6. انّ أوضح آية دلالة على توحيد الذات ونفي الشريك والنظير للّه سبحانه هو قوله تعالى : ( شَهِدَ اللّهُ أَنَّهُ لاَ إِلهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُوا الْعِلْمِ قَائِماً بِالْقِسْطِ لاَ إِلهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ) . (1) وقد وردت في القرآن آيات أُخرى بهذا المضمون وفي عبارات متنوعة مثل : ( لاَ إِلهَ إِلاَّ اللّهُ ). (2) ( لاَ إِلهَ إِلاَّ هُوَ ). (3) ( لاَ إِلهَ إِلاَّ أَنْتَ ). (4) ( لاَ إِلهَ إِلاَّ أَنَا ). (5) وغير ذلك مما يمكن الوقوف عليها بمراجعة « المعجم المفهرس لألفاظ القرآن » بسهولة ويسر. وإليك آيات أُخرى في هذا الصدد : ( فَاطِرُ السَّموَاتِ وَالأرْضِ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجَاً وَمِنَ الأنْعَامِ أَزْوَاجاً يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ ). (6) 1 ـ آل عمران : 18. 2 ـ محمد : 19. 3 ـ الحشر : 22. 4 ـ الأنبياء : 87. 5 ـ النحل : 2. 6 ـ الشورى : 11.
(272)
وهل الكاف في الآية زائدة فيكون هدف الآية نفي المثل له ، أو غير زائدة فيكون معناها نفي مثل المثل له ، ويستلزم ذلك نفي المثل بالدلالة الالتزامية إذ من الطبيعي أنّه إذا لم يكن لمثل الشيء مثل فلن يكون لذاته مثل أصلاً. وتوضيح ذلك : قال التفتازاني : إنّ الآية بصدد نفي شيء بنفي لازمه ، لأنّ نفي اللازم يستلزم نفي الملزوم كما يقال : ليس لأخي زيد أخ فأخو زيد ملزوم والأخ لازمه ، لأنّه لابد لأخي زيد من أخ هو زيد ، فنفيت هذا اللازم والمراد نفي ملزومه ، أي ليس لزيد أخ ، إذ لو كان له أخ لكان لذلك الأخ أخ هو زيد. فكذا نفيت أن يكون لمثل اللّه مثل ، والمراد نفي مثله تعالى إذ لو كان له مثل لكان هو مثل مثله إذ التقدير انّه موجود. ثم نقل عن صاحب الكشاف وجهاً آخر لعدم زيادة الكاف ، وهو : انّهم قد قالوا مثلك لا يبخل والغرض نفيه عن ذاته ، فسلكوا طريق الكناية قصداً إلى المبالغة ، لأنّهم إذا نفوه عما يماثله وعمّن يكون على أخص أوصافه فقد نفوه عنه. فحينئذ لا فرق بين قوله : ليس كاللّه شيء وقوله : ليس كمثله شيء ، إلاّ ما تعطيه الكناية من فائدتها وهما عبارتان معتقبتان على معنى واحد وهو نفي المماثلة عن ذاته. (1) ( قُلْ هُوَ اللّهُ أَحَدٌ * اللّهُ الصَّمَدُ * لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ ). (2) 1 ـ المطول : بحث المجاز المفرد 320. 2 ـ الإخلاص : 1 ـ 4.
(273)
توضيحات حول الآية الأُولى تذكر الآية الأُولى ـ بجلاء تام ـ شهادة اللّه والملائكة والعلماء على وحدانية اللّه ، وعلينا هنا أن نعرف كيف تكون شهادة اللّه على هذا الموضوع. 1. يمكن أن تحمل هذه الشهادة على الشهادة القولية كما نشهد نحن على وحدانيته بقولنا : « لا إله إلاّ اللّه ». وقد شهد اللّه على وحدانيته بالشهادة اللفظية عن طريق القرآن وهو الوحي والكلام الإلهي ، ضمن الآيات التي تعرضت لبيان هذه الوحدانية وإثباتها ، وقد أشرنا إلى بعضها ـ فيما تقدم ـ . وجملة ( قَائِمَاً بِالقِسطِ ) إشارة إلى القسط الإلهي في القول والعمل ، ومن المعلوم أنّ قبول الشهادة فرع « عدالة الشاهد » وصدقه فلما كان الشاهد عادلاً كانت شهادته صادقة وصحيحة. 2. يمكن أن تكون هذه الشهادة (المذكورة في الآية ) شهادة عملية ، لأنّ اللّه بخلقه الكون الذي يسوده نظام واحد ، وتترابط أجزاؤه ، وكأنّ ـ ها موجود واحد ، وكائن فارد أثبت عملياً وحدانية الذات المدبرة لهذا الكون ووحدانية الإرادة المنظمة ، الحاكمة على هذا العالم. أليس لو كان يحكم إلهان أو أكثر على هذا الكون لم يكن هذا النظم ، ولما كان لهذا التلاحم والترابط وجود ولا أثر ؟ والحق أنّ « الرأي الأوّل » أفضل وأقوم ، لانسجام هذا الرأي مع شهادة الفريقين الآخرين ، أعني : شهادة الملائكة وأُولي العلم ، التي يناسب أن تكون شهادتهما « قولية » ، وحفظ سياق الآية يقتضي تفسير الشهادات الثلاث بمعنى
(274)
واحد. هذا مع العلم أنّ هذه الآية ليست هي الآية الوحيدة التي تخبر عن شهادة « اللّه » ، بل ورد نظير ذلك في آيات أُخرى أيضاً ، ولا يمكن لأحد حملها على الشهادة العملية فقط .. وذلك مثل : ( لَكِنِ اللّهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنْزَلَ إِلَيْكَ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلائِكَةُ يَشْهَدُونَ وَكَفَى بِاللّهِ شَهِيداً ). (1) ولأجل ورود مثل هذه الشهادة في القرآن الكريم (خاصة بالنظر إلى قوله يشهد بما أنزل) ينبغي أن نحمل الشهادة المذكورة في الآية المبحوثة على : الشهادة اللفظية ، التي يحكي « الوحي » الإلهي عنها.
سؤال في المقام إنّ الهدف من الشهادة هو أن يتعرف السامع على حقيقة ما ، لاعتقاده بعدالة الشاهد وصدقه حتى إذا كان « المشهود به » من القضايا الاعتقادية اعتقد به ، وإذا كان من الوظائف العملية أتى به. ولا شك في أنّه لا شاهد أعدل من « اللّه » ولا أصدق منه حديثاً ، فإذا شهد بوحدانية نفسه ، أزالت هذه الشهادة كل شك في ذلك وكل ريب وتردد. ولكن من أين يمكن إثبات أنّ هذا القرآن الذي يتضمن شهادة اللّه ، هو كلام اللّه وحديثه وخطابه ووحيه؟! والجواب : أنّ القرآن أثبت انتسابه إلى اللّه تعالى عن طريق تحدي الناس ، وأنّه
1 ـ النساء : 166.
(275)
ليس من صنع الفكري البشري ، وعن طريق عجز الناس عن مواجهة هذا التحدي ، والإتيان بمثل القرآن في جميع الدهور. وإذا ثبت كون القرآن « وحياً إلهياً » عن هذا الطريق ، لزم قبول كل الشهادات الواردة فيه ـ بشكل مطلق ـ دونما مناقشة أو تردد. وأمّا الفريق الثاني من الشهود ، أعني : الملائكة ، فهو يسبح للّه باستمرار وعلى الدوام وينزّهه ، ويقدّسه عن كلّ عيب ونقص وخاصة عن الشريك. وقد نقلت شهادة هذا الفريق في الكتاب العزيز بنحو آخر ، إذ يقول القرآن : ( وَالْمَلائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ ). (1) وأمّا الفريق الثالث من الشهود ، أعني : أُولي العلم ، فهم يشهدون بوحدانية اللّه بالاستلهام من البراهين المتنوعة ، كبرهان « الفطرة » ، لأنّ الإنسان يتوجه عند الشدائد ، إلى اللّه الواحد دائماً ، وهذا هو خير دليل على وحدانيته سبحانه. هذا بالإضافة إلى غيره من الأدلّة العقلية ، وآيات وحدانية ذاته تعالى ، التي تهديهم إلى هذه الشهادة ، ونحن ـ في هذا الفصل ـ سنشير إلى بعض هذه الأدلة العقلية الدالة على وحدانية الذات الإلهية ، كما سنورد الدلائل الآفاقية ، والأنفسية ، على وحدانية خالق الكون في فصل « التوحيد في الخالقية ».
1 ـ الشورى : 5.
(276)
ولا يفوتنا أن نطلب من القارئ الكريم في هذا المقام أن يعيد مطالعة الآية المبحوثة ويمعن فيها وفي مفادها ثم يسلم ويخضع أمام منزلها وموحيها ، لكي يكون في عداد الشهود بوحدانية اللّه ، مع الملائكة وأُولي العلم. قال الزبير بن العوّام : قلت لأدنونّ هذه العشية من رسول اللّه ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) ، وهي عشية عرفة حتى أسمع ما يقوله ، فحبست ناقتي بين ناقة رسول اللّه وناقة رجل كانت إلى جنبه فسمعته ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) يقول : ( شهد اللّه أنّه لا إله إلاّ هو ) إلى آخرها ، فما زال يردّدها حتى رفع. (1) والآن حين انتهينا من دراسة الآية الأُولى ، يلزم أن نعطي بعض التوضيحات حول الآية الثانية ، والثالثة. ففي الآية 11 من سورة الشورى جاء قوله سبحانه هكذا : ( لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيءٌ ). وفي الآية الرابعة من سورة الإخلاص نقرأ قوله سبحانه : ( وَ لَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ ). فلماذا ليس للّه مثيل ولا نظير؟ فهل من غير الممكن أن يكون له نظير؟ أم أنّ ذلك ممكن ـ أساساً ـ ولكن لم يكن للّه تعالى نظير ولا مثيل من باب المصادفة والاتفاق. إنّ الدلائل العقلية والقرآنية تهدينا إلى امتناع مثل هذا الكفو والنظير ـ
1 ـ مجمع البيان : 1 ـ 2/717.
(277)
أساساً ـ ولذلك يتعين علينا أن نتوقف هنا قليلاً ونصغي إلى شهادة العقل. لقد استدل الفلاسفة الإسلاميون على وحدانية الذات الإلهية المقدسة من طريقين : أ. الوجود « غير المتناهي » لا يقبل التعدّد. ب. الوجود « المطلق » لا يقبل التعدّد. وسنعمد ـ هنا ـ إلى توضيح البرهان الأوّل فحسب ، لكونه ذا جذور قرآنية. وأمّا البرهان الثاني فيطلب توضيحه من الكتب الفلسفية والكلامية ، التي تتحدث عن الصفات الإلهية. (1) وإذا ثبتت لنا « لا محدودية » وجود اللّه ، حينئذ يسهل علينا تصوّر توحيده. والآن يجب علينا إثبات الأمرين (2) بأوضح دليل وبرهان.
أ. وجود اللّه غير متناه إنّ محدودية الموجود ملازمة للتلبس بالعدم. لنفترض كتاباً طبع بحجم خاص ثم لننظر إلى كل طرف من أطرافه الأربعة ، فإنّا نرى أنّه ينتهي ـ ولا شك ـ إلى حد معين ينتهي إليه وجود الكتاب ، وحدود حجمه ، ولا شيء وراء ذلك. ولنفترض جبال الهملايا فهي مع عظمتها محدودة أيضاً ، ولذلك لا نجد بين
1 ـ شرح المنظومة للحكيم السبزواري : 143 ، وفي ذلك يقول : صرف الوجود كثرة لم تعرضا لأنّه أمّا التوحد اقتضى 2 ـ أي لا محدودية اللّه ، واستلزام ذلك ، لتوحيده تعالى.
(278)
كل جبلين من جبال الهملايا أي أثر للجبل وذلك دال على أنّ كلاًّ من الجبلين محدود. من هذا البيان نستنتج أنّ « محدودية » أية حادثة من حيث « الزمان » أو محدودية أي جسم من حيث « المكان » هي أن يكون وجوده مزيجاً بالعدم ، وانّ المحدودية والتلبس بالعدم متلازمان. ولذلك فإنّ جميع الظواهر والأجسام المحدودة « زماناً ومكاناً » مزيجة بالعدم ، ويصح لذلك أن نقول في حقّها بأنّ الحادثة الفلانية ، لم تتحقق في الزمان الفلاني أو أنّ الجسم الفلاني لا يوجد في المكان الفلاني. على هذا الأساس لا يمكن اعتبار ذات « اللّه » محدودة ، لأنّ لازم المحدودية هو الامتزاج بالعدم ، والشيء الموجود الممزوج بالعدم موجود باطل لا يليق للمقام الربوبي الذي يجب كونه حقاً ثابتاً مائة بالمائة كما هو منطق القرآن الكريم والعقل حول اللّه سبحانه. ( ذلِكَ بأنَّ اللّهَ هُوَ الحَقُّ وأنَّ ما يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الباطِلُ ). (1) ويمكننا أن نستدل لإثبات لا محدودية الذات الإلهية بدليل آخر هو :
عوامل المحدودية منتفية في ذاته ويقصد من « انتفاء عوامل المحدودية في ذاته » أنّ للمحدودية موجبات وأسباباً ، منها : « الزمان والمكان » فهما من أسباب محدودية الظواهر والأجسام. فالحادثة التي تقع في برهة خاصة من الزمان حيث إنّ وجودها مزيج
1 ـ الحج : 62.
(279)
بالزمان ، فمن الطبيعي أن لا تكون هذه الظاهرة في الأزمنة الأُخرى. كما أنّ الجسم الذي يشغل حيزاً ومكاناً معيناً من الطبيعي أن لا يكون في مكان وحيز آخر ، وهذا هو معنى « المحدودية ». في هذه الصورة لا بد أن يكون وجود اللّه المنزّه عن الزمان و المكان منزّهاً من هذه القيود المحدّدة. وحيث لا يمكن تصوّر الزمان والمكان في شأنه تعالى ، لزم وصفه سبحانه باللامحدودية من جانب الزمان والمكان. وبتعبير آخر ، أنّ الشيء الذي يتصف بالكم والكيف لابدّ و أن يكون محدوداً بحد ، إذ لازم اتصاف الشيء بكمية أو كيفية معينة ، هو عدم اتصافه بكمية وكيفية آخرى مضادة. (1) أمّا عندما يكون الشيء خالياً وعارياً عن أي نوع من أنواع الكيفية والكمية ، بل يكون وجوده أعلى من الاتصاف بهذه الأوصاف فإنّه يكون لا محالة « غير متناه » وغير محدود من هذه الجهات ، كما هو واضح وبديهي. إلى هنا استطعنا أن نثبت ـ ببيان واضح ـ لا محدودية الذات الإلهية ، وقد حان الأوان أن نثبت المطلب الثاني ، أعني : عدم إمكان تعدّد اللامحدود.
ب. اللامحدود لا يتعدّد هذا أمر يتضح بأدنى تأمل ، لأنّنا إذا اعتبرنا « اللامحدود » متعدداً فإنّنا
1 ـ لأنّ التكيّف والاتصاف بالكيفيات والكميات والإضافات والانتسابات توجب للأشياء المحدودية بالحدود ، والموجود العاري عن هذه القيود لا يتحدد بأي نوع من المحدودية ، واللّه سبحانه منزَّه عن الكيف والكم ، منزَّه عن الانتساب والإضافة.
(280)
نضطر حينئذ ـ لإثبات الاثنينية ـ إلى أن نعتبر كل واحد منهما « متناهياً » من جهة أو جهات ، ليمكن أن نقول : هذا غير هذا. لأنّ ذينك الشيئين إذا كان أحدهما عين الآخر من كل الجهات لم يصدق ـ حينئذ ـ كونهما اثنين ، أي لم تصح الاثنينية. وبعبارة أُخرى : انّ نتيجة قولنا : هذا غير ذاك. هي أنّ وجود كل واحد منهما خارج عن وجود الآخر ، وإنّ الثاني يوجد حيث لا يوجد الأوّل ويوجد الأوّل حيث لا يوجد الثاني ، وهذه هي « المحدودية » و « التناهي » ، في حين أنّنا أثبتنا في الأصل الأوّل : « عدم محدودية اللّه وعدم تناهيه ». ومن باب المثال نقول : إنّما يمكن افتراض خطين غير متناهيين في الطول إذا كانا متوازيين (أي كانا بحيث لا يشغل الأوّل مكان الثاني) ، ففي مثل هذه الصورة فقط يمكن افتراض اللانهائية واللامحدودية في كل من الخطين. أمّا عندما نفترض جسماً غير متناه في الكبر والسعة في جميع أبعاده فإنّه لا يمكن ـ حينئذ ـ أن نفترض وجود جسم آخر غير متناه في الكبر والسعة في جميع أبعاده على غرار الجسم الأوّل. لأنّ المفروض أنّ الجسم الأوّل لكونه « غير محدود » في الكبر والسعة ، شغل كل الفضاء ، وبهذا لم يترك أي مجال لجسم آخر ، وإلاّ لعاد الجسم الأوّل « محدوداً » وهو خلاف ما افترضناه. وحينئذ إمّا أن يكون الجسم الثاني عين الجسم الأوّل قطعاً ، وإمّا أن يكون الجسم الأوّل محدوداً من جهة أو من جهات. وهكذا الأمر في الحقيقة الإلهية التي لا حد لها ولا نهاية.