مفاهيم القرآن ـ جلد السابع ::: 11 ـ 20
(11)
(1)
بشائره في الكتب السماويّة
    لقد تعلّقت مشيئة اللّه الحكيمة ببعث رجال صالحين لإنقاذ البشرية من الجهالة و الضلالة ، و سوقهم إلى مرافئ السعادة ، و أنزل عليهم شرائع فيها أحكامه و تعاليمه ، و هذه الشرائع و إن كانت تختلف بعضها عن البعض الآخر ، لكنّها تتّحد جوهراً و حقيقة ، و لو أنّها تفترق صورة و شكلاً كما يشير إليه قوله سبحانه : ( اِنَّالدِّينَ عِنْدَ اللّهِ الإِسْلاَمُ ) ( آل عمران/19 ). و قوله : ( مَاكَانَ اِبْرَاهِيمُ يَهُودِيّاً وَلاَنَصْرَانِيّاً وَ لَكِنْ كَانَ حَنِيفاً مُسْلِماً وَ مَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ) ( آل عمران/67 ) (1).
    فالدين النازل من اللّه سبحانه إلى كافّة البشر في جميع الأجيال و القرون أمر واحد ، و هو الإسلام ، و قد اُمر بتبليغه جميع رسله و أنبيائه من غير فرق بين السالفين و اللاّحقين.
    هذا و قديتفنّن القرآن الكريم في التعبير عن وحدة الشرائع من حيث الاُصول والمبادئ و اختلافها شكليّاً بتصوير الدين نهراً كبيراً يجري فيه ماء الحياة المعنويّة ، و الاُمم كلّها قاطنة على ضفَّة هذا النهر يردونه و يصدرون عنه ، و ينهلون منه حسب حاجاتهم و اقتضاء ظروفهم ، و كل ظرف يستدعي حكماً فرعيّاً خاصّاً.
    قال سبحانه :
    ( لِكُلّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَ مِنْهَاجَاً وَ لَوْ شَاءَ اللّهُ لَجَعَلَكُمْ اُمَّةً وَاحِدَةً ) ( المائدة/48 ).
    فالحقيقة ماء عذب ، و الاختلاف في المشرعة و المنهل ، و الطريقة والمنهاج.
1 ـ لاحظ سورة البقرة/132 و الزخرف/28.

(12)
    إنّ وحدة الشرائع جوهراً ، و اختلافها شكلاً و عَرْضا ، لاتعني ما يلوكه بعض الملاحدة من جواز التديّن بكلّ شريعة نازلة من اللّه سبحانه إلى اُمّة من الاُمم في العصور السابقة حتى أنّه يسوغ التديّن بشريعة إبراهيم في زمن بعثة الكليم ، أو التمسّك بشريعة اليهود في عهد المسيح ، أو التديّن بالشرائع السابقة في عهد بعثة النبي الخاتم ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ، بل المفروض على كلّ اُمّة أن تتمسّك بالشريعة التي جاء بها نبيّها ، فلايجوز لليهود سوى تطبيق التوراة ، و لاللنصارى سوى العمل بما جاء به المسيح ، و لاللاُمّة المتأخّرة عنهما إلاّ العمل بالقرآن و السنّة النبويّة ، و ذلك لأنّ للشكل و العَرْض سهماً وافراً في إسعاد الاُمّة و رقيّها ، فلكلّ اُمّة قابليات و مواهب فلا تسعدها إلاّ الشريعة التي تناسبها و تتجاوب معها.
    فربّ اُمّة متحضّرة تناسبها سنن و أنظمة خاصّة لاتناسب اُمّة اُخرى لم تبلغ شأنها في التكامل و التحضّر.
    و هذا هو السبب في إختلاف الشرائع السماويّة في برامجها العباديّة و الإجتماعيّة و السياسيّة و الإقتصاديّة ، فكانت كلّ شريعة كاملة بالنسبة إلى الأمّة التي نزلت لهدايتها و إسعادها ، و لكنّها لاتتجاوب مع حاجات الاُمم المتأخّرة و لاتكفي لإحياء قابلياتها و ترشيد مواهبها ، فكأنَّ الاُمم التي خُصّت بالشرائع الالهيّة تلاميذ صفوف مدرسة واحدة ، و كلّ شريعة برنامج لصفّ خاصّ ، فمازالت البشريّة ترتقي من صفّ إلى صفّ ، و تتلقّى شريعة بعد شريعة ، حتّى تنتهي إلى الصفّ النهائي و الشريعة الأخيرة التي لاشريعة بعدها ، و قدأوضحنا حقيقة ذلك الأمر عند البحث عن الخاتمية (1).

أخذ الميثاق من النبيين على الإيمان به و نصره
    إنّ وحدة الشرائع في الجوهر و الحقيقة أدَّت إلى أخذ الميثاق من النبيين بأنّه سبحانه مهما آتاهم الكتاب و الحكمة ، و جاءهم رسول مصدّق لما معهم ، يجب
1 ـ لاحظ مفاهيم القرآن ج3 ص 119 ـ 123.

(13)
عليهم الإيمان به و نصره ، بل أخذ الإصر من اُممهم على ذلك ، فكان من وظائف كل رسول تصديق النبي اللاحق و الإيمان به ، و نصره ، عن طريق التبشير به و أمر اُمّته بالتصديق به و مؤازرته ـ إذا أدركوه ـ فعلى ذلك أخذ سبحانه من إبراهيم الخليل ذلك العهد بالنسبة إلى الكليم ، و من الكليم بالنسبة إلى المسيح ، و منه على النبي الخاتم ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ، و من جهة اُخرى أخذ الميثاق من الجميع على الإيمان بنبوّة النبي الخاتم ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ، و نصره ، و التبشير به ، ودعوة اُممهم إلى تصديق دعوته و الإقرار بها.
    و المعاصرون للأنبياء السابقين و إن لم يدركوا عصر النبي الأكرم غير أنّ ذلك الهتاف العالمي وصل إلى أخلافهم و أولادهم فوجب عليهم تلبية النبي الخاتم بوصيّة من أنبيائهم ، و هذا هو المتبادر من قوله سبحانه :
    ( وَ اِذْ أَخَذَ اللّهُ مِيْثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَاب وَ حِكْمَة ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌّ مُصَدَّقٌّ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَ لَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ ءَأَقْرَرْتُمْ وَ اَخَذْتُمْ عَلَى ذلِكُمْ اِصْرِى قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَ اَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ ) ( آل عمران/81 ).
    ظهور الآية فيما ذكرناه من أخذ الميثاق من كلّ متقدّم للمتأخّر ، و من الجميع للأخير يتوقّف على تفسير الآية و تحليلها جملة بعد جملة :
    1 ـ قوله : ( وَ إِذْ أَخَذَ اللّهُ مِيْثَاقَ النَّبِيِّينَ ).
    إنّ المراد من النبيين هم المأخوذ منهم الميثاق ، و يدلّ على ذلك قوله : ( ءَأَقْرَرْتُمْ وَ أَخَذْتُمْ عَلَى ذلِكُمْ اِصْرِى قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَ اَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ ).
    غير أنّ النبي الواقع في أوّل السلسلة يتمحّض في أنّهُ من أخذ منه الميثاق كنوح ( عليه السلام ) فإنّه من بُدء به نزول الشريعة ، و هداية الناس و تعريفهم بوظائفهم و تكاليفهم السماوية ، كما أنّ النبي الواقع في آخر السلسلة يتمحّض في أنّه ممّن اُخذ له الميثاق لأنّ المفروض أنّه لانبيّ بعده.


(14)
    و أمّا الأنبياء الواقعون في ثنايا السلسلة فهم من جهة أخذ منهم الميثاق ومأخوذ لهم الميثاق.
    فالكليم مأخوذ منه الميثاق للمسيح و مأخوذ له الميثاق من الخليل و هكذا.
    2 ـ قوله سبحانه : ( لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَاب وَ حِكْمَة ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌّ مُصَدِّقٌّ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَ لَتَنْصُرُنَّهُ ).
    إنّ « ما » في هذه الجملة أشبه بالشرطيّة من الموصولة لوجود « اللام » في جزائها و المعنى : مهما آتيتكم من كتاب و حكمة ثُمَّ جاءكم رسول مصدّق لما معكم لتؤمنّن به و لتنصرنّه.
    والآية تهدف إلى أنّ اللّه سبحانه أخذ من الأنبياء الميثاق بأنّه لو جاء رسول إليهم مصدّق لدعوتهم إلى التوحيد ورفض الوثنيّة والإقرار بعبوديّة الكلّ للّه تعالى يلزم عليهم أمران :
    الأوّل : الإيمان بهذا الرسول المُقْبِل.
    الثاني : نصره.
    فكأنّ إيتاء الكتاب والحكمة يلازم ـ عند تطابق الدعوتين ـ الإيمان بالداعي اللاحق ونصرته ، و على ذلك فالضمير المجرور والمنصوب في قوله : ( لتؤمننّ به ولتنصرنّه ) عائدان إلى الرسول المُقبِل.
    3 ـ قوله سبحانه : ( ءَاَقْرَرْتُمْ وَاَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُم إصْري ).
    يعرب هذا عن أنّه سبحانه لم يأخذ الميثاق من النبيّين وحدهم بل فرض عليهم أخذ الميثاق من اُممهم على ذلك ، ولأجل ذلك يخاطبهم بقوله : ( ءأقررتم ) أنتم يامعشر النبيين ، وهل أخذتم على ذلك عهدي ؟ فأجابوا بالإقرار.
    وإنّما اقتصر في الجواب بإقرار الأنبياء فقط ، ولم يذكر أخذ الإصر من اُممهم للإكتفاء بقوله : ( فَاشْهَدُوا و َانَا مَعَكُم مِنَ الشَّاهِدِينَ ) لظهور الشهادة في أنّها على


(15)
الغير ، فإذا كان اللّه سبحانه مع أنبيائه شهوداً فيجب أن يكون هناك مشهوداً عليهم وهو اُممهم.
    فظهر أنّ الآية تهدف إلى أخذ العهد والإصر من الأنبياء ، واُممهم على الإيمان والنصرة.
    فإذا راجعنا ا لقرآن الكريم نرى أنّ ا لمسيح قام بمسؤوليته الكبيرة حيث بشّر بالنبيّ وقال ـ كما حكى عنه سبحانه : ( واذْ قَالَ عيْسَى ابْنُ مَريمَ يَا بَني إِسْرائيلَ إِنِّي رَسُولُ اللّهِ اِليْكُم مُصَدِّقاً لما بَيْنَ يَدَيَّ منَ التَّورَاةِ ومبشِّراً برسُول يَأتِي مِنْ بَعْدي اسْمُهُ أحْمدُ فلَمَّا جَاءَهُم بِالبَيِّنَاتِ قَالُوا هَذَا سِحرٌ مُبينٌ ) ( الصف/6 ).
    وليس المسيح نسيج وحده في هذا المجال بل الأنبياء ا لسابقون قاموا بنفس هذه الوظيفة ، يقول سبحانه : ( الَّذينَ ا تَيْنَاهُمُ الكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كمَا يَعْرِفُونَ أَبنَاءَهُمْ وإِنَّ فرِيقاً مِنْهُمْ ليَكْتُمُونَ الحَقَّ وهُمْ يَعلَمُونَ ) ( البقرة /146 ).
    والضمير في « يعرفونه » يرجع إلى النبيّ الأكرم وهو المفهوم من سياق الآية بشهادة تشبيه عرفانهم إيّاه بعرفان أبنائهم.
    وما زعمه بعض المفسّرين من أنّ الضمير راجع إلى الكتاب الوارد في الآية لايناسب هذا التشبيه ، والآية بصدد بيان أنّهم يعرفون النبيّ بما في كتبهم من البشارة به ، ومن نعوته وأوصافه وصفاته التي لا تنطبق على غيره ، وبما ظهر من آياته وآثار هدايته ، كما يعرفون أبناءهم الذين يتولّون تربيتهم وحياطتهم حتّى لا يفوتهم من أمرهم شيء ، قال عبد اللّه بن سلام ـ وكان من علماء اليهود وأحبارهم ـ : أنا أعلم به منّي با بني (1).
    فالمراد من أهل الكتاب هم اليهود والنصارى ، وكانت الأغلبية في المدينة اليهود ، والآية تعرب من أنّ الكليم قام بنفس ما قام به المسيح من التعريف بالنبيّ الخاتم حتّى عرّفهم ا لنبىّّ الخاتم بعلائم واضحة عرفته به اُمّتهُ عرفانَها بأبنائها.
1 ـ المنار ج2 ص20.

(16)
    وعلى ضوء ذلك فالدّين السماوي دين موحّد ، والمبلِّغون له رجال صالحون ، متلاحقون ، موحّدون في الهدف والغاية ، مختلفون في الشريعة والمنهل ، والجميع يبشّرون بالحلقات التالية بأمانة وصدق وإخلاص.
    وهذه الآية و إن كانت تركّز على أخذ الميثاق من السابقين على اللاحقين ولكن الآية التالية تعرب بفحوى الكلام على أنّ المتأخّر أيضاً كان مأموراً بتصديق السابق ، و لأجل ذلك قال المسيح عند بعثته :
    ( مُصدِّقاً لِمَا بَينَ يدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ ) ( الصف/6 ).
    وقد أمر النبيّ اُمتّه بالإيمان بما اُنزل على من سبقه من الأنبياء ، وقال سبحانه :
    ( قُلْ آمنَّا باللّهِ ومَا اُنزلَ عَليْنَا ومَا اُنزِلَ علَى إبرَاهيمَ وإسْمَاعِيلَ وَ إسحَاقَ وَيَعْقُوبَ والاَسبَاطَ ومَا أُوتِيَ مُوسَى وعيِسَى والنَّبيُّونَ منْ رَبِّهِمْ لا نُفَرِّقُ بينَ أَحَد مِنْهُمْ ونَحْنُ لهُ مُسْلِمُونَ ) ( آل عمران/84 ).
    ثمّ إنّ القرآن الكريم يذكر ذلك الميثاق في آية اُخرى على وجه الاختصار ويقول : ( وَإِذْ اخَذْنَا منَ النَّبيِّينَ ميْثَاقَهُمْ وَمنْكَ (1) وَمِنْ نُوح وابرَاهِيمَ ومُوسَى وَعيسَى ابن مَريَمَ واَخَذَنا مِنْهُم مِيثَاقاً غَليِظاً ) ( الأحزاب/7 )
1 ـ و قد ذكر سبحانه النبيين بلفظ عام يشمل الجميع ثمّ سمّى خمسة منهم بأسمائهم بالعطف عليهم ، و لم يخصّهم بالذكر إلاّ لعظمة شأنهم و رفعة مكانتهم ، فإنّهم أصحاب الشرائع ، وقدعدّهم على ترتيب زمانهم لكن قدّم النبي و هو آخرهم زماناً لفضله و شرفه ، و تقدّمه على الجميع ، و سمّى هذا الميثاق بالميثاق الغليظ ، إذ به تستقر كلمة التوحيد و رفض الوثنية في المجتمع البشري ، فلو لم يؤمن نبي سابق باللاحق و لم ينصره ، كما أنّه لم يصدّق نبي لاحق النبي السابق لفشلت الدعوة الإلهية من الإنتشار و سادت الفوضى في الدين. و في الآية إحتمال آخر ، و هي إنّها ناظرة إلى ميثاق آخر مأخوذ من الأنبياء و هو أخذ الوحي من اللّه وأدائه إلى الناس من دون تصرّف ، و يشهد على ذلك قول الإمام عليّ ( عليه السلام ) في حقّهم : « و اصطفى سبحانه من ولده أنبياء ، أخذ على الوحي ميثاقهم ، و على تبليغ الرسالة أمانتهم ».نهج البلاغة ، الخطبة/1.

(17)
    إنّ إضافة الميثاق إلى النبيّين ( ميثاقهم ) يعرب عن كون المراد الميثاق هو الميثاق الخاص بهم ، كما أنّ ذكرهم بوصف النبوّة مشعر بذلك فهناك ميثاقان :
    ميثاق مأخوذ من عامّة البشر وهو الذي يشير إليه قوله : ( وإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ منْ بَني آدمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِيَّتَهُمَ وَاشْهَدَهُمْ عَلَى اَنْفُسِهِمْ اَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالوا بَلَى ) ( الأعراف/172 ).
    وميثاق مأخوذ من النبيّين خاصّة بما أنّهم أنبياء وهو الذي تدل عليه الآية وهي وإن كانت ساكتة عن متعلّق الميثاق لكن تبيّنه الآية السابقة ، وهو أخذ الميثاق من النبيّين عامّة على أنّه إذا جاءهم رسول مصدّق لما معهم ، يفرض عليهم الإيمان به والنصرة له.
    هذا وإنّ الهدف الأسمى من فرض الإيمان والنصرة هو تأييد بعضهم ببعض حتّى تستقرّ في ظل وحدة الكلمة ، كلمة التوحيد في المجتمع البشري ويكون الدّين كلّه للّه سبحانه كما قال : ( اِنَّ هَذهِ اُمَّتُكُمْ اُمَّةً وَاحِدةً وَانَا رَبُّكُمْ فَاعْبدُونِ ) ( الأنبياء/92 ). وقال : ( شَرَعَ لَكُمْ منَ الدِّينِ ما وَصَّى بِه نُوحاً والَّذي أَوْحَيْنَا إِليكَ و مَا وَصَّينَا بهِ إِبْرَاهِيمَ ومُوسَى وَعِيْسَى أَنْ اَقِيْمُوا الدِّينَ وَلاتَتَفَرَّقُوافِيْهِ ... ) ( الشورى/13 ).
    ولأجل اتّفاق الأنبياء في الهدف والغرض يعدّ سبحانه قوم نوح مكذّبين للمرسلين ، وقال : ( كذَّبَتْ قَوْمُ نُوح المُرسلِينَ * اِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ نُوحٌ اَلاَ تتَّقُونَ ) ( الشعراء/105 و 106 ).
    مع أنّهم لم يكذّبوا إلاّ واحد منهم وهو نوح ( عليه السلام ) ، وذلك لأجل أنّ دعوتهم واحدة وكلمتهم متّفقة على التوحيد ، فيكون المكذّب للواحد منهم ، مكذّباً للجميع ، ولذا عدّ اللّه سبحانه الإيمان ببعض رسله دون بعض ، كفراً بالجميع ، قال تعالى : ( إِنَّ الَّذينَ يَكفُرُونَ بِاللّهِ وَرُسُلهِ وَيُرِيدُونَ اَنْ يُفرِّقُوا بينَ اللّهِ ورسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤمِنُ بِبَعْض وَنْكفُرُ ببَعْض وَيُرِيْدونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلكِ سَبيلاً * اُولئِكَ هُمُ الكافِرونَ


(18)
حَقّاً ) ( النساء/150 ـ 151 ) (1).
    وبما أنّ رسالة النبي الخاتم ( صلى الله عليه وآله وسلم ) رسالة عالميّة خاتمة لجميع الرسالات اُخذ من جميع الأنبياء الميثاق على الايمان به ، ونصرته ، والتبشير به ليسدَّ باب العذر على جميع الاُمم حتّى يتظلّل الكلّ تحت لواء رسالته ويسيّر البشر عامّة تحت قيادته إلى السعادة.
    ويشهد على ما ذكرنا ما روي عن الإمام أمير المؤمنين ( عليه السلام ) قال : « إنّ اللّه أخَذَ الميثاق على الأنبياء قَبْلَ نبيّنا أن يخبروا اُممهم بمبعثه ورفعته ويبشّروهم به ويأمروهم بتصديقه » (2).
    ورويا الطبري والسيوطي عن عليّ ( عليه السلام ) أنّه قال : « لم يبعث اللّه نبيّاً آدم فمن بعده إلاّ أخذ عليه العهد في محمّد ، لئن بعث وهو حيّ ليؤمننّ به ولينصرنّه ، وأمره بأن يأخذ العهد على قومه ، ثمّ تلى هذه الآية : ( وَإِذْ اَخَذَ اللّهُ ميثَاقَ النَّبيِّينَ لَمَاآتيْتُكُم مِنْ كتاب وَحِكْمة.. ) (3).
    ويظهر من بعض الروايات أنّه أخذ الميثاق منهم على وصيّ النبيّ الخاتم.
    روى الحديث المحدّث البحراني عن الصادق ( عليه السلام ) أنّه قال : لميبعث اللّه نبيّاً ولا رسولاً إلاّ وأخذ عليه الميثاق لمحمّد ( صلى الله عليه وآله وسلم ) بالنبوّة ولعليّ ( عليه السلام ) بالإمامة (4).
    وتخصيص ا لميثاق في هذه الروايات بالإيمان بالنبي الخاتم لا ينافي ما ذكرنا من عموميّة مفاد الآية ، وأنّها تعمّ جميع الأنبياء فالمتقدّم منهم كان مفروضاً عليه التبشير بالمتأخّر عن طريق الإيمان به ودعوة ا ُمّته إلى نصرته ، واقتفائه كائناً من كان ،
1 ـ الميزان ج19 ص321.
2 ـ مجمع البيان ج2 ص 468 ( طبع صيدا ).
3 ـ تفسير الطبري ج3 ص237 ، و الدر المنثور ج2 ص27 ، و رواه الرازي في مفاتيح الغيب ج2 ص507 ( طبع مصر ) ، و الطبرسي في مجمعه ج2 ص468.
4 . تفسير البرهان ج1 ص294.


(19)
لكن وجه التخصيص في تلك الروايات بالنبي الخاتم ، لأجل وقوعه آخر السلسلةوبه ختم باب وحي السماء إلى الأرض ، فكأنَّ الكلّ بعثوا للتبشير به والدعوة إلى الإيمانبه ونصرته.

بشائر النبيّ الأكرم ( صلى الله عليه وآله وسلم ) في الكتب السماويّة
    لا تجد إنساناً سالماً في نفسه وفكره يقبل دعاوي الآخرين بلا دليل يثبتها ، وهذا أمر بديهي فطري جُبِل الإنسان عليه ، يقول الشيخ الرئيس : « من قبل دعوى المدّعي بلا بيّنة وبرهان فقد خرج عن الفطرة الإسلامية » (1).
    على هذا فيجب أن تقترن دعوى النبوّة بدليل يثبت صحّتها وإلاّ كانت دعوى فارغة غير قابلة للإذعان والقبول ، لكن طرق التعرّف على صدق ا لدعوى ثلاث :
    1 ـ التحدّي بالأمر الخارق للعادة على الشرائط المقرّرة في محلّه ( الإعجاز ).
    2 ـ تصديق النبيّ ا لسابق بنبوّة النبيّ ا للاحق.
    3 ـ جمع القرائن والشواهد من حالات المدّعي ، و المؤمنين به ومنهجه والأداة التي استعان بها في نشر رسالته ، إلى غير ذلك من القرائن التي تفيد العلم بكيفيّة دعوى المدّعي صدقاً وكذباً.
    وقد استدلّ القرآن على صدق النبي الخاتم بتنصيص أنبياء الاُمم على نبوّته ، وقد عرفت تنصيص المسيح عليه بالاسم والتبشير به (2) كما عرفت انّ سماته الواردة في العهدين كانت في الكثرة والوفور إلى درجة كانت الاُمم تعرفه على وجه دقيق كما تعرف أبناءها (3).
    وقد صرّح القرآن بأنّ أهل الكتاب يجدون اسم النبي الأكرم ( صلى الله عليه وآله وسلم )
1 ـ نقله سيدنا الاُستاذ الإمام القائد الراحل في درسه و لم يذكر مصدره.
2 ـ الصف/6.
3 ـ البقرة/46.


(20)
مكتوباً في التوراة و الإنجيل ، قال عزّ من قائل :
    ( الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِىَّ الاُمِّىَّ الَّذِى يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِى التَّورَاةِ وَالاِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَ يَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ ) ( الأعراف/157 ).
    و قد آمن كثير من اليهود و النصارى بنبوّة النبيّ الخاتم ( صلى الله عليه وآله وسلم ) في حياته و مماته لصراحة البشائر الواردة في التوراة و الإنجيل ، بل لم يقتصر سبحانه على ذكر اسمه و سماته في العهدين ، بل ذكر سمات أصحابه و قال :
    ( مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللّهِ وَ الَّذِينَ مَعَهُ اَشِدَّاءُ عَلَى الكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعاً سُجََّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللّهِ وَ رِضْوَاناً سِيمَاهُمْ فِى وُجُوهِهِمْ مِنْ اَثَرِ السُّجُودِ ذلِكَ مَثَلُهُمْ فِى التَّوْرَاةِ وَ مَثَلُهُمْ فِى الإِنْجِيلِ كَزَرْع اَخْرَجَ شَطْئَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوْقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الكُفَّارَ وَعَدَ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَ اَجْراً عَظِيماً ) ( الفتح/29 ).
    كما لم يقتصر على أخذ العهد من النبيين ببيان البشائر به ، بل أخذ الميثاق من أهل الكتاب على تبيين بشائره للناس و عدم كتمانها ، قال سبحانه :
    ( وَ اِذْ أَخَذَ اللّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ اُوتُو الكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَ لاَتَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَ اشْتَرَوْا بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ ) ( آل عمران/187 ).
    و هذه الآية تؤيّد ما استظهرناه من قوله سبحانه : ( وَ اِذْ أَخَذَ اللّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَاب وَ حِكْمَة ... وَ أَخَذْتُمْ عَلَى ذلِكُمْ اِصْرِى ... ) و إنّ أخذ الميثاق لم يكن مختصّاً بالأنبياء ، بل أخذ سبحانه الميثاق من اُممهم بواسطتهم ، و ممّا أخذ منهم الميثاق عليه هو تبيين سمات الرسول الخاتم ( صلى الله عليه وآله وسلم ) وعدم كتمانها.
    و قد كان ظهور النبي الأكرم ( صلى الله عليه وآله وسلم ) بين الاُمّيين على وجه كان اليهود يستفتحون به على مشركي الأوس و الخزرج ، و كانوا يقولون لمن ينابذهم : هذا نبيّ قد أطلّ زمانه ينصرنا عليكم ، قال سبحانه :
مفاهيم القرآن ـ جلد السابع ::: فهرس