المتحدّثين؟ بل الصحيح هو أن نعتبر استعمال لفظ العبادة في مثل هذه الموارد نوعاً من التجوّز ، لأجل وجود المناسبة بين المعنى الحقيقي والمعنى المجازي. فلطالما يتردد في لسان العرف بأنّ فلاناً عبد البطن أو عبد الشهوة فهل يكون هؤلاء ـ حقاً ـ عبدة البطن والشهوة ، أو لأنّ الخضوع المطلق تجاه نداءات الشهوات النفسانية حيث كان شبيهاً بالخضوع المطلق الذي يمثله الموحّدون أمام خالق الكون ، أطلق عنوان العبادة على هذه الموارد.
هل الأمر الإلهي يجعل الشرك غير شرك؟ ربما يقال أنّ سجود الملائكة لآدم ، واستلام الحجر الأسود ، وما شابههما من الأعمال لما كان بأمر اللّه ، لا يكون شركاً ، ولا يعد فاعلهاً مشركاً. (1) وبعبارة أُخرى : أنّ حقيقة العبادة وإن كانت الخضوع والاحترام ، ولكن لما كانت تلك الأعمال مأتياً بها بأمره سبحانه تعد عبادة للآمر لا لسواه. ولكن القائل ومن تبعه يغفلون عن نقطة مهمة جداً ، وهي : إنّ تعلق الحكم بموضوع لا يغيّر ـ بتاتاً ـ حقيقة ذلك الموضوع ، ولا يوجب تعلّق الأمر الإلهي به تبدل ماهيته. إنّ العقل السليم يقضي بأنّ سب أحد وشتمه إهانة له ـ طبعاً ـ وذلك شيء تقتضيه طبيعة السباب والفحش والشتم ، فإذا أوجب اللّه سب أحد وشتمه ـ فرضاً ـ فإنّ أمر اللّه لا يغيرّ ماهية السب والشتم ـ أبداً ـ .
1 ـ القائل هو الشيخ عبد العزيز إمام المسجد النبوي في محاورته مع بعض الأفاضل.
(452)
كما أنّ الضيافة وإقراء الضيف بطبيعتهما تكريم للوافد ، واحترام للضيف ، فإذا حرمت ضيافة شخص لم تتبدّل ماهية العمل ، أعني : الضيافة التي كانت بطبيعتها احتراماً ، لتصير إهانة في صورة تحريمها ، بل تبقى ماهية الضيافة على ما كانت عليه ولو تعلّق بها تحريم ، فإذا عُدّت أعمال ـ كالسجود واستلام الحجر الأسود وما شابههما ـ عبادة ذاتاً ، فإنّ الأمر الإلهي لا يغيّر ماهيتها ، فلا تخرج من حال كونها عبادة لآدم أو يوسف أو الحجر ، وما يقوله القائل من أنّها عبادة ذاتاً وطبيعة ، ولكن حيث تعلّق بها الأمر الإلهي خرجت عن الشرك ، يستلزم أن تكون هذه الأعمال من الشرك المجاز ، وهو قول لا يقبله أي إنسان. والخلاصة : أنّ المسألة تدور مدار أمّا أن نعتبر هذه الأعمال خارجة ـ بطبيعتها ـ عن مفهوم الشرك ، أو أن نقول إنّها من مصاديق الشرك في العبادة ، ولكنّها شرك أذن اللّه به وأجازه!! والقول الثاني على درجة من البطلان بحيث لا يمكن أن يحتمله أحد فضلاً عن الذهاب إليه ، وسيوافيك أنّ بعض الأعمال يمكن أن تكون باعتبار تعظيماً وتواضعاً ، وباعتبار آخر شركاً ، فلو كانت الملائكة ـ مثلاً ـ تسجد لآدم باعتقاد أنّه إله كان عملهم شركاً قطعاً ، وإن أمر اللّه ب هـ على وجه الافتراض ـ ، وأمّا إذا كانت تسجد بغير هذا الاعتقاد لم يكن فعلها شركاً حتى لو لم يأمر به المولى جل شأنه. نعم ورد في بعض الروايات ـ وإن لم يتحقق سنده ـ عن الإمام جعفر الصادق ( عليه السَّلام ) أنّه لما سئل أيصلح السجود لغير اللّه؟ فقال : « لا ». قيل : فكيف أمر اللّه الملائكة بالسجود لآدم؟
(453)
فقال : « إنّ من سجد بأمر اللّه فقد سجد للّه إذ كان عن أمر اللّه تعالى ». (1) فإنّ المقصود من هذه الرواية ـ على فرض صحتها سنداً ـ هو أنّ السجود كان تعظيماً لآدم وتكريماً له ، وهو في الحقيقة عبادة للّه لكونه بأمره. وتوضيحه أنّ نفس العمل (أعني : السجود) كان تعظيماً لآدم غير أنّ الإتيان بهذا العمل حيث كان لامتثال أمر اللّه كان عبادة له سبحانه ، بحيث لولا أمره تعالى لكان العمل ـ في حد نفس هـ جائزاً لكونه تعظيماً ، ونظيره تعظيم العالم واحترامه ، فإنّه لا بداعي أمره سبحانه تعظيم للعالم فقط ، وبداعي الأمر تعظيم له وطاعة للّه سبحانه ، وهذا غير القول بأنّ ذات العمل كان شركاً ، ولكن أمر اللّه استلزم تغيره فلم يعد شركاً. ويؤيد ما قلناه ما عن الإمام موسى بن جعفر عن آبائه ( عليهم السَّلام ) أنّ يهودياً سأل أمير المؤمنين (عليً( عليه السَّلام ) ) عن سجود الملائكة لآدم ، فقال الإمام في جوابه : « إنّ سجودهم [أي الملائكة ] لم يكن سجود طاعة [بمعنى ] أنّهم عبدوا آدم من دون اللّه عزّ وجلّ ، ولكن اعترافاً لآدم بالفضيلة ». (2) وأيضاً ما جاء عن الإمام الرضا علي بن موسى بن جعفر ، عن آبائه ، عن أمير المؤمنين (علي) ( عليهم السَّلام ) قال : « قال رسول اللّه ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) : كان سجودهم للّه عز وجلّ ولآدم إكراماً ». (3) وبهذا تبيّن انّ السجود كان ـ بطبيعته ـ تعظيماً لآدم وتكرمة له ، وهو في
1 ـ الاحتجاج للطبرسي : 31 ـ 32. 2 ـ الاحتجاج للطبرسي : 111. 3. عيون الأخبار : 45. نعم لا يوافق مضمون هذا الحديث مضمون ما تقدم من الحديثين حيث إنّ ما تقدمه جعل السجود لآدم ، وهذا جعله للّه سبحانه ، نعم ما يشتركان فيه هو أنّ السجود كان إكراماً وتعظيماً لآدم ، ولأجل ذلك ذكرنا الأحاديث في مقام واحد.
(454)
الحقيقة عبادة للّه تعالى لكونه بأمره وهو مختار جماعة من المفسّرين. وتبيّن من ذلك أنّ الأمر الإلهي لا يغيّر ماهية هذا العمل ، بل ما يقترن به من الاعتقاد هو الدخيل في كونه شركاً أو لا. ومن هذا البيان أيضاً علم مفاد الرواية المروية عن الإمام الصادقعليه السَّلام التي نقلناها عما قريب. نعم أنّ للأمر الإلهي فائدة هي : أنّه لو نسب أحد أفعإله إلى الأمر الإلهي وأتى بها على أنّها فريضة أو سنّة مندوبة شرعاً ، وجعلها جزءاً من شريعته وكان الواقع يؤيد تلك النسبة ، خرج عمله عن موضوع البدعة ، وخرج هو عن كونه مبتدعاً في الدين ، لأنّ « البدعة : إدخال ما ليس من الدين في الدين ». لقد كان الشيخ عبد العزيز إمام المسجد النبوي يحاول توجيه صحة وشرعية هذه الاحترامات بورود الأمر الإلهي بشأنها ، ويستشهد بما قاله عمر بن الخطاب حول الحجر الأسود ، إذ قال ـ ما مضمون هـ : إني أعلم أنّك حجر لا تنفع ولا تضر ولولا أنّي رأيت النبي ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) يقبّلك لما قبّلتك. (1) وقد قيل للشيخ : إنّ مفاد كلامكم هو أن تكون هذه الأفعال من الشرك المجاز إذن؟ ونلفت نظر الشيخ إلى الآية الكريمة : ( قُلْ إنْ اللّهَ لا يَأْمُرُ بالْفَحْشَاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ ). (2) فلو كانت ماهية السجود لآدم ( عليه السَّلام ) واستلام الحجر الأسود عبادة لآدم والحجر وشركاً لما كان اللّه سبحانه يأمر بها ـ أبداً ـ .
1 ـ صحيح البخاري : 3/149 ، كتاب الحج ، طبعة عثمان خليفة. 2 ـ الأعراف : 38.
لفظ العبادة من المفاهيم الواضحة كالماء والأرض ، فهو مع وضوح مفهومه يصعب التعبير عنه بالكلمات رغم حضور هذا المفهوم في الأذهان ، والعبادة كما هي واضحة مفهوماً ، فهي واضحة ـ كذلك ـ مصداقاً بحيث يسهل تمييز مصاديقها عن مصاديق التعظيم والتكريم وغيرهما من المفاهيم ، فتقبيل العاشق الولهان دار معشوقته ، واحتضان ثيابها شوقاً ، أو تقبيل تراب قبرها بعد الموت ، لا يدعى عبادة للمعشوقة. كما أنّ ذهاب الناس إلى زيارة من يعنيهم من الشخصيات ، والوفود إلى مقابرهم لزيارتها والوقوف أمامها احتراماً ، وإجراء مراسم وطقوس خاصة لديها لا يعد عبادة ـ أبداً ـ وإن كانت هذه الأفعال تبلغ ـ في بعض الأحايين ـ من حيث شدّة الخضوع إلى درجة كبيرة ، إنّ الضمائر اليقظة هي وحدها تقدر على أن تكون الحكم العدل ـ في مثل هذا البحث ـ لتمييز الاحترام والتعظيم عن العبادة ، دون حاجة إلى تكلّف ، ولكن إذا تقرر أن نعرّف العبادة بتعريف موضوعي أمكننا أن
(456)
نعرّفها بثلاثة تعاريف :
التعريف الأوّل العبادة : هي الخضوع اللفظي أو العملي الناشئ عن الاعتقاد ب ـ « إلوهية » المخضوع له; وسيوافيك معنى « الإلوهية ». وآيات كثيرة تدل على هذا التفسير ، فمن ملاحظة هذه الآيات يتضح لنا أمران : الأوّل : انّ العرب الجاهليين الذين نزل القرآن في أوساطهم وبيئاتهم كانوا يعتقدون بالوهية معبوداتهم. الثاني : أنّ العبادة عبارة عن القول أو العمل الناشئين من الاعتقاد بإلوهية المعبود ، وانّه ما لم ينشأ الفعل أو القول من هذا الاعتقاد لا يكون الخضوع أو التعظيم والتكريم عبادة. فهنا دعويان : الأُولى : انّ العرب الجاهليين بل الوثنيين كلّهم وعبدة الشمس والكواكب والجن ، كانوا يعتقدون بإلوهية معبوداتهم ، ويتخذونهم آلهة صغيرة وفوقهم « الإله الكبير » الذي نسمّيه « اللّه » سبحانه. الثانية : انّ الظاهر من الآيات هو انّ العبادة عبارة عن الخضوع المحكي بالقول والعمل الناشئين من الاعتقاد بالإلوهية ، إلوهية صغيرة أو كبيرة. أمّا الدعوى الأُولى ، فتدل عليها آيات كثيرة نشير إلى بعضها :
(457)
يقول سبحانه : ( الَّذِينَ يَجْعَلُونَ مَعَ اللّهِ إِلَهاً آخَرَ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ ) . (1) ( وَالَّذِينَ لاَ يَدْعُونَ مَعَ اللّهِ إِلَهاً آخَرَ ). (2) ( وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللّهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزّاً ) . (3) ( أَئِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللّهِ آلِهَةً أُخْرَى ) . (4) ( وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لأبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَاماً آلِهَةً ). (5) فهذه الآيات تشهد على أنّ دعوة المشركين كانت مصحوبة بالاعتقاد بإلوهية أصنامهم ، وقد فسر الشرك في بعض الآيات باتخاذ الإله مع اللّه ، وذلك عندما يقول سبحانه : ( وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ * إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ * الَّذِينَ يَجْعَلُونَ مَعَ اللّهِ إِلَهاً آخَرَ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ ). (6) ولذلك يفسر القرآن حقيقة الشرك ب ـ « اعتقادهم بإلوهية معبوداتهم » ، إذ قال سبحانه : ( أَمْ لَهُمْ إِلَهٌ غَيْرُ اللّهِ سُبْحَانَ اللّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ ) . (7) 1 ـ الحجر : 96. 2 ـ الفرقان : 68. 3 ـ مريم : 81. 4 ـ الأنعام : 19. 5 ـ الأنعام : 74. 6 ـ الحجر : 94 ـ 96. 7 ـ الطور : 42.
(458)
ففي هذه الآية جعل اعتقادهم بإلوهية غير اللّه هو الملاك للشرك ، والمراد هنا « الشرك في العبادة ». وبمراجعة هذه الآيات ونظائرها التي تعرضت لموضوع الشرك وبالأخص لموضوع شرك الوثنيين تتجلى هذه الحقيقة ـ بوضوح تام ـ أنّ عبادتهم كانت مصحوبة مع الاعتقاد بإلوهيتها ، بل يمكن استظهار أن شركهم كان لأجل اعتقادهم بإلوهية معبوداتهم ، ولأجل ذاك الاعتقاد كانوا يعبدونهم ويقدّمون لهم النذور والقرابين وغيرهما من التقاليد والسنن العبادية ، وبما أنّ كلمة التوحيد تهدم عقيدتهم بإلوهية غيره سبحانه ، كانوا يستكبرون عند سماعه كما قال سبحانه : ( إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ إِلَهَ إِلا اللّهُ يَسْتَكْبِرُونَ ). (1) أي يرفضون هذا الكلام لأنّهم يعتقدون بإلوهية معبوداتهم ويعبدونها لأجل أنّها آلهة ـ حسب تصوّرهم ـ . ولأجل تلك العقيدة السخيفة كانوا إذا دعي اللّه وحده كفروا به لأنّهم لا يحصرون الإلوهية به وإذا أشرك به آمنوا ، لانطباقه على فكرتهم كما قال سبحانه : ( ذَلِكُمْ بِأَنَّهُ إِذَا دُعِيَ اللّهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ وَإِنْ يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُوا فَالْحُكْمُ للّهِ الْعَلِىِّ الْكَبِيرِ ) . (2) إلى هنا ظهرت الدعوى الأُولى بوضوح وجلاء. وأمّا الدعوى الثانية فتدل عليها الآيات التي تأمر بعبادة اللّه ، وتنهى عن عبادة غيره ، مدللاً ذلك بأنّه لا إله إلاّ اللّه ، إذ يقول : ( يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللّهَ مَالَكُمْ مِنْ إِله غَيْرَهُ ) . (3) 1 ـ الصافات : 35. 2 ـ غافر : 12. 3 ـ الأعراف : 59.
(459)
ومعنى ذلك أنّ الذي يستحق العبادة هو من كان إلهاً ، وليس هو إلاّ اللّه ، وعندئذ فكيف تعبدون ما ليس بإله؟! وكيف تتركون عبادة اللّه وهو الإله الذي يجب أن يُعبد دون سواه؟! وقد ورد مضمون هذه الآية في (10) موارد أو أكثر في القرآن الكريم ، ويمكن للقارئ الكريم أن يراجع ـ لذلك ـ الآيات التالية : الأعراف : 65 ، 73 ، 85 ، هود : 50 ، 61 ، 84 ، الأنبياء : 25 ، المؤمنون : 23 ، 32 ، طه : 14. فهذه التعابير (التي هي من قبيل تعليق الحكم على الوصف) تفيد أنّ العبادة هي ذلك الخضوع والتذلّل النابعين من الاعتقاد بإلوهية المعبود ، إذ نلاحظ ـ بجلاء ـ كيف أنّ القرآن استنكر على المشركين عبادة غير اللّه بأنّ هذه المعبودات ليست آلهة ، وإنّ العبادة من شؤون الإلوهية ، فإذا وجد هذا الوصف (أي وصف الإلوهية) في الطرف جاز عبادته واتخاذه معبوداً ، وحيث إنّ هذا الوصف لا يوجد إلاّ في اللّه سبحانه لذلك يجب عبادته دون سواه. سؤال وجواب أمّا السؤال فهو أنّه لا شك أنّ الدعوى الأُولى ثابتة ، فالمشركون كانوا معتقدين بإلوهية الأوثان ، وما أورد من الآيات قد أثبتت ذلك بوضوح ، غير أنّ الدعوى الثانية غير ثابتة ، وقصارى ما يستفاد من هذه الآيات هو أنّ عبادتهم كانت ناشئة من الاعتقاد بالوهيتها ، وهذا لا يدل على دخول مفهوم الإلوهية في مفهوم العبادة كما هو المدّعى ، أو دخول كون النشوء عن ذلك الاعتقاد ، في مفهومها.
(460)
وعلى الجملة فهذه الآيات لا تدل على أكثر من أنّ عبادتهم للأوثان كانت مصحوبة بهذا الاعتقاد أو ناشئة عنه. وأمّا كون العبادة موضوعة للخضوع الناشئ عن الاعتقاد بالإلوهية ، بحيث يكون النشوء عن تلك العقيدة جزءاً لمعنى العبادة فلا يستفاد من الآيات. وأمّا الجواب فنقول : إنّما يرد الإشكال لو قلنا بأنّ « الاعتقاد بالإلوهية » داخل في « مفهوم العبادة » وضعاً ، حتى يقال انّ هذه الآيات لا تعطي أزيد من أنّ العبادة من شؤون الإلوهية ، وهذا غير القول باندراج مفهوم الإلوهية في مفهوم العبادة ، إنّما المراد أنّ العبادة ليست مطلق الخضوع والتذلّل ، بل أضيق وأخص منهما وهذا أمر يعرفه كل إنسان بوجدانه وفطرته ، غير أنّنا نشير إلى هذه الخصوصية ونميز هذا الضيق بأنّه خضوع « ناشئ عن الاعتقاد بالإلوهية أو الربوبية » كما سيوافيك في التعريف الثاني ، لا أنّ هذه الجملة (ناشئ عن الاعتقاد بالإلوهية والربوبية) داخلة بتفصيلها في مفهوم العبادة ، ومعناها. وبعبارة أُخرى : إنّ الإنسان قد لا يقدر على تعريف شيء بنوعه وفصله ، أو حدّه ورسمه حتى يحدّه تحديداً عقليّاً لا خدشة فيه ، ولكنّه يجد في نفسه ما هو بمنزلة الجنس والفصل فيضعهما مكان الجنس والفصل الواقعيين ، والأمر فيما نحن فيه كذلك ، إذ نجد أنّ التعظيم والخضوع والتذلّل وما أشبههما أمر مشترك بين العبادة وغيرها فيتصوّره بمنزلة الجنس لها ، ويجد أنّ العبادة تتميز بخصوصية عن غيرها ، ولكنه لا يقدر على بيان تلك الخصوصية بلفظ بسيط فيتوسل بوضع جملة مكانه وهي ما ذكرناها : « ناشئ عن الاعتقاد بالإلوهية » ويضعها مكان الفصل. وبعبارة ثالثة : انّ الإنسان يجد أنّ « العبادة » ليست مطلق التعظيم ونهاية