مفاهيم القرآن ـ جلد الأول ::: 511 ـ 520
(511)
    فإنّنا نلاحظ ـ بجلاء ـ أنّ اللّه هو الجاعل ، ولكن المباشر للإهلاك هم : الملائكة ، إذن فلا مناص من تبديل كلمة التدخل والنفوذ في كلامه بكلمة « التفويض » وغيرها ممّا ينطوي على التصرّف في معزل عن أمر اللّه وإذنه وإرادته.
    وأمّا ما نقل عنهم من أنّهم كانوا يعتقدون في حق آلهتهم « بأنّه يمكن أن تتحقق أمانيهم بواسطتها ، ويستدر النفع ، ويتجنب المضار باستشفاعهم » لا يخلو من قصور. (1).
    فإن أراد أنّ النفع الأُخروي والتجنب عن الضرر الأُخروي لا يجوز سؤاله من غير اللّه سبحانه ، ويكون عند ذاك مثل الوثنيين الجاهليين فقد صرح القرآن بخلافه ، إذ لا شك أنّ دعاء الرسول لمؤدّي الزكاة موجب للسكن لهم ، ورافع للاضطراب عنهم ، إذ قال سبحانه : ( وَصِلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاَتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ ). (2).
    كما أنّ استغفار الرسول موجب لغفران الذنوب ، لقوله سبحانه : ( وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الْرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللّهَ تَوَّاباً رَحِيماً ) . (3).
    1 ـ أضف إلى ذلك : أنّ العربي الجاهلي وإن كان يتجنب المضار باستشفاعهم ، إلاّ أنّ عملهم هذا كان مبنياً على القول بالوهيتهم ، ولأجل ذلك عد عملهم شركاً ، وكم فرق بين طلب دفع المضار بالاستشفاع بما أنّ الشفيع عبد مكرم يشفع بإذنه سبحانه ، أو أنّه إله يعبد ويستقل في فعله وعلى ذلك لا فرق بين الضرر الدنيوي والأُخروي ، في جوازه على الأوّل ، وعدمه على الثاني مطلقاً وكان على الأُستاذ تركيز البحث على اعتقاد السائل في حق من يطلب منه جلب النفع ودفع الضرر في أنّه هل يعتقد بالوهية المسؤول واستقلاله في الجلب والدفع أو يعتقد بعبوديته وانّه لا يجلب ولا يدفع إلاّ بإذنه؟ يجب أن يركز على هذا لا على الفرق بين الضرر الدنيوي والأُخروي.
    2 ـ التوبة : 103.
    3 ـ النساء : 64.


(512)
    كما كان دعاء يعقوب موجباً لغفران ذنوب أبنائه لقولهم : ( يَا أَبَانَا اسْتَغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا ) (1) ، فأجابهم يعقوب ( عليه السَّلام ) إذ قال : ( سَوْفَ اسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي ) . (2)
    وهو كاشف عن جدوى استغفاره ، إذ لولا ذلك لما وعدهم به ، وعندئذ يجوز أن يطلب من الرسول الدعاء والاستغفار وهو طلب النفع الأُخروي.
    وأي نفع ـ ترى ـ أولى من النفع الأُخروي ، وأي دفع ضرر أهم من دفع عذاب اللّه بدعاء النبي ؟ ولو طلب أحد من الرسول دعاءه واستغفاره لجلب هذا النفع لا يكون مشركاً ولا عابداً للنبي.
    فهل ـ بعد هذه النماذج الواضحة ـ يتصور أن يكون الاعتقاد بتأثير النبي والولي في دفع الضرر وجلب النفع الأُخرويين وطلبهما منه موجباً للشرك ، والقرآن يصرح به بأعلى صوته وعلى رؤوس الأشهاد.
    وإن أراد من النفع والضرر ـ في كلام هـ النفع والضرر الدنيويين وإنّ طلبهما موجب للشرك ، فقد اعترف القرآن بوقوعه فضلاً عن إمكانه أيضاً.
    فقوم موسى ( عليه السَّلام ) استسقوه وهم في التيه فطلبوا منه النفع الدنيوي ، فلم يردعهم موسى ( عليه السَّلام ) ، بل استسقى لهم من اللّه وسقاهم في الم آل.
    ويشير القرآن الكريم إلى هذا إذ يقول : ( وَإِذْ اسْتَسْقَى مُوسَى لِقَوْمِهِ ). (3)
    كما أنّهم طلبوا منه إنزال النعم السماوية ، فلم يزجرهم عن هذا الطلب ، بل
    1 ـ يوسف : 97.
    2 ـ يوسف : 98.
    3 ـ البقرة : 60.


(513)
دعا لهم.
    وقد طلب آل فرعون منه أن يرفع عنهم الرجز (أي العذاب الدنيوي المذكور قبل الآية) وقالوا : ( وَلَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمْ الرِّجْزُ قَالُوا يَا مُوسَى ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِنْدََكَ لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إسْرَائِيلَ ) . (1)
    فكل ذلك يدل على أنّ استدرار النفع وطلب دفع الضرر الدنيوي من الغير بإذن اللّه جائز هو أيضاً ، إذ لولا ذلك لكان على النبي أن يردعهم ويزجرهم في كل هذه الموارد ، وللزم أن يلفت نظرهم إلى اللّه ، ليسألوه تعالى هو مباشرة لا أن يسألوه ويطلبوا منه ذلك ، وهو خلق من خلق اللّه ، وعبد من عبيده.
    ولا شك أنّ لموسى مشاركة في جلب النفع الدنيوي وكذا في دفع الضرر أيضاً.
    فيجب على الأُستاذ أن يقيد كلامه في منع استدرار النفع ودفع الضرر بقولنا : بالاستقلال ونحوه ، بحيث يكون المسؤول مستقلاً في ذلك.
    وصفوة القول هي أنّ الحل في هذه المسألة هو أن نفرّق بين السلطة المستندة إلى إرادة اللّه وإذنه ومشيئته ، والسلطة المستقلة ولا نخلط بينهما.
تكملة
    إنّ النظريات في صدور المعجزات عن عباد اللّه الصالحين لا تخرج عن أربع نظريات :
    1 ـ الأعراف : 134.

(514)
    الأُولى : ما عليه الغلاة والمفوّضة من كونهم مستقلين في الخلق والإيجاد والإحياء والإماتة.
    الثانية : انّ اللّه يوجد تلك الأُمور مقارناً لإرادتهم ، وقد مرت النظريتان عند البحث عن التفويض فراجع ص 477.
    الثالثة : ما استظهرنا من الآيات من أنّ الفعل مستند إليهم ( عليهم السَّلام ) بإذن اللّه سبحانه و إقداره.
    الرابعة : النظرية التسخيرية التي وردت فيها روايات غير ما أشرنا إليه ، ولا تعارض بين الثلاث الأخيرة ، فهي غير مانعة الجمع كما لا يخفى.
    والنظرية الأخيرة مبنية على سريان الشعور والإدراك في جميع الموجودات ، وقد أوضحنا برهانه في الفصل الثالث.
    وعليه فما في الكون يأتمر بأمر النبي إذا أمر بشيء ، وينقاد لطلبه ويؤيده قوله سبحانه : ( فَسَخَّرْنَا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَاءً حَيْثُ أَصَابَ ). (1)
    1 ـ ص : 36.

(515)
7
هل التوسل بالأسباب شرك؟
    ذهب المتصوّفة والدراويش في وصف أقطابهم وشيوخ طرقهم إلى حد الشرك ، كما هو ظاهر ، وبذلك هدموا حدود التوحيد والشرك وتجاوزوا معاييرهما ، ويبدو هذا الأمر ـ بجلاء ـ من الأبيات التي مجّد بها القوم مشايخهم حيث تفوح من أكثرها رائحة الشرك الجلي فضلاً عن الخفي ، تلك الأبيات التي لا تنسجم مع أُسس التوحيد القرآني بحال ، وإن كان بعضهم يحاول أن يجد لتلك الأبيات والكلمات محامل بمنأى عن الشرك ، ولكن الحق هو أنّ الموحد لا ينبغي له ، بل ولا يجوز ، أن يجري على لسانه كلاماً غير منسجم مع التوحيد الإسلامي القرآني الجلي الملامح ، الواضح الطريق.
    ولقد كانت نظرة هذه الفرقة إلى مفهوم الشرك نظرة خاصة وشاذة جداً بحيث راحت تعد الكثير من أنواع الشرك القطعي بأنّه عين التوحيد!! وبذلك ضيقوا دائرة الشرك أيّما تضييق!!
    في مقابل هذه الفرقة ـ تماماً ـ وقف الوهابيون ، فهم توسّعوا في فهم حقيقة الشرك وإطلاقه ، توسّعاً يكاد يشمل كل حركة وسكون وكل تصرف يصدر من أهل التوحيد تجاه أولياء اللّه بهدف الاحترام والتكريم حيث اعتبره الوهابيون عين


(516)
الشرك ، والحيدة عن جادة التوحيد !! وسمّوا فاعله مشركاً ، حتى أنّه اتفق لي أن التقيت ذات يوم بواحد من « هيئة الأمر بالمعروف » في المسجد الحرام ، فاتفق أن صدر مني تكريم بانحناء رأسي ـ أثناء ذلك اللقاء ـ وإذا بذلك الشخص يقول ـ في جدية وانزعاج ـ :
    لا تفعل هذا ... انّه شرك محرّم ... لا تحني رأسك أنّه شرك !!
    والحق أنّه لو كان معنى الشرك والتوحيد هو كما يراه الوهابيون ويقولون به ، إذن لما أمكن أن نمنح لأي أحد تحت هذه السماء وفوق هذه الأرض هوية الموحّد ولما استحق أحد أن تطلق عليه تلك الصفة أبداً.
    لقد نقل لي صديق ثقة أنّ إمام المسجد النبوي وخطيبه : الشيخ عبد العزيز كان يقول في تحديد الشرك :
    « إنّ كل تعلّق بغير اللّه شرك »!
    أقول : لو كان معنى الشرك هو هذا الذي يقوله إذن لابد أن نعتبر كل البشر على هذه الأرض مشركين ، بلا استثناء ، حتى الوهابيين أنفسهم ، لأنّهم يتوصلون إلى تحقيق مآربهم وتنفيذ حاجاتهم عن طريق التعلّق والتوسل بالأسباب مع أنّه لا يمكن أن يقال أنّ الأسباب والعلل هي اللّه ، بل هي غير اللّه ، فينتج عن هذا أن يكون تعلّقهم بالأسباب وتوسّلهم بالعلل توسّلاً بغير اللّه ، وتعلّقاً بسواه.
    في حين أنّ هذا النوع من التعلّقات والتشبثات ليست فقط لا تعد شركاً ، بل هي عين التوحيد وصميمه ، لأنّ حياة الإنسان في هذه الدنيا مشدودة إلى الأسباب والعلل.
    غاية الأمر أنّ عليه أن لا يعتقد لهذه الأسباب والعلل أي استقلال وانقطاع


(517)
عن الإرادة الإلهية العليا ، بل لابد أن يعتقد بتأثيرها تبعاً لمشيئته سبحانه ، نعم انّ التعلّق بالأسباب والعلل الظاهرية المادية قد يكون عين التوحيد من جهة ، وعين الشرك من جهة أُخرى ، فعندما لا نعتقد بأي استقلال لهذه الأسباب ـ عند تشبثنا بها ـ ولا نعتبر تأثيرها في مصاف الإرادة الإلهية وفي عرضها ، بل نعتقد بأنّها تقع في ضمن السلسلة التي تنتهي ـ بالمآل ـ إلى اللّه ، فلا نخرج عن إطار التوحيد.
    وليس في الفكر التوحيدي من مناص إلاّ الاعتقاد بمثل هذا الأمر وعلى هذا النمط.
    أمّا عندما نرى لهذه الأسباب والعلل استقلالاً ، ونعتقد بإمكان تأثيرها بمعزل عن الإرادة الإلهية ، لا بنحو التبعية ففي هذه الصورة سنكون معتقدين بخالقين ، ومؤثرين!!
    إنّ على الموحّد أن يحافظ على الاعتقاد بوجود قانون (العلية والسببية) الحاكم في الظواهر الطبيعية ، وإنّ هذه الأسباب والعلل لا تملك استقلالاً في تأثيرها مطلقاً بل هي مفتقرة إلى اللّه في تأثيرها كما في وجودها وبقائها.
    إنّ الموحّد رغم أنّه يعرف هذه الحياة ويتعامل معها على أساس أنّها خاضعة لنظام العلية ، إلاّ أنّه ينظر إلى هذه العلل على أساس أنّ وجودها وبقاءها وتأثيرها من اللّه.
    فالسبب الأوّل هو اللّه سبحانه ، وأمّا الأسباب الأُخرى فهي مخلوقة له خاضعة لإرادته واقعة في طول مشيئته لا في عرضها.
    إنّ الفارق الأساسي بين الموحّد والمادي يكمن في هذا الأمر.
    فالثاني يعتقد ب ـ « أصالة العلل المادية واستقلالها في التأثير » في حين يسندها


(518)
الموحد إلى اللّه خالق كل شيء ، مع أنّه يعترف بقانون العلية الحاكم في هذا الكون.
شهادة القرآن الكريم
    إنّ قضية استقلال وعدم استقلال العلل الطبيعية المادية هو الفاصل بين التوحيد والشرك ، وبه يعرف الموحّد عن المشرك ـ بوضوح ـ وإلى هذه الحقيقة أشار القرآن الكريم في آيات عديدة ، فهناك فريق من الناس عندما يواجهون المشاكل المستعصية وتنسد في وجوهههم جميع الأبواب والسبل ويقابلون المهالك وجهاً لوجه ، يتوجهون إلى اللّه ويلوذون به ولا يرون سواه ملجأً ومخلصاً فإذا ما نجوا عادوا إلى شركهم مرة أُخرى ، وهذه حالة فريق من الناس ، وإلى هذه الحالة تشير طائفة من آيات القرآن ، وها نحن نذكر فيما يلي بعضها على أنّ المهم لنا هو أن نعرف ما هو المقصود بالشرك المذكور في هذه الآيات؟
    وإليك فيما يلي نص الآيات : ( وَإِذَا مَسَّ النَّاسَ ضرٌّ دَعَوْا رَبَّهُمْ مُنِيبِينَ إِلَيْهِ ثُمَ إِذَا أَذَاقَهُمْ مِنْهُ رَحْمَةً إِذا فَرِيقٌ مِنْهُم بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ ) . (1)
    ( فَإِذا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوا اللّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ ). (2)
    ( قُلِ اللّهُ يُنَجِّيكُمْ مِنْهَا وَمِنْ كُلِّ كَرْب ثُمَّ أَنْتُمْ تُشْرِكُون ). (3)
    1 ـ الروم : 33.
    2 ـ العنكبوت : 65.
    3 ـ الأنعام : 64.


(519)
    ( ثُمَّ إِذَا كَشَفَ الضُّرَّ عَنْكُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنكُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ ). (1)
    هذه بعض الآيات في هذا المجال ، والواجب هو الإمعان في عبارة « إذا هم يشركون ».
    إنّ المقصود من الشرك ـ في هذه الآيات ـ ليس فقط أنّ هؤلاء إذا وصلوا إلى البر أو نجوا عكفوا على عبادة الأوثان ، بل المراد ما هو أوسع من ذلك ، فإنّهم إذا نجوا عادوا إلى نسيان الحالة السابقة ، والتجأوا إلى الأسباب المادية متصوّرين أنّها أسباب مستقلة تمدّهم في إدامة الحياة من دون استمداد من اللّه سبحانه وناظرين إليها بعين العلل المستقلة غير المعتمدة على اللّه ، ولا شك أنّ النظر إلى الأسباب العادية من نافذة الاستقلال هو أيضاً شرك يجب الاجتناب عنه ، وهي نقطة الافتراق بين المدرسية الإلهية والمدرسة المادية ، ولو طالعت هذه الآيات المتعلّقة بالشرك والتوحيد بروح علمية ، لوجدت كيف أنّ القرآن الكريم يصر على أنّه ليست في عالم الوجود قدرة في مصاف القدرة الإلهية ، ولا إرادة في عرض تلك الإرادة.
    ويرشدك إلى هذا أنّ القرآن يعتقد بأنّه سبحانه هو الهادي في ظلمات البر والبحر ، وهو مرسل الرياح بشرى بين يدي رحمته ومنزل الغيث ، ويقول : ( أَمن يَهْدِيِكُمْ فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَنْ يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرَى بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ ءَإِلهٌ مَعَ اللّهِ تَعَالَى اللّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ ). (2)
    مع أنّ البشر كان ولا يزال يستفيد من الأسباب والوسائل الطبيعية كالنجوم والبوصلات ويهتدي بها وبغيرها من الأدوات التكنولوجية في أسفاره البرية
    1 ـ النحل : 54.
    2 ـ النمل : 63.


(520)
والبحرية ، وليس هذا إلاّ لأجل أنّ سببية الأسباب بتسبيب من اللّه سبحانه.
    كما أنّ الرياح والأمطار في هذه الطبيعة ينشآن نتيجة سلسلة طويلة من تفاعل العلل الطبيعية التي تتسبب في وجود ظاهرة الرياح ، أو الأمطار ، ولكن القرآن مع ذلك يقول : ( وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًى بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ ) (1).
    ( وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ مَا قَنَطُوْا وَيَنشُرُ رَحْمَتَهُ ) (2).
    وليس ذلك إلاّ لأنّ اللّه وراء تلك الأسباب ، وهي تفعل بأمره واقداره.
    وبكلام آخر أنّ هذه العلل والأسباب حيث إنّها غير مستقلة ، لا في وجودها ولا في تأثيرها ، بل هي مخلوقة بأسرها وبتمام وجودها ، وتأثيرها للّه ، لذا يصرح القرآن الكريم بأنّه سبحانه الهادي في ظلمات البر والبحر و مرسل الرياح ومنزل الغيث من بعد ما قنطوا.
    وهذه الحقيقة ـ بعينها ـ مبينة بوضوح تام في آيات سورة الواقعة.
    إنّ هذا لا يعني أنّ القرآن الكريم يتنكر للعلل والأسباب الطبيعية ، وينكر وجودها ومشاركتها ، ويلغي دورها ، بل حيث إنّ هذه العلل والأسباب لا تملك من لدن نفسها استقلالاً وتقوم باللّه سبحانه قيام المعنى الحرفي بالمعنى الإسمي بحيث لو قطعت عنها عنايته تعالى آناً ما ، انهارت وتهافتت جملة واحدة ، وانقلب عالم الوجود مع كل وضوحه إلى ظلام وعدم ، لذلك تفنن في تفسير الظواهر الطبيعية تارة بنسبتها إلى اللّه سبحانه وأُخرى إلى سائر العلل وثالثة إليهما معاً ، قال : ( وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللّهَ رَمَى ) (3). (4)
    1 ـ الأعراف : 57.
    2 ـ الشورى : 28.
    3 ـ الأنفال : 17.
    4 ـ ولقد بحثنا حول تلك الآيات في صفحة 405.
مفاهيم القرآن ـ جلد الأول ::: فهرس