقواته الى بغداد ليرابط في الشماسية ، وفسر موقفه كتحدٍَ للخليفة والتحاق نازك به مع مجاميع من رجاله وقدوم ابي الهيجاء من الموصل وما زاد الأوضاع سوء تنامي الاستياء الشعبي من سياسة المقتدر الذي كان مع أمه وخدمه وحشمه يتلاعبون بمقدرات البلاد ، ولذا بدأت ظاهرة تسلل رهيبة تعم الجنود الذين راحوا يتدفقون على معسكر « مؤنس » الذي سطر رسالة ضمنها استنكار الجيش لسياسة الخليفة
320
المالية وتدخل النساء والخدم في أمور الدولة وتلاعبهم بمقدرات البلاد ، كما طالب بابعاد هارون بن غريب عن بغداد .
واستجاب الخليفة ووعدهم بأنه سيفعل كل ما في وسعه وسطر رسالة ضمنها توسلاته وابقائه في منصبه .
وبدا أن الأزمة سوف تنفرج خاصة بعد مغادرة هارون بن غريب بغداد في 9 محرم 317 هـ واسناد قيادة الجيش الى ابن ياقوت .
وعندما دخل مؤنس بغداد بصحبة قائد الشرطة نازك وأبي الهيجاء بن حمدان وجدوا أن الشائعات قد عمت بغداد في نية هؤلاء بخلع الخليفة المقتدر من الخلافة .. فتشاوروا وقرروا الزحف نحو قصر الخلافة الذي سقط دون مقاومة تذكر وفر قائد الجيش إبن ياقوت وابن مقلة رئيس الوزراء .
وتم اعتقال الخليفة ووالدته شغب وخالته ومحظياته وأولاده ونقلوا الى قصر « مؤنس » .
كان هارون بن غريب في قطربل في نواحي بغداد عندما سمع بالانباء المثيرة فقرر العودة الى بغداد والاختفاء فيها .
ودمعت عينا الخليفة وهو يستمع الى وثيقة التنازل قبل أن يوقع عليها وتودع لدى القاضي أبي عمر .
وفي نفس اليوم تمت تسمية أخيه من أم أخرى خليفة ومنح لقب « القاهر » الذي بدأ حكمه باطلاق الوزير السابق من