الثانية : كيف نميّز العمل الفطري عن غير الفطري ؟ يصدر من الإنسان في حياته نوعان من الأفعال : 1. الأفعال الفطرية. 2. الأفعال العادية. و الأفعال الفطرية هي تلك الأفعال التي تنبع من جبلة الإنسان وفطرته وغريزته كالتنفس ، والدفاع عن النفس عند مواجهة الخطر. وهذه الأعمال لا تختلف عما تفعله الحيوانات من أعاجيب الأفعال بحكم الغريزة وتحت هداية الفطرة وتأثير الجبلة ودون أن تخضع في شيء من ذلك لأي عامل خارجي عن وجودها. و الأفعال العادية هي التي لا يكون لها أية جذور غريزية باطنية بل يقوم بها الإنسان تحت تأثير العوامل الخارجية عن ذاته. ولمزيد من التوضيح نمثل للأفعال الفطرية بالأمثلة التالية : 1. الغريزة الجنسية وميل كل جنس إلى مخالفه من الأُمور الفطرية التي تتجلّى لدى كل فرد من أبناء البشر في سنين متفاوتة. فكل أبناء البشر ـ بلا استثناء ـ يميلون في هذه الفترة من العمر إلى الزواج واللقاء الجنسي دون أن يدعوهم إلى ذلك داع أو مبلّغ ودون أن يسوقهم إلى ذلك مرشد أو معلّم. 2. الميل إلى الجاه والمكانة الاجتماعية هو الآخر من الأُمور الفطرية التي تنبع من أعماق الباطن البشري ، وحنايا النفس الإنسانية.
(52)
فالحكم على الناس والحصول على المناصب ليس شيئاً لا يريده أحد أويحتاج إلى تعليم معلّم. 3. حب المال واكتناز الثروة وجمعها من الأُمور الفطرية كذلك. ألا ترى كيف لا يشبع الإنسان من جمع المال ، ولا يمل من تكديس الثروة وكأنّ جبلته عجنت بطلب الدنيا وحبها. هذه هي بعض النماذج من الأفعال الفطرية ، وهي كما نرى لا تخضع لأي تغيير وتبدّل ، كما لا تخضع لأي عامل خارج
الذات. ويقابل ذلك مجموعة من الأفعال العادية التي تخضع لحالة التغيّر والتبدّل باستمرار. فإذا كانت الحاجة إلى اللباس فطرية فإنّ كيفية اللباس الذي يلبسه الإنسان ليست فطرية ، ولأجل هذا نرى التفاوت الكبير في
كيفية الثياب والألبسة والأزياء واختلافها من شعب إلى شعب ومن أُمّة إلى أُخرى. واليوم حيث يتزايد تقارب الشعوب بفضل المواصلات وأجهزة الإعلام بحيث يكاد يصبح العالم عائلة واحدة نجد أنّ مواصفات الأزياء وطُرُز الألبسة تتعرض للتغير والتبدل في كل عام في أغلب نقاط عالمنا ، فتذهب طُرُز وتحل محلها طُرُز أُخرى جديدة بينما تبقى الحاجة إلى اللباس ثابتة لا تتغير. وعلى غرار الأزياء تخضع أساليب تجميل النساء وطرق الزينة ، وهكذا زخارف المنازل والمحلات والمخازن ، للتغيّ ـ ر والتبدّل كل عام وينتخب كل شعب لنفسه زياً من الأزياء وطرازاً من الطُرُز ، وشكلاً من الأشكال. مع ملاحظة الأمثلة التي ذكرناها للنوعين يمكن تمييز الأمر الفطري عن
الأمر غير الفطري بمعونة العلامات
التالية : 1. حيث إنّ الأُمور الفطرية ذات جذور غريزية باطنية ، لذلك فهي تتصف بالشمولية والعمومية ، فليس هناك أحد من أبناء البشر يفقدها ويخلو منها. 2. الأُمور الفطرية تتحقق بوحي الفطرة وهدايتها ، ولا تحتاج إلى تعليم معلّم. 3. كل فكرة أو عمل تكون له جذور فطرية لا تخضع لتأثير العوامل السياسية والاقتصادية والجغرافية ، بل هي تعمل وتتحقق بعيداً عن نطاق هذه العوامل وتأثيرها. 4. الدعايات المكثفة والمستمرة ضد الأُمور الفطرية يمكن أن تضعفهاوتحد من نموها ولكن لا تتمكن ـ أبداً ـ من استئصالها والقضاء عليها بالمرة. هكذا تكون الأُمور الفطرية بينما تكون الأُمور العادية ـ على العكس ـ . فهي محلية. وهي تتأثر بالعوامل والمؤثرات المحيطية والبيئية. وهي تخضع لتعليم معلم. وأخيراً هي مما تتمكن الدعايات المضادة من استئصالها بالمرة. والآن علينا أن نرى ما إذا كانت غريزة التديّن تتصف بالصفات والعلامات الأربع التي ذكرناها أو لا ؟
(54)
1. البحث عن اللّه ظاهرة عالمية لقد كشف التحقيق الكلّي الذي قمنا به في مطلع هذا الفصل كشف النقاب عن « عالمية » هذا الإحساس ، ونعني حس البحث عن اللّه والانجذاب إلى ما وراء المادة « الميتافيزيقيا ». ونضيف هنا أنّ علماء التنقيب والآثار عثروا ويعثرون باستمرار ـ وخلال حفرياتهم ـ على معابد وهياكل للعبادة وأصنام تصور معبودات جميلة كان يتخذها البشر القدامى وتقدّسها الأجيال الغابرة البائدة ، وتعود إلى أقدم العصور. فها هو فريد وجدي يكتب في دائرة معارفه : إنّ نتيجة التنقيبات في باطن الأرض تفيد أنّ الوثنية كانت من أظهر وأبرز الإدراكات البشرية ، وكأنّ الاعتقاد بالمبدأ نشأ مع ظهور البشر جنباً إلى جنب. (1) ويكتب « جان دايورث » الأُستاذ بجامعة كولومبيا حول الدين وأصالته في المجتمع البشري (2) : إنّك لن تجد أية ثقافة لدى أية أُمَّة من الأُمم وقوم من الأقوام إلاّ ويكون في تلك الثقافة شكل من أشكال التديّن وأثر بارز للدين. إنّ جذور التديّن ممتدة إلى أعماق التاريخ .. إلى الأعماق المجهولة من التاريخ السحيق البعيد غير المدون. (3) 1 ـ دائرة المعارف : مادة « إله » و « وثن ». 2 ـ الدين في التجارب. 3 ـ المصدر السابق.
(55)
2. الفطرة هي الهادية إلى اللّه وليس التعليم يستيقظ الشعور الديني في باطن كل إنسان ـ تماماً ـ كبقية الأحاسيس الباطنية دون معلم ودون إرشاد أو توصية من أحد. فكما يحس الإنسان باطنياً وذاتياً في فترة من فترات حياته أو في كل الفترات بميل شديد إلى أُمور كالجاه أو الثروة أو الجمال أو الجنس وذلك تلقائياً ودون تعليم معلم ، كذلك يستيقظ في باطنه « ميل إلى اللّه » وإحساس تلقائي يدفعه بدون إرادته إلى التفتيش عنه ، وهو إحساس يتعاظم ويتزايد ويظهر ويتجلّ ـ ى أكثر فأكثر أثناء البلوغ حتى أنّ علماء النفس يتفقون في أنّ بين « ازمة البلوغ » و « القفزة المفاجئة في المشاعر الدينية » في الفرد ارتباطاً وتلازماً لا ينكر. ففي هذه الأوقات نشاهد نهضة قوية ، واندفاعة شديدة في الشعور الديني حتى عند أُولئك الذين كانوا قبل تلك الفترة غير مكترثين بالدين وقضايا الإيمان. ويبلغ الشعور الديني ذروته في سن السادسة عشرة حسب نظرية « استانلي هال ». وأمّا الأشخاص الذين سبق لهم أن تلقّوا تربية دينية في عهد الطفولة ، فلا توجد لديهم مثل تلك النهضة المفاجئة ، بل يمتد الشعور الديني الموجود قبل البلوغ إلى ذلك الوقت دونما مفاجأة. إنّ ظهور الميل المفاجئ إلى الدين و إلى اللّه ومسائل الإيمان دون تعليم أو توجيه ، لهو أحد الدلائل القاطعة على فطرية هذا الأمر ، وكون هذا الإحساس يظهر فطرياً شأن بقية الأحاسيس الإنسانية الفطرية الأُخرى.
(56)
ولكن علينا أن لا نغفل عن نقطة مهمة وهي : أنّ هذا الإحساس ، وكذا بقية الأحاسيس والمشاعر الإنسانية لو لم تحط بالمراقبة الصحيحة والرعاية اللازمة أمكن ـ بل من المحتم ـ أن تعروها سلسلة من الانحرافات وتتعرض للاعوجاج كما هو الحال عند الوثنيين وغيرهم ممن تركوا عبادة اللّه ، وأخذوا بعبادة الآلهة.
3. الشعور الديني ليس وليد العوامل المحيطية عندما نجد الشعور الديني منتشراً وسائداً في كل مكان وكل صقع من هذا العالم ، وفي كل عصر من عصور التاريخ البشري ، فإنّ من البديهي أن نستنتج أنّ هذا الشعور نداء باطني فطري لا محرك له سوى الفطرة ، ولا مقتضي له سوى الجبلة. لأنّه لو كان للظروف الجغرافية أو العوامل الأُخرى دخل في نشوء هذا الشعور ، لوجب أن يوجد في مكان دون مكان ، ولدى شعب دون شعب ، ولدى طبقة خاصة دون أُخرى. وبتعبير آخر لوجب أن يكون هذا الشعور لدى من تتوفر لديه الظروف الجغرافية أو السياسية أو الاقتصادية الخاصة دون من لا تتوفر فيه تلكم الخصوصيات. في حين أنّ الأمر على العكس من هذا تماماً ، فالشعور الديني موجود في جميع المناطق ولدى جميع الشعوب وفي جميع أدوار التاريخ البشري الطويل .. وهذا هو بالذات شأن كل ما لا يخضع لتأثير العوامل الخارجية .. وبالتالي شأن كل أمر فطري. وفي هذا الصدد يقول « بلورتاك » المؤرخ الإغريقي الشهير منذ نحو من ألفي سنة :
(57)
من الممكن أن نجد مدناً بلا أسوار ولا ملوك ولا ثروة ولا آداب ولا مسارح ولكن لم ير قط مدينة بلا معبد ، أو لا يمارس أهلها عبادة. (1) ويقول العالم الأثري الراحل الدكتور سليم حسن : دلت البحوث العلمية البحتة الآن على أنّ لكل قوم من أقوام العالم عامة ـ مهما كانت ثقافتهم منحطة ـ ديناً يسيرون على هديه ويخضعون لتعاليمه. (2)
4. الدعايات حدّدت هذا الشعور ولم تستأصله لا شك في أنّ الدعايات المناوئة ، في مقدورها أن تحد من نمو كثير من الأحاسيس والمشاعر الدينية ، ولكنّها لا تستطيع ـ بتاتاً ـ أن تقضي عليها وتستأصلها. وحتى الآن ورغم سيطرة الأفكار اليسارية على ما يقرب من ثلث عالمنا المعاصر ومحاولة البعض لحبس « الشعور الديني » في سجن الاستعمار الشيوعي أو القضاء عليه بالمرة (3) فإنّ هذه الجهود المناوئة للدين لم تحقق أي قسط مهم من النجاح في القضاء على الدين ، أو تفريغ قلوب أكثرية سكان هذا العالم من هذا الشعور. فها هو الشعور الديني ـ في نفس الاتحاد السوفياتي البلد الشيوعي الأُم ـ رغم مرور أزيد من ستين عاماً على الثورة الشيوعية فيها لا يزال يحتفظ بمكانته في أعماق القلوب ، ولذلك عمدت السلطات ـ في الأوان الأخير ـ إلى إعطاء بعض
1 ـ بين العلم والدين : 36. 2 ـ بين العلم والدين : 25. 3 ـ حتى أنّ بعض الأحزاب التقدمية رفعت مؤخراً شعار : « القضاء على الدين دين ».
(58)
الحريات للمسلمين والمسيحيين لإقامة شعائرهم الدينية. وفعلت الصين مثل ذلك مؤخراً كما تنقل نشرات الأخبار ووكالات الأنباء. كل ذلك برهان ساطع ودليل قاطع على أنّ الشعور الديني فطرة فطر عليها الناس ، جميع الناس .. لا تمحوها الدعايات المناوئة ، ولا أي شيء آخر ، وإن كانت تقلل من اندفاعاتها وتحد من نموها ، بعض الوقت ، وبعض الشيء.
الثالثة : الشعور الديني أو البعد الرابع في الروح الإنسانية إذا كان القرآن الكريم وأحاديث أئمّة الإسلام تعتبر الشعور الديني أمراً نابعاً من الفطرة ، وراجعاً إليها .. وأمراً جبل عليه الإنسان يوم خلق فإنّ علماء النفس منهم خاصة يصفون هذا الشعور بأنّه « البعد الرابع » للروح الإنسانية. وإذا تهافتت في الغرب نظرية الأبعاد الثلاثة للجسم إثر ظهور النظرية النسبية التي أضافت بعداً رابعاً للأجسام هو الزمان مضافاً إلى أبعاده الثلاثة المنظورة (وهي الطول والعرض والعمق) فقالت : كما أنّ الجسم لا يخلو من هذه الأبعاد الثلاثة كذلك لا يخلو من الزمن الذي هو وليد الحركة بما أنّ الأجسام في حركة دائمة. أقول : كما تهافتت نظرية الأبعاد الثلاثة بظهور البعد الرابع للأجسام ، كذلك مع اكتشاف الشعور الديني في الإنسان والاطلاع على أنّ هذا الشعور يمثل أحد العناصر الثابتة والطبيعية في الروح والنفس الإنسانية تهافتت النظرية القائلة بأنّ للروح الإنسانية ثلاثة أبعاد فحسب ، وثبت في الم آل أنّ في الروح والفطرة البشرية حسّاً آخر علاوة على الأحاسيس والغرائز الثلاث المعروفة ، وهذا
(59)
الحس هو « حس التدّين » الذي لا يقل أصالة عن بقية الأحاسيس الأصيلة والمشاعر المتأصلة في وجود الإنسان. وإليك فيما يلي بيان الغرائز والأحاسيس الثلاث باختصار : 1. غريزة حب الاستطلاع وهذه الغريزة هي التي دفعت وتدفع الفكر الإنساني ـ منذ البداية ـ إلى البحث وإلى دراسة المسائل والمشاكل والسعي لاكتشاف المجهولات وفك الرموز واستكناه الحقائق. وهي الغريزة التي نشأت في ظلها العلوم والصناعات وتوسعت المعارف و تطوَّرت وتقدّمت ... وهي الغريزة التي ساعدت المكتشفين والمخترعين منذ القدم وكانت معواناً ومشجعاً لهم على مواصلة البحث المضني لاكتشاف ألغاز الطبيعة وأسرار الحياة وكشف القناع عنها ، وتحمل كل الصعوبات والمتاعب في ذلك الطريق الوعر. 2. غريزة حب الخير وهي منشأ ظهور الأخلاق ، ومعتمد الفضائل والسجايا الإنسانية والصفات النفسانية المتعالية. وهي الغريزة التي تدفع الإنسان إلى أن يحب بني نوعه ويطلب العدل ، والحق ، والسلام. وهي التي توجد في المرء نوعاً من الميل الفطري الباطني إلى الأخلاق النبيلة والسجايا الحميدة ونفوراً من الرذائل والصفات الذميمة.
(60)
3. غريزة حب الجمال وهي منشأ الفنون الجميلة قديماً وحديثاً وسبب ظهور الأعمال الفنية في شتى مجالات الحياة. 4. غريزة التدّين وتعني بأنّ كل فرد من أبناء الإنسان يميل بنحو ذاتي وفطري ، وبحكم غريزته إلى اللّه ويميل إلى التدّين ، وينجذب عفوياً إلى معرفة ما وراء الطبيعة والقوة الحاكمة على هذا الكون الذي يعيش ضمنه ويكون وجود الإنسان فرعاً من وجوده وجزءاً من أجزائه. تلك القوة التي بيدها أمر العالم ويمكن أن تنقذه من البلايا ، وتدفع عنه كل مكروه إن شاءت. ولقد أوجد اكتشاف هذا الشعور وهذا البعد الأخير حركة عظيمة في الأوساط العلمية ، إذ حط هذا الاكتشاف العلمي النفساني الهام من غرور ماديي القرن العشرين وكبريائهم. فإذا كان إنكار ما وراء الحس « الميتافيزيقيا » دليلاً على الفهم والعلم والتحقيق ذات يوم ، فقد أصبح هذا الأمر ـ بعد اكتشاف البعد الرابع ـ علامة الجهل والتعصب والتحجّر ، والإنكار لأبده الحقائق الحاضرة. وإذا كانت مقالة لينين حول الدين ، تعتبر ذات يوم في نظر البعض أصلاً لا يقبل النقاش والجدل ، وكانت جماهير السواد تتصور بأنّه قد اكتشف لغزاً وسراً عظيماً من أسرار الكون ، فقد أصبحت هذه النظرية بعد اكتشاف البعد الرابع ،