مقدمة المركز
حاول علماء التربية قديماً وحديثاً أن يهتدوا إلى منهجٍ تربويّ شامل
يُعنى بتحديد الاَساليب والقيم والمعايير الكفيلة بدراسة ما يناسب مرحلة
الطفولة والصبا. وقد بذلوا في هذا الصدد جهوداً كبيرة وشاقة ومتواصلة
حتى استطاعوا التوصل إلى نظرات ومقترحات وتوصيات تُعدُّ ـ من وجهة
علمية ـ قيّمة ونافعة ، إلاّ أنهم لم يتمكنوا ـ مع ذلك ـ من تحديد المنهج
الدقيق الذي يمكن الاستناد إليه في معالجة المشاكل المعقدة ، التي تكتنف
تلك المرحلة الحساسة من عمر الاِنسان ، كما أخفقوا في حلِّ الصعوبات
المتزايدة يوماً بعد آخر التي تواجه الآباء والاُمهات والمربين في هذا
المجال.
ولعل من المؤسف حقاً أنّ تتوجه أنظار كثير من المسلمين ـ وخاصةً
العاملين منهم في حقل التربية ـ إلى مدارس الغرب التربوية ليتلقوا عنهم
مناهجهم التربوية ، وأن يفوتهم أنّ في الشريعة الاِسلامية العلاج الناجع
لجميع ما استُعصي عليهم حلُّه ، وأنَّ في سيرة الرسول الاَعظم صلى الله عليه وآله وسلم وفي سيرة
أهل بيته الطاهرين عليهم السلام معيناً لا ينضب من الوصايا والاِرشادات ، والتعاليم
والتوجيهات التي لو استخدمت في الحقل التربوي ، ووظّفت في مجالاته
المتعددة ، لكانت كفيلة بترسيخ أروع القيم والمثل العليا في نفس الطفل ،
ولاَقامتَه بناء سليماً معافىً ، ولجعلت منه شخصية سويّة قادرة على القيام
بدورها ـ كما ينبغي ـ في بناء المجتمع.
(6)
إنَّ المنهج الاِسلامي الذي يمكن تحديد معالمه وقواعده بالاستناد إلى
القرآن الكريم والسُنّة النبوية المطهرة وما أُثر عن الاَئمة المعصومين عليهم السلام
يهدف إلى تحقيق تربيةٍ متزنة للطفل تبدأ من قبل أن ينعقد جنيناً في رحم
الاَُم وتستمر معه إلى أن يشبَّ عن الطوق ، مروراً بمرحلة الحمل ، والولادة
والرضاعة ، والطفولة المبكرة.
والكتاب الذي بين يديك ـ أيُّها القارىء العزيز ـ استطاع أن يحدد
ملامح المنهج التربوي الاِسلامي الذي يُعنى بكيفية إعداد الطفل نفسياً
وعقلياً وسلوكياً ، مستنداً ـ في ذلك ـ إلى آيات القرآن الكريم ، وإلى
المأثور عن الرسول الاَعظم نبينا محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، وعن أهل البيت الطاهرين عليهم السلام.
مستفيداً أيضاً من الدراسات العلمية الحديثة في هذا الاِطار.
ويسرّ مركزنا أن يقدّم هذه الدراسة الممتعة والنافعة إسهاماً منه في خدمة
الآباء والاَُمهات والمشتغلين في أُمور تربية الطفل ، وذلك بتيسير أوضح
السبل وأكثرها دقة وأماناً في تنشئة الطفل نشأة قويمة صالحة ؛ لكي يؤدي
دوره المنشود.
الاسرة هي المؤسسة الاولى والاساسية من بين المؤسسات
الاجتماعية المتعددة المسؤولة عن إعداد الطفل للدخول في الحياة
الاجتماعية ، ليكون عنصراً صالحاً فعّالاً في إدامتها على أساس الصلاح
والخير والبناء الفعّال. والاسرة نقطة البدء التي تزاول انشاء وتنشئة العنصر
الاِنساني ، فهي نقطة البدء المؤثرة في كلِّ مراحل الحياة ايجاباً وسلباً ،
ولهذا أبدى الاِسلام عناية خاصة بالاسرة منسجمة مع الدور المكلفة
بأدائه ، فوضع القواعد الاساسية في تنظيمها وضبط شؤونها ، وتوزيع
الاختصاصات ، وتحديد الواجبات المسؤولة عن أدائها ، وخصوصاً تربية
الطفل تربية صالحة وتربية سليمة متوازنة في جميع جوانب الشخصية
الفكرية والعاطفية والسلوكية. ودعى الاسلام إلى المحافظة على كيان
الاسرة وإبعاد أعضائها من عناصر التهديم والتدمير ومن كلِّ ما يؤدي إلى
خلق البلبلة والاضطراب في العلاقات التي تؤدي إلى ضياع الاطفال
بتفتيت الكيان الذي يحميهم ويعدّهم للمستقبل الذي ينتظرهم. وجاءت
تعليمات الاِسلام وإرشاداته لتخلق المحيط الصالح لنمو الطفل جسدياً
وفكرياً وعاطفياً وسلوكياً ، نموّاً سليماً يطيق من خلاله الطفل أو إنسان
المستقبل مقاومة تقلبات الحياة والنهوض بأعبائها ، ولهذا ابتدأ المنهج
الاسلامي مع الطفل منذ المراحل الاولى للعلاقة الزوجية مروراً بالولادة
والحضانة ومرحلة ما قبل البلوغ وانتهاءً بالاستقلالية الكاملة بعد الاعتماد
(8)
على النفس.
ونوزع البحث هنا على فصول : نتناول في الفصل الاَول : المنهج
التربوي العام في العلاقات الاَُسرية ، ثم نعرض في الفصل الثاني : (مرحلة
ما قبل الاقتران ومرحلة الحمل) ، ونتناول في الفصل الثالث : (مرحلة ما
بعد الولادة مرحلة الرضاعة) ، ثم نعرض في الفصل الرابع ما يتعلق
بمرحلة الطفولة المبكرة ، وأخيراً نتناول في الفصل الخامس : المرحلة
الاخيرة (مرحلة الصبا والفتوة) ، وسنقوم بالافادة من الآيات والروايات
خاصة الواردة عن أهل البيت عليهم السلام ، مستفيدين من المعطيات العلمية
الحديثة.
العلاقات الاَُسرية لها دورٌ كبير في توثيق بناء الاسرة وتقوية التماسك
بين أعضائها ولها تأثيراتها على نمو الطفل وتربيته ، وايصاله إلى مرحلة
التكامل والاستقلال.
والاَجواء الفكرية والنفسية والعاطفية التي تخلقها الاَُسرة للطفل
تمنحه القدرة على التكيّف الجدّي مع نفسه ومع اسرته ومع المجتمع ،
ومن هذا المنطلق فان الاسرة بحاجة إلى منهج تربوي ينظم مسيرتها ،
فيوزع الادوار والواجبات ويحدّد الاختصاصات للمحافظة على تماسكها
المؤثر في انطلاقة الطفل التربوية.
وتتحدد معالم المنهج التربوي بما يلي :
أولاً : الاتفاق على منهج مشترك
للمنهج المتبنّى في الحياة تأثير على السلوك ، فهو الذي يجعل الايمان
والشعور الباطني به حركة سلوكية في الواقع ويحوّل هذه الحركة إلى عادة
ثابتة ، فتبقى فيه الحركة السلوكية متفاعلة مع ما يُحدد لها من تعاليم
(10)
وبرامج ، ووحدة المنهج تؤدي إلى وحدة السلوك ، فالمنهج الواحد هو
المعيار والميزان الذي يوزن فيه السلوك من حيثُ الابتعاد أو الاقتراب من
التعاليم والبرامج الموضوعة ، فيجب على الوالدين الاتفاق على منهج
واحد مشترك يحدّد لهما العلاقات والادوار والواجبات في مختلف
الجوانب ، والمنهج الاسلامي بقواعده الثابتة من أفضل المناهج التي
يجب تبنيها في الاسرة المسلمة ، فهو منهج ربانّي موضوع من قبل الله
تعالى المهيمن على الحياة بأسرها والمحيط بكل دقائق الامور وتعقيدات
الحياة ، وهو منهج منسجم مع الفطرة الاِنسانية لا لبس فيه ولا غموض ولا
تعقيد ولا تكليف بما لا يُطاق ، وهو موضع قبول من الاِنسان المسلم
والاَُسرة المسلمة ، فجميع التوجيهات والقواعد السلوكية تستمد قوتها
وفاعليتها من الله تعالى ، وهذه الخاصية تدفع الاسرة إلى الاقتناع باتباع
هذا المنهج وتقرير مبادئه في داخلها ، فلا مجال للنقاش في خطئه أو
محدوديته أو عدم القدرة على تنفيذه ، فهو الكفيل بتحقيق السعادة
الاُسرية التي تساعد على تربية الطفل تربية صالحة وسليمة ، وإذا حدث
خلل في العلاقات أو تقصير في أداء بعض الادوار ، فان تعاليم المنهج
الاسلامي تتدخل لانهائه وتجاوزه.
والمنهج الاسلامي وضع قواعد كلية في التعامل والعلاقات والادوار
والسلوك ، امّا القواعد الفرعية أو تفاصيل القواعد الكلية ومصاديقها فانها
تتغير بتغير الظروف والعصور ، فيجب على الوالدين الاتفاق على تفاصيل
التطبيق ، وعلى قواعد ومعايير ثابتة ومقبولة من كليهما ، سواءً في
العلاقات القائمة بينهما أو علاقاتهما مع الاطفال والاسلوب التربوي الذي
يجب اتّباعه معهم ؛ لانّ الاختلاف في طرق التعامل وفي اسلوب