مسؤولية التربية من أهم المسؤوليات الملقاة على عاتق المربّين في حركتهم
التكاملية التي رسمها لهم الإسلام ، والإسلام جاء لاِنشاء أمة متكاملة
تستهدي بنوره وتنطلق لتنظيم شؤونها واصلاح أوضاعها ، لتتربّى الضمائر
والأفكار والعواطف والمواقف على أساس القواعد الكلية التي حدّدها
الإسلام ، لتكون الروابط إسلامية والأخلاق إسلامية.
والتربية ليس مجرد أوامر ونواهٍ تلقّن أو تصدر للاِنسان فيستجيب لها ،
وإنما هي عملية تغيير للمحتوى الداخلي للاِنسان ، وصياغة جديدة لأفكاره
وعواطفه وممارساته ، ولهذا فلابدّ أن يتصف المربّون بصفات وخصائص
تؤهلهم لتحقيق مظاهر المسؤولية في الواقع الإنساني والاجتماعي.
ومن أهم مقومات نجاح هذه المسؤولية أن يكون المربّي مخلصاً في مهمته ،
متفائلاً بالنجاح ، متعاوناً مع غيره ، مندفعاً ذاتياً بلا انتظار جزاءٍ أو أجرٍ إلاّ
من الله تعالى ، فهو المعين له في انجاح مسؤوليته.
ويمكن تصنيف خصائص وصفات المربّين إلى : خصائص ذاتية وخصائص عملية.
(62)
الخصائص الذاتية للمربّين أولاً : العلم والمعرفة
ينبغي أن يكون المربي أو المرشد أو الموجّه عالماً بقواعد وأسس المفاهيم
والقيم والآداب والموازين المراد تربية الآخرين على ضوئها ، وأن يكون مطلعاً
على كثير من المعارف المتعلقة بالتربية ، كعلم الأخلاق وعلم النفس وعلم
الاجتماع ، والتاريخ وغيرها.
وأن يكون على معرفة واطلاع اجمالي أو مفصل بالأمور التالية :
1 ـ أحوال وظروف المجتمع الذي يعيش فيه.
2 ـ خصائص الأفراد من حيث أفكارهم وعواطفهم وممارساتهم العملية.
3 ـ الأحداث والمواقف والتيارات الناشطة.
4 ـ تشخيص ما ينبغي أن يعمله تبعاً للظروف من حيث : اللين والشدة ، أو
التأني والاسراع.
5 ـ الفوارق بين بيئة واُخرى وزمان وآخر وقوم وآخرين.
وهذه المعرفة تسهم في الاسراع بانجاح العمل التربوي والاصلاحي ،
وعدم المعرفة في جميع أو بعض المجالات تؤدي إلى نتائج سلبية ، ولا توصل
المربي أو المصلح إلى تحقيق أهدافه أو تحقيق الثمار الايجابية لعمله وحركته
التربوية ، بل قد تبعده عن جميع ذلك.
قال الإمام جعفر الصادق عليه السلام : « العامل على غير بصيرة كالسائر على غير
الطريق لا تزيده سرعة السير إلاّ بعداً » (1).
1 ـ تحف العقول / الحرّاني : ص 269.
(63)
وعنه عليه السلام قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : « من عمل على غير علم كان ما يفسد أكثر ممّا يصلح » (1).
والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر كحقل تربوي يشترط فيه العلم
والمعرفة ، وقد سئل الإمام جعفر الصادق عليه السلام عن الأمر بالمعروف والنهي عن
المنكر أواجب هو على الأُمّة جميعاً ؟ فقال : « لا » ، فقيل له : ولم ؟ قال : « إنّما هو
على القويّ المطاع ، العالم بالمعروف من المنكر ، لا على الضعيف الذي لا
يهتدي سبيلاً إلى أيّ من أيّ ، يقول من الحق إلى الباطل ... » (2).
وقال عليه السلام : « إنّما يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر من كانت فيه ثلاث
خصال : عالم بما يأمر ، عالم بما ينهى ... » (3).
ومن خلال متابعة سيرة أهل البيت عليهم السلام نجد انّهم كانوا يحثّون على طلب
العلم وعلى معرفة أحوال المجتمع وعلى معرفة أحوال المخاطبين لكي يكون
المربي قادراً على النجاح في تحقيق مسؤوليته.
ثانياً : القدوة
الإنسان وخصوصاً في مرحلة الحداثة والطفولة يحاول التشبه بالأشخاص
الأكثر حيوية والأشد فاعلية في المجتمع ، ويتعمق التشبه في خلجات نفسه
بالتدريج حتى يستحكم في العقل والعاطفة ثم الارادة والسلوك ، والمربي هو
من أكثر أفراد المجتمع عرضة للتشبه به ثم تقليده ثم الاقتداء به لأنّه على علاقة
1 ـ الكافي / الكليني : 1 / 44. 2 ـ المصدر السابق نفسه : 5 / 60. 3 ـ تحف العقول / الحرّاني : ص 266.
(64)
متواصلة مع الناس والأفراد المراد تربيتهم سواء أكان والداً أم والدة أم معلماً أم عالم دين. وإذا لم يكن المربي قدوة لغيره فإنّ عمله لا يثمر ، ولا يستطيع أن ينفذ إلى
القلوب ليوجّهها نحو الاستقامة والصلاح ما دام لا يطابق فعله قوله ، وعمله
تصوراته ، حيث لا يبقى لموعظته أيّ أثر ايجابي على ممارسات وسيرة المراد
تربيتهم. قال الإمام جعفر الصادق عليه السلام : « إن العالم إذا لم يعمل بعلمه زلّت
موعظته عن القلوب كما يزلّ المطر عن الصفا » (1).
وإذا لم يكن المربي قدوة في سلوكه وسيرته ، فإنّ الناس لا ينتفعون بقوله
ورأيه بمعنى انّه لا يؤثر فيهم عملياً. قال الإمام جعفر الصادق عليه السلام : « من لم
ينسلخ عن هواجسه ، ولم يتخلص من آفات نفسه وشهواتها ، ولم يهزم
الشيطان ، ولم يدخل في كنف الله وأمان عصمته ، لا يصلح له الأمر بالمعروف
والنهي عن المنكر ، لأنه إذا لم يكن بهذه الصفة ، فكلّما أظهر أمراً كان حجّة
عليه ، ولا ينتفع الناس به » (2).
وقد مثّل عليه السلام المربي والموجه باليقظان ، فانّ غيره لا يستطيع أن يوقظ الناس
لأنه راقد ، فقال عليه السلام : « فإنّ مثل الواعظ والمتعظ كاليقظان والراقد ، فمن استيقظ
عن رقدته وغفلته ومخالفاته ومعاصيه ، صلح أن يوقظ غيره من ذلك
الرقاد » (3).
وقد دعا عليه السلام إلى أن يكون المربي والداعية مجسداً للسلوك الصالح في حركته ،
1 ـ الكافي / الكليني : 1 / 44. 2 ـ مستدرك الوسائل / النوري : 12 / 203. 3 ـ المصدر السابق نفسه.
(65)
وأن يكون مربياً بسيرته قبل التربية بلسانه ، فقال عليه السلام : « كونوا دعاة للناس
بغير ألسنتكم ، ليروا منكم الورع والاجتهاد والصبر والخير ، فانّ ذلك
داعية » (1).
ومن يتغلب على نفسه فانه قادر على تربية الآخرين على التغلب على
نفوسهم الامارة بالسوء ، ومن لم يمت الشر في داخله فانه لا يستطيع أن يميته
في صدور الآخرين. قال أمير المؤمنين عليه السلام : « احصد الشرّ من صدر غيرك بقلعه
من صدرك » (2).
ودعا عليه السلام إلى تجسيد المفاهيم والقيم الصالحة في النفس والارادة والسلوك
العملي قبل دعوة الناس إليها ، فقال : « ائتمروا بالمعروف وأمروا به ، وتناهوا
عن المنكر وانهوا عنه » (3).
ويرى عليه السلام أنّ من لم يكن قدوة صالحة فهو غاوٍ لغيره إن تبنى مسؤولية
التربية أو الدعوة إلى الدين والسيرة الصالحة ، قال عليه السلام : « كفى بالمرء غواية أن
يأمر الناس بما لا يأتمر به ، وينهاهم عمّا لا ينتهي عنه » (4).
وقد جسّد أهل البيت عليهم السلام دور القدوة في حركتهم لتربية أبنائهم أو تربية
الأمة أو تربية الموافقين والمخالفين على حد سواء ، قال أمير المؤمنين عليه السلام : « أيّها
الناس ، إنّي والله ما أحثكم على طاعة إلاّ وأسبقكم إليها ، ولا أنهاكم عن معصية
إلاّ وأتناهى قبلكم عنها » (5).
1 ـ الكافي / الكليني : 2 / 78. 2 ـ تصنيف غرر الحكم : ص 106. 3 ـ المصدر السابق نفسه : ص 332. 4 ـ المصدر السابق نفسه : ص 333. 5 ـ نهج البلاغة : ص 250.
(66)
وكان أهل البيت عليهم السلام قدوة في كلّ شيء ، وكانوا القمة في جميع الفضائل
والمحاسن والمكارم ، ولهذا استطاعوا تربية عدد كبير من المسلمين واعدّوهم
ليكونوا مربين بدورهم ، فكانوا قمة في الاخلاص لله تعالى ، وقمة في المعرفة ،
وفي الشجاعة ، وفي العدالة ، وفي الصدق والأمانة والوفاء بالعهد ، وفي جميع
مجالات ومقومات الشخصية في الفكر والعاطفة والسلوك.
ثالثاً : الانصاف والايثار
للانصاف والايثار دور كبير في خلق الأجواء الروحية والنفسية لنمو حركة
التربية ، حيث يرتبط الناس روحياً وعاطفياً بمن يتصف بهاتين الصفتين ،
ويشعرون بأنّ المربي أو المصلح غاية في الكمال والتسامي ، وانّه عادل في
تعامله مع الآخرين وفي تقييمهم ، وانّه يتمتع بالتعالي على الأطر والمصالح
الضيقة والأنانية ، وبهذا الشعور وبهذا الانشداد يمكن التأثير على أفكار
وعواطف وممارسات الآخرين ، حيث يجد المربي لرأيه ولارشاده قبولاً ، وهو
مقدمة أساسية للتربية والاصلاح.
يقول أمير المؤمنين عليه السلام في هذا الصدد :
1 ـ « المنصف كثير الأولياء والأودّاء ».
2 ـ « الانصاف يستديم المحبّة ».
3 ـ « الانصاف يألف القلوب ».
4 ـ « مع الانصاف تدوم الاُخوة ».
5 ـ « من عدم انصافه لم يصحب » (1).
1 ـ تصنيف غرر الحكم : ص 394 ، 395.
(67)
والمربي الكثير الأولياء والمحبوب من قبل الآخرين أكثر تأثيراً من غيره ،
حيث تتقبل القلوب ارشاداته وتوجيهاته وتسعى لتحقيقها في الواقع في
ممارسات عملية.
وحول صفة الايثار قال أمير المؤمنين عليه السلام :
1 ـ « غاية المكارم الايثار ».
2 ـ « بالايثار يسترق الأحرار ».
3 ـ « بالايثار على نفسك تملك الرقاب » (1).
والمربي المتصف بالايثار له سلطان روحي وهيمنة عاطفية على الآخرين
وجميع ذلك يؤثر في تقرير المفاهيم والقيم الصالحة في عقول وقلوب وارادة من
يراد تربيتهم.
وقد ملك أهل البيت عليهم السلام قلوب الناس بالايثار ، واستطاعوا ايصالهم إلى
شاطئ السعادة في الدنيا والآخرة بالتزامهم بالنهج القويم الذي أرسى أركانه
القرآن الكريم ورسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأهل بيته عليهم السلام.
رابعاً : الزهد
الزهد في أموال الناس وممتلكاتهم ، والزهد الذاتي في الحياة الدنيا بزينتها
وملذاتها يسهم في ازدياد ثقة الناس بالمربي والمبلّغ والداعية ، حيث يشعرون
بأنّه لا يرجو من عمله وحركته دنيا ولا جاهاً ، وانما يعمل لذات المسؤولية
تقرباً إلى الله تعالى. وبالزهد يكتسب المربي محبة الناس ، وبهذه المحبة يستطيع
1 ـ المصدر السابق نفسه : ص 396.
(68)
التأثير على عقولهم وقلوبهم وإراداتهم.
قال أمير المؤمنين عليه السلام : « تحبّب إلى الناس بالزهد فيما بأيديهم ، تقر بالمحبّة
منهم » (1).
وقال عليه السلام : « الزهد أقلّ ما يوجد ، وأجلّ ما يعهد ، ويمدحه الكلّ ويتركه
الجلّ » (2).
والزهد مفتاح الصلاح للمربي وللمجتمع أجمع ، وهو زين الحكمة ، كما جاء
في قول أمير المؤمنين عليه السلام : « الزهد مفتاح صلاحٍ » وقال عليه السلام : « زين الحكمة الزهد
في الدنيا » (3).
خامساً : البشاشة وطلاقة الوجه ولين الكلام
البشاشة وطلاقة الوجه ولين الكلام من الممارسات المحبوبة عند جميع
الناس ، وهي تسهم في جذب الناس وامتلاك عواطفهم ومشاعرهم ، لأنّ
الناس يتأثرون بالشخص قبل التأثر بالمفاهيم والأفكار ، وهم يقيسون
الانسان على ظاهره قبل باطنه ، فحينما يرونه بشوشاً طليق الوجه لين الكلام
فإنهم سيتوجّهون إلى أفكاره ورغباته بشوق وجاذبية.
وفي ذلك قال إمامنا أمير المؤمنين عليه السلام :
1 ـ « طلاقة الوجه بالبشر والعطية وفعل البرّ وبذل التحية داعٍ إلى محبّة البرية ».
1 ـ تصنيف غرر الحكم : ص 437. 2 ـ المصدر السابق نفسه : ص 275. 3 ـ المصدر السابق نفسه : ص 275.
(69)
2 ـ « عليك بالبشاشة فإنّها حبالة المودّة ».
3 ـ « البشر يطفئ نار المعاندة ».
4 ـ « البشر يؤنس الرفاق ».
5 ـ « عوّد لسانك لين الكلام وبذل السّلام يكثر محبّوك ويقلّ مبغضوك ».
6 ـ « من عذب لسانه كثر اخوانه » (1).
7 ـ « من لانت كلمته وجبت محبّته » (2).
8 ـ « إنّ أحسن ما يألف به الناس قلوب أودائهم ونفوا به الضغن عن قلوب
أعدائهم حسن البشر عند لقائهم والتفقّد في غيبتهم والبشاشة بهم عند
حضورهم » (3).
الخصائص العملية للمربين أولاً : المداراة
يجد المربّي أصنافاً من الناس يختلفون في أعمارهم وأجناسهم ، ويختلفون
في طاقاتهم وامكاناتهم الفكرية والعاطفية والسلوكية ، ويختلفون في انتماءاتهم
وولاءاتهم الطبقية والقبلية والقومية والطائفية ، ويختلفون في درجات قربهم
وبعدهم عن الدين ، ويختلفون في نظرتهم للمربي من حيث الاحترام والتقدير
وعدمهما ، ومن حيث الثقة به وعدمها ، وجميع ذلك بحاجة إلى المداراة.
1 ـ تصنيف غرر الحكم : ص 434 ، 436. 2 ـ تحف العقول / الحرّاني : ص 60. 3 ـ المصدر السابق نفسه : ص 152.
(70)
ومداراة أفراد المجتمع المتعددين في كل جوانب الشخصية من أولويات
العمل والفعالية في أوساطهم لاصلاحهم وتربيتهم ، ولهذا جاءت الروايات
لتؤكد على هذه الظاهرة الجميلة.
عن الإمام جعفر الصادق عليه السلام قال : « قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : أمرني ربّي بمداراة
الناس كما أمرني بأداء الفرائض » (1).
وعنه عليه السلام قال : « قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ثلاث من لم يكنّ فيه لم يتمّ له عمل : ورع يحجزه عن معاصي الله ، وخلق يداري به الناس ، وحلم يردُّ به جهل
الجاهل » (2).
والمداراة كما وصفها أمير المؤمنين عليه السلام هي جمال الحكمة ، وسلامة الدين
والدنيا ، وأحمد الخلال ، فقال عليه السلام :
1 ـ « جمال الحكمة الرفق وحسن المداراة ».
2 ـ « سلامة الدين والدنيا في مداراة الناس ».
3 ـ « المداراة أحمد الخلال » (3).
ومن مصاديق المداراة أن يتحدث المربي بلغة مبسطة واضحة مفهومة من
قبل جميع المستويات الفكرية والعلمية ، وأن يتجنب المصطلحات الغامضة
والعبارات غير الواضحة التي لا تحقق أي تقدّم في المجال التربوي.
قال أمير المؤمنين عليه السلام :
1 ـ « أحسن الكلام ما زانه حسن النظام ، وفهمه الخاص والعام ».
1 ـ الكافي / الكليني : 2 / 117. 2 ـ المصدر السابق نفسه : ص 116. 3 ـ تصنيف غرر الحكم : ص 445.
ملامح المنهج التربوي عند أهل البيت عليهم السلام ::: فهرس