كتاب ملامح المنهج التربوي عند أهل البيت عليهم السلام ::: 21 ـ 30
(21)
آنس وأسلم ، فان أبيتم إلاّ مجالسة الناس ، فجالسوا أهل المروّات ، فانهم لا
يرفثون في مجالسهم » (1).
وحثّ الامام محمد الباقر عليه السلام على مصاحبة واتباع الناصحين فقال : « اتّبع
من يبكيك وهو لك ناصح ، ولا تتّبع من يضحكك وهو لك غاشّ ... » (2).
3 ـ المجالس وحلقات الذكر
المجالس وحلقات الذكر بيئة اجتماعية متكاملة تترك آثارها الملموسة على
الانسان تأثراً بالجماعة التي تتألف منها المجالس وحلقات الذكر ، حيث تخلق
أجواءً تربوية فكرية وسلوكية تؤثّر تدريجياً على المشاركين فيها ، وقد أطلق
رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على مجالس الذكر وحلقات الذكر مصطلح « رياض الجنّة ».
قال صلى الله عليه وآله وسلم : « بادروا إلى رياض الجنّة » ، قالوا : يارسول الله ، وما رياض
الجنّة ؟ قال : « حلق الذكر » (3).
وسئل صلى الله عليه وآله وسلم أين رياض الجنّة ؟ فقال : « مجالس الذكر ، فاغدوا وروّحوا في ذكر
الله » (4) ».
وتتنوع مجالس وحلقات الذكر بتنوّع الظروف والأوضاع ، كمجالس
العلماء ، ومجالس الصالحين ، وجلسات حفظ القرآن الكريم وتلاوته ، ومجالس
العزاء على الإمام الحسين عليه السلام ، ويلحق بها الاحتفالات والمهرجانات التي تُقام
1 ـ مستدرك الوسائل / النوري : 8 / 328. 2 ـ الكافي / الكليني : 2 / 638. 3 ـ من لا يحضره الفقيه / الصدوق : 4 / 409. 4 ـ مكارم الأخلاق / الطبرسي : ص 312.
(22)
على مدار السنة في الأعياد ومناسبات ولادة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم والأئمّة عليهم السلام ، ويوم
المبعث ، ويوم الغدير وغير ذلك.
ومجالس الصالحين لها أثر كبير في الاصلاح والتغيير ، وكما ورد عن الامام
زين العابدين عليه السلام : « مجالس الصالحين داعية إلى الصلاح » (1).
ومن مجالس الصالحين المجالس التي تعقد أثناء الزيارات المتبادلة في
المنازل ، قد حثّ أهل البيت عليهم السلام عليها لدورها في التربية والاصلاح.
قال الامام جعفر الصادق عليه السلام : « تزاوروا فانّ في زيارتكم إحياء لقلوبكم
وذكراً لأحاديثنا ، وأحاديثنا تعطف بعضكم على بعض ، فإن أخذتم بها رشدتم
ونجوتم ، وإن تركتموها ضللتم وهلكتم ، فخذوا بها وأنا بنجاتكم زعيم » (2).
وحذّر أهل البيت عليهم السلام من الاشتراك في مجالس الانحراف لتأثيرها السلبي
على المشاركين ، قال الامام جعفر الصادق عليه السلام : « لا ينبغي للمؤمن أن يجلس
مجلساً يُعصى الله فيه ولا يقدر على تغييره » (3).
وقال أيضاً : « من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يقعدنّ في مجلس يغتاب
فيه إمام أو ينتقص فيه مؤمن » (4).
4 ـ المساجد
المساجد من أهم الأجواء الايمانية والتربوية ، التي تسهم بشكل فعّال في
1 ـ مجموعة ورّام : 2 / 35. 2 ـ الكافي / الكليني : 2 / 186. (3)و4 ـ مجموعة ورّام : 2 / 210.
(23)
تربية الانسان واصلاحه وتغييره ، والمسجد خير محيط للانسان للارتباط
بالله سبحانه وتعالى وبعالم الغيب ، حيث يجعل الانسان يعيش أجواءً معنوية
وروحية يتعالى فيها على أثقال الحياة ويتسامى فيها فكراً وعاطفة ثمّ سلوكاً.
قال الامام الحسن عليه السلام : « من أدام الاختلاف إلى المسجد أصاب إحدى
ثمان : آية محكمة ، وأخاً مستفاداً ، وعلماً مستطرفاً ، ورحمة منتظرة ، وكلمة
تدلّه على الهدى أو تردّه عن ردى ، وترك الذنوب حياءً أو خشية » (1).
ولأهمية المسجد في بناء الشخصية الرسالية تضافرت الروايات عن أهل
البيت عليهم السلام على استحباب بناء المساجد ، واستحباب الصلاة فيها ، ووضعوا
برنامجاً متكاملاً في المستحبات والمكروهات التي ينبغي مراعاتها داخل
المساجد ، وهي الحصن الواقي الذي يدفع الانسان للحركة نحو السمو
والتكامل.
5 ـ العلماء
للعلماء سلطان على الناس وخصوصاً علماء الدين ، لأنّ لهم قدسية خاصة
يؤثرون من خلالها على الأفكار والعواطف والارادات ، ولهم دور فعّال في
بناء الانسان والتصدي لجميع ألوان الانحراف الذي يهدد فكر المجتمع وسلوكه
ومسيرته التاريخية ، وهم ليسوا مجرد وعاظ ومعلمين لطقوس دينية أو
فروض منطقية ، انهم قادة روحيون يتحملون مسؤولية الهداية والاصلاح
والتغيير الشامل.
قال أمير المؤمنين عليه السلام في وصفه للعلم : « ... يرفع الله به أقواماً يجعلهم في
1 ـ تحف العقول / الحرّاني : ص 166.
(24)
الخير أئمة يقتدى بهم ، ترمق أعمالهم ، وتقتبس آثارهم » (1).
ولمقام العلماء ودورهم في التأثير أثر واضح في صلاح الناس أو فسادهم
تبعاً لصلاح العلماء أو فسادهم.
قال أمير المؤمنين عليه السلام : « إنّ كلام الحكماء إذا كان صواباً كان دواءً ، وإذا كان
خطأً كان داءً » (2).
وقال أيضاً : « زلة العالم كانكسار السفينة تغرق ويغرق معها خلق » (3).
وقال أيضاً : « زلة العالم تفسد عوالم » (4).
6 ـ الدولة
من الحقائق التاريخية أنّ المجتمعات تتأثر بحكامها ، حيث تنعكس أفكار
وأخلاق الحاكم وأجهزة الحكم على الناس خيراً أم شراً ، فالحاكم حريص
على تغيير المجتمع طبقاً لمتبنياته الفكرية والعاطفية والسلوكية ، ويستطيع
تحقيق ما يحرص عليه لامتلاكه لمصادر القوة والتأثير ومنها : المال والاعلام.
قال أمير المؤمنين عليه السلام : « السلطان الفاضل هو الذي يحرس الفضائل ويجود
بها لمن دونه ، ويرعاها من خاصته وعامته حتى تكثر في أيّامه ، ويتحسن بها من لم تكن فيه » (5).
1 ـ بحار الأنوار / المجلسي : 1 / 166. 2 ـ شرح نهج البلاغة / ابن أبي الحديد : 19/ 271. 3 ـ شرح نهج البلاغة : 20 / 343. 4 ـ تصنيف غرر الحكم : ص 47. 5 ـ شرح نهج البلاغة / ابن أبي الحديد : 20 / 282.
(25)
وجعل الامام الصادق عليه السلام مقدمات الاصلاح واجبة على السلطان وعلى
دولته فقال : « ثلاثة تجب على السلطان للخاصة والعامة : مكافأة المحسن
بالاحسان ليزدادوا رغبة فيه ، وتغمد ذنوب المسيء ليتوب ويرجع عن غيّه ،
وتألفهم جميعاً بالاحسان والانصاف » (1).
والرعية تتأثر بحاكمها وكما قال أمير المؤمنين عليه السلام : « قلوب الرعية خزائن
راعيها ، فما أودعها من عدلٍ أو جورٍ وجده » (2).
ومثّل عليه السلام الملك بالنهر والناس بالجداول فقال : « الملك كالنهر العظيم
تستمد منه الجداول ، فان كان عذباً عذبت ، وإن كان ملحاً ملحت » (3).
أثر الغرائز في التربية
الغريزة في اللغة هي : الطبيعة والقريحة والسجيّة ، وقال اللحياني : هي
الأصل والطبيعة (4).
وفي الاصطلاح هي : استعداد فطري نفسي جسمي يدفع الفرد الى أن
يدرك وينتبه الى أشياء من نوع معيّن ، وأن يشعر بانفعال خاص عند إدراكها ،
وأن يسلك نحوها مسلكاً خاصاً (5).
1 ـ تحف العقول / الحرّاني : ص 236. 2 ـ تصنيف غرر الحكم : ص 346. 3 ـ شرح نهج البلاغة / ابن أبي الحديد : 20 / 279. 4 ـ لسان العرب / ابن منظور : 5 / 386. 5 ـ منهج التربية أساسياته ومكوّناته / الدكتور علي أحمد مدكور : ص 59 ، الدار
الفنية ، القاهرة ، 1993م.
(26)
والغريزة كما هو المستفاد من معناها أمر مغروز في داخل الذات يتفاعل مع
المحيط الخارجي لينطلق نحو الاستجابة والاشباع ، وهي قوة لا نلاحظها
مباشرة بل نستنتجها من الاتجاه العام للسلوك الصادر منها في الواقع.
ومن هنا فللغريزة مظاهر ثلاثة : 1 ـ مثير خارجي. 2 ـ سلوك عملي.
3 ـ هدف يراد تحقيقه. وبعبارة اُخرى أنّ الغريزة تتفاعل مع الشعور بمظاهره
الثلاثة : الادراك والانفعال والرغبة للتحقيق.
فهي تتفاعل مع المثير الخارجي وتنفعل مع مظاهره المتنوعة ، وتنطلق
لتحقيق هدفها وهو الاشباع والارتواء ، وهذا التفاعل والانطلاق هو أمر
فطري لا يختلف ولا يتخلف من فرد لآخر ، وأمّا السلوك الصادر عن
الغريزة ، فهو أمر تتحكم به ارادة الانسان وما يحمله من متبنيات فكرية
وعاطفية وخلقية ، من حيث نظرته
للكون وللحياة والمجتمع ، فيكون منسجماً معها مطابقاً للأسس والقواعد التي
تبناها في رسم منهجه في الحياة ، ولهذا يختلف سلوك الانسان وممارساته
العملية اندفاعاً وانكماشاً من انسان لآخر تبعاً لدرجات ايمانه واعتقاده
بمتبنياته.
وتتنوع الغرائز بتنوع تركيبة الانسان وكينونته ، فهو جسد وروح ولكلّ
منهما وظائفه الخاصة المترتبة على الحاجات الأساسية العضوية والوجدانية في
آن واحد.
والتقسيم الثنائي للغرائز يرجعها الى العقل والشهوة ، وهما الأساس الذي
تتفرع وتتنوع منهما سائر الغرائز والدوافع والحاجات.
قال أمير المؤمنين عليه السلام : « انّ الله ركَّب في الملائكة عقلاً بلا شهوة ، وركّب في
البهائم شهوة بلا عقل ، وركّب في بني آدم كلتيهما ، فمن غلب عقله
(27)
شهوته فهو خير من الملائكة ، ومن غلبت شهوته عقله ، فهو شرّ من
البهائم » (1).
ومصطلح الشهوة يطلق على القوة التي تشتهي ، وعلى الأمر المشتهى (2).
فمن العقل تتفرع غريزة التديّن وغريزة التكامل أو حب الكمال ، وغريزة
الأمن والاستقرار ، ومن الشهوة تتفرع غريزة الجوع والغريزة الجنسية وبقية
الغرائز ذات الطابع الجسماني.
عن الامام جعفر الصادق عليه السلام قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : « انّ أول ما عصي الله
به ستة أشياء : حبّ الدنيا ، وحب الرئاسة ، وحب الطعام ، وحبّ النوم ، وحب
الراحة ، وحب النساء » (3).
وقد أيّد العلم الحديث ما قاله الامام علي عليه السلام في نظرته للانسان حيث انّ
المفهوم السائد في هذا العصر (انّ الانسان لا هو حيوان ولا هو من السماء ،
ولكنّه بين الاثنين ، وتطوره يعتمد على تمييزه المضبوط لطبيعة إمكاناته
المحدودة) (4).
فالانسان في رأي أمير المؤمنين تتجاذبه قوتان : الشهوة والعقل ، وهذه
القوى تبكّر لديه في الظهور واليقظة ، وتسرع عنده في النمو والتأثير ، وهي
1 ـ علل الشرايع / الشيخ الصدوق : 1 / 102 ، المكتبة الحيدرية ، النجف ، 1385هـ. 2 ـ مفردات ألفاظ القرآن / الراغب : ص 270. 3 ـ مجموعة ورّام : 2 / 205. 4 ـ الشخصية بين النجاح والفشل / الدكتور عباس مهدي : ص 91 ، عن :
colin wilson, beyond the outsider p.159.
(28)
المؤثرة في بنائه الخلقي والنفسي ، فاذا نمت قوة الشهوة وتغلبت على قوة
العقل فانّ الانسان سيكون مستسلماً لهواه وملذّاته وسيشبعها دون قيود أو
شروط في أجواء المثيرات والمغريات الخارجية الى أن يصبح كالحيوان همّه
بطنه وفرجه ، أو يقف الواقع حائلاً دون اشباعها ، فيؤدي ذلك الى اختلال
التوازن النفسي والانفعالي في كيانه فيصاب بالاضطراب النفسي والروحي ،
وإذا غلبت قوة العقل قوة الشهوة ، فإنّ الانسان سيشبعها في وجهها الايجابي ،
فهو لا يوقف الشهوة ولا يعطلها بل يوجهها وجهة عقلانية ويقيدها بقيود
الشريعة أو يؤجل إشباعها الى ظرفها المناسب المشروع.
ودور العقل هو تعديل الشهوة وتهذيبها واستبدال مثيراتها الطبيعية
بمثيرات اخرى تتجه بها الى السمو والكمال ، وتدع بها سلوكها الفطري إلى
سلوك فيه النضج والقوة للفرد والصلاح للمجتمع.
والعقل يقدّم التسامي على اللذات الفانية ، ويوجه الانسان الى طاعة ربّه
ويقدمها على غيرها.
ويصف الامام محمد الباقر عليه السلام أهل التقوى قائلاً : « أخّروا شهواتهم ولذّاتهم
خلفهم ، وقدّموا طاعة ربّهم أمامهم » (1).
فالامام لم يقل : الغوا شهواتهم ولذاتهم أو عطّلوها بل قال : أخّروا ، لأنّ
منهج أهل البيت عليهم السلام هو منهج التوازن ، ولهذا نجد انّ أمير المؤمنين عليه السلام يعاتب
عاصم ابن زياد حينما لبس العباءة وتخلّى عن الدنيا فيقول له : « ياعديَّ نفسه
لقد استهام بك الخبيث! أما رحمت أهلك وولدك! أترى الله أحلَّ لك الطيّبات ،
1 ـ تحف العقول / الحرّاني : ص 209.
(29)
وهو يكره أن تأخذها! أنت أهون على الله من ذلك » (1).
ومنهج أهل البيت عليهم السلام يدعو الى أن يكون العقل حاكماً على الشهوات ، لأنّ
الانسياق وراء الشهوات يؤدي إلى وقوع الانسان في مهاوي الرذيلة ، ومن
آثارها ما ورد في أقوال أمير المؤمنين عليه السلام :
1 ـ قرين الشهوة مريض النفس معلول العقل.
2 ـ غلبة الشهوة تبطل العصمة وتورد الهُلْك.
3 ـ من زادت شهوته قلت مروّته.
4 ـ إنكم ان ملّكتم شهواتكم نزت بكم الى الأشر والغواية (2).
وخلاصة القول : ان غلبة العقل على الشهوة بمعنى تحكمه فيها ، يجعل
الانسان في قمة السمو والتكامل ، وإنّ غلبة الشهوة على العقل تجعل الانسان
في المستنقع الآسن وفي ركب الطالحين.
قال الامام جعفر الصادق عليه السلام : « لا تدع النفس وهواها ، فإنّ هواها رداها ،
وترك النفس وما تهوى أذاها ، وكفّ النفس عمّا تهوى دواها » (3).
1 ـ نهج البلاغة : ص 324. 2 ـ تصنيف غرر الحكم : ص 305. 3 ـ الكافي / الكليني : 2 / 336.
ملامح المنهج التربوي عند أهل البيت عليهم السلام ::: فهرس