ويستقيم الأمر فأنكروا بقلوبكم واتّعظوا بألسنتكم وصكّوا بها جباههم ولاتخافوا في الله لومة لائم ... الحديث ». (1)
وقال الصادق عليه السلام : « إنّ رسول الله صلى الله عليه وآله سئل عن أفضل الإسلام ، فقال : الايمان بالله ، قال : ثمّ ماذا؟ قال : صلة الرحم ، قال : ثم ماذا؟ قال : الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ... الحديث ». (2)
وقال عليه السلام : « الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر خلقان من خلق الله ، فمن نصرهما نصره الله ، ومن خذلهما خذله الله ». (3)
والأخبار كثيرة لاتحصى ، فإذن تبيّن انهما من أفضل الواجبات وأنّ تركهما من أبغض المحرّمات بعد الشرك بالله سبحانه كما ورد في النبوي. (4)
وقد دلّ بعض ماتقدّم من الآيات والأخبار على كونه كفائياً.
وفي الخبر عن الصادق عليه السلام : « عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أواجب على الأمّة جميعاً؟ فقال : لا ، الحديث ». (5)
ومنه يظهر ضعف القول بوجوبه عيناً.
واعلم أنّ المنكرات إمّا مكروهة أو محرّمة ، والمنع عن الأولى مستحبّ ، والسكوت عليه مكروه ، والثاني واجب ، وهي أي المنكرات وإن أمكن استعلامها من الكتب الفقهية لاشتمالها عليها الا أنّها متفرّقة في أبوابها ويعسر الاطّلاع عليها وجمعها ولم يشيروا إلى ما شاع في المساجد
1 ـ الكافي : 5/56 ، كتاب الجهاد ، باب الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر ، ح1 ، وفيه : « والفظوا بألسنتكم ».
2 ـ الكافي : 5/58 ، كتاب الجهاد ، باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، ح9 مع تلخيص وتغيير ، وكان عليه أن يقول : « قيل : ثمّ ماذا ».
3 ـ الكافي : 5/59 ، كتاب الجهاد ، باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، ح11 ، وفيه : « فمن نصرها أعزّه الله ».
4 ـ الكافي : 5/58 ، كتاب الجهاد ، باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، ح9 ، وورد فيه كونهما من أبغض المحرمّات بعد الشرك وقطيعة الرحم.
5 ـ المحجة البيضاء : 4/107 ، الكافي : 5/59.
(442)
والأسواق والحمّامات والطرق من المنكرات ، واعتاد الناس بها ، ونحن (1) نشير إلى بعضها إجمالاً ، فممّا اعتيد عليه في المساجد ما يشاهد كثيراً فيها من إساءة الصلاة وترك شرائطها وآدابها وقراءة القرآن باللحن ، والاشتغال بالمنع عن أمثال ذلك أهمّ من الاشتغال بالنوافل لكونها فريضة يتعدّى إلى الغير فائدتها ، وهي أهمّ من النافلة التي يقتصر عليه.
ويستحب المنع عن تراسل المؤذنين في الأذان وتطويلهم مدّ الكلمات والانحراف عن صوب القبلة فيه لكونها مكروهة.
وكذا تكثير الأذان في مسجد واحد في أوقات متعاقبة بعد طلوع الفجر ، إذ لا فائدة فيه إذا لم يبق في المسجد نائم ولم ينته الصوت إلى غير من في المسجد.
وكذا الاذان قبل الصبح ، فإنّه مشوّش للصوم والصلاة الا إذا عرف بذلك.
وكذا الواعظ الخارج عن الحق في وعظه بالكذب أو البدعة يجب منعه ، ولايجوز حضور مجلسه الا لإظهار ردّه على كافّة الناس أو من أمكن منهم والا فلا يسمع أصلاً ، وإذا كان كلامه مائلاً إلى الارجاء وتجرئة الناس على المعاصي وجب منعه.
وكذا إذا تزيّن للنساء وأكثر من الأشعار والحركات والإشارات إليهنّ مع حضورهنّ وجب منعه ، ويتبيّن ذلك بقرائن الحال ، بل لاسيلم الوعظ الا لظاهر الصلاح والسكون والوقار ، والأحسن ضرب الحائل بينهنّ وبين الرجال حسماً لمادّة الفساد ومنعهنّ عن حضورها إذا خيفت الفتنة بهنّ.
ومنه أيضاً اجتماع الناس يوم الجمعة أو في شهر رمضان فيها لبيع الأدوية والأطعمة والتعويذات وقيام السؤّال وقراءتهم وإنشادهم للأشعار
1 ـ من هنا إلى آخر الفصل أخذه المصنّف (ره) من الإحياء (ج 2/3312 إلى 343) ملخّصاً.
(443)
وأمثالها ، بل قد يكون بعضها محرمة بالأصالة لكونها تلبيساً وكذباً في المسجد وخارجه فمنعه واجب حينئذ. وكذا كل بيع فيه كذب وتلبيس.
أو بالعرض كتضييق المكان على المصلين وتشويش صلاتهم عليهم.
ومنه تمكين المجانين والصبيان والسكارى من دخولها ، ولابأس بالصبي إذا لم يلعب ، ولا يحرم لعبه ولا السكوت عليه إلا إذا أخذ المسجد ملعباً ، فيجب المنع عنه حينئذ ، وكذا المجنون إذا لم يخش نطقه بفحش أو شتم أو كشف عورة أو إيذاء مسلم ، وكذا السكران ، فإن خيف منه القيء أو الأذية أو كان مضطرب العقل وجب إخراجه ، وإلا فلا.
ومما اعتيد عليه من منكرات الأسواق الكذب في المرابحة وإخفاء العيب ، فعلى العالم بكذب البائع إعلام المشتري وسكوته مراعاةً له مشاركة في الخيانة.
وكذا العالم بالعيب ، وإلا كان راضياً بضرر أخيه وهو حرام.
وكذلك التفاوت في الذراع والمكيال والميزان ، ويجب على العارف به تغييره إن أمكنه أو رفعه إلى الحاكم.
وكذا الربويات وسائر التصرفات الفاسدة ، وبيع الملاهي والتصاوير والتماثيل والأواني المتخذة من الذهب والفضة ، وثياب الحرير وقلانس التذهب.
وكذا التلبيس على المشتري في الثياب المقصورة بكونها جديدة ، وانخراق الثوب بالرفو ونحو ، وكل ما فيه تلبيس وغش ، فإنها كثيرة لاتحصى.
ومما اعتيد عليه من منكرات الشوارع وضع الاساطين والدكات متصلاً بالأبنية المملوكة ، وغرس الأشجار ووضع الخشب وأحمال الأطعمة
(444)
والحبوب وغيرهما في الطريق إن كان مؤدّياً إلى التضييق والإضرار بالمارّة ولم يكن ممّا يشترك الكافة في الحاجة إليه ونحوها ربط الدوابّ الا بقدر الحاجة لأنّها مشتركة المنافع ، فلايختص بها أحد الا بقدر الحاجة التي تراد لأجلها الشوارع في العادة ، وسوق الدابة وعليها الشوك بحيث يضرّ الناس ويمزّق ثيابهم مع إمكان عدمه ، وتحميل الدوابّ مالاتطيقه ، وذبح القصابّ على الطريق أو على باب دكّانه وتلويث الطريق بالدم وطرح الكناسة على جوادّ الطرق وتبديد قشور البطّيخ أو رشّ الماء بحيث يخاف منهما التزلّق وإرسال الماء من الميازيب المخرجة من الحائط إلى الطرق الضيّقة وأمثال ذلك.
وممّا اعتيد عليه في الحمّامات من (1) كشف العورات والنظر إليها وأخذ الصبيان والأمارد للخدمة بحيث يخشى منهم الفتنةوغير ذلك ، أو في الضيافات أي بعضها من (2) لبس الحرير واستعمال الأواني المحرّمة والصور الحيوانية والاسراف في الطعام والبناء والمصاحبة بطريق البدعة أو اللهو واللعب المحرّمين أو ما يختلف في حليّته وحرمته وشرب المحرّمات أو أكلها واتّخاذ الفواحش فيها وغير ذلك ممّا لايمكن حصره ، وقس على ما ذكر منكرات الجامع ومجالس القضاة ودواوين السلاطين ومدارس الفقهاء ورباطات المتصوّفة وخانات الأسواق.
ومن المنكرات العامة تكاهل الناس بأسرهم عن إرشاد الناس وتعليمهم وحملهم على المعروف مع جهلهم لشروط الصلاة وآدابها في البلاد ، فكيف بالقرى والبوادي وكذا سائر مسائل دينهم ، فعلى كلّ من تعلّم مسألة أن يعلّمها الجاهل بها ، ولو كان عامياً والانسان لايولد عالماً بالشرع.
والاثم على الفقهاء أشدّ ، لأنّ قدرتهم في تبليغ العلم إلى من لايعلم أظهر وهو بهم أحرى وأليق ، والمحترف لو ترك حرفته بطل المعاش ، وهؤلاء
1 ـ كذا ، والظاهر زيادتها.
2 ـ كذا ، والظاهر زيادتها.
(445)
قد تقلّدوا أمراً لابدّ منه في صلاح الخلق وحرفتهم تبليغ ما بلغ عن الرسول صلى الله عليه وآله ، فإنّ العلماء ورثة الانبياء ، فلا يجوز للعالم القعود في البيت مع ما يرى من مواظة الناس على هذه المنكرات مع إمكانه في حقّه واجتماع شرائطه فيه ، بل حقّ المسلم أن يبدأ بنفسه وإصلاحها باداء الفرائض وترك المحرّمات مع العلم بها بالتعلّم من أهلها ثم تعليم أهله وأقاربه ثمّ جيرانه ثمّ أهل محلته ثم أهل بلده ثم السواد المكتنف له ثم أهل القرى والبوادي وهكذا إلى أقصى العالم ، فإن قام به الأدنى سسقط عن الأبعد والا كان واجباً على كلّ من يسعه ذلك مادام جاهل على وجه الأرض باقياً ولايقدمّ عليه الا فرض عين أو كفاية أهمّ منه.
وأما أركانهما فأربعة :
أحدها : المحتسب ، ويعتبر في وجوبهما عليه كونه مكلّفاً مؤمناً ، ولايشترط العدالة على الأظهر في أفراد الحسبة الصادرة عن آحاد المكلّفين.
نعم يشترط في الناصب نفسه لتربيتهم وإرشادهم نيابة عن الرسول والأئمّة عليهم السلام ، مضافاً إلى سائر شروط الاجتهاد ، ويشترط القدرة أيضاً ، فلا حسبة على العاجز ولو بالخوف على نفسه من مكروه أو العلم بعدم التأثير فيه ، بل يحرم فيما يتوقّع فيه ضرر بدنيّ أو عرضيّ أو ماليّ لقوله تعالى :
« ولا تلقوا بايديكم إلى التهلكة ». (1)
وورد النهي عنه في الأخبار الا أنّ عليه أن لايحضر مجالس المنكر حينئذ ، ويعتزل في بيته الا لحاجة مهمّة أو واجب ، وهذا ممّا يختلف باختلاف الأزمان والأحوال ودرجات المكاره التي تنال بالحسبة ، والانسان على نفسه بصيرة ، ولايشترط إذن الحاكم في ما لاينجرّ إلى الفساد والفتنة من مراتب الحسبة كالوعظ بالكلام اللطيف والسبّ والتعنيف بما لايشتمل على محرّم ، والقهر الفعلي ككسر الملاهي وإراقة الخمر واختطاف الثوب منه إذا
1 ـ البقرة : 195.
(446)
لم يخف مكروهاً. وأمّا ما ينجرّ إليهما فنعم على الأظهر.
والثاني : ما فيه الحسبة ، وهو كلّ منكر موجود في الحال ظاهر للمحتسب من دون تفحّص معلوم كونه منكراً من غير اجتهاد ، والمنكر أعمّ من المعصية ، فمن رأى مجنوناً يزني وجب عليه منعه ، ولايجوز للآحاد على من فرغ عنه أو علم أنّه سيأتي به الا الوعظ ، بل لو أنكر حرم يضاً ، لأنّه سوء ظنّ به ، ولايجوز التجسّس على المستتر للنهي ، والظهور يشمل الشمّ والسمع واللمس. وبالجملة هو ما يفيد العلم من دون طلب الأمارات المعرّفة.
وثالثها : المحتسب عليه ، ولا يشترط كونه مكلّفاً لما عرفت من وجوب منع الجنون والصبي عن مثل الشرب والزنا.
نعم يشترط كونه إنساناً فلا حسبة على الحيوان ، وإن وجب منع البهيمة عن إتلاف زرع المسلم مثلاً ، فإنّه ليس من قبيل الحسبة التي هي المنع عن المنكر لحق الله صيانة له عن المنكر ، بل هو لحفظ مال المسلم الواجب عقلاً ونقلاً ، فافهم.
ورابعها : نفس الاحتساب وأوّله التعرّف ثم التعريف ثم النهي ثم الوعظ ثم التعنيف ثم التغيير باليد ثم التهديد بالضرب ثم إيقاعه ثم شهر السلاح ثم الاستظهار بالأعوان والجنود.
وتفاصيل ما أشرنا إليه في الأركان موكولة إلى الكتب الفقهيّة وغيرها من مطولات الفّن.
وللمحتسب آداب يرجع حاصلها على العلم والورع وحسن الخلق.
فعن النبي صلى الله عليه وآله : « لايأمر بالمعروف ولاينهى عن المنكر الا رفيق فيما يأمر به ، رفيق فيما ينهى عنه ، حليم يأمر به ، حليم فيما ينهى عنه ، فقيه فيما يأمر به ، فقيه فيما ينهى عنه ». (1)
فالفاسق يسقط أثره من القلوب ولا ينتفع بحسبته.
1 ـ إحياء العلوم : 2/333 ـ 334.
التوبة عن الذنوب مبدء طريق السالكين ورأس مال الفازين ومفتاح استقامة المريدين ، وهي أصل النجاة ، وبها ينقذ من شفا جرف الهلكات ، والآيات والأخبار في مدحها وفضلها كثيرة.
قال تعالى : « وتوبوا إلى الله جميعاً أيّها المؤمنون لعلكم تفلحون ». (1)
« توبوا إلى الله توبة نصوحاً ». (2)
والنصوح الخالص الخالي عن شوائب الأغراض.
« إنّ الله يحبّ التوّابين ». (3)
وقال النبي صلى الله عليه وآله : « التائب حبيب الله ، والتائب من الذنب كمن لا ذنب له ». (4) وغير ذلك.
وفسّرها بعضهم بتنزيه القلب من الذنب والرجوع من البعد إلى القرب.
وقيل : إنّها ترك المعاصي في الحال والعزم على تركها في الاستقبال والتدارك لما سبق من التفريط.
وقيل : بل هي معنى ينتظم من العلم بضرر الذنوب وكونه حجاباً بين العبد والمحبوب ، والندم ، أي ألم القلب بفواته الحاصل منه ، والعزم على الترك حالاً واستقبالاً مع التلافي لما مضى فيما يقبله بالجبر والقضاء ، فالعلم مطلعها ، إذ المراد منه الإيمان أي التصديق واليقين بأن الذنوب سموم مهلكة فإذا استولى علىالقلب وأبصر بنور الإيمان كونه محجوباً عن مطلوبه
1 ـ النور : 31.
2 ـ التحريم : 8.
3 ـ البقرة : 222.
4 ـ المحجة البيضاء : 7/7.
(448)
مفوتاً (كذا) لمحبوبة أشرق عليه نار الندم وتألّم به كمن أشرق عليه نور الشمس بعد ما كان في ظلمة سحاب أو حجاب فرأى محبوبه مشرفاً على الهلاك حيث تشتعل نيران الحبّ في قلبه ، فينبعث منه إرادة النهوض للتدارك.
وقد يطلق على الندم وحده ويجعل الأوّل مقدّمة سابقة والأخيرة ثمرة لاحقه. ولذا قال صلى الله عليه وآله : « الندم توبة ». (1)
وإليه نظر من حدّها بأنّها ذوبان الحشا لما سبق من الخطا ، ومن قال إنّه نار تلتهب وصدع في الكبد لاينشعب.
وباعتبار معنى الترك قيل : إنّها خلع لباس الجفاء ونشر بساط الوفاء.
وما يقال من أنّ الندم غير مقدور إذ كثيراً ما يقع على أمور في القلب لايريد أن يكون كذلك ، والمقدور أسبابها أعني العلم المزبور ، فلايكون داخلاً في حقيقتها لأنّها مقدورة حيث أمر بها ، ضعيف لأنّ ماله سبب مقدور يكون مقدوراً كما تبيّن في محله.
ثم التوبة لايكون الا عن ذنب سابق والا كان تقوى وورعاً ، ولذا لايصحّ أن يقال إنّ النبي صلى الله عليه وآله تائب عن الشرك ، ولا إشكال في توبة من لايقدر على الإتيان بها في المستقبل إن فسّرناها بالندم خاصّة ، كما هو الظاهر ، فإنّ عدم ترتّب بعض الثمرات لاينافي ثبوت الحقيقة مع ترتّب بعض آخر عليها كالتلافي بالتضرّع والطاعة ، وكذا إن فسّرت بالمجموع ، لأنّ جزءها العزم على الترك مطلقاً ، فإنّ عدم كونه اختيارياً يجامع كون العزم عليه اختيارياً أي لو كان قادراً على الفعل ، فلا حاجة إلى تقييده بترك ماسبق مثله وتعميم المثل بالنسبة إلى الصورة والمنزلة كما قيل (2) ، لعدم تبادره من اللفظ ، بل مخالفته لظواهر بعض الأخبار.
1 ـ بحار الأنوار : 77/159 ، المحجة البيضاء : 7/5.
2 ـ جامع السعادات : 33/52 ـ 53.
(449)
ومنه يظهر فساد ما قيل من عدم قبول توبة العنّين من الزنا الذي قارفه قبل طريان العنّة لأنّها عبارة عن ندم ينبعث منه العزم على الترك فيما يقدر على فعله ، وما لايقدر عليه قد انعدم بنفسه لا بتركه إيّاه.
قيل : لو انكشف عليه بعدها ضرره وثار منه احتراق وندم بحيث لو بقيت فيه شهوة الوقاع قمعها وغلبها فهو ممّا يرجى تكفيره ، إذا لا خلاف في قبول توبته قبلها وإن لم يطرء عليه تهييج الشهوة وتيسّر أسباب قضائها ، وليس الا لبلوغ ندمه حدّاً صرف قصده عنه ، فلا يستحيل أن يبلغه في العنّين أيضاً ، فكلّ من لا يشتهي شيئاً يقدّر نفسه قادراً على تركه بأدنى خوف والله مطّلع على نيّته ومقدار ندمه وحسرته.
والحاصل محو ظلمة الذنب يكون بحرقة الندم وشدّة المجاهدة في الترك في المستقبل معاً فإذا امتنعت الثانية لم يبعد بلوغ الندم حدّاً يقوى على محوها بدونها ، ولولاه لزم عدم قبولها ممّن لايعيش بعدها مدّة يتمكّن من المجاهدة مرّات متعدّدة ، وليس في ظاهر الشرع اشتراطه. (1)
واعلم أنّ وجوب التوبة ثابت من الآيات والأخبار وإجماع الأمّة والاعتبار ، فإنّ وجوب الأفعال وحرمتها على اختلاف مراتبها فيهما لأجل كونها وسائل إلى السعادة الأبديّة أو الشقاوة السر مدية سيّما على طريقة العدلية من عقليّة الحسن والقبح ، وكون التكليف لطفاً ، وإذا علمت انحصار السعادة الحقيقية في لقاء الله تعالى في دار القرار علمت أنّ المحجوب عنه شقي محترق بنار الفراق في دار البوار.
وإذا تبيّن لك أن لا حاجب عنه الا اتّباع الشهوات وارتكاب السيّئات لكونها إعراضاً عن الله [ وانساً بالعالم الفاني ، ولا مقرّب إليه الا قطع العلائق عنها والإقبال بالكلّية إليه طلباً للأنس ] (2) بذكره الباقي علمت أيضاً
1 ـ القائل في الإشكال والجواب هو أبوحامد كما في المحجة البيضاء : 7/74 ـ 75.
2 ـ ساقط من « ج ».
(450)
انّ الانصراف عن طريق البعد واجب للوصول إلى القرب ، ولايتمّ الا بالثلاثة المشار إليها التي هي حقيقة التوبة كما عرفت. ومقدّمة الواجب واجبة عقلاً وشرعاً ، ولا ينافيه كون الندم والألم ضرورياً لايدخل تحت الاختيار ، لأنّ سببه اختياري ، والوجوب بالاختيار لاينافيه.
ثمّ إذا علمت أنّ العلم المزبور من الايمان وأنّه من علوم الأعمال التي لايمكن الخروج عن عهدتها الا إذا صارت باعثة على فعل أو ترك فمن لم يترك الذنب بعد العلم بضرره كان فاقداً لهذا الجزء من الايمان.
ولذا ورد « أنّ الزاني لايزني حين يزني وهو مؤمن » (1) ، حيث لم يرد من الايمان فيه العقائد الحقّة لعدم منافاتها للزناوأمثاله ، بل الايمان بكونه مبّعداً عن الله تعالى ، سبباً لمقته ، فالعاصي ناقص الإيمان لأنّه نيف وسبعون باباً أعلاها شهادة أن لا إله الا الله وأدونها إماطة الأذى عن الطريق والتوحيد بالنسبة إليه كالروح للانسان يوجب فقده فقده بالمرّة والطاعات بمنزلة الصورة والجوارح لا يتحقّق كمال النوع الا بها ، فالمقرّ بالشهادتين بدونها كإنسان فاقد الجوارح والأعضاء والآلات في كونه قريباً من الممات شبيهاً بالأموات لأنّ إيمان لم يثبت أصله في اليقين ولا فروعه في الأعمال لم يثبت على عواصف الأهوال ، وخيف عليه الختم على أسوء الأحوال الا ما سقي بماء الطاعات على مرّ الدهور وتعاقب الأوقات حتّى اتّصف بالدوام والرسوخ والثبات ، وهذا قاطع نياط قلوب العارفين خوفاً من دواهي الموت التي لاثبات معها الا للأقلّين ، فكما أنّ الصحيح الخائض في مضرّات المطعومات مغرور باستناده إلى صحّة بدنه في ظنّ عدم الممات لعدم وقوعها فجئة في أغلب الأوقات بل يمرض الصحيح ثم يصير من الأموات فكذا الموحّد المنهمك في معاصي الرحمن فإنّها كالمطاعم المضرّة بالنسبة إلى الأبدان فيخاف سواء الختم بسلب الايمان وبه يخلّد في النار كسائر المشركين والكفّار ، فإن وجب على الخائف
1 ـ المحجة البيضاء : 7/13.