والترفّع ، بل للهداية أو الارشاد ، ودفع بدع أهل العناد ، أو طلب الحق الاسترشاد ، فيكون من لوازم الثبات في الايمان ونتائج قوّة المعرفة وكبر النفس ، وقد أمر الله به نبيّه فقال : « وجادلهم بالّتي هي أحسن ». (1)
الا أنّ له آداباً وشروطاً لو قام بها ووفّاها حقّها فقد قام بحدودها واقتدى بالسلف فيها ، فإنّهم ماكانوا يناظرون الا لله وفي الله. وله علامات :
منها : أن لا توقعه الا مع رجاء التأثير ، ولا يكون هناك ما هو أهمّ منه ، لأنّه إذا كان في الواجب على الوجه المشروع كان من فروض الكفايات ، فلو عارضه عيني أو كفائي أهمّ منه لم يجز الاشتغال به. وأن يمكن له العمل برأيه باجتهاده حتّى إذا بان له الحقّ على لسان خصمه انتقل إليه ، فالمقلّد لايمكنه الانتقال مع ظهور ضعفه لديه ، فلا فائدة له فيه. وأن يكون مناظرته في مسألة مهمّة واقعة أو قريبة الوقوع دون الفروض النادرة ، أو البحث في التعريفات بانقوض والتزييفات. وأن يكون في الخلوة أحبّ إليه من المحافل ، لكونها أجمع للهمّ وأقرب إلى صفاء الفكر وأبعد عن الأغراض الفاسدة. وأن يكون كمنشد ضالّة يشكر متى وجد الحقّ في يده أو يد غيره ، فلايرى خصمه خصيماً ، بل معيناً فيفرح من جريان الحقّ على لسانه ويشكره لا أنّه يخجل ويسود وجهه ويجتهد في دفعه ، ولايكون مناظرته الا مع البارع المتفرّد حتّى يستفيد منه.
وأمّا الفرد المتبادر الشائع بين علماء الدنيا من المناظرة والجدال وهو ما كان بقصد الغلبة والافحام وإظهار الفضل وقصد المباهاة والمماراة واستمالة وجوه الناس فنسبته إلى الفواحش الباطنة كشرب الخمر إلى الفواحش الظاهرة من كونه مهيّجاً لها كالحسد ، حيث لايخلو عنه صاحبه ، فإنه يغلب تارة فيحمد عليه ، وتارة يغلب فيحمد كلام غيره ، فمادام يذكر أحد بقوّة
1 ـ النّحل : 125.
(282)
العلم والنظر يحسده ويحبّ انصراف وجوه الناس عنه إليه.
والتكبّر على الأمثال والأقران حتّى إنّ أرباب هذه الخصلة الخبيثة يقاتلون على القرب من وسادة الصدر ، والتقدّم في الدخول من مضائق الطرق.
والحقد لمن يرجّح كلام خصمه أو يتوقّف فيه ، إذ لايمكن اتّفاق المستمعين على ترجيج كلامه ، ولو قلّل خصمه الاعتناء به والالتفات بكلامه الغرس في صدره من الحقد له ما لا ينقلع عنه مدّة عمره.
والغيبة حيث لاينفكّ عن حكاية قول الخصم وتزييفه إن اقتصر على الواقع (1) وإن تعدّى كان كذباً وبهتاناً.
وذمّ المصغى إلى كلام خصمه والمقبل عليه بنفسه ، ونسبته إلى الجهل والحمق وتزكية النفس ، حيث لاينفكّ عنها في أثناء المجادلة بأنّي لست ممّن يخفى عليه أمثال هذه وأنا المتفرّد وأنا كذا وكذا إمّا صلفا أو للحاجة إلى ترويج كلامه.
والتجسّس عن عيوب الأقران والخصوم حتى إنّ بعضهم إذا سمعوا بورود عالم إلى بلد تفحّصوا عن خفايا أحواله واستخراج مقابحه حتى يدّخروها لتفضيحه وتخجيله لو مسّت الحاجة إليه إمّا تعريضاً على سبيل التشبيب مع الحياء أو تصريحاً مع الوقاحة ، والفرح بمساءتهم والغمّ من مساءتهم كالتباغض بين الضرّات بحيث لو رأيى الخصم ارتعدت فرائصه وتغيّر لونه واضطرب فكره,
والنفاق لاضطرارهم إلى ملاقاة خصومهم ومحبيّهم وأشياعهم فلابدّ لهم من التودّد اللساني وإظهار الشوق.
1 ـ مجرّد حكاية قول الخصم وتزييفه إن اقتصر على الواقع ليس غيبة ولذا قيّده الشهيد الثاني ـ رحمه الله ـ بكون الحكاية في معرض التهجين والذّم والتوهين ، وكذا أبوحامد. فراجع منية المريد : 326 والمحجة البيضاء : 1/104.
(283)
وفي النبوي صلى الله عليه وآله : « إذا تعلّم الناس العلم وتركوا العمل ، وتحابّوا بالألسن وتباغضوا بالقلوب وتقاطعوا بالأرحام لعنهم الله عند ذلك ، فأصمّهم وأعمى أبصارهم » (1)
والاستكبار عن الحقّ وكراهته ، والحرص على المماراة فيه حتّى إنّ أبغض شيء عنده ظهور الحقّ على لسان الخصم ، ولو ظهر تشمّر لجحده بأقصى جهده وبذل أنحاء الحيل في ردّه فيصير المراء طبيعيّاً بحيث لا يسمع كلاماً الا وينبعث من طبعه داعي الاعتراض عليه حتّى في أدلّة القرآن وألفاظ الشرع ، فيضرب بعضها ببعض.
والرياء ، وهو عمدة مقاصده لحبّه إطلاق ألسنة الناس بمدحه ، وصرف وجوههم إليه.
هذا حال الأكابر والعقلاء المعتبرين من أهل الخصومات والجدال والمراء ، ويتشعّب منها خصال اخر كالأنفة والغضب والبغضاء والطمع وحبّ المال والجاه للتمكّن من الغلبة والمباهاة والأشر وتملّق الحكّام والسلاطين للأخذ من حطامهم والاستعانة بهم على تزييف خصومهم والتجمّل بفاخر الثياب والمراكب والخوض فيما لايعني وكثرة الكلام وقسوة القلب والغفلة عن الله سبحانه.
وأمّا سفهاؤهم وأدانيهم فأكثر ما يؤول إليه أمرهم في المناظرة الضرّب والشتم والكلم وتمزيق الثياب والأخذ باللحى وسبّ الوالدين والأساتيد والقذف وغيرها من الفواحش الظاهرة.
فظهر أنّ الجدال والمراء والخصومة من أمّهات الخبائث ، ولذا ورد في ذمّهما ما ورد.
قال أميرالمؤمنين عليه السلام : « إيّاكم والمراء والخصومة ، فإنّهما يمرضان
1 ـ المحجة البيضاء : 1/105 ، وفيه : « في الأرحام ».
(284)
القلوب على الاخوان ، وينبت عليهما النفاق ». (1)
وقال الباقر عليه السلام : « الخصومة تمحق الدين وتحبط العمل وتورث الشكّ ». (2)
وقال موسى بن جعفر عليه السلام حينما سئل عمّن يحسن الكلام في الدين هل يجوز له ذلك؟ : « المحسن وغير المحسن لايتكلّم فيه فإنّ إثمه أكبر من نفعه. (3) وغير ذلك.
لايقال : قد يترتّب على المجادلة والمناظرة في الدين فوائد دينية كرغبة الناس بسببها في طلب العلم ، إذ لولا حبّ الرئاسة لاندرست العلوم والتقويّ بها على دفع المبطل المجادل والمنع عن ضلالة المستضعفين بإضلال ذلك المضلّ.
قلت : نعم قد ذكرنا أنّ من المجادلة ما هو ممدوح ، ولذا أمر الله بها نبيّه ومناظرات الأئمّة عليهم السلام مع المخالفين مشهورة ، وفي كتب السير والأخبار مسطورة ، لكن بشروطها وآدابها المذكورة ، وأمّا مع فقدها فهي موبقة مهلكة لصاحبها وإثمها له أشدّ من سائر المعاصي ، وإن انتفع بها غيره كالشمع المحرق لنفسه الذي يستضيء به غيره فصلاح غيره ، في هلاكه.
ولذا ورد : « إنّ الله يؤيّد هذا الدين بالرجل الفاجر » (4).
وربما أهلك غيره أيضاً إن دعاه إلى مالأجله هلك كالنار المحرقة الآكلة لنفسها وغيرها ، ولذا قال الصادق عليه السلام :
« إذا رأيتم العالم محبّاً لدنياه فاتّهموه على دينكم ، فإنّ المرء يحوط على ما أحبّ ». (5)
1 ـ الكافي : 2/300 ، كتاب الإيمان والكفر ، باب المراء والخصومة ، ح1.
2 ـ المحجة البيضاء : 1/107 نقلاً عن توحيد الصدوق : 476.
3 ـ المحجة البيضاء : 1/108 نقلاً عن توحيد الصدوق : 477.
4 ـ المحجة البيضاء : 1/109.
5 ـ الكافي : 1/46 ، كتاب فضل العلم ، باب المستأكل بعلمه ، ح4 ، وفيه : « فإنّ كلّ محبّ لشيء يحوط ما أحبّ ».
(285)
فتيقّظ يا حبيبي منرقاد الغفلة ولاتظنّن بعلام الغيوب أن تخفى عليه خافية من خفايا القلوب ، فإذا لم يقبل في أدنى عبادة ظاهرة منك الا ما كان خالصاً لوجهه الكريم ، فكيف يقبل من علمك الذي هو أشرف الطاعات والعبادات وبه يصل العبد إلى أفضل السعادات مالا أثر فيه من ابتغاء وجهه الأعلى ، وكان غاية همّك فيه الوصول إلى قليل من متاع الدنيا.
الكذب هو الخبر الغير للواقع. فإن كان باعثه الحسد والعداوة كان من رذائل الغضبية ، وإن كان حبّ المال والطمع أو الاعتياد عليه من الاختلاط مع الكذّابين كان من رذائل الشهوية.
وقد يطلق على النبية الغير الخالصة لله تعالى ومرجعه إلى الرياء ، وسيأتي حكمه إن شاء الله ، وعلى العزم الغير الثابت المشوب بالضعف والتردّد ، فيقال : إنّه كذب في العزيمة ، وقد يعزم وقد يعزم على فعل لعدم مشقّة فيه ، ثمّ إذا حصل التمكّن وهاجت الشهوات انحلّت العزيمة فيقال : إنّه كذب في الوفاء بها ، ولعلّهما من رذائل الشهويّة.
وقد يستعمل في الأفعال إذا دلّ ظاهرها على ما يخالف الباطن ، ويمتاز حينئذ عن الرياء باعتبار عدم الخلوص لله فيه دونه ، إذ ربّ واقف على هيأته خاضع لله في صلاته لاينوي بها غيره تعالى ، بحيث يدلّ على إقباله بشراشره إليه تعالى مع ذهول قلبه عنه تعالى وتوجّهه إلى أمور الدنيا ، وماش على هيئة الوقار بحيث يجزم من يشاهده باتّصافه به مع خلّوه عنه فهو كاذب في عمله ، وليس مرائياً لعدم التفاته في غاية فعله إلى الغير ، وهذا ينبعث في كلّ من الثلاثة.
ثم إنّ للفضائل النفسية مباديء وحقائق ولوازم وغايات ، فمن نالها بأسرها كان صادقاً محقّقاً فيها ، والا فكاذب ، فالخوف منه تعالى له مبدء هو
(286)
الإيمان به ، وحقيقة هي تألّم الباطن واحتراقه ، وآثار هي اصفرار اللون وارتعاد الفرائص والبكاء والإعراض عن المشتهيات الحسيّة ، وغايات هي المواضبة على الطاعات والاجتناب عن السيّئات ، فمن آمن به تعالى بدون تحقيق له وظهور آثاره ولوازمه أطلق عليه اسم الخائف منه تعالى ، لكنّه خوف كاذب.
قال أميرالمؤمنين عليه السلام : « إيّاكم والكذب فإنّ كلّ راج طالب ، وكلّ خائف هارب ». (1)
وقال الصادق عليه السلام لمّا قيل له قوم يعملون المعاصي ويقولون نرجو فلايزالون كذلك حتّى يأتيهم الموت : « هؤلاء قوم يترجّحون بالأماني ، كذبوا هؤلاء ليسوا براجين ، إنّ من رجا شيئاً طلبه ، ومن خاف من شيء هرب منه » (2)
فقد تبيّن من ذلك أنّ مجرّد الاقرار بالشهادتين مع فقد اليقين الحقيقي والتعظيم لله ورسله وأوليائه والاهتمام في امتثال أوامرهم ونواهيهم كذب في دعوى الايمان.
ثمّ إنّ الكذب من أقبح الذنوب وأشنعها ، قال الله تعالى :
« إنّما يفتري الكذب الّذين لايؤمنون بآيات الله وأولئك هم الكاذبون » (3) « فاعقبهم نفاقاً في قلوبهم إلى يوم يلقونه بما أخلفوا الله ما وعدوه وبما كانوا يكذبون ». (4)
وعن النبي صلى الله عليه وآله : « المؤمن إذا كذب بغير عذر لعنه سبعون ألف ملك ، وخرج من قلبه نتن يبلغ العرش ، وكتب الله عليه بتلك الكذبة سبعين زنية أهونها كمن يزني بأمّه ». (5)
1 ـ الكافي : 2/343 ، كتاب الإيمان والكفر ، باب الكذب ، ح21.
2 ـ الكافي : 2/68 ، كتاب الإيمان والكفر ، باب الخوف والرجاء ، ح5.
3 ـ النحل : 105.
4 ـ التوبة : 77.
5 ـ البحار : 72/263 نقلاً عن جامع الأخبار ، مع اختلاف.
(287)
وقال أميرالمؤمنين عليه السلام : « لايجد العبد طعم الايمان حتّى يترك الكذب هزله وجدّه ». (1)
وقال عليّ بن الحسين عليه السلام : « اتّقوا الكذب الصغير منه والكبير في كلّ جدّ وهزل ، فإنّ الرجل إذا كذب في الصغير اجترأ على الكبير ». (2)
وقال الباقر عليه السلام : « إنّ الله تعالى جعل للشرّ أقفالاً ، وجعل مفاتيح تلك الأقفال الشراب ، والكذب شرّ من الشراب ». (3)
وعن العسكري عليه السلام : « جعلت الخبائث كلّها في بيت وجعل مفتاحها الكذب ». (4)
إلى غير ذلك ممّا لا يحصى.
وأشدّ أنواعه الكذب على الله ورسوله والأئمّة عليهم السلام وكفاه ذمّاً كونه مفطراً لصوم الصائم في ظاهر الشريعة على الأقوى.
ومن جملته الافتاء ممّن لاأهليّة له ، ومن هو أهل له بما لايتحقّقه.
قال الصادق عليه السلام : « القضاء أربعة ، ثلاثة في النار وواحد في الجنّة » وعدّ من الثلاثة من حكم بالحقّ ولم يعلمه. (5)
وقال الباقر عليه السلام : « من حكم بما لم يعلم فقد ضاد الله فيما أحل وحرم » (6).
وحسبك دالاً على شناعته أنّه تعالى أوعد نبيّه ـ مع كونه أحبّ خلقه إليه وأكرمهم لديه وعلّمه بأنّه لاينطق عن الهوى ـ بقوله :
1 ـ الكافي : 2/340 ، كتاب الإيمان والكفر ، باب الكذب ، ح11 ، وفيه : « عبد ».
2 ـ الكافي : 2/338 ، كتاب الإيمان واكفر ، باب الكذب ، ح2.
3 ـ الكفاي : 2/339 ، كتاب الإيمان والكفر ، باب الكذب ، ح3.
4 ـ البحار : 72/263 نقلاً عن جامع الأخبار.
5 ـ الوسائل : كتاب القضاء : الباب 4 من أبواب صفات القاضي ، ح6.
6 ـ الكافي : 1/58 ، كتاب فضل العلم ، باب البدع والرأي والمقائيس ، ح17 ، وفيه : « من أفتى الناس برأيه فقد دان الله بما لايعلم ، ومن دان الله بما لا يعلم فقد ضادّ الله حيث أحلّ وحرّم فيما لايعلم ».
(288)
« ولو تقوّل علينا بعض الأقاويل * لأخذنا منه باليمين * ثمّ لقطعنا عنه الوتين ». (1)
وأثبت به الفسق والظلم والكفر في آيات متواليات.
ثمّ أفحشها بعده شهادة الزور واليمين الكاذب وخلف الوعد.
قال تعالى : « واجتنبوا قول الزور » (2) « يا أيّها الذين آمنوا لم تقولون مالا تفعلون * كبر مقتاً عند الله ... » (3)
والأخبار في ذمّ الثلاث لاتحصى.
وعلاجه ـ بعد التفكّر فيما ورد في ذمّه وما يترتّب عليه من الهلاك الأبدي وسقوط الكاذب في الدنيا عن القلوب ، فلا يعتني أحد بقوله ، وما يترتّب عليه من الخجلة والاقتضاح ، حتّى إنّه تعالى يسلّط عليه النسيان ، كما ورد في الأخبار (4) ، والتذكّر لما ورد في مدح الصدق ـ أن يقدّم التروّي إذا أراد الكلام ، فإن كان كذباً هجره تكلّفاً حتّى يعتاد عليه ، وأن يجالس الصادقين ، ويحترز عن الاختلاط مع الكذّابين.
تنبيه
قبح الكذب ذاتّي ، فيختصّ حرمته بما لايكون فيه مصلحة عارضية أو كانت في الصدق (5) ، والا زال قبحه وارتفع إثمه ، بل يجب إذا ترتّبت عليه مصلحة واجبة كإنقاذ المسلم من القتل وحفظ عرضه وماله ، ويستحبّ أو يباح إذا ترتّبت عليه مصلحة مستحبّة أو مباحة كالإصلاح بين الناس ، والغلبة في حالة الحرب وتطييب خاطر الزوجات والأولاد.
والأخبار وإن وردت في خصوص الثلاثة الا أنّه يلحقها ما يساويها في
1 ـ الحاقة : 44 ـ 46.
2 ـ الحج : 30.
3 ـ الصف : 2 ـ .
4 ـ الكافي : 2/341 ، كتاب الإيمان والكفر ، باب الكذب ، ح15.
5 ـ الظاهر أنّ المراد فرض وجود مفسدة في الصدق في هذا القسم.
المصلحة أو يترجّح عليها من باب الأولويّة أو اتّحاد الطريق ، لكن ينبغي الحتراز عنه مالم يضطرّ إليه ، والاقتصار على الواجب ، فالكذب لمصلحة الجاه أو المال المستغني عنه لعلّه محرّم لعدم إيجابه ضرراً أو فساداً أو إعداماً للوجود ، غايته فوات بعض الحظوظ النفسانيّة ، وأمّا ملا يستغنى عنه فينبغي للعاقل أن يوازنه بمحذور الصدق ، ويلاحظ أيّهما أشدّ محذوراً وأعظم وقعاً في نظر الشارع ، ويحترز عنه (1) ، ومع التردّد يميل إلى الصدق عملاً بالأصل.
تفريع
الأولى في مقام يجوز فيه الكذب العدول إلى التعريض والتورية مهما أمكن ، وهو المراد من قولهم إن في المعاريض لمندوحة عن الكذب ، إذ معالاستغناء عنه يكون كالتصريح ، إذ خطر الكذب ناشىء من تفهيمه المخاطب خلاف الواقع ، وهو حاصل في التعريض أيضاً ، نعم إذا اضطرّ إليه وجاز له الكذب الصريح لصحّة قصده وحقّية نيّته ، حيث إنّ حس الصدق لدلالته على الحقّ ، وهذا أيضاً لارادته الخير والمصلحة طالب له ، فكأنّه صادق في الحقيقية ، وإن كان كاذباً في الصورة ومفهماً لما هو خلاف الحقّ ، كان التعريض أولى ، لكونه أقرب منه بحسب الصورة أيضاً ، وإن شارك الكذب في تفهيم خلاف الواقع.
وقال الصادق عليه السلام في قوله تعالى في قصّة إبراهيم : « بل فعله كبيرهم » (2) ما فعل كبيرهم وما كذب إبراهيم ، قيل : وكيف ذاك؟ فقال : إنّما قال « فاسئلوهم إن كانوا ينطقون » (3) أي إن نطقوا فكبيرهم فعل ، وإن لم ينطقوا فلم يفعل كبيرهم شيئاً ، فما نطقوا وما كذب إبراهيم.
1 ـ وظيفة المكلّف إن لم يكن مجتهداً في أمثال هذه الموارد الرجوع إلى مقلّده.
2 ـ الأنبياء : 63.
3 ـ الأنبياء : 63.
(290)
وسئل عن قوله : « أيتها العير إنكم لسارقون » (1) فقال : « إنهم سرقوا يوسف عن أبيه ».
وعن قول إبراهيم : « إني سقيم » (2) فقال : « ما كان سقيماً وما كذب ، إنما عنى سقيماً ف دينه ، أي مرتاداً » (3)
فظهر أن التعريض مطلقاً مما لايجوز ، نعم قد يباح لغرض خفيف كتطييب قلب الغير بالمزاح كقول النبي صلى الله عليه وآله للعجوزة لاتدخل الجنة عجوز ، وفي عين زوجك بياض. (4)
ثم إن من الكذب الجائز ماجرت به العادة ف المبالغة كقولك : قلت لك مائة مرة ، إذ ليس المقصود تعيين العدد بل تفهيم الكثرة ومنه ما يتحقق ف الاستعارات والتشبيهات ، وسائر أنواع المجازات ، إذ الغرض تفهيم المناسبة والمبالغة لا الحقيقة والمساواة من جميع الجهات.
الجاه ملك القلوب بالطاعة والانقياد لاعتقاد الاتصاف بكمال حقيقي أو وهمي ، فحبه إن كان لحب الغلبة والاستيلاء كان من رذائل الغضبية وإن كان لحب الحظوظ النفسانية والمشتهيات البهيمية حيث يتوصل به إليها كان من رذائل الشهوية وإن كان من الجنسين كان من رذائلهما معاً ، وهو الغالب في حدوثه ، والآيات والأخبار في ذمه مما لاتحصى.
قال الله تعالى : « تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لايريدون علواً في الأرض ولا فساداً والعاقبة للمتقين » (5)
1 ـ يوسف : 70.
2 ـ الصافات : 89.
3 ـ الاحتجاج : 2/354 ـ 355.
4 ـ المحجة البيضاء : 5/234.
5 ـ القصص : 83.