وعن النبي صلى الله عليه وآله : « حبّ المال والجاه ينبتان النفاق في القلب ، كما ينبت الماء البقل ». (1)
وقال الصادق عليه السلام : « فوالله ما خفقت النعال خلف رجل الا هلّك وأهلك ». (2)
وقال عليه السلام : « ملعون من ترأّس ، ملعون من همّ بها ، ملعون من حدّث بها نفسه ». (3)
وقال عليه السلام : « والله إنّ شراركم من أحبّ أن يوطأ عقبه ». (4)
وغير ذلك مما لايحصى.
وممّا يوضح قول الرسول صلى الله عليه وآله أنه ينبت النفاق هو أنّ من ابتلي بهذه الخصلة قصرت همّته على مراعاة الخلق والتودّد إليهم ملتفتاً إلى ما يعظم منزلته عندهم وذلك بذر النفاق ، ويؤدّي إلى التساهل في العبادات واقتحام المحظورات للتواصل بها إلى اقتناص القلوب ، فإنّ النفاق مخالفة الظاهر للباطن قولاً أو فعلاً ، والطالب للمنزلة في قلوب الناس مضطرّ إليها وإلى التظاهر بخصال حميدة هو عار عنها ، وهو عين النفاق.
ثم الباعث لحدوث هذه الخصلة الذميمة والحرص على ازديادها إمّا دفع ألم الخوف الناشيء عن سوء الظنّ وطول الأمل حيث إنّه لطول أمله يقدّر تلف ما يحتاج إليه في معيشته ودفع ضرورته من الأقوات والأموال ، وحدوث بعض الحوادث والمصائب والأذياب ، فيحتاج إلى الاستعانة في تحصيل ما يحتاج إليه ودفع ما يريد الاجتناب عنه بتسخير قلوبهم له في ذلك ، وربما يزداد حرصه في ذلك كما يزداد حرصه في جمع الأموال بالتقديرات
1 ـ المحجة البيضاء : 6/112.
2 ـ الكافي : 2/297 ، كتاب الإيمان والكفر ، باب طلب الرئاسة ، ح3.
3 ـ لكافي : 2/298 ، كتاب الإيمان والكفر ، باب طلب الرئاسة ، ح4.
4 ـ لكافي : 2/299 ، كتاب الإيمان والكفر ، باب طلب الرئاسة ، ح8 ، وفيه : « بلى والله ، وإن ... ».
(292)
البعيدة من حدوث حادث يزعجه عن وطنه ، أو يزعج أهل الأمصار البعيدة عن أو طانهم إلى البلد الذي هو فيه ، فيحتاج إليهم في جلب نفع أو دفع ضرر ، فيطلب تسخير قلوبهم لذلك وهكذا ، فيحصل له بذلك أمن من الخوف الناشيء له من تلك التقديرات الناشئة من سوء الظنّ بالله عزّوجلّ وطول أمله.
وإمّا ما أشرنا إليه سابقاً من أنّ النفس الانسانية لتجرّدها يشبه المبدء في ميلها إلى صفات الربوبية كالعلم والقدرة والكبر والعزّ والاستعلاء ، فإنّ مقتضاها التمامية ، أي التفرّد بالوجود والكمال وما هو فوقها أعني رجوع كل وجود وكمال إليه ، فكما أنّ الكمال للشمس بوجودها وحدها فلو كان معها شمس أخرى كان نقصاً في حقّها إذ لم يتحقّق فيها كمال الشمسية ، وهذا وكمالاته إليه تعالى فلا يوجب حصولها نقصاً في كماله ، كما أنّ إشراق الشمس في الأقطار لايعد نقصاً في حقها ، وإنّما يتحقّق نقصانها بوجود شمس أخرى مساوية لها في الرتبة ، بل تعدّ كمالاً له لكونها من إشراق نور القدرة الالهية ، الا أنّ ذلك لايوجب زوال حبّه وتعشّقه للكمال ، لكونه محبوباً بالذات فيطلب الممكن في حقّه أي حصول نوع من الاستيلاء له على الموجودات إمّا بالعلم والمعرفة خاصّة فيما لايقبل التغيير (1) كذات الواجب وضفاته وعالم المجرّدات ، أو فيما لايقبله ولا يتمكّن من التصرفّ فيه كالسماوات وما فيها لما عرفت من أنّه نوع استيلاء ، بل هو أعظم من ملكيّة الأعيان ، أو به وبالقدرة بالتصرّف فيه كيف يشاء فيما يقبله ويتمكّن منه كالأراضي وأجزائها بالحيازة والضبط أو الزرع والغرس والركوب والحمل والرفع والوضع والأعطاء والمنع وكنفوس بني آدم بالتسخير والتصرّف فيها بالأمر والنهي والمحبّة والاطاعة والانقياد ، ولذا يطلب استرقاق العبيد
1 ـ كذا ، والظاهر : التغيّر.
(293)
واستعباد العباد ولو قهراً ، فالنفس تحبّ الكمال بالعلم والقدرة لذاته ، وإنّما تحبّ المال والجاه لكونها (1) من أسباب القدرة ، ولكونها غير متناهية لاتكاد تتف النفس في طلبهما إلى حدّ وتلتذّ على حسب ما تدركه وتطلب ما هو عادم له ممّا يتصوّر إمكانه في حقّه ، لكن حبّه للجاه أكثر من المال ، لأنّ المال معرض للتلف ، ومطمع الظلمة والسارقين ، فيحتاج إلى الحفظ والحراسة ، ويتطرّق إليه أخطار (2) كثيرة بخلاف القلوب لا حتفاظها من الآفات الا بتغير الاعتقاد ، ولأنّ التوصّل به إليه أيسر من العكس ، لأنّ الأموال مسخّرة للقلوب ، فتسخير القلوب يستلزم تسخيرها بطريق أولى ، بخلاف صاحب المال اللئيم الخسيس العاري عن الكمال ، حيث إنّه لايمكن له التوصّل به إلى الجاه ولأنّ سرايته وازدياده لايحتاج إلى مزيد كلفة وتعب بخلاف المال ، حيث يحتاج استنماؤه إلى مقاساة شديدة ونصب.
ثم إنّ علاج هذه الرذيلة الموببقة مركّب من علم وعمل ، فالعلمي أن يتفكّر في أنّه وإن كان صادقاً فيما تصوّره كمالاً من العلم والقدرة وحبّه لهما الا أنّه اشتبه الأمر عليه بإغواء الشيطان في كون الكمال الحقيقي في الاستيلاء على الملك الذي لازوال له ، والتمكّن من العزّ الذي لا ذلّ معه ، والحياة الأبديّة التي لا فناء يعتريها ، والسعادة الحقيقية التي لا قصور فيها ، فإنّ كمال المعلول في التشبه بمبدئه ، فكلما كان عن التغيّر بالعوارض أبعد كان إليه تعالى أقرب ، وهذا مما لايحصل للعبد الا بالعلم بحقائق الأشياء سيّما ما لايكون قابلة للتغيّر والانقلاب ، كالعلم بالله سبحانه وصفاته وأفعاله على نهج أجلى وأوضح وأتقن وأوفق للمعلوم ، فإنّه الاستيلاء الحقيقي الذي تترتّب عليه تأثيرات بعض النفوس في موادّ الكائنات بأنواع التأثيرات بقدر
1 ـ كذا ، والظاهر : لكونهما.
2 ـ في ج : خطا.
(294)
مراتبها كما أشرنا إليه مراراً ، بل يبقى تأثيرها بعد الموت أيضاً كما تشهد به التجربة الحاصلة من الاستغاثة بالأموات وبالتحلّي بسائر فضائل الملكات حتى توجب صفاء للنفس مؤدّياً إلى الاستخلاص عن أسر الشهوات وعبوديّة قواها الشهوية والغضبية واستيلائها عليها تشبّهاً بالملائكة المقدّسين عن القوّة البهيمية والسبعيّة.
على أنّه قد يقال بعدم ثبوت قدرة للعبد بحيث يكون له كمالاً حقيقياً ، فإن حقيقتها لله تعالى وما يحدث عقيب إرادة حادثة بإحداثه تعالى (1) فتأمل.
وأمّا الاستيلاء على الأعيان بالملك والتصرّف وعلى القلوب والنفوس بالطاعة والانقياد فهو من الزائلات الفانية ، وهو في الحقيقة عجز للنفس وعبودية بالنسبة إلى قواها الشهوية والغضبية ، مضافاً إلى كونها مبعدّة عن الله تعالى بعيدة عن كمالاته الدائمية وقدرته النافذة الحقيقية ، ولو تأمّلت في الحقيقية عرفت أنّ التمكّن من لذّات الدنيا بأسرها ليس تمكّناً حقيقياً لك منها ، بل هو تمكّن لها منك وتسلّط لها عليك ، فما أشدّ اغترارك حيث تظن العجز قدرة والنقص كمالاً. نعم لابدّ من أدنى جاه لضرورة المعيشة مع الخلق ، كما أنّه لابدّ من أدنى مال لضرورتها. فكما لايستغني عن طعام يتناوله ويجوز حبّه للتوصّل به إلى بقاء خادم النفس أعني البدن وحبّه لما يتوصّل به إليه أعني المال ، فكذا لايستغني عمّن يخدمه ويعينه في قضاء حوائجه ويحرسه عن شرّ الأشرار وظلمهم ، فحبّ ما يحصل بسببه في قلب الخادم ما يدعوه إلى الخدمة ، وفي قلب الرفيق ما يحسن بسببه الرفاقة ، وفي قلب السلطان ما يدفع به الشرّ عن نفسه ليس مذموماً ، فلا فرق بينهما في كون كلّ منها وسيلة إلى الأغراض ، فكما يحتاج الانسان إلى المبرز لقضاء حاجته ولو فرض استغناؤه عنه كرهه ، فكذا حبّهما لأجل التوصّل بهما إلى
1 ـ المحجة البيضاء : 6/123.
(295)
ضروريات المعيشة ليس مذموماً كما أشرنا إليه سابقاً ، وإنّما المذموم حبّهما لذاتهما وفيما يجاوز الضرورة لتوهّم كونهما من الكمالات الحقيقة.
ولايذهب عليك أنّ الذمّ في اصطلاحنا هذا أعمّ ممّا يوجب الفسق والعصيان في ظاهر الشريعة ، فلا يحصل الثاني الا إذا حمله الحبّ لمزبور على مباشرة المعاصي أو اكتسابهما بكذب وتلبيس وغيرهما كأن يظهر للناس قولاً أو فعلاً يورث اعتقادهم فيه ما ليس فيه كالعلم والورع والنسب ونحوه العبادة ، إذ التوصّل إليها بها يؤول إلى الرياء الحرام ، كما يأتي.
نعم يستباح اكتسابهما بصفة يكون متّصفة بها كما قال يوسف عليه السلام :
« اجعلني على خزائن الأرض إنّي حفيظ عليم ». (1)
وكذا بستر عيوبه ومعاصيه حتى لايزول اعتقادهم فيه بعلمهم بها ، فإنّ حفظ الستر عن القبائح واجب وليس تلبيساً ، بل سدّ لطريق العلم الذي لا فائدة فيه نعم إظهار الورع مع الاتّصاف بها كذب وتلبيس.
فإذا تفكّر فيما ذكر علم خطاءه فيما دعاه إلى حبّ الجاه ، وانه لو سجد له كلّ من في الأرض كان آخره الموت ، فلا يترك العاقل ما به تحصل الحياة الدائمية لمثل ذلك ، كما قال الله تعالى :
« بل تؤثرون الحياة الدنيا* والآخرة خير وأبقى » (2)
ثم إذا تفكّر فيما يستهدف لها أرباب الجاه والاعتبار من المهالك والمتاعب والأخطار كحسد الناس وقصدهم له بأنواع الأذى وخوفه دائماً على جاهه بانقلاب اعتقادهم فيه لأنّ اضطرب قلوب الناس وشدّة تغيّرها أكثر من القدر في غليانه ، فمن يسكن إليها ويبني أمره عليها فكما يبني على أمواج البحار ، واشتغاله بما يشغله عن الله ويبعده عنه من مراعاة قلوب العباد ودفع كيد الأعداء والحسّاد ويشغله عن الله ويبعده عنه من مراعاة قلوب العباد ودفع كيد الأعداء والحساد ويشغله عن لذّاته البدنيّة فضلاً عن النفسية
1 ـ يوسف : 55.
2 ـ الأعلى : 16 ـ 17.
(296)
كما يعلم ن التجربة والعيان علم أنّ ذلك كلّه هموم عاجلة مكدّرة لجميع لذّاته الدنيوية عموماً ولذّة جاهه خصوصاً ، وصار سبباً لسلب اعتقاده بما توهّمه لذّة وفتور رأيه فيما كان يسعى في طلبه وقوي إيمانه ونفذت بصيرته في تحصيل اللذّات الحقيقية الدائمية وترك الالتفات إلى هذه اللذّات الدنية الدنيوية. وكلّ من أحب الله وأنس به وعرفه أحبّ الخمول واستوحش من انتشار الصيت والقبول.
وأمّا العملي فالسعي في رفع الجاه الحاصل له بتحصيل ضدّه أعني الخمول والعزلة عن مصاحبة الخلق المؤدّية إلى الغفلة ، والهجرة إلى المواضع التي لايعرفه أهلها.
ولما كان الباعث العمدة له الطمع فيما عند الناس كان علاج الطمع المذكور سابقاً أنفع شيء في علاجه والمواظبة على ملاجظة ماورد في ذمّه من الآيات والأخبار ، ومادلّ على مدح ضدّه الخمول منها ومن الآثار.
فعن النبي صلى الله عليه وآله : « أنّ الله يحبّ الأتقياء الأصفياء الذين إذا غابوا لم يفقدوا ، وإذ حضروا لم يعرفوا ، قلوبهم مصابيح الهدى ... الحديث ». (1)
وعنه صلى الله عليه وآله : « إنّ أهل الجنّة كلّ أشعث أغبر ذي طمرين لا يؤبه به الذين إذا استأذنوا على الامر لم يؤذن لهم ، وإذا خطبوا النساء لم ينكحوا ، وإذا قالوا لم ينصب لهم ... لو قسم نوره يوم القيامة على الناس لو سعهم ». (2)
وفي بعض الأخبار : « أنّ الله سبحانه يقول في مقام الامتنان على بعض عباده : ألم أنعم عليك؟ ألم أسترك؟ ألم أخمل ذكرك؟ » (3)
ومن تتبّع كتب السير والأخبار وتفحّص عن حال الأكابر والسلف الأخيار واطّلع على إيثارهم الذلّ والخمول مع تمكّنهم من الجاه والاشتهار أيقن بكون الخمول من صفات المؤمنين الأبرار.
1 ـ المحجة البيضاء : 6/110 ، وفيه : « الأتقياء الأخفياء ».
2 ـ المحجة البيضاء : 6/110.
3 ـ المحجة البيضاء : 6/111 نقلاً عن الفضيل.
ومن نتائج حبّ الجاه حبّ المدح وكراهة الذمّ المستلزمين لجعل الأفعال والأقوال تابعة لأهواء الناس رجاءاً لمدحهم وخوفاً من ذمّهم وايثار رضا الخلائق على رضا الخالق بارتكاب المكروهات ، بل المحرّمات وترك السنن ، بل الواجبات والنهاون في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والتجاوز عن الانصاف.
وهذا كلّه خارج عن الايمان ، لأنّ المؤمن لاتأخذه في الله لومة لائم.
وعن النبي صلى الله عليه وآله : « إنّما هلك الناس باتّباع الهوى وحبّ الثناء ». (1)
وقال صلى الله عليه وآله لرجل أثنى على آخر بحضرته : « لو كان صاحبك حاضراً فرضي بالذي قلت فمات على ذلك دخل النار ». (2)
وقال صلى الله عليه وآله : « ألا لاتمادحوا وإذا رأيتم المدّاحين فاحثوا على وجوههم التراب ». (3)
وأشدّ مراتبه الموجب للهلاكة التوصّل إليه بالرياء في العبادات ومقارفة المحظورات.
وأهون منه التوصّل إليه بالمباحات وهو على شفا جرف الاهلاك لعدم إمكان ضبط حدود الأقوال والأفعال التي بها تستمال القلوب.
ثمّ عدم السعي في طلبه ، لكن يسرّ صاحبه ويرتاح من غير كراهة لسروره وهو أيضاً نقص للسالك المعالج لقلبه وإن لم يكن آثماً في ظاهر الشريعة.
ثم السرور به مع كراهته وتوبيخ نفسه عليه ، فإن كان في مقام المجاهدة لم يترتّب عليه ذمّ ولا ملامة ، بل يثاب عليه إن شاء الله تعالى ، والا لم يكن خالياً عن شوب نقص.
1 ـ المحجة البيضاء : 6/112.
2 ـ المحجة البيضاء : 6/133.
3 ـ المحجة البيضاء : 6/133 ، وفيه : « في وجوههم ».
(298)
والسبب العمدة فيه ما ذكر في حبّ الجاه من ميل النفس إلى تسخير القلوب واهتزازه منه ، سيّما إذا كان المادح ممّن يتّسع قدرته وينتفع من اقتناص قلبه ، أو كان ممّن يعتني الناس بمدحه ، وربّما يتسبّب من شعور النفس بكمالها المحبوب لها بذاته ، فإن كانت شاكّة في اتصافها به وصدر عن البصير الغير المجازف كالوصف (1) بكمال العلم من العالم عظمت اللذّة والسرور ، إذ بترتّب عليه طمأنينة بعد شكّ ، وعلم بعد جهل ، وإن كانت متيقّنة به لكونه من الكمالات الظاهرة الجليّة كاعتدال القامة وصفاء اللون حصلت لذّة ما من التنبّه بعد الغفلة ولم يكن عظيمة ، إذ لايترتّب عليه علم بعد جهل ، ولكن سكون بعد اضطراب ، وكذا إن كانت شاكّة فيه مع صدوره عمّن لابصيرة له لقلّة الاطمينان بقوله ، وإن علم انّ المادح غير صادق في المدح بطلت اللذّة رأساً.
وعلاجه أن يتفكّر في أنّ شعوره بكمال نفسه إن كان ثابتاً له في الواقع كان فرحه من فضل الله عليه أولى ، و الا فإن علم أنّه معتقد لما بقوله كان حقيقاً بالسعي في تحصيل تلك الفضيلة وإزالة ضدّها عن نفسه شكراً لما أنعم الله عليه من ستر عيوبه عن أعين الناس ، ونشر الثناء الجميل الذي ليس أهلاً له ، فهو بالهمّ والغمّ أولى ، وإن علم أنّه غير معتقد له كان مستهزءاً له فهو بالهمّ والغمّ أحقّ وأحرى ، مع أنّه إن كان المدح بمثل الجاه والثورة وغيرهما من الكمالات الوهميّة ، فالفرح بها من قلّة العقل كما عرفت مراراً ، وإن كان من الفضائل النفسية فالتمدّح بها لكونها مقرّبة إلى الله وهو فرع حسن الخاتمة الذي لايعلمه الا الله ففي خطر الخاتمة شغل شاغل عن كلّ ما يفرح به. وسائر الأسباب مرجعها إلى حبّ الجاه ، وقد عرفت علاجه.
ويعلم علاج كراهة الذمّ من ضدّها ونزيدك تنبيهاً بأن قصد الذامّ منه إن كان النصح والارشاد فما أعظم حقّ إحسانه عليك ، وما أقبحك لو غضبت
1 ـ في « ج » : كما لو وصف.
(299)
على من كان قصده الاحسان وأحسن إليك ، فبالحريّ أن تجتهد في إزالة ما هداك إليه من عيوبك.
وإن كان قصده الأذية وكان صادقاً فيما نسبه إليك فقد حصّلت منه ما تنتفع به من الارشاد مع الجهل والتذكّر مع الغفلة ، والتقبيح مع التذكر ، فينبغي لك أن تغتنمه وتبادر إلى إزالته عنك ، فإنّه الأهمّ بحالك.
وإن كان مفترياً عليك فلا ينبغي لك الاشتغال بذمّه أيضاً.
أمّا أوّلاً : فلأنّك وإن خلوت عنه فلا تخلو عمّا يساويها أو يكون أفحش منها ، فالأولى بحالك الاشتغال بإزالة سائر عيوبك شكراً لما أنعم الله عليك من سترها عليك ، فهو جار في الحقيقة مجرى التنبيه من الله سبحانه والارشاد إلى السعي والاجتهاد في إزالتها.
وأمّا ثانياً : فلأنّه تعالى جعله كفّارة لذنوبك ، وقد أهدى إليك خصمك بذمّه لك حسناته ، كما ورد في كثير من الأخبار ، فلو غضبت عليه وصدر منك المكافاة أو التعدّي كنت قد حرمت نفسك عمّا هو كفّارة لذنوبك ، وعن الهدايا التي أهداها إليك ، فهو في الحقيقة ظالم لنفسه ومحسن إليك ، فلا يليق بلك ذمّه أصلاً ، فاللائق بحال السالك المعالج لقلبه أن يبدّل هذه الصفة إمّا بضدّها كما ورد عن النبي صلى الله عليه وآله أنّه قال :
« ويل للصائم ، ويل للقائم ، ويل لصاحب الصوف الا من فقيل : يا رسول الله الا من؟ فقال : الا من تنزّهت نفسه عن الدنيا وأبغض المحدة واستحبّ المذمّة ». (1)
ولا أقلّ من تسويتهما في نظره. وقد يشتبه على السالك فلابدّ من الامتحان الصادق بالتفكّر في علاماتها حتّى يظهر صدقه فيما يدّعيه كأن لايكون نشاطه في قضاء حوائح المادح أكثر من الذامّ ولا غمّه في ابتلائه ببليّة أكثر منه ولا مصاحبته ومجالسته أهون عليه منه ولا ذلّة الذامّ في نظره أخفّ
1 ـ المحجة البيضاء : 6/137.
(300)
من ذلّة مادحه وهكذا.
وبالجملة فالمعتبر استواؤهما عنده في كلّ الحالات. والله المستعان.
الرياء تسخير قلوب الناس يخصال الخير أو آثارها مطلقاً أو في العبادة خاصّة ، والباعث عليه إمّا حبّ الجاه بنيل الحكومة أو القضاء وأخذ الرشى والايتمان على الودائع والصدقات وأموال اليتامى ، فيكون من رذائل الشهويّة ، أو للتسلّط والترفّع على الناس فيكون من رذائل الغضبية ، وإمّا الطمع فيما هو عادم له من المشتهيات كحضور المجالس لمشاهدة النسوان والصبيان وإظهار الزهد والورع ليبذل له الأموال ويرغب فيه النساء فيكون من رذائل الشهوية ، أو الخوف من أن ينظر إليه بعين الحقارة أو ينسب إلى البطالة والكسالة كترك العجلة والضحك بعد اطّلاع الناس عليه والقيام بالتهجّد وسائر النوافل إذا جلس مع الصالحين وتركه في الخلوة وغير ذلك.
ثم الرياء إمّا في أصول العقائد وهو كفر النفاق سواء كان في الشهادتين أو في ضروريات الدين بالاقرار بها ظاهراً مع اعتقاد طي بساط الشرع باطناً ميلاً إلى عقائد الملاحدة وأهل الاباحة ، وهذا أسوء من المحارب لجمعه بين الكفر والنفاق.
أو في العبادة الواجبة مع التصديق بأصل الدين كالصلاة والصوم في الخلاء دون الملاء ، وهو وإن لم يكن كافراً الا أنّه شرّ المسلمين لبطلان عبادته أوّلاً ، فإن الأعمال بالنيات ، فلا يكون ممتثلاً خارجاً عن عهدة التكليف فكأنّه لم يصلّ ، وأقترانه (1) بالرياء المأثوم صاحبه والممقوت عند الله تعالى ثانياً ، فهو أسوء حالاً من التارك للعبادات حيث جمع بين معصية الله مع الاستهزاء
1 ـ كذا ، والظاهر : اقترانها.