قدري ، فإنّك لو كنت مستحقاً له لسخّرهم ربّك لك ، فإنّه المؤلّف بين القلوب ومفرّقها واصمت عن باطلهم واحذر مصاحبتهم فإنّهم لايقيلون لك عثرة ولايسترون لك عورة ويحاسبونك على النقير والقطمير ويحسدونك على القليل والكثير ويؤاخذون على الخطا والنسيان ويعيّرون الإخوان بالنميمة والبهتان ، فصحبة أكثرهم ضرار وقطيعتهم رجحان ، إن رضوا فظاهرهم الملق ، وإن سخطوا فباطنهم الخنق ، واليؤمنون في خنقهم ولايرجون في ملقهم ، ظاهرهم ثياب ، وباطنهم ذئاب ، يستنصفون ولا ينصفون ويؤذونك ولا يعفون ، بل نيطقون بالظنون ويتربّصون بالصديق من الحسد ريب المنون ، يدّخرون عثراتك في صحبتهم ليحصوها عليك في وحشتهم.
ولا تعتمد بمودّة من لم تمتحنه حقّ الاختبار بالمصاحبة في محل واحد أو في الدار أو في الأسفار فتجرّبة في عزله وولايته وغناه وفقره أو معاملته أو تقع في شدّة فتحتاج إليه ، فإن رضيته في هذه الأحوال فاتّخذه أباً لك إن كان كبيرأً وابناً لك إن كان صغيراً ،وأخاً لك إن ساولك ، انتهى ملخّصاً ». (1)
تذنيب
قد بيّنا حقّ الجوار وحقّ الرحم ، ويدلّ على الثاني أخبار أكثر من أن تحصى ، وقد أشرنا إلى بعضها.
قال النبي صلى الله عليه وآله : « يقول الله تعالى : أنا الرحمن وهذه الرحم قد اشتققت لها اسماً من اسمي ، فمن وصلها وصلته ، ومن قطعها قطعته ». (2)
وقال الصادق عليه السلام في قوله تعالى : « واتّقوا الله الذي تساءلون به والأرحام » (3) : « هي أرحام الناس إنّ الله أمر بصلتها وعظّمهما ، ألا ترى أنّه
1 ـ المحجة البيضاء : 3/420 ـ 422.
2 ـ المحجة البيضاء : 3/427 ـ 428.
3 ـ النساء : 1.
(422)
جعلها منه؟ ». (1)
وقال الباقر عليه السلام : « صلة الأرحام تزكّي الأعمال وتنمي الأموال وتدفع البلوى وتيسّر الحساب وتنسىء في الآجال وتوسّع في رزقه ». (2)
وعن السجّاد عليه السلام : « قال : قال النبي صلى الله عليه وآله : من سرّه أن يمدّ الله في عمره وأن يبسط له في رزقه فليصل رحمه ، فإنّ الرحم له لسان ذلق يوم القيامة ، يقول ربّ! صل من وصلني واقطع من قطعني ». (3)
وقال الصادق عليه السلام : « إنّ صلة الرحم والبرّ يهوّنان الحساب ويعصمان الذنوب ، فصلوا أرحامكم وبرّوا بإخوانكم ولو بحسن السّلام وردّ الجواب ». (4)
وقال عليه السلام : « صل رحمك ولو بشربة من ماء ، وأفضل ما توصل به الرحم كفّ الأذى عنها ، وصلة الرحم منسأة في الأجل ومحبّة في الأهل ». (5)
وأفضلها وأحسنها الولادة.
قال النبي صلى الله عليه وآله : « برّ الوالدين أفضل من الصلاة والصوم والحجّ والعمرة والجهاد في سبيل الله ». (6)
وقال النبي صلى الله عليه وآله : « برّ الوالدة على الولد ضعفان ». (7)
وقال صلى الله عليه وآله : « الوالدة أسرع إجابة ، قيل : يارسول الله ولم ذاك؟ قال :
1 ـ المحجة البيضاء : 3/430 ، نقلاً عن الكافي : 2/150.
2 ـ المحجة البيضاء : 3/4330 ، نقلاً عن الكافي : 2/150 إلى « في الآجال » ثم قال في المحجّة : « وفي رواية : وتوسّع في رزقة وتحبّب في أهل بيته » والمصنّف كما ترى جمع بينهما وجعلهما رواية واحدة. والرواية الأخرى في الكافي : 3/152.
3 ـ الكافي : 2/156 ، كتاب الإيمان والكفر ، باب صلّة الرحم ، ح29.
4 ـ الكافي : 2/157 ، كتاب الإيمان والكفر ، باب صلّة الرحم ، ح31.
5 ـ الكافي : 2/151 ، كتاب الإيمان والكفر ، باب صلّة الرحم ، ح9.
6 ـ المحجة البيضاء : 33/4334.
7 ـ المحجة البيضاء : 3/4435 وفيه : « على الولد ».
(423)
هي أرحم من الأب ، ودعوة الرحم لاتسقط ». (1)
وعن الصادق عليه السلام قال : « قال رسول الله صلى الله عليه وآله رحم الله والدين أعانا ولدهما على برّهما ». (2)
[ وفي رواية اخرى ] (3) « قلت : كيف يعينه على برّه؟ قال : يقبل ميسوره ويتجاوز عن معسوره ولا يرهقه ولا يخرق به ، وليس بينه وبين أن يصير في حدّ من حدود الكفر الا أن يدخل في عقوق أو قطيعة رحم ». (4)
وقال رجل من الأنصار للنبي صلى الله عليه وآله : من أبرّ؟ فقال : والديك ، قال : قد مضيا ، قال : برّ ولدك. (5)
وكلّ ما يذكر في حقوق الاخوة جار في حقوق الأبوين ، فإنّ هذه الرابطة آكد منها ويزيد عليها ما أشرنا إليه من وجوب إطاعتهما شرعاً فيما سوى الحرام المحض.
وحقّ الأمّ أظهر في الجسمانيات ، فلذا اكثر من الحثّ عليه ورجّح على حقّ الأب.
قال السجاد عليه السلام : « وحقّ أمّك أن تعلم أنّنها حملتك حيث لا يحتمل أحد أحداً ، وأعطتك من ثمرة قلبها ما لا يعطي أحد أحداً ، ووقتك بجميع جوارحها ، ولم تبال أن تجوع وتطمك ، وتعطش وتسقيك ، وتعرى وتكسوك وتضحى وتظلّك ، وتهجر النوم لأجلك ووقتك الحرّ والبرد لتكون لها ، فإنّك لاتطيق شكرها الا بعون الله وتوفيقه ... الحديث ». (6)
فهذه الحقوق كلّها جسميّة والأب وإن كانت له حقوق جسميّة أيضاً ،
1 ـ المحجة البيضاء : 3/435 ، وفيه : « دعوة الوالدة ».
2 ـ الكافي : 6/48 ، كتاب العقيقة ، باب حق الأولاد ، ح33.
3 ـ هذه الزيادة لابدّ منها ، لأنّ المصنّف جمع بين روايتين من دون إشارة.
4 ـ الكافي : 6/50 ، كتاب العقيقة ، باب برّ الأولاد ، ح6.
5 ـ الكافي : 6/49 ، كتاب العقيقة ، باب برّ الأولاد ، ح2.
6 ـ المحجة البيضاء : 3/451 ، نقلاً عن الفقيه : 2/621.
(424)
بل قد تكون أكثر الا أنّ حقوقها أظهر وتعبها فيما تتحمّله من المشاقّ أبين.
نعم حقّ الأب أظهر من حيث المعنى والروحانية ، فإنّه أصل وجودك والنعمة عليك ومربّيك والراغب في استجماعك لما يظنّه كمالاً في حقّك ، والواصل بك إلى كلّ مرتبة تعجبك إن وصلت إليها ، فهو في الحقيقة أحقّ من الأم بالحقوق المقرّرة لهما عليك ، والفرق بينهما بقدر الفرق بين الجسم والروح ، فإنّ أمّك مربّية لجسمك خاصّة وحافظة له عن الآفات الجسمانية بالقدر الممكن لها وأبوك مربّ لنفسك وروحك ، مضافاً إلى جسمك.
ألا ترى أنّه يرضى عليك بما تكرهه ويشقّ عليك من الحرّ والبرد والجوع والعطش والسهر وغيرها في تحصيل مايراه كمالاً في حقّك ممّا لاترضى به أمّك.
قال السجّاد عليه السّلام : « وأمّا حقّ أبيك فأن تعلم أنّه أصلك فإنّك لو لاه لما تكن ، فمهما رأيت من نفسك ما يعجبك فاعلم أنّ أباك أصل النعمة عليك فيه ... الحديث ». (1)
فحقّه أعظم وأوجب حقيقة سيّما فيما يتعلّق بالروحانيّات كالإعظام والإكرام وطلب المغفرة والسعي في بقاء اسمه وأثره بعد موته وأضرابهما ، وهذا ممّا لا سترة فيه ، فاللازم توجيه ما ورد في ترجيح حقّ الأمّ وتقديمه بتخصيصه بالجسمانيات كالخدمة وحسن الإنفاق وأمثال ذلك ، فإنّها لكونها مرأة وهي قاصرة العقل في درك الكمالات والفضائل النفسانية قليلة الطاقة في تحمّل المكاره الجسمانيّة ، فمراعاة شأنها فيها أولى وأليق ، فافهم.
وممّا ذكر يظهر أنّ حقّ المعلّم أعظم لكونه روحانياً محضاً.
قال السجاد عليه السلام : « وحقّ سائسك بالعلم التعظيم والتوقير لمجلسه وحسن الاستماع إليه والإقبال عليه ، وأن لاترفع عليه صوتك ، ولا تجيب أحداً يسأله عن شيء حتى يكون هو الذي يجيب ، ولا تحدّث في مجلسه
1 ـ المحجة البيضاء : 3/450 ، نقلاً عن الفقيه : 2/622.
(425)
أحداً ، ولا تغتاب عنده أحداً ، وأن تدفع عنه إذا ذكر عندك بسوء ، وأن تستر عيوبه وتظهر مناقبه ، ولاتجالس له عدوّاً ، ولا تعادي له وليّاً ، فإذا فعلت ذلك شهدت لك ملائكة الله بأنّك قصدته وتعلّمت علمه لله لا للناس ، إلى أن قال عليه السلام :
« وأما حقّ رعيّتك بالعلم فأن تعلم أنّ الله عزّوجلّ إنّما جعلك قيّماً لهم فيما أتاك من العلم ، وفتح لك من خزائنه ، فإن أحسنت في تعليم الناس ولم تخرق بهم ولم تضجر عليهم زادك الله من فضله ، وإن أنت منعت الناس علمك أو خرقت بهم عند طلبهم العلم منك كان حقّاً على الله عزّوجلّ أن يسلبك العلم وبهاءه ، ويسقط من القلوب محلّك ... الحديث ». (1)
« فالمتعلّم منك ولد روحاني لك ، كما أنّ معلمك والد روحاني لك ، والتفاوت بين حقوقهما وحقوق الوالد والولد الجسمانيين كالتفاوت بين الجسم والروح ، فإن اجتمعتا عظمت الحقوق وواجتمعت » ، وقد أشرنا إلى بعض آداب التعلّم والتعليم فيما سبق بما فيه كفاية.
وأمّا حقوق الزوجة ، فالحقوق الظاهرة الواجبة شرعاً مذكور في كتاب النكاح من علم الفقه ، ولا حاجة إلى إعادتها ، وقد أشار السيّد السجّاد عليه السلام إليها إجمالاً ، فقال :
« وأمّا حقّ الزوجة فأن تعلم أنّ الله جعلها لك سكناً وأنساً ، فتعلم أنّ ذلك نعمة من الله تعالى عليك فتكرمها وترفق بها ، وإن كان حقّك عليها أوجب ، فإنّ لها عليك أن ترحمها لأنّها أسيرك وتطعمها وتكسوها ، وإذا
1 ـ المحجة البيضاء : 3/450 ، نقلاً عن الفقيه : 2/620 ـ 621.
(426)
جهلت عفوت عنها ». (1)
وحقوق الزوج وإن كانت أعظم وأكثر كما أشار إليها السجّاد عليه السّلام وتكفّلت لبيانها مفصلّاً كتب الفقه ، الا أنّ الله تعالى يداقّ الناس على قدر عقولهم ، فإذا كان عقلك أتمّ وسلطنتك عليها أكثر كنت أولى بمراعاة جانبها ، وأحقّ بالاحسان إليها والمداراة معها.
وأمّا حقوق المملوك فقد أشير إليها أيضاً في كتب الفقه.
قال السجّاد عليه السّلام : « وأمّا حقّ مملوكك فأن تعلم أنّه خلق ربّك وابن أبيك وأمّك ولحمك ودمك ، لم تملكه لأنّك صنعته دون الله ولا خلقت شيئاً من جوارحه ولا أخرجت له رزقاً ، ولكّن الله كفاك ذلك ثم سخّره لك وائتمنك عليه واستودعك إيّاه ليحفظ لك ما يأتيك من خير إليه فأحسن إليه كما أحسن الله إليك ، وإن كرهته استبدلت به ولم تعذّب خلق الله ». (2)
وكان من آخر ما أوصى به النبي صلى الله عليه وآله أن قال : « اتّقوا الله فيما ملكت أيمانكم أطعموهم ممّا تأكلون وألبسوهم مما تلبسون ، ولا تكلّفوهم من العمل ما لا يطيقون ، فما أحببتم فأمسكوا وما كرهتم فبيعوا ولا تعذّبوا خلق الله تعالى فإن الله ملّككم إيّاهم ولو شاء لملّكهم إيّاكم ». (3)
فصل
وأما الصحبة والاخوّة فإنّ أحسنهما ما كان الله وفي الله وهو موقوف على معرفة حقيقة الحبّ والبغض وأقسامهما وسنذكرهما إن شاء الله تعالى
1 ـ المحجة البيضاء : 3/450 ، نقلاً عن الفقيه : 2/621.
2 ـ المحجة البيضاء : 3/450 ـ 451 ، نقلاً عن الفقييه : 2/621 ، وفيهما : « ما يأتيه من خير إليه ».
3 ـ المحجة البيضاء : 3/444.
وساعدنا التوفيق.
ثم إنّ لمن يختار صحبته شروطاً فلا يصلح للصحبة كلّ أحد.
ففي النبوي صلى الله عليه وآله : « المرء على دين خليله ، فلينظر أحدكم من يخالل ». (1)
وهي تظهر بحسب الغاية المطلوبة منها وهي دينية ودنيوية ، والثانية ليست من غرضنا ، والأولى مختلفة.
فمنها : استفادة العلم والعمل.
ومنها : استفادة الجاه دفعاً للأذية المشوّشة للقلب والصادّة عمّا هو مقصود لذاته ، أو المال احترازاً عن تضييع الأوقات في طلب الأقوات.
ومنها : الاستعانة في المهمّات والاستعداد للمصائب وسائر الحالات.
ومنها : التبرّك بالدعاء أو انتظار الشفاعة في العقبى.
فكلّ من هذه الفوائد تقتضي شروطاً لا تحصل الا بها ، وهي اجمالاً استجماعه لخمس خصال.
أن يكون عاقلاً فلا خير في صحبة الأحمق ، لأنّه يضرّك حال قصده لمنفعتك من حيث لايعلم ، ولذا قيل :
إنّي لآمن من عدوّ عاقلفالعقل فنّ واحد وطريقه
وأخاف خلاً يعتريه جنونأدرى وأرصد والجنون فنون
والمراد من العاقل من يفهم الأمور على ما هي عليها بنفسه ، أو بتفهيم الغير.
وأن يكون حسن الخلق ، إذ ربّ عاقل عاجز عن قهر شهوته وغضبه فيخالف ما يدركه عقله من غير شعور.
وأن لايكون فاسقاً ، فإنّ من لايخاف الله لا يوثق به ، بل يتغيّر بتغيّر الأغراض.
قال تعالى : « فأعرض عمّن تولّى عن ذكرنا ولم يرد الا الحياة
1 ـ المحجة البيضاء : 3/309.
(428)
الدنيا ». (1)
وقال : « ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا واتّبع هواه » (2) مع أن مصاحبته تهوّن العصيان على القلب ، فلا تتنفّر عنه ، وقد سبق في صدر الكتاب ما يؤكّد ذلك.
ولا مبتدعاً ، إذ فيه خطر السراية وشمول العذاب واللعنة.
قال الصادق عليه السلام : « لا تصحبوا أهل البدع ولا تجالسوهم فتصيروا عند الله كواحد منهم ». (3)
ولا حيصاً على الدنيا ، فإنّ صحبته سمّ قاتل والطبع سارق من حيث لايدري.
ونقل بعضهم أنّه أوصى ابنه عند وفاته فقال : إن عرضت لك حاجة إلى صحبة الرجال فاصحب من إذا خدمته صانك ، وإذا صحبته زانك ، وإن نفدت مؤونتك مانك.
اصحب من إذا مددت يدك لخير مدّها ، وإن رأى منك حسنة عدّها ، وإذا رأى سيّئة سدّها.
اصحب من إذا سألته أعطاك ، وإذا سكت ابتداك ، وإذا سكتّ ابتداك ، وإذا نزلت بل نازلة واساك.
اصحب من إذا قلت صدّق قولك ، وإذا صلت شدّ صولك ، من لاتأتيك منه البوائق ، ولا تلتبس عليك منه الحقائق ، ولا يخذلك عند الطرائق وإن حاولتما أمراً أمّرك ، وإن تنازعتما آثرك.
ولمّا ذكرت للمأمون قال : من أين هذا؟ فقيل : أراد أن لايصحب
1 ـ النجم : 29.
2 ـ الكهف : 28.
3 ـ الكافي : 2/375 ، كتاب الإيمان والكفر ، باب مجالسة أهل المعاصي ، ح3و وفيه : « عند الناس » مكان « عند الله ».
(429)
أحداً » (1)
وفي مصباح الشريعة عن الصادق عليه السلام قال : « احذر أن تواخي من أرادك لطمع أو خوف أو فشل أو أكل أو شرب ، واطلب مواخاة الأتقياء ولو في ظلمات الأرض وإن أفنيت عمرك في طلبهم ، فإنّ الله لم يخلق بعد النبيين على وجه الأرض أفضل منهم ، وما أنعم الله على العبد بمثل ما أنعم الله به من التوفيق لصحبتهم. قال الله تعالى : « الأخلاء يومئذ بعضهم لبعض عدوّ الا المتّقين » . (2) ». (3)
ولنعم ما قيل : « لو طلب أحد في زماننا صديقاً كذلك بقي بلا صديق ، ألا ترى أنّ أكرم كرامة أكرم الله بها أنبياءه وأمناءه صحبة أنبيائه ، وهو يدلّ على أنّه ما من نعمة في الدارين أجلّ وأزكى من الصحبة والمواخاة لوجه الله تعالى ». (4)
فإن وجدت من تستفيد به أحد هذه المقاصد فاعرف قدره ، ولا ترفع اليد عنه ، فإنّه من أعظم ما أنعم الله به عليك والا فالوحدة أولى لك وأسلم.
إذا عرفت حقيقة الاخوّة والصحبة وحصّلت من استجمع شرائطها فاعلم أنّ له بعد انعقاد اخوتّك معه عليك حقوقاً ثمانية :
1 ـ المحجة البيضاء : 3/314.
2 ـ الزخرف : 67.
3 ـ مصباح الشريعة : الباب 55 ، في المواخاة.
4 ـ هذا بقيّة ما في مصباح الشريعة ، ففيه بعد ذكر الآية : « وأظنّ من طلب في زماننا هذا صديقاً ... » مع تغيير في بعض عباراته.
5 ـ المحجة البيضاء : 3/318.
(430)
أحدها : حقّ في مالك ، وأدناه تنزيله منزلة العبد والخادم فتعطيه من فضل مالك إن سنحت له حاجة بدون السؤال ، فإن أحوجته إليه كان تقصيراً في حقّه.
ثم تنزيله منزلة النفس فتشاركه فيه وتشاطره عليه بالسوية.
ثم إيثاره به مع حاجتك إليه ، وهو غاية درجات المتحابّين ، ومن تمامه الإيثار بالنفس أيضاً ، كما أنّ عليّاً عليه السّلام بات على فراش النبي صلى الله عليه وآله وآثره بنفسه فمن لم يصادف نفسه في إحداها كانت مصاحبته ضعيفة لا وقع لها في الدين والعقل ، بل الأولى ليست مرضية عند ذويهما كما لايخفى على متصفّح الآثار ومتتبّع الأخبار وإنّما المرضي عندهم المشار إليه بقوله : « وممّا رزقناهم ينفقون » (1) ـ على ما قيل و ـ الاختلاط فيه بدون تمييز وهو المفضّل على الصدقات.
قال علي عليه السلام : « لعشرون درهماً اعطيها أخي في الله أحبّ إليّ من مائة درهم أتصدّق بها على المساكين ». (2)
والثاني : حقّ في نفسك بقضاء حوائجه ومهامّه قبل سؤاله وتقديمها على حوائجك وأدناه القيام بها عند السؤال والقدرة مع البشاشة والاستبشار والامتنان.
وبالجملة من تمام الاخوّة أن تكون حاجته كحاجتك أو أهمّ منها فلا تغفل عنه كما لاتغفل عن نفسك ، ونفسك ، وتغنيه عن السؤال فتقوم بحوائجه كأنّك لاتدري به (3) حيث لاترى لك حقّاً فيه وتجتهد في الاكرام بالزيارة والإيثار وتقديم جانبه على الأقارب والأولاد ، بل التنفر بمسّرة ولذّة دونه وتستوحش من فراقه.
1 ـ البقرة : 3.
2 ـ المحجة البيضاء : 3/320 و 2/92.
3 ـ أي لاتدري بقيامك بحوائجه فالضمير يرجع إلى المصدر المؤوّل المذكور قبله.