أولى بالاعتبار كما عرفت.
وقد يطلق العدالة على معنى أخصّ ، أي الاستقامة على الحقّ ، وإقامة كلّ أحد عليه في الحقوق الخلقية ، وكذا الظلم على ما يقابله أي التعدّي عنها بالإضرار والأذية ، وسيذكر في أنواع ما يجب مراعاته بينه وبين الخلق إن شاء الله تعالى.
وإذ قد عرفت أنّ حاصل العدالة يؤول إلى أمرين ما يلزم مراعاته بين العبد وبين الخلق وما يلزم مراعاته بينه وبين الله تعالى ، وكذا الظلم فلنفصّل الكلام فيهما في مقامين ، وفي كلّ مقام في مقصدين :
ويسمى جوراً أيضاً ، أي التعدّي عن الأوساط اللازمة مراعاتها ، وفيه مقصدان :
المقصد الأول
في أنواع التعدّي عن الأوساط اللازمة مراعاتها فيما بين العبد والخلق.
تمهيد
مراعاة الحقوق اللازمة مراعاتها في حصول العدالة فيما بينه وبين الخلق وتركها والتعدّي عنها حتّى يسمّى ظلماً إنّما يحتاج إلى معرفتهما مع الصحبة والمعاشرة معهم ، وأمّا مع الاعتزال والانفراد عنهم فلا ، فلابدّ أوّلاً من بيان الأفضل منهما ، فإنّ للناس اختلافاً فاحشاً في ترجيح أحدهما على الأخرى ، وظاهر كثير من قدماء الصحابة والتابعين ترجيح العزلة ، فإن بني الأمر عليه ووفّق الانسان لمرتبة الانس بالله والوحشة عن الخلق لم يحتج إلى تجشّم مراعاة حقوق العشرة وسلب رذيلة الظلم بهذا المعنى عن نفسه ، وتحصيل فضيلة العدالة كذلك ، وهذا أيضاً من فوائدها.
ونشير إلى أدلّة القولين إجمالاً ، فإنّ البسط فيها موكول إلى كتاب العزلة من الإحياء لأبي حامد ، حيث وفّاه حقّ البسط بما لامزيد عليه.
فأحسن ما يمكن أن يستدلّ به على تفضيل العزلة قول الصادق عليه السلام : « صاحب العزلة متحصّن بحصن الله ومحترس بحراسته ، فياطوبى لمن تفرّد به سرّاً وعلانية ويحتاج إلى عشر خصال : علم الحقّ والباطل ، وتحبّب
(363)
الفقر ، واختيار الشدّة ، والزهد ، واغتنام الخلوة ، والنظر في العواقب ، ورؤية التقصير في العبادة مع بذل المجهود ، وترك العجب ، وكثرة الذكر بلا غفلة ، فإنّ الغفلة مصطاد الشيطان ، ورأس كلّ بليّة ، وسبب كلّ حجاب ، وخلوه البيت عمّا لا يحتاج إليه في الوقت قال عيسى بن مريم عليه السلام : اخزن لسانك لعمارة قلبك ، وليسعك بيتك وفرّ من الربا وفضول معاشك ، وابك على خطيئتك ، وفرّ من الناس كفرارك من الأسد والأفعى فإنّهم كانوا دواءاً ، فصاروا اليوم داء ثم الق الله متى شئت ». (1)
وقال عليه السلام : « فسد الزمان وتغيّر الإخوان وصار الانفراد أسكن للفؤاد ». (2)
وروي أنّ معروفاً الكرخي قال له عليه السلام أوصني يابن رسول الله! فقال عليه السلام : « أقلل معارفك ، قال : زدني ، قال : أنكر من عرفت منهم ». (3)
ولهم أدلّة أخرى ضعيفة ، إذ غاية ما يدلّ عليه بعضها حسن الاعتزال عمّا لا فائدة فيه كمخالطة الكفّار بعد اليأس عن هدايتهم ، وبعضها الأخرى كون الأليق بحال البعض ذلك ، وأخرى على حسن الخمول والتوقّي عن الشهوة ولا ربط له بالعزلة.
وأحسن ما يمكن به الاستدلال للثاني ما ورد من الثناء على نفس الالفة وانقطاع الوحشة ، قال تعالى :
« فاصبحتم بنعمته إخواناً » (4) « ولكنّ الله ألّف بينهم » (5)
« المؤمن ألف مألوف ، ولا خير فيمن لا يألف ولا يؤلف » (6) ، و« من أراد
1 ـ مصباح الشريعة : الباب 24 ، في العزلة.
2 ـ المحجة البيضاء : 4/5.
3 ـ المحجة البيضاء : 4/5.
4 ـ آل عمران : 103.
5 ـ الأنفال : 63 ، وفي النسخ : « ألّف بين قلوب المؤمنين » ويمكن أن يكون اقتباساً من الآية.
6 ـ المحجة البيضاء : 3/285.
(364)
الله به خيراً رزقه خليلاً صالحاً إن نسي ذكّره وإن ذكر أعانه » (1) ، و« ما التقى المؤمنان قط الا أفاد [ الله ] أحدهما من صاحبه خيراً » (2) ، إنّ حول العرش منابر من نور عليها قوم لباسهم نور ووجوههم نور ليسوا بأنبياء الله ولا شهداء يغبطهم النبيّون والشهداء ، فقيل : يارسول الله صفهم لنا ، فقال : هم المتحابّون في الله المتجالسون لله المتزاورون في الله » (3) ، و« أوحى الله إلى داود ما لي أراك متفرّداً وحيداً؟ فقال : إلهي قليت الخلق لأجلك ، فقال : يا داود! كن يقظاناً وقدّر لنفسك إخواناً فكلّ خدن لايوافقك على مسرتي فلا تصحبه ، فإنّه لك عدوّ يقسي قلبك » (4) والأخبار بهذا المضمون كثيرة.
وكذا ما يدلّ على حسن الخلق وطلاقة الوجه وقضاء حوائج المؤمنين وزيارتهم وعيادة مرضاهم وتشييع جنائزهم وغير ذلك ممّا لايحصى.
وما يقال : إنّ غاية ما تدلّ عليه نزع الغوائل عن الصدور وحسن الخلق وذمّ سوء الخلق الذي يمتنع بسببه المؤالفة ولايدخل فيها الحسن الخلق الذي إن خالط ألف والف وإنّما منعه عنها شيء آخر.
مدفوع بأنّه مع عدم جريانه في أكثرها خلاف المتبادر من اللفظ ، وقضية الجمع بينها وبين ما تقدّم على ما يساعده القرائن والاعتبار أنّ لكل منهما فوائد وغوائل ، فمن أمن من غوائل احديهما مع حصول فوائد الاخرى له أو عدم ايتمانه من غوائلها كان الأصلح له اختيارها ، وهو أمر مختلف باختلاف الأشخاص والأحوال والأوقات كالنكاح ، فلابدّ من التدقيق في حال النفس والوقت وما هو الأصلح بحسبه وهو متوقّف على معرفة فوائدهما وغوائلهما.
فمن فوائد الاولى الفراغ للعبادة والتفكّر والانس بمناجاته تعالى ،
1 ـ المحجة البيضاء : 3/285.
2 ـ المحجة البيضاء : 3/285.
3 ـ المحجة البيضاء : 3/286.
4 ـ المحجة البيضاء : 3/288.
(365)
واستكشاف أسرار عالم الملكوت ، فإنّ المخالطة شاغلة للنفس عنها ، ولذا كان صلى الله عليه وآله قبل البعثة منعزلاً إلى جبل حراء حتى قوي فيه نور النبوّة ، بحيث لم يحجيه الخلق عن الله ، بل كان ببدنه مع الخلق وقلبه مع الله ، ولا يقوى على الجمع بينهما الا النبوّة أو الوالاية الكاملة ، وهو إنّما يتيسّر بالاستغراق في حبّ الله تعالى وانسه ، فلا يبقى لغيره متّسع فيه ، وليس بمستنكر مع ما ترى في الخلق من المستهترين بالحبّ من يخالطهم ببدنه ، ولا يفهم ما يقول أو يقال له لفرط عشقه فأمر الآخرة أعظم عند أهلها.
قال اويس لبعض من جاءه زائراً : ما جاء بك؟ قال : الانس بك ، فقال : ما كنت أرى أحداً يعرف ربّه فيأنس بغيره.
وقال بعضهم : من لايأنس بمحادثة الله عن محادثة المخلوقين فقد قلّ علمه وعمي قلبه وضيّع عمره ففي العزلة والخلوة انس بالله واستكثار من معرفته منه.
وقيل :
وإنّي لأستنعس وما بي نعسةوأخرج من بين الجلوس لعلّني
ولذا قيل : إنّ وحشة النفس عن الخلوة لخلوّها عن الفضيلة ، والاستيناس بالناس من علامات الافلاس ، وهذه من أتمّ الفوائد وأعظمها ، لأنّ الغاية القصوى هي المحبّة والمعرفة ، ولا مطمع فيهما الا بدوام الذكر والفكر الغير الحاصلين الا مع الفراغ الغير الممكن بالمخالطة.
ومنها : الاستخلاص عن المعاصي المسبّبة من المخالطة كالرياء والغيبة والسكوت من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والنفاق ومسارقة الطبع من أخلاق أهل الدنيا وأعمالهم الخبيثة ، فإنّ الاحتراز عن الغيبة مع الاختلاط صعب لكونها عادة مستمرّة للناس يتفكّهون بها ويستلذّون منها ، فلو وافقتهم أثمت ولو سكت أو استمعت كنت منهم ، ولو أنكرت أبغضوك
(366)
واغتابوك ، وكذا المخالطة لاتخلو عن مشاهدة المنكرات ، فإن سكت عصى والانكار معرّض للمضارّ ، وربّما انجرّ إلى معاصي اخر كثيرة ، فإنّ فيه إثارة للفتنة والخصومة وتحريكاً لغوائل الصدور ، كما قيل :
وكم سقت في آثاركم من نصيحة
وقد يستفيد البغضة المتنصّح
وكذا الرياء ، فإنه ممّا يعسر على الأوتاد والأبدال فلابدّ للمخالط من المداراة وللمداري من المراءاة فيقع فيما وقعوا ، وأقلّه النفاق بإظهار الشوق والمبالغة في إظهار التلطّف والاشفاق مع خلوّ القلب وفراغ الخاطر عنه حتى إنّ ذلك أمر بيّن لدى المستمع وكثيراً مّا تمتلىء القلوب من الأحقاد مع انطلاق الألسنة بالسؤال ، والأخير داء دفين قلّما يتنبّه له الأذكياء ، فإنّ وقع الفساد يسقط بكثرة المشاهدة إلى أن يذعن الطّبع بالميل إليه أو إلى مادونه ، فإن كثرة مشاهدة الكبائر من الأمثال والأقران يحقّر الصغائر في النفس ، بل يكفي في تغيّر الطباع مجرّد السماع ، فضلاً عن المشاهدة.
ولذا قال صلى الله عليه وآله : « عند ذكر الصالحين تنزل الرحمة » (1) ، فإن سببه انبعاث الرغبة عن القلب في الاقتداء بهم ، لكون فعل الخير مبداً للرحمة ، والرغبة مبدأ له وذكراً أحوال الصلحاء مبدأ لها ، فإذا كان الذكر كذلك فما ظنّك بالمشاهدة وكثرتها والطبع اللئيم مائل إلى اتّباع الهفوات والاعراض من الحسنات ، بل تقدير الاولى فيمن ليست فيه تنزيلاً له على قضيّة الشهوة.
وفي النبوي : « مثل الذي يستمع الحكمة ثم لا يحمل منها الا شرّ ما سمع كمثل رجل أتى راعياً فقال له : أحرز لي شاة من الغنم ، فقال : اذهب فخذ خير شاة منها ، فذهب وأخذ باذن كلب الغنم » (2) ، ولذا تستنكر الطباع ما قلّ وقوعه من المعاصي وإن كانت صغائر كتختّم الفقيه بالذهب ولبسه الحرير دون ما شاع كالغيبة مثلاً فتفطّن لهذه الدقائق وفرّ من الناس
1 ـ المحجة البيضاء : 4/17 ، وفيه : « أجزر لي شاة ».
2 ـ المحجة البيضاء : 4/18.
(367)
فرارك من الأسد ، حيث لاترى منهم الا مايغفلك عن الآخرة ويهوّن عليك المعصية ، ويضعّف رغبتك في الطاعة.
ومنها : اخلاص من الخصومات والتعرّض للأخطار والفتن التي لايخلو بلد عنها.
وروى ابن مسعود أنّه صلى الله عليه وآله قال : « سيأتي على الناس زمان لايسلم لذي دين دينه الا من فرّ بدينه من قرية إلى قرية ومن شاهق إلى شاهق ومن حجر إلى حجر ، كالثعلب الذي يروغ ، قيل : ومتى ذلك يا رسول الله؟ قال : إذا لم تنل المعيشة الا بمعاصي الله تعالى ، فإذا كان ذلك الزمان حلّت العزوبة ، قالوا : كيف ذلك يا رسول الله وقد أمرتنا بالتويج؟ قال : إذا كان ذلك الزان كان هلاك الرجل على يدي أبويه ، فإن ل يكن له أبوان فعلى يدي زوجته وولده ، فإن لم يكن فعلى يدي قرابته ، قالوا : فكيف ذلك يا رسول الله؟ قال : يعيّرونه بضيق اليد فيتكلّف ما لا يطيق حتى يورده ذلك موارد الهلكة ». (1) وهو وإن اختصّ بالعزوبة الا أنّه يفهم منه العزلة لعدم إمكان التزويج الا بالمعيشة المستلزمة للمخالطة اللازم منها الوقوع في الفتن والأخطار.
وقال بعضهم لمّا وبّخوه على الاعتزال وترك إتيان الجماعات والمساجد : ـ رأيت مساجدكم لاهية وأسواقكم لاغية والفاحشة في محاجّكم عالية وفيما هنا عمّا أنتم في عافية. (2)
ومنها : الخلاص عن شرّ الناس من الغيبة وسوء الظنّ والتهمة والأطماع التي يعسر الوفاء بها والكذب والنميمة والحسد ونصب المكائد في إضراره وغير ذلك ممّا يطول الكلام بتفصيله.
وقد كان بعض الأكابر ملازماً للمقابر والدفاتر ، فقيل له في ذلك ،
1 ـ المحجة البيضاء : 4/20.
2 ـ المحجة البيضاء : 4/21.
فقال : « لم أر أنيساً أسلم من الوحدة ، وأوعظ من القبر ، ولا جليساً أمتع من الدفتر » (1) ، وبعضهم ملازماً للأشجار قائلاً « : إنّ فيها ثلاث خصال : إن سمع لم ينمّ وإن تفلت في وجهه احتمل ، وإن عربدت معه لم يغضب » (2) ، ولايخلو الانسان في دينه وأفعاله ودنياه وأخلاقه من عورات يكون الأحسن بحاله سترها ولايمكن بالمخالطة.
ومنها : انقطاع الطمع عنه ، فإن رضى الناس غاية لاتدرك وتعميم الناس بجميع الحقوق متعسّر ، بل متعذّر ، والأشغال والأعذار كثيرة لايمكن إظهارها لكل أحد ، والتخصيص مورث للوحشة والبغضاء ، فإذا عمّمهم بالحرمان رضوا عنه ، وفي عكسه أيضاً فائدة جزيلة ، فإن من شاهد أهل الدنيا ومامتّعوا به من زهرتها ونعيمها فإما أن يقوى دينه ويقينه للصبر ففيه تجرّع لمرارته الذي هو أمرّ من الصبر ، أو تنبعث رغبته إلى الدنيا فيحتال في طلبها فيهلك مؤبّداً.
أمّا في الدنيا فبالخيبة عمّا يطمعه غالباً والوقوع في الأخطار والآفات والمهانة والاذلال بذلك.
وأمّا في الآخرة فبايثاره متاع الدنيا على الآخرة ولذا قيل :
إذا كان باب الذلّ من جانب الغنا
سموت إلى العلياء من جانب الفقر
ومنها : الخلاص عن مشاهدة الحمقى ومقاساة أخلاقهم ، فإنّ رؤية الثقيل هو العمى الأصغر ، وقال جالينوس : حمّى الروح مشاهة الثقلاء.
وأغلب هذه الفوائد وإن تعلّقت بالدنيا الا أنّها ربّما تؤدّي إلى الدين أيضاً ، فإنّ رؤية الثقيل يستلزم غيبته غالباً ، والاستنكار لصنع الله وغير ذلك.
ومن فوائد المخالطة التعلّم والتعليم وهما من أعظم العبادات كما أشير
1 ـ المحجة البيضاء : 4/22.
2 ـ المحجة البيضاء : 4/22.
(369)
إليه ساببقاً إذا كانا فيما يحتاج ليه لأمر الآخرة وضروري الدنيا مع صحّة النيّة فيهما وخلوصهما عن الأغراض الفاسدة ، فالاعتزال قبل التعلّم اللازم تضييع للأوقات بما لا ينفع بل يضرّ ، بل يحسب « من الذين ضلّ سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنّهم يحسنون صنعاً ». (1)
وكذا ترويج العلوم بالتعليم وإرشاد الناس إلى الصراط المستقيم من أفضل الطاعات مع خلوص النيّات وحصول القابل للتعلّم الجامع لآدابه السالفة دون ماشاع في هذا العصر منهما ، فإنّ فسادهما أكثر من نفعهما كما لا يخفى.
ومنها : النفع والانتفاع بالمكاسب والمعاملات إن احتاج إليها أو قصد مقصداً صحيحاً شرعياً ، لكن لو كان عنده ما يكفيه مع القناعة كان الأفضل له العزلة لانسداد طرق المكاسب في هذه الأزمنة غالباً الا من المعاصي ، وكذا العزلة لتحصيل المعارف الحقّة أفضل من الكسب للصدقة على الناس ، ونفع الناس بماله أو بدنه وبالقيام بحوائجهم وقضائها له ثواب عظيم مع القيام بحدود الشرع فهو أفضل من العزلة للنوافل والأعمال البدنية الا أنّه لايعادل العزلة للاقبال بكنه الهمّة على الله والتجرّد لذكره والانس بمناجاته عن كشف وبصيرة لا عن أوهام فاسدة وخيالات باردة وظنون واهية لمن وفّقه الله للوصول إلى تلك المرتبة العالية.
ومنها : التأدّب ، أي الارتياض بمقاساة الناس والمجاهدة في تحمّل أذاهم كسراً للنفس وقهراً للشهوات ، وهذا مما يحتاج إليه في بدو السلوك ، وأمّا بعد حصول الارتياض فلا ، إذ ليس مقصوداً لذاته ، فإنّ البدن مركب للنفس تسلك به سبيل الآخرة ، فلابدّ من رياضتها وكسر شهواتها حتى لا تهمج (2) وينتفع بركوبه وسلوكه للطريق بالوصول إلى المقصد ، فلو اشتغل برياضتها
1 ـ الكهف : 104.
2 ـ كذا ، والظاهر : لاتجمع كما في المحجّة البيضاء (4/30).
(370)
دائماً بدون انتفاع منه باستعماله فيما يراد منه كان كالنائم والميّت في الخلا\ص عن ألم الشهوات مع عدم حصول الغاية المقصودة منها ، فالعزلة أفضل له حينئذ ، ونحوه التأديب ، أي تهذيب من كان مستعدّاً ، فإنّه لايمكن الا بالمخالطة معه كالمعلّم ، ويتطرّق إليه من الرياء وسائر الأخطار ما يتطرّق إليه ، فلابدّ من التدقيق في مقابلة ما تيسّر له منه بما يتيسر من العزلة ثم إيثار ما هو الأفضل له.
ومنها : الاستيناس بالناس في مواضع العشرة والانس كمجالس الولائم والدعوات وهو حظّ للنف في الحال ، فما يكون مشتملاً على فعل حرام محرّم ، أو مباح مباح ، فما أو مستحبّ كالانس بالملازمين لسمة التقوى بمشاهدة أحوالهم واستماع أقوالهم ، فمستحب ، ومنه ما لو كان الغرض منه ترويح القلب لتهييج النشاط في العبادة ، فإنّه يعمى إذا أكره ويتنفّر بتكليف المداومة في الرياضة والعبادة ، فلا يستغنى المتزل أبداً عن رفيق يستأنس به في بعض الأوقات ، الا أنّه يجتهد في طلب من لايفسد عليه بقيّة أوقاته ، وليكن غالب محادثته في أمور الدين والتشكّي من أحوال القلب والتفحّص عمّا به بهتدي إلى الحقّ.
ومنها : نيل الثواب بحضور الجنائز وعيادة المرضى والجمعة والعيدين والجماعا ، بل الإملاكات والدعوات من حيث إدخاله السرور على قلب مسلم ، وكذا إنالة الثواب بفتح الباب ليعزّوه أو يهنؤوه أو يعودوه ، فينالوا به الثواب ، أو كونه من العلماء فينالوا بزيارته الثواب.
ومنها : التواضع ، فإنّه من أفضل المقامات ولا يقدر عليه في العزلة ، بل قد يكون سببها الكبر بتحقير الناس أو خوف أن لا يوقّر ولا يقدّم أو كون عزلته أدخل في عزّته وجاهه عند الناس أو خوف ظهور قبائحه لو خالطهم فلا يعتقدوا فيه الزهد والعبادة فيستتر بها عن مقابحه إبقاء لاعتقادهم فيه ، وعلامة هؤلاء أنهم يحبّون أن يزاروا ولا يزوروا ويفرحون بتقرّب العوام