به تعالى والاستحقار بمالك الملوك وتحقيره بالنسبة إلى أدنى مملوك (1) ، والتلبيس على خلق الله بتخيّل كونه من أهل التقوى والديانة.
أو في السنن المستحبّة وهو أيضاً مهلك وإن لم يكن كالثاني لوجود الجهة الثانية فيه.
أو في صافها كفعل ما تركه نقصان أو كراهة وبالعكس.
أو في زيادات خارجة عن نفسها كحضور الجماعة قبل القوم وقصد الصف الأوّل وغير ذلك ، وهو أيضاً مذموم.
أو في فعل الأفعال المباحة أو ترك المكروهة أو ما يستتبع الذّم من الناس أو سقوط الوقار في أعينهم كترك العجلة في المشء إذا رآه أحد أو تزيّنه بالملابس الفاخرة خوفاً من نسبتهم له إلى البخل وغير ذلك ، وهذا بعضه مباح وبعضه مستحبّ ، وبعضه واجب لوجوب صيانة المؤمن من عرضه ، فلا يليق بذي المرؤّات ارتكاب الأمور الخسيسة بأنفسهم عند مشاهدة الناس وإن جاز في الخلوة لكونها منافية للمرؤّة ، فتتنافي العدالة أيضاً ، الا أنّها تختلف باختلاف البلاد والأشخاص والأوقات.
وفي الخبر : أنّ الصادق عليه السلام نظر إلى رجل من أهل المدينة اشترى لعياله شيئاً وهو يحمله ، فلمّا رآه استحى منه فقال عليه السلام : « اشتري لعيالي الشيء وأحمله إليهم ». (2)
ثمّ إنّه إمّا أن يتجرّد عن قصد القربة بحيث لولاء ترك العمل فهو الأعظم إثماً المبطل للعمل جزماً ، وكذا مع ضعف قصدها عن قصده ، وكذا مع المساواة لظواهر الأخبار الآتية.
1 ـ في « الف » كتب فوق هذه الجملة هكذا : « التفضيل لأدنى ل » والظاهر أنّ مراد الكاتب أنّ في بعض النسخ : « والتفضيل لأدنى مملوك » بدل « وتحقيره بالنسبة إلى أدنى مملوك » وفي « ب » كتبه أوّلاً ثمّ شطب عليه.
2 ـ الكافي : 2/123 ، كتاب الإيمان الكفر ، باب التواضع ، ح10 ، مع اختلاف.
(302)
وأمّا مع رجحان قصد القربة حيث لو لم يكن لم يترك العمل لكنّه ممّا يقوّي نشاطه فقيل : إنّه لا يحبط أصل العمل ولكن ينقص الثواب أو يعاقب صاحبه على مقدار قصد القربة.
ويشهد له قول الباقر عليه السلام لما سئل عن الرجل يعمل الشيء من الخير فيراه إنسان فيسرّه ذلك : « لا بأس ، ما من أحد الا ويحبّ أن يظهر الله له في الناس الخير إذا لم يكن صنع ذلك لذلك ». (1)
وفي الخبر : أنّ رجلاً قال رسول الله صلى الله عليه وآله : « إنّي أسرّ العمل لا احبّ أن يطّلع عليه أحد فيطلع عليه فيسرّني ، قال : لك أجران ، أجر السرّ وأجر العلانية. (2)
والأظهر البطلان ، أيضاً لدلالة الظواهر السمعية على اشتراط الاخلاص في النية والبطلان مع قصد الرياء والنهي عن الشرك في العبادة الموجب للفساد فيها ، كما حقّق في محلّه.
ولا دلالة للخبرين على المدّعى ، بل على صحّة عبادة من أراد إخفاؤها ، لكن سرّ مع حصول الاطّلاع اتّفاقاً ، وهو ممّا لابأس به ، سيّما إذا كان باعث سروره حسن صنع الله به بإظهاره الجميل وستره القبيح.
« قل بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا ». (3)
فكأنّه اعتبر بحسن صنيعه به في الدنيا حسنه به في الآخرة.
قال النبي صلى الله عليه وآله : « ما ستر الله على عبد في الدنيا الا ستر عليه في الآخرة ». (4)
أو رغبة المطّلعين في التأسيّ به فيضاعف له الأجر بقصده السرّ أوّلاً ثم القصد الثاني.
1 ـ الكافي : 2/297 ، كتاب الإيمان والكفر ، باب الرياء ، ح18.
2 ـ المحجة البيضاء : 6/166.
3 ـ يونس : 58.
4 ـ المحجة البيضاء : /164 ـ 165 ، وفيه : « على عبد ذنباً في الدنيا ».
(303)
وبهذا يظهر أنّه لو كان سروره من ظهورها ابتداء لأحد هذه المقاصد الصحيحة لم يضرّ أيضاً.
وهذا كما أنّ كتمان المعاصي والاغتمام عن ظهورها كذلك أيضاً ، كما أشرنا إليه سابقاً ، وإن كان الأصل في الاخلاص استواء السرّ والعلانية ، ولذا قيل : عليك بعمل العلانية ، أي ما لو ظهر لم تستح منه الا أنّه ليس شريعة لكلّ وارد ومسلكاً يسلكه كلّ قاصد ، نعم يشترط أن لايكون الباعث على إخفائها التلبيس على الناس باعتقاد الورع فيه ، بل إمّا الانقياد للأمر به أو النهي عن الوقاحة والتهتّك ، أو دلالة ستر الدنيا على الستر ف الآخرة ، أو ايجاب ظهورها الذمّ واللوم المؤلمين للقلب ، والألم شاغل من الحضور والتوجّه إلى ما خلق لأجله ، ولذا جاز إخفاء ما يؤدّي إلى حدوثه مطلقاً نعم كمال الصدق استواء المدح والذمّ ، الا أنّه عزيز الوجود.
أو كون الخلق شهداؤه في الآخرة ، كما ورد.
أو الخوف من قصدهم إيّاه بالأذى ومعاداتهم له إذا اطّلعوا على ذنبه.
أو الخوف من صيرورة السامع بذمّه له عاصياً وهو من كمال الايمان ، ويعرف بمساواة ذمّه وذمّ غيره.
أو الخوف من سقوط وقع المعاصي عن نظره.
أو اقتداء الناس به ويختصّ بمن يقتدى به.
أو مجرّد الحياء الذي هو من كرم الطبع ، فمن جمع بين الفسق والتهتّك كان أسوء حالاً من الفاسق المستور ، ولذا يجوز غيبته. وما اشتهر من كون بعض أفراده من ضعف النفس يراد منه الاستحياء ممّا ليس بقبيح ، بل مستحبّ أو واجب شرعاً كالمامة والوعظ والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بدون عذر شرعي ، ككون العاصي شائباً ، فقد ورد إجلال ذي الشيبة.
وقد يشتبه الرياء بالحياء كمن طلب من صديقه قرضاً ، فإن الرّد صريحاً من الوقاحة ، والاعطاء لمجرّد انقباض النفس من استشعار قبح ردّه مشافهة من
(304)
دون رغبة في الثواب ولا خوف من الذمّ أو رجاء للمدح ـ حتّى لو كان الطلب على سبيل المراسلة ردّه ـ من محض الحياء. وإن أشكل عليه الردّ للحياء والاعطاء للبخل ، فإن أعطى خوفاً من نسبته إلى البخل أو ذمّ الناس له فقد مزج الحياء والرياء ، وكان الباعث للرياء وإن [ أعطى ] (1) لمجرّد الاخلاص وطلب الثواب بإدخال السرور في قلب أخيه المؤمن وغير ذلك فقد مزجه بالاخلاص.
وكالرياء في المباحات على ماأشير إليه سابقاً ، فربّما يظنّ أنّ الباعث عليه هو الحياء وهو غلط لاختصاصه بالقبائح العقليّة أو الشرعيّة أو العرفيّة ، فليس ذلك الا من الرياء.
ثم الرياء الجليّ ما يبعث على العمل لو لا قصد الثواب ، والخفيّ ما لايبعثه بمجرّده الا أنّه يخفف ما اريد به التقرّب في الخلوة ، ويعرف بالسرور باطّلاع الناس عليه لطلب منزلة في القلوب فيستبعد على نفسه تقصير الناس في إكرامه كأنّه يتقاضاه على عمله مع أنّه لم يطّلع عليه أحد ، فهذا لايخلو عن شوب خفي والا لم يكن وجه لتوقّعه. فعلامة الخلوص أن لا يفرّق بين حضور الانسان والبهيمة.
ثم إنّ الباعث إمّا حبّ المدح أو كراهة الذمّ أو الطمع ، ولما عرفت انّ المدة في إزالة شيء إزالة علله ودواعيه فأنفع شيء في علاجه قطع الثلاثة بما ذكر سابقاً.
ومن جملة العلاج العلمي له التذكّر لما ورد في ذمّه والتشديد فيه من الآيات والأخبار ، ثم لما يدلّ على قبحه من الاعتبار ، قال الله تعالى :
« فويل للمصلّين* الّذين هم عن صلاتهم ساهون* الّذين هم يراءون ويمنعون الماعون » (2) « يراءون الناس ولا يذكرون الله إلا قليلاً » (3) « كالّذي
1 ـ ساقط من « ج ».
2 ـ الماعون : 4 ـ 7.
3 ـ النساء : 142.
(305)
ينفق ماله رئاء الناس ». (1)
وعن النبي صلى الله عليه وآله : « إنّ أخوف ما أخاف عليكم الشرك الأصغر ، قيل : وما الشرك الأصغر؟ قال : الرياء ، يقول الله تعالى يوم القيامة للمرائين إذا جازى العباد بأعمالهم : اذهبوا إلى الذين كنتم تراءون لهم فانظروا هل تجدون عندهم الجزاء ». (2)
وعنه صلى الله عليه وآله : « يقول الله تعالى : من عمل عملاً أشرك فيه غيري فهو له كلّه وأنا بريء منه ». (3)
وعنه صلى الله عليه وآ له : « لا يقبل الله عملاً فيه مقدار ذرّة من رياء ». (4)
وعنه صلى الله عليه وآله : « أدنى الرياء شرك ». (5)
وقال صلى الله عليه وآله : « إنّ المرائي ينادى يوم القيامة يا فاجر! يا غادر يا مرائي! ضلّ عملك وحبط أجرك ، اذهب فخذ أجرك ممّن كنت تعمل له ». (6)
وقال صلى الله عليه وآله في حديث طويل : « يصعد الحفظة بعمل العبد من صلاة وزكاة وصيام وحجّ وعمرة وخلق حسن وصمت وذكر الله وتشيّعه ملائكة السماوات حتّى يقطع الحجب كلّها إلى الله تعالى فيقفون بين يديه ويشهدون له بالعمل الصالح المخلص الله ، فيقول الله : أنتم الحفظة على عمل عبدي ، وأنا الرقيب على نفسه ، إنه لم يردني بهذا العمل وأراد به غيري فعليه لعنتي ، فيقول الملائكة كلّها : عليه لعنتك ولعنتنا ، وتقول السماوات كلّها : عليه لعنة الله واعنتنا وتلعنه السماوات السبع ومن فيهنّ ». (7)
1 ـ البقرة : 264.
2 ـ المحجة البيضاء : 6/140 ، مع اختلاف.
3 ـ المحجة البيضاء : 6/140 مع اختلاف وزيادة.
4 ـ المحجة البيضاء : 6/141.
5 ـ المحجة البيضاء : 6/141.
6 ـ المحجة البيضاء : 6/141.
7 ـ المحجة البيضاء : 6/143 ـ 144.
(306)
وقال علي عليه السلام : « من عمل لغير الله وكله الله عمله ». (1)
وقال الصادق عليه السلام : « من أراد الله بالقليل من عمله أظهر الله له أكثر ممّا أراد ، ومن أراد ، الناس بالكثير ن عمله في تعب من بدنه وسهر من ليله أبى الله عزّوجلّ الا أن يقلّله في أعين من سمعه ». (2)
وغير ذلك ممّا لا تحصى.
هذا ، مع أنّ العاقل لايرغب فيما لانفع له فيه فضلاً عمّا كان مضرّاً له ، ولو قابل ما يفوته من صلاح القلب وسلب التوفيق والبعد عن الله تعالى والتعرض لمقته وعذابه وتشتّت الهمّ وتفرّق البال في ملاحظة القلوب (3) حيث إنّ رضاهم غاية لا تدرك ، إذ كلّما رضي به قوم سخطه آخرون ، بما يحصل له من الناس لو سلم له ذلك لم يجده الا ضرراً محضاً خالصاً من شوائب النفع.
على أنّ ايثار رضى الخلائق على رضى الخالق إنّما يتصوّر لجلب نفع أو دفع ضرّ منهم ، وأيّ قدرة لهم عليهما مع كونهم شر كاوه في العجز والحاجة إليه تعالى وكونهم عبيداً مملوكين لا قدرة لهم على صلاح أنفسهم في الدنيا فكيف بغيرهم فيها وفي الأخرى ، والمسخّر لقلوبهم بالمنع والاعطاء هو الله تعالى الرازق لهم والمتكفّل لحوائجهم والمتمّم لنقائصهم بقدر قابليّاتهم ، فلو كان قابلاً لما يطمعه من غيره الّذي لم يصل إليه الا من الله تعالى لما رجّحه عليه لأنّه الفيّاض الذي لايبخل في الاعطاء والناس بالنسبة إليه سواء.
فلو كان قلبه مستنيراً بنور الايمان وصدره مشروحاً بحقيقة الاسلام والايقان وكمال العرفان بحقيقة الوجوب والإمكان وأنّ الواجب تامّ وفوق التمام ، فما سواه إمّا شؤونات لذاته الأعلى ومظاهر لصفاته وأسماءه الحسنى
1 ـ الكافي : 2/297 ، كتاب الإيمان والكفر ، باب الرياء ، ح17 مع زيادة.
2 ـ الكافي : 2/296 ، كتاب الإيمان والكفر ، باب الرياء ، ح13 ، وفيه : « في عين ».
3 ـ في ج : « في قلوب الخلق ملاحظة » بدل « في ملاحظة القلوب ».
(307)
كما يدّعيه طائفة محقّقون عارفون أو ماهيّات إمكانيّة اعتبارية علماً وعيناً صادرة عنه بوجودات خاصّة ارتباطية بمحض الارادة والمشيّة كما زعمه قوم آخرون ، وأنّه لو لم يكن كذلك لم يتم دعوى كونه فوق التمام ، أو كان ما يستند إليه الأشياء بالنهج المذكور أتمّ منه وأقوى وأكمل وأبهى ، تيقّن بأنه ليس في عالم الوجود سواه وأنّ ماسواه أعدام محضة في نفسها ، فكيف يرفع اليد عنه تعالى ويطمع فيما في يد مثله في الحاجة ، ويرضى لنفسه بالذلّة والمهانة؟ ولو أعطوه شيئاً لم يخل إعطاؤهم عن المنّة والاهانة.
فلو قرّر هذه المطالب في نفسها فترت رغبته وهان ميله إلى الرياء وانقطع بشراشره إلى من إليه يرجع كلّ الأشياء. هذا مع شهادة التجربة بأنّ من آثر رضى الخلائق واقتفى أثر مدحهم وخاف من لومهم وذمّهم أخافه الله منهم وكشف عن سرّه فمقتوه وأبغضوه ، ومن آثر رضاه تعالى وأخلص له في قرباته كشف الله لهم عن إخلاصه وحبّبه إليهم وأطلق ألسنتهم بمدحه وكفّ ألسنة السوء عنه بقدرته النافذة.
ومن جملة معالجاته العملية تعويد نفسه على إخفاء العبادات وإغلاق الأبواب دونها كما تغلق في الفواحش حتّى لاتنازعه نفسه وإن شقّ عليه ذلك في بداية الأمر ، لكنّه يهون عليه بعد تدريجاً ويساعده لطف الكريم تحقيقاً ، ويمدّه من فضله وكرمه تأييداً وتوفيقاً ، والله لايضيع أجر المحسنين.
وهاهنا فوائد يحسن التنبيه عليها :
الأولى : لو عقد العمل على الإخلاص واستمرّ عليه إليه الفراغ لم يحبطه السرور بظهوره بعده لا من قبله ، ولا يعصي به أيضاً إن كان لأحد المقاصد الصحيحة والا كان عاصياً وإن كان من نفسه بالتحدّث بعده قيل بإحباطه ، لأنّ حبّ التحدّث يدلّ على انعقاد خفيّ من الرياء حال الاشتغال ، وايّد بقوله صلى الله عليه وآله لمن قال : إنّي صمت الدهر : « لاصمت ولا
(308)
أفطرت ». (1)
وقول ابن مسعود لمن قال : قرأت البارحة سورة البقرة : « ذلك حظّه منها ». (2)
وفيه نظر ، لأنّ المؤاخذة على الخفي الذي لايشعر به صاحبه تكليف بالمحال أو بما يلزم منه الحرج المنفي.
وليس في الخبرين كون الانكار لأجل المفروض ، فلعلّه لشيء آخر.
نعم يدل عليه قول الباقر عليه السلام : « الإبقاء على العمل أشدّ من العمل ، قيل : وما الإبقاء على العمل؟ قال : يصل الرجل بصلة وينفق لله بنفقة فيكتب له سرّاً ثم يذكرها فتمحى وتكتب له علانية ، ثم يذكرها فتمحى وتكتب له رياء ». (3)
والحق أنّه وإن ارتفع به اشتغال الذمّة ظاهراً فلا يجب عليه القضاء والاعادة الا أنّه لايوجر عليه ولايرفع بسببه في ميزان عمله ، بل يذمّ ويعاتب عليه.
ولو كان في الأثناء فإن كان بحيث لو لم يحدث أتمّ على إخلاصه ، لكن كان سروره لمقصد غير صحيح ، فقيل بالاثم والابطال للعمومات.
وفيه نظر ، لأنّ المتبادر من الإشراك أو كون العمل لغير الله هو كونه باعثاً أو شريكاً في البعث وليس الأمر كذلك ، فهو كقصد التبريد بالوضوء إذا لم يكن هو الباعث عليه ، فالظاهر أنّه يرتفع به اشتغال الذمّة ، لكن ليس بذاك المرفوع في ميزان الحسنات.
وإن كان باعثاً فهو الرياء المحرّم سواء كان راجحاً أو مرجوحاً أو مساوياً.
1 ـ المحجة البيضاء : 6/166.
2 ـ المحجة البيضاء : 6/166.
3 ـ الكافي : 2/296 ـ 297 ، كتاب الإيمان والكفر ، باب الرياء ، ح16 مع اختلاف.
(309)
ثم لا يذهب عليك أنّ هذا يختصّ بالعبادة المركّبة من أجزاء يتوقّف صحّتها على صحّة كلّ منها كالصلاة والصيام ، وأمّا ما لا يكون أجزاؤه كذلك كالصدقة والقراءة ، فليس كذلك ، بل يختصّ الفساد بما طرء عليه الرياء دون السابق. ولو انعكس الأمر بأن عقد على الرياء ثم ندم في الأثناء فالحكم متّحد في جميع الشقوق.
الثّانية : اختلفت الأخبار والأقوال في ترجيح عمل (1) السرّ على العلانية وبالعكس وأنت في سعة من استخلاص نفسك بعدما نبّهناك على كون المناط الأصلي في الصّحة والفساد هو القصد ، فإنّ الأعمال بالنيّات ، وإنّ لكلّ امرىء ما نوى ، فما كان أبعد عن شوائب الرياء وأقرب إلى الاخلاص كان أرفع وأثقل في ميزان الأمال سرّاً كان أو علانية ، وما كان عن الإخلاص أبعد كان خفيفاً فيه كذلك فهما سيّان بالذات.
نعم لما كانت بواعث الرياء في الاعلان أكثر وأجلى مع نهاية غموض شعبها وخفاء مداركها مع ضعف أغلب النفوس عن مممدافعتها ولابدّ للحكيم من إجراء الحكم على وفق طباع النفوس الضعيفة رفقاً بها كما أشرنا إليه في بحث الفقر والغنى ، فلذا فضّل الاسرار على الاعلان ، لكنّه مرجّح عرضي يحصل بالنسبة إلى بعض الأشخاص لا في جميع الأحيان ، كما أنّ من كان عالماً بشعبه بأسرها فطناً بمزالق أقدام العباد في مواقعها وكانت له نفس قويّة لايتفاوت بالنسبة إليها الاسرار والأعلان واقتداء الناس به وبغيره من الأمثال والأقران يكون الاعلان بالنسبة إليه أفضل حتّى يرغب الناس بسببه إلى الخيرات ويتنبّهوا على الاقتداء به في الطاعات.
ويظهر لك بهذا وجه الجمع بينها ولو تعارض فائدة اقتداء الناس به بغائلة الشوائب الخفيّة من الرياء كان الاسرار أرجح وأتمّ ، لأنّ محافظة نفسه عن الهلاك أهمّ من إرشاد غيره حتّى لايكون حسرته في يوم القيامة أشدّ
1 ـ في « ج » : علل.
(310)
وأدوم.
الثالثة : لابدّ للسالك أن يعلم أنّ الشيطان باذل منتهى جهده بأقصى جدّه ـ لشدّة عداوته بصيرورته طريداً لأجله ـ في حرمانه عن السعادات المنحصر حصولها له في العبادات لما عرفت من أنّها هي التي بها يحصل التقرّب إلى الله تعالى حتّى يحبّه فيصير سمعه وبصره ويده ورجله ، وأنها الباب الذي به يفوز المرء بالمعرفة الحقيقية المخلوق لأجلها فهي السعادة الواقعيّة ، فكيف لايبذل جهده في حرمانه عنها وخذلانه وقد حلف بعزّته سبحانه وعظمة شأنه ليغوينّهم أجمعين الا المخلصين من عباده الفائزين عرفانه فيدعوه أوّلاً إلى ترك العمل ، فإن لم يجبه دعاه إلى الرياء ثم بعد يأسه عنه يقول : هنا مظنة رياء لاينفع معه العمل فالأحسن لك تركه ، فكما يجب للسالك ترك إجابته في الأوّلين فكذا الثالث.
فإن كان مطلوبة طاعة غير متعدّية إلى الغير كالصلاة والصوم والحجّ ، فإن كان باعثه الرياء من أوّل الأمر لم يشرع فيه الا بعد خلاصه عن هذه الغائلة ، وإن دخله بعد العقد أو في أثنائه فلا ينبغي له الترك لأنّه حصل له باعث دينيّ أوّلاً وباعث الرياء طار فليجاهد في دفعه وتحصيل الاخلاص وقهر نفسه عليه بلامعالجات السابقة ، فإنّه إذا كان في مقام المجاهدة مع نفسه وقهرها على ذلك سامحه الله بعظيم عفوه ورحمته ودفع عنه كيد الشيطان بجسيم منّه ورأفته.
وإن كان ممّا (1) لا يتعدّى كالامامة والوعظ والقضاء والتدريس والافتاء ، ففوائدها جسيمة وغوائلها عظيمة ، فمن منّ الله عليه بالوصل إلى مرتبة ينتفع به الناس حقيقة فإن كان ذانفس قدسيّة وقوّة عقليّة قويّة بحيث يكون الخلق في نظره ـ لاشتغاله بمراتب الاخلاص ومعرفته بعظمة الله سبحانه ـ كالبهائم أو دونها ، وجودها كعدمها ـ وما أقلّ من هذا شأنه ـ كان اللازم لمثله
1 ـ كذا في النسخ ، والظاهر زيادة « لا ».