عندما استكمل ستمئة سوط :
ـ دعني إليك فإن لك عندي نصيحة تعدل فتح قسطنطينية الروم ..
قال الجلاد وهو يتذكر ما قاله حامد الوزير :
ـ قد قيل لي إنك تقول هذا الكلام واكثر منه .. وليس الى رفع السياط عنك من سبيل ..
وعندما استكمل ضربه ألف سوط بدأ بقطع يديه ثم رجليه .
وسمع الحلاج يشدو بشعر يتضمن اعترافه :
طلبت المستقرّ بكل أرضأطعت مطامعي فاستعبدتني
فلم أر لي بأرض مستقرّاولو أني قنعت لكنت حرّا (273)
وأنهى الجلاد حياة الحلاج باحتزاز رأسه وصلبه على الجسر فيما قام باحراق جثته .. وعندما استحالت الى رماد ذره في دجلة ..
وخرجت اخته مكشوفة الرأس باتجاه الصليب ، فقيل لها استري وجهك عن الرجال فصاحت :
ـ كيف ... ولا أرى إلاّ نصف رجل على الصليب ؟!
وانتهت قصة الحلاج بعد أن خلف في نفوس من يعتقد به بعض الحكايات فقد عزا البعض ارتفاع منسوب المياه في دجلة ذلك العام الى بركة الرماد الذي ألقي فيه .. وان الحلاّج سوف يعود اليهم بعد أربعين يوماً .. بل أنه لم يقتل وان الله القى شبهه على عدو له فقُتل !!
302
ولم تكد فتنة الحلاج تنتهي حتى بدأت فتنة كان بطلها هذه المرة « الشلمغاني » محمد بن علي .. ستثير هذه الفتنة أوساط الشيعة قبل أن يستفحل خطرها وتتدخل الدولة فمن هو الشلمغاني :
نشأ في قرية شلمغان في ضواحي مدينة واسط العراقية وكان من المحدثين وله مؤلفات في ذلك .. وتألق نجمه عندما وثقه الشيخ الحسين بن روح لبني بسطام ، وقد استغل هذه التزكية فراح يبث سمومه وانحرافاته العقائدية ، وما ساعده على ذلك إن الظروف السياسية كانت ضد السفير الحسين بن روح الذي اختفى عن الانظار ، وكانت بغداد في تلك الفترة مسرحاً للمؤامرات والدسائس .
أعلن الشلمغاني في أوساط الشيعة أنه وكيل الامام المهدي وانتبه السفير الى تحركات الشلمغاني المشبوهة وبدأ تحذيراته من هذا المنحرف الذي استطاع ان يكسب الى جانبه كثيراً من المؤيدين !
واستفاد الشلمغاني من وزارة « علي بن الفرات » الثالثة ، فابن فرات هذا ينتمي الى الفرقة النصيرية (274) المنحرفة عن الاسلام اما ابنه فيعد من اكثر الدمويين قسوة ووحشية ..
وفي هذه الفترة القي القبض على السفير الحسين بن روح وزج به الى السجن ، وقد أثار هذا الاجراء استياءً شعبياً .
وبلغ الشلمغاني ذروة نفوذه في هذه الفترة خاصة بعد توطد
303
علاقته مع « المحسّن » ابن الوزير الوقح السيء الأدب فكانت هذه الفترة الوزارية من أسوأ الوزارات في خلافة المقتدر (275) .
وأعلن الشلمغاني ان اللاهوت قد حل فيه .. واتصل « أبو علي بن همام » أحد زعماء الشيعة بالسفير وهو في سجنه وأطلعه على بعض أفكار الشلمغاني الخطيرة .. فأعلن الحسين بن روح لعنه والبراءة منه .. ولكن الشلمغاني كان ذكياً فراح يبرر هذا اللعن بضده (276) !
وفي سنة أواخر 312 هـ صدر توقيع خطير من الامام المهدي سلمه الحسين بن روح وهو في سجنه الى أبي علي بن همام وطلب منه تعميمه على عموم الشيعة جاء فيه :
ـ « عرّف أطال الله بقاءك وعرّفك الخير وختم به عملك من تثق بدينه وتسكن الى نيته من إخواننا ـ أدام الله سعادتهم ـ بأن محمد بن علي المعروف بالشلمغاني عجل الله له النقمة ولا أمهله ـ قد ارتد عن الاسلام وفارقه ، وألحد في دين الله ، وادعى ما كفر معه بالخالق ـ جلّ وتعالى ـ وافترى كذباً وزوراً ، وقال بهتاناً واثماً عظيماً .
كذب العادلون بالله وضلوا ضلالاً بعيداً وخسروا خسراناً مبينا .
وإنا برئنا الى الله تعالى والى رسوله وآله ـ صلوات الله وسلامه ورحمته وبركاته عليهم ـ منه ولعناه .. عليه لعائن الله تترى في الظاهر منا والباطن والسر والعلن ، ومن بلغه هذا القول منا
304
فأقام على توليه بعده وأعلمهم ـ تولاك الله ـ أننا في التوقي منه على مثل ما كنا عليه ممن تقدمه من الشريعي والنميري والهلالي والبلالي وغيرهم .
وعادة الله ـ جل ثناؤه ـ مع ذلك قبله وبعده ـ عندنا جميلة وبه نثق ، واياه نستعين ،
وهو حسبنا في كل أمورنا ونعم الوكيل » (277) .
ويشاء القدر أن يقع حادث غريب يكون سبباً في انفراج الأزمة واطلاق الحسين بن روح من السجن وفرار الشلمغاني .
ففيما كان الجراد يهاجم المحاصيل الزراعية .. ألقي القبض على رجل ايراني في قصر الخليفة المعروف بقصر التاج .. يرتدي ثياباً فاخرة فوق قميص صوفي ، ومعه أدوات عديدة مقدحة ، كبريت ، محبرة ، ومجموعة أقلام ، سكين ، كاغد سكر وحبل طويل من قنب وكشف التحقيق انه ربما تسلل الى القصر مع الصناع واختفى في حدائق القصر ، وانه شعر بالعطش فخرج يبحث عن الماء فألقي القبض عليه !!
وسيق الرجل مخفوراً الى رئيس الوزراء ابن فرات الذي سأله عن هويته وماذا يفعل داخل القصر ؟ فالتزم الصمت وقال انه لن يتكلم إلاّ أمام صاحب الدار يعني الخليفة .. فتعرض للضرب فصاح : بسم الله بدأتم بالشر ..
وهتف بالفارسية :
305
ـ ندانم (278) !
وراح يرددها طوال الوقت ، فأمر رئيس الوزراء بإحراقه !؟
وانطلق الى الخليفة متهماً « نصر الحاجب » بانه وراء ادخال هذا الرجل وأنه ينوي اغتيال المقتدر .. ولكن نصر الحاجب انتفض وقال بغيظ :
ـ لماذا أغتال أمير المؤمنين ؟ وقد رفعني من الثرى الى الثريا انما يسعى في قتله من صودرت أمواله وحبس سنيناً .
وقد تركت كلمات نصر الحاجب صدى تعدى أسوار القصر ليصبح ضمن الشائعات المضادة لرئيس الوزراء وابنه السيء الصيت .. الذي ما انفك يصادر الأموال ويعذب الناس بأقسى اساليب التعذيب .. وقد أدى ذلك الى انفجار شعبي ضده .. مما دفع بابن الفرات الى ان يكتب رسالة الى الخليفة مبرراً ذلك بانه يدفع ثمن اخلاصه للخليفة !
فسطر الخليفة جواباً يطمئنه وأراد ابن الفرات تعزيز موقعه مع ابنه فقام بزيارة للخليفة في قصره فاستقبلهما ، ولكن نصر الحاجب منعهما من مغادرة القصر والقي القبض عليهما ، غير أن الخليفة سرعان ما أمر باطلاق سراحهما ..
وهنا قرر الابن أن يختفي عن الانظار أما الأب فمضى الى قصره وانهمك في عمله الاداري حتى المساء وكانت آلاف الهواجس تتناهب ذهنه المشتت .. وتذكر حادثة وقعت قبل اسابيع
306
عندما مرّ موكبه ذات يوم وسمع امرأة مظلومة تناديه :
ـ أسألك بالله أن تسمع مني كلمة ..
وعندما توقف لها قالت :
ـ قد كتبت اليك في ظلامتي غير مرة ولم تجبني .. وقد تركتك وكتبتها الى الله تعالى .
كانت المرأة احدى ضحايا هذه الحقبة الوزارية السوداء ، ولكن ابن الفرات الذي مات وجدانه لم يعبأ بشكوى المرأة ولم تهز ضميره الميت كلمة الله ..
لقد أدرك بعد فوات الأوان أن الله قد استجاب لهذه المظلومة فتمتم أمام موظفيه :
ـ ما أظن إلاّ ان جواب رقعة تلك المرأة المظلومة قد خرج (279) !
وفي صباح اليوم التالي 8 ربيع الاول حضر نازك قائد الشرطة ومعه مجموعة من الجنود فدخلوا على ابن الفرات وهو عند الحريم ، واخرج حافيا مكشوف الرأس وسيق الى شاطىء دجلة وهناك وجد « مؤنس » الخادم الذي لقب بالمظفر فادرك إنها النهاية ... قال القائد العسكري بغيظ بعدما سمع توسلات ابن الفرات :
ـ تخاطبني الآن بالاستاذ ، وكنت بالامس الخائن الساعي في فساد الدولة واخرجتني من بغداد مع جنودي تحت المطر ولم تمهلني ؟!
307
وقبيل الظهر من نفس اليوم القي القبض على جميع اصدقاء رئيس الوزراء وابنائه باستثناء المحسن الذي اختبأ في منزل حماته ..
فكان يرتدي زي امرأة فتأخذه كل يوم الى المقابر وتعود به في المساء !
308
42
لم يطلق سراح ابن روح من السجن فحسب بل اصبح من الشخصيات التي نالت احترام الخليفة وجهاز حكمه ، فهناك كثير من الأمور التي تجعل من جبهة الحكم في خندق واحد مع شيعة أهل البيت عليهم السلام فالقرامطة عدو مشترك وكذلك الغلاة من الشيعة ، وموقف ابن روح المتزن من النعرة الطائفية التي بدأ الحنابلة بتأجيج نارها .
وتناقل بعض الناس قصة البواب الذي صرفه ابن روح عن الخدمة بسبب شتمه لمعاوية ولم تنفع توسلاته ولا وساطات الآخرين في اعادته الى عمله (280) ! انه لا يريد للطائفية أن تفرق بين ابناء الدين الواحد !
ورأى ان منهج التقية المكثف (281) وتظاهره بالتزام المذهب السني سوف يجنب بغداد حرباً أهلية لا مناص من وقوعها في أية لحظة ، ولا شك ان ذلك كان بتوجيه من الامام المهدي الذي يضطلع بمهمة السفارة لديه (282) .
ولذا كان من أعقل الناس لدى جميع الطوائف والفرق
309
الاسلامية (283) .. وكان يحضر في المجالس العامة .
وذات يوم حدث جدل بين اثنين قال أحدهما :
ـ ان ابا بكر هو افضل الناس بعد رسول الله ثم عمر ثم علي .
ورد الآخر :
ـ بل علي أفضل من عمر .
واحتدم الجدل فقال ابن روح :
الذي اجتمعت الصحابة عليه هو تقديم الصديق ثم بعده الفاروق ثم بعده عثمان ذو النورين ثم علي الوصي .. واصحاب الحديث على ذلك ، وهو الصحيح عندنا ..
وفغر الجميع أفواههم لهذه التصريحات التي ينطق بها رجل متهم بالرفض !!
واجتاحت رجل شيعي كان حاضراً رغبة عارمة في الضحك ، وبذل جهداً جباراً للسيطرة على نفسه .. ووضع كمه على فمه .. ولكن دون جدوى وحتى لا تحصل فضيحة نهض الرجل وكان اسمه « ابو عبد الله بن غالب » وغادر المجلس على وجه السرعة متجهاً صوب منزله .. غارقاً في دوامة ما سمعه اليوم من سفير الامام المهدي !
وقبيل الظهر طرق باب المنزل وعندما فتح الباب وجد ابن روح على بغلته يقول له :
ـ يا أبا عبد الله أيدك الله لم ضحكت ؟ فأردت أن تهتف بي كأن
310
الذي قلته عندك ليس بحق ؟!
قال أبو عبد الله دون تردد :
ـ كذلك هو عندك !
فقال ابن روح يهدد بقطع علاقته معه :
ـ اتق الله ايها الشيخ .. فاني لا أجعلك في حل .. تستعظم هذا القول مني !
رد ابن غالب بدهشة :
ـ وكيف لا ؟! يا سيدي رجل يرى بانه صاحب الامام ووكيله يقول ذلك القول ولا يتعجب منه ، ولا يضحك من قوله ؟!
أجاب إبن روح وهو يحسم الموقف :
ـ وحياتك لئن عدت لاهجرنّك .
ثم ودع الرجل المندهش ومضى الى منزله (284) .
ويسأله المحدث بديل الهروي ليدور معه هذا الحوار :
ـ كم بنات رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ؟
ـ أربع :
فأيهنّ أفضل ؟
ـ فاطمة .
ـ ولم صارت أفضل وكانت أصغرهن سناً وأقلهن صحبة لرسول الله ؟!