الحياء ، أعني انحصار النفس حال ارتكابها القبيح خوفاً عن المذمّة.
والرفق ، أي حسن انقياد النفس لفعل الجميل تبرّعاً.
وحسن الهدي ، أي صدق الرغبة في التحلّي بالكمالات.
والمسالمة ، أي التسليم حالة المناعة مع القدرة من دون اضطراب.
والدعة ، أي تملّك زمام النفس حين تحرّك الشهوة.
والصبر ، أي إجبار النفس على ترك القبيح مع الرغبة والقدرة.
والقناعة ، أي الاكتفاء بالكفاف في المآكل وغيرها.
والوقار ، أي طمأنينة النفس سحال التوجّه إلى الفعل.
والورع ، أي ملازمة الأفعال الجميلة حتّى لايعتريه قصور.
والانتظام ، أي ملكة ترتيب الأمور على وفق المصلحة.
والحرّية ، أي قوّة للنفس بها تكتسب الأموال من وجهها وتعطي من وجهها وتمتنع من اكتسابها على غير وجهها ، وهذا هو الشائع في كلام القوم ، ولها إطلاق آخر على معنى أعم أعني استخلاص النفس عن أسر العبوديّة للقوّة الشهويّة.
والسخاء ، أي سهولة الإنفاق على أرباب الاستحقاق.
وذكر واللسخاء أنواعاً ثمانية :
الكرم ، أعني سهولة الإنفاق فيما يعمّ نفعه على وفق المصلحة.
والإيثار ، أي البذل مع الحاجة إلى ما يبذله.
والعفو ، أي سهولة ترك المكافاة على الإساءة مع القدرة عليها.
والمروّة ، أي الرغبة الصادقة في إيصال النفع إلى الغير ، كذا قيل ، والحق كما قاله بعض المتأخّرين : أنّها بذل ما لابدّ منه عرفاً ، فافهم.
والبتل ، أي السرور بملازمة المحاسن والمحامد.
والمواساة ، أي تشريك المستحقّين في أقواته وأمواله.
والسماحة ، أي بذل ما لايجب بذله.
والمسامحة ، أي ترك بعض ما لايجب تركه.
وللعدالة اثنا عشر نوعاً :
الصداقة ، أي صرف الهمّة في تهيئة ما يحتاج إليه الصديق محبّة له.
والألفة ، أي اتّفاق الآراء في طلب المعاش حتّى يتعاون تعضهم ببعض.
والوفاء ، أي عدم التجاوز عن طريق المواساة.
والشفقة ، أي صرف الهمّة في إزالة المكروه المتوقّع بالنسبة إلى الغير.
وصلة الرحم ، أي تشريك الأقارب مع نفسه في الخيرات الدنيويّة.
والمكافاة ، أي مقابلة الإحسان بالاحسان.
وحسن الشركة ، أي يكون أخذه وإعطاؤه موافقاً للجميع معتدلاً.
وحسن القضاء ، وهو أن يكون إحسانه خالياً عن المّن والأذى.
والتودّد ، أي طلب مودة الأكفاء من أهل الفضل بحسن اللقاء.
والتسليم ، أي حسن التلقّي والرضا بأفعال الله ورسله وأوليائه ، وإن لم يتعقّلها أو لم توافق طبعه.
والتوكل ، وهو تفويض الأمر الغير المقدور له إلى الله.
والعبادة ، أي تعظيم الله وإكرام أوليائه والعمل بموجبات الشريعة ، ولايتمّ الا بالتقوى.
ثمّ إنّ لكلّ من هذه الأنواع كاجناسها طرفي افراط وتفريط ، هي أنواع الرذائل ، وربما لم يكن لأغلبها أسماء معيّنة وألفاظ موضوعة ، لكن بعد العلم بحقيقة الفضيلة يعرف طرفا افراطها وتفريطها ، وإن لم يعرف اللفظ المخصوص.
ونحن نذكر في هذا الكتاب بما سيأتي فيه من الفصول والأبواب جنس كلّ فضيلة مع أعظم أنواعها ولوازمها شرفاً ونفعاً ، وجنس كلّ رذيلة مع أظهر أنواعها ولوازمها فساداً وإهلاكاً ، إذ ليس في كتب القوم ما يحيط
(63)
بضبط أنواعها ولوازمها وتمييز أصولها وفروعها ، ولا يليق بهذا الكتاب استقصاء الغاية في البحث عن جميعها.
قالوا كثيراً ما تظهر آثار أصحاب الفضائل في أرباب الرذائل فيما يصدر عنهم من الأفعال والأعمال ، فيشتبه الأمر على ضعفاء العقول من الرجل ، فيمدحون بصنوف المدائح والمناقب مع انغمارهم في المساوي والمثالب.
وكم من سمّي ليس مثل سميّه
وإن كان يدعى باسنه فيجيب
أمّا الحكمة فربّما يتلقّف مسائلها تقليداً على وجه يتعجّب المستمع من احسن التقرير واليبان مع خلوّها عن برد اليقين ونور الايقان ، فمثل حاملها كمثل الأطفال في التشبّه بالرجال أو كبعض الحيوانات في المحاكاة لما يراه أو يسمعه من سائر الحيوانات.
وأمّا العفّة فربّما يترك جنس من الشهوات الرديّة لتحصيل ما هو أتمّ أو أدوم من اللذّات الحسّية ، أو لخمود القوّة وقصورها وضعف البنية وفتورها ، أو عدم التمكّن من أسبابها ، أو عدم القدرة على الدخول من أبوابها ، أو لشبعه وتملّيه من كثرة تعاطيه والافراط فيه ، أو للحذر عن الأوجاع والأسقام ، أو اطلاع الخواص وتوبيخ العوام ، أو لعدم إدراك تلك اللذات ، كما هو شأن أهل الجبال والفلوات والصحاري ، مع أنّ فضيلة العفّة هي الحرية واستخلاص النفس عن أسر العبوديّة ، وانقيادها للقوّة العقليّة مع الاتيان بالقدر اللازم والمصلحة الضروريّة ، ويكون قصده في الفعل والترك مجرّد كونها سعادة حقيقية ، والتشبّه بالمجرّدات المنزّهة عن الشهوات الحسيّة.
وأمّا الشجاعة فربما يقدم بعض الرجال على الشدائد الصعبة وعظائم الأهوال ولايبالي عن الضرب والأسر والقتال مع الأبطال لتحصيل الجاه أو
(64)
المال أو الشهوة أو الجمال ، أو يقحم نفسه في شدائد المصائب ومكاره النوائب تعصّباً عن الأتباع والأقارب ، أو يعتمد على تكرّر الغلبة الحاصلة له في سوالف الأيام ، فلا يبالي على ما اعتاده من الاقدام مع أنها ناشئة إمّا عن الجبن أو الشره أو عن طبيعة القوّة والقدرة أو عن قلّة العقل والحماقة ، والشجاع الحقيقي من صدر فعله عن الحكمة ، ويكون الباعث على فعله نفس فضيلة الشجاعة ، فربّما كان الحذر عن بعض النوازل لازماً أو راجحاً عند الحكيم العاقل ، فيكون ممّا يناقضها (1) وينافيها ، وربما انعكس الأمر فيكون مما تقتضيها (2) فهو لا يحذر الا عن نقصان دينه وشهامة ذاته (3) ، ولايبالي بعد ذلك عن حياته ومماته ، ويجتنب عن زوال شرعه ولحوق عاره وهتك حرمته وشعاره ، ويرغب في طاعة ربّه ووليّ نعمته وحماية شريعته والذبّ عن شعائر الاسلام وحرمته ووقاية أهل ملته ولو بسفك دمه وقتل عترته وسبي ذريته ، كما وقع لسيّد الشهداء عليه السلام وأصحابه البررة السعداء عليهم أفضل التحيّة والثناء ، ايثاراً للذكر الجليل والأجر الجزيل والثناء الجميل على الحظّ الناقص القليل ، وترجيحاً للسعادة الأبديّة على النعمة الفانية الدنيوية المشوبة بالذّل والهوان والكدورات المتجدّدة آناً بعد آن.
وبالجملة فالشجاع ساكن وقور متحمّل صبور مستخفّ بما يستعظمه الجمهور غير مضطرب من شدائد الدهور وعظائم الامور ، ذوهمّة عليّة وبصيرة جلية مقصور غضبه على مقتضى الفكر والروية.
وأما العدالة فربما يتكلف في تقلد ما لها من الآثار والأعمال وتجشم الزهد والعبادة وإظهار الفضل والكمال لجلب القلوب وتحصيل الجاه أو المال ، مع أنها كما عرفت ملكة راسخة حاصلة من استجماع الفضائل وسلب النقائص والرذائل ورفع التنازع بين القوى وتسالمها في الآراء
1 ـ كذا ، والصحيح : ممّا لا يناقضها ولا ينافيها ، أي الحذر حينئذ لاينافي الشجاعة.
2 ـ كذا ، والصحيح : ممّا يناقضها.
3 ـ كذا.
(65)
والأهواء وصدور الأفعال على نهج الاعتدال.
وكذا الحال في سائر أنواع الفضائل النفسيّة حيث تشتبه كثيراً ما بأنواع الرذائل الخلقية كالتواضع والوقار بالتملّق والاستكبار والتبذير بالسخاء والعبادة بالرياء ، وغير ذلك ممّا لايحصى.
العدالة أفضل الفضائل وأشرفها ، لأنّها الهيأة الحالصلة من استجماعها كما عرفت ، ولأنها بمعنى المساواة التي هي أقرب إلى الوحدة الحقيقية التي هي من خصائص الواحد الحقيقي الذي يفيض الوحدة على كل موجود بقدر استعداده ، كما يفيض نور الوجود ، فإنّ ملكة التوسطّ بين الأخلاق والأعمال المتضادّة التي هي بمثابة الأطراف لها هيأة وحدانيّة بها ترتعف القلّة والكثرة والزيادة والنقيصة ، وبها ينتقل عن الكمال الاستعدادي إلى الفعلي ، كما أنّ باعتدال امتزاجات العناصر الأربعة يتحقّق وجود المواليد الثلاثة ، فالاعتدال ظلّ من الوحدة الحقّة ، ولا يتطرّق إيه نقص ولازوال ، وبه يحصل العروج إلى أعلى معارج الكمال ، وللنفس تعشّق تامّ به في أيّ مظهر ظهر ، ولذّة غريبة منه في أيّ صورة تجلّى من الصور ، كما يظهر لك من التأمّل في حقيقة صحّة البدن الذي هو اعتدال المزاج ، والحسن الذي هو اعتدال الأعضاء ، والفصاحة التي هي اعتدال الكلام ، وتهذيب الأخلاق الذي هو اعتدال الملكات ، وحسن الصوت الذي هو اعتدال النغمات ، وحسن المشي الذي هو اعتدال الحركات ، وهكذا.
فإن قلت : أفضليّة العدالة ينافي ما ورد من مدح التفضّل لكونه زيادة فلا مساواة فيه.
قلت : قد عرفت أنّ التوسّط المعتبر فيها ليس حقيقيّاً لامتناعه كما أشرنا إليه ، بل اضافيّ وله عرض عريض ، فالوصول إليه عدالة ، والسير في
(66)
عرضه إلى ما هو أقرب إلى الحقيقي مع امكانه تفضّل ، فكأنّه احتياط ومبالغة في حصول العدالة الحقيقية ، ولذا هو أفضل من العدالة.
ثم إنّها لما كانت عبارة عن ردّ كلّ شيء إلى وسطه فهي إمّا في الأموال والكرامات ، أو في المعاملات والمعاوضات ، أو في التأذيبات والسياسات ، فلابدّ من كونه عالماً بالوسط في كلّ منها حتّى يمكن له الردّ إليه والعالم بأوساط جميع الأشياء حقيقة هو الناموس الالهي الذي هو ينبوع الوحدة ومبدأها ، ولما كان الانسان مدنيّاً بالطبع محتاجاً إلى التعاون في التعيّش ، وتقع بين الناس بسببه معاوضات لابدّ من حفظ المساواة فيها دفعاً للمشاجرة ، والأعمال مختلفة بالزيادة والنقيصة ، فربما يزيد العمل القليل كنظر المهندس وصاحب الجيش في لحظة واحدة على الكثير ممّن يعمل ويحارب مثلاً ، فلابدّ من مقوّم محصّل للاعتدال وتبيين وجوه الأخذ والاعطاء وسائر الأعمال ، وتصحيحها حتّى لايتضمّن إفراطاً ولا تفريطاً في حال من الأحوال ، وهو الدينار ، لكنّه صامت ، فربما لا يستقيم به الأمرر وحده فيستعان بالعادل الناطق ، أعني الحاكم حتّى يعين الدينار ويحصل الانتظام بالفعل ، فهو خليفة الناموس الأكبر في حفظ المساواة وهو الناموس الأوسط والأصغر هو الدينار ، ولابدّ أن يقتدى بالثاني كما أنّه يقتدي بالأوّل.
وقد قيل : إنّ في قوله تعالى : « وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط وأنزلنا الحديد فيه باس شديد ومنافع للناس » (1) إشارة إلى الثلاثة ، ويقابل الأوّل الكافر الخارج عن الشريعة ، والثاني الباغي على الإمم والعاصي ، والثالث الخائن والسارق وغيرهما ممّن لا يقوم بحكم الدينار ويأخذ الأكثر ويعطي الأقلّ.
ثمّ للعدالة أقسم ثلاثة أشار إليها خاتم الأنبياء صلى الله عليه وآله بقوله :
1 ـ الحديد : 25.
(67)
« التعظيم لأمر الله والشفقة على خلق الله » (1).
أوّلها : ما يجب مراعاته على كلّ أحد فيما بينه وبين ربّه تعالى ، فإنّه تعالى واهب الوجود والحياة والبقاء ، ومهذّب الصور بما يكلّ عن شرحه ألسن العارفين بدقائق علم التشريح ومنافع الأعضاء ، وتعجز عنه الأوهام البشريّة الناقصة عن الاحاطة بها والاحصاء ، ومفيض العقل والنور والبهاء والخيرات الخارجة عن حدّ الاستقصاء على النفوس والأرواح والقوى ، ومهيّىء النعمة الأبدّية والأنوار السر مدّية ، ممّا تدهش من تصوّرها عقول العقلاء وأفهم الحكماء الألبّاء وممدّمها في كلّ لحظة بمدد جديد من عظائم الآلاء وشرائف النعماء « وإن تعدّوا نعمة الله لاتحصوها » (2).
فلو لم يقابها بما يتمكّن منه من المعرفة ولمحبّة والحمد والثناء والطاعة والعبادة والدعاء والرضا بما يجري عليه من القضاء ووضع كلّ شيء ممّا منحه في موضعه الائق به مع الشكر والصبر في الشدّة والرخاء كان في أخسّ مرتبة من الظلم والجور على نفسه والوقاحة وقلّة الحياء ، فإنّه لم اختصّ من غيره بناقص قليل من العطاء ولم يقابله بضرب من المكافاة والجزاء كان منسوباً إلى الظلم والجور وقلّة الوفاء ، فكيف ونعماؤه تعالى متواترة لاتحصى ، وأياديه متوالية لاتستقصى ، سيّما والاحسان المذكور عائد لى نفسه مع كونه أيضاً نعمة ممّا منحه من النعماء ، فإنّه تعالى غير مفتقر إلى أفعالنا ، لما له من العظمة والكبرياء بل هو في أعلى مرتبة من التنزّه عن ذلك والغناء.
وثانياً : ما يجب مراعاته بينه وبين الأحياء من الناس من أداء الحقوق والأمانات والنصفة في المعاملات وتعظيم الأكابر والعلماء وإغاثة الملهوفين والضعفاء. وفي الحديث النبوي صلى الله عليه وآله :
1 ـ جامع السادات : 1/82 ، الدرة الباهرة : في كلمات النبيّ صلّى الله عليه وآله.
2 ـ ابراهيم : 34.
(68)
« إنّ للمؤمن على أخيه ثلاثين حقّاً لابراءة له منها الا بادائها أو العفو : يغفر زلّته ، وليرحم غربته ، ويستر عورته ، ويقيل عثرته ، ويقبل معذرته ، ويردّ غيبته ، ويديم نصيحته ، ويحفظ خلّته ، ويرعى ذمّته ، ويعود مرضته ، ويشهد ميتته ، ويجيب دعوته ، ويقبل هدّيته ، ويكافيء صلته ، ويشكر نعمته ، ويحسن نصرته ، ويحفظ حليلته ، ويقضي حاجته ، ويشفع مسالته ، ويسمت عطسته ، ويرشد ضالّته ، ويردّ سلامه ، ويطّيب كلامه ، ويبرّ إنعامه ، ويصدّق إقسامه ، ويواليه ، ولا يعادية ، وينصره ظالماً فيردّه عن ظلمه ، وينصره مظلوماً فيعينه على أخذ حقّه ، ولايسلمه ، ولا يخذله ، ويحبّ له من الخير ما يحبّ لنفسه ، ويكره له من الشرّ ما يكره لنفسه ». (1) وثالثها : ما يجب مراعاته بينه وبين أمواتهم ، كأداء الديون وإنفاذ الوصايا والصدقة والدعاء.
تفريع
قد تلخّص ممّا ذكرناه أنّ سالك سبيل العدالة لابدّ له من المجاهدة حتّى يغلب عقله على جميع قواه ، فيستعمل كلاً منها فيما فيه صلاحه وكماله ، فلا يفسد النظام البشري ، إذ لوتهاجت وتغالبت ولم يقهرها قاهر حدثت أنواع الفساد ، وأنّ من لم يصر كذلك لم يتمكّن من إجراء أحكامها بين شركائه في التمدّن ، إذ العاجز عن نفسه كيف يصلح غيره؟ والشمع الذي لا يضيء القريب كيف يستضيء منه البعيد؟ فمن استقرّ على جادة الوسط في جميع صفاته وأفعاله وأعماله كان خليفة الله في بلاده حاكماً بين عباده ، فإذا أطاعوه وسلموا إليه الأمر وانقادوا له تنوّرت به البلاد وزادت به البركات وانتظم به كلّ الأمور ، أذ بعدالة من إليه زمام أمورهم يتمكّن كلّ أحد من رعاية العدالة لتوقّف تحصيل المعارف الحقّة والأخلاق الفاضلة غالباً على
1 ـ البحار : 74/236 ، كتاب العشرة ، باب حقوق الإخوان ، ح36 ، مع اختلاف.
(69)
فراغ البال وانتظام الأحوال ، ومع جوره يتلاطم أمواج الفتن ، ويتراكم أفواج المحن ، فلا يجد طالب العالم إليه سبيلاً ، ولا إلى الهادين إليه مرشداً ودليلاً ، وتبقى عرصاته دارسة الآثار وأرجاؤه مظلمة الأقطار ، وترغب طباع الرعيّة برغبته إلى الفساد وتشيع أنواع الفسوق والمعاصي بين العباد ، لكنّها موقوفة على حسن حالهم وسلوكهم مسلك العدالة فيمابينهم ، فإنّ فسادنيّة السلطان وفسقه وجوره ناش من فساد حالهم وخبث سريرتهم وكثرة معاصيهم ، بل هو عقوبة عاجلة لهم مترتّبة عليها ، ومنه يحبس غيث السماء وتنزل أنواع البلاء ويسلّط الله أدانيهم على أعاليهم فهما متلازمان.
شقشقة : ليت شعري كيف هجروا روابط المحبّة حتّى يحتاجوا إلى قهرمان العدالة ، إذ مع استحكامها يتحقّق الايثار ولو كان بهم خصاصة ، فلا يبقى للجور أثر بالمرّة ، مع أنّها الوحدة الطبيعيّة ، وهو الباعث على الايجاد ، كما يشير إليه قوله تعالى : « كنت كنزاً مخفيّاً فأحببت أن أعرفت ». (1)
والعدالة وحدة قسريّة ، ومع ذلك لا تنتظم بدونها ، فهي السلطان في الحقيقة والعدالة نائبها.
قالوا : الحركة المؤدّية إلى كمال إمّا طبيعيّة كحركة النطفة في حالاتها المختلفة إلى المرتبة الحيوانيّة ، أو صناعيّة كحركة الخشب في حالاته المتنوّعة إلى الهيأة السريرية ، والاولى مقدّمة بحسب الوجود والرتبة ، لصدورها عن الحكمة الالهيّة المحضة ، فكمال الصناعة في التشبّه بمبدأها في الترتيب أعني الطبيعة ، فيجب الاقتدداء في تهذيب الأخلاق الذي هو من القسم الثاني بها ، ولما كانت الحركة الطبيعية في بدو الخلقة :
أوّلاُ : في القوّة الشهوية أعني طلب الغذاء إلى أن يتمّ كمالها بحدوث الميل إلى النكاح وسائر المشتهيات.
1 ـ كلمات مكنونة : 33.
(70)
وثانياً : في القوّة الغضبيّة ، أعني الاحتراز عن الموذيات ، ولو بالاستعانة إلى أن يحدث فيه الميل إلى صنوف الرئاسات والكرامات.
وثالثاً : في القوّة المميّزة من حفظ صورة الام والظئر مثلاً إلى أن يتمكّن من تعقّل الكلّيات ، وهذه غاية التدبير المفوض إلى الطبيعة.
ثم يناط الاستكمال بالحركة الصناعية ، فلو اقتدى فيها بالطبيعة بتهذيب الشهويّة أولّاً ، ثمّ الغضبيّة ، ثمّ العاقلة ، كان تحصيل كمالاتها في غاية السهولة ، ولو حصّل بعضها لا علىالترتيب الطبيعي كان تحصيل الباقي صعباً ، لكنّها ليس بمتعذّر بالمرّة ، فلا يترك السعي ولا ييأس من روح الله تعالى ، وليجتهد حتّى يتيسّر له الوصول إلىالمطلب الأقصى ، ولو لم يحصّل الكمال الصناعي بقي على الحالة الطبيعية ، ولم يبلغ إلى ما خلق له ، إذ لم يجبل أحد على الفضائل النفسية الا من أيّد بالنفس القدسيّة ، غاية ماهناك كون بعض الأمزجة أكثر استعداداً وأسهل قبولاً لبعضها.
ثم المحصّل للفضيلة يجب عليه السعي في حفظها وعادمها يلزمه الاهتمام في تحصيلها بإزالة ضدّها ، ولذا ينقسم هذا العلم المسمّى بطبّ الأرواح إلى حفظ الفضائل ودفع الرذائل ، كما أنّ طبّ الأبدان ينقسم إلى حفظ الصحة ودفع المرض ، ولكلّ منهما أسباب ومعالجات نذكرها إن شاء الله تعالى.