مفاهيم القرآن ـ جلد السابع ::: 41 ـ 50
(41)
    ولمّا أخبر النبي عن نزول الوحي وتلا الآيتين إرتفعت أصواتهم بقولهم : اتنهينا. اتنهينا.
    وكلّ هذا يعرف عن رسوخ هذه العادة الشنيعة وهذا العمل القبيح في المجتمع العربي آنذاك إلى درجة إنّ النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) لم يستطع ـ تحت ضغط الظروف ـ أن يقطع مادة ا لفساد منذ هبوطه أرض المدينة دفعة واحدة ، بل تدرّج في تحقيق التحريم ، وترسيخه في أذهانهم ونفوسهم.
    رووا أصحاب السنن والمسانيد أنّه لمّا نزل تحريم الخمر قال عمر : اللّهم بيّن لنا في الخمر بياناً شافياً ، فنزلت الآية التي في البقرة : ( يَسْألُونَكَ عَنِ الخَمْرِ والمَيْسرِ ) قال فدعي عمر فقرئت عليه فقال : اللّهمّ بيِّن لنا في الخمر بياناً شافياً ، فنزلت الآية التي في سورة النساء : ( يَا ايُّها ا لَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَانْتُم سُكَارى ) فكان منادي الرسول ( صلى الله عليه وآله وسلم ) إذا اُقيمت الصلاة ينادي ألا يقربنّ الصلاة سكران ، فدعي عمر فقرئت عليه ، فقال : اللّهمّ بيّن لنا بياناً شافياً ، فنزلت : ( اِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيطَانُ ا َنْ يُوْقِعَ بَيْنَكُمْ العَدَاوَةَ والبَغْضَاءَ فِي الَخمْرِ والمَيسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ ا للّهِ وَعَنِ الصَّلاةِ فَهَلْ اَنْتُمْ مُنْتَهُونَ ).
    قال عمر : اتنهينا. اتنهينا (1).
    ويظهر ممّا رواه ابن هشام عن بعض أهل العلم : إنّ نهي الرسول عن الخمر كان مشهوراً عندما كان مقيماً بمكّة بين ظهراني قريش ، وخرج الأعشى إلى رسول ا للّه يريد الإسلام ومعه قصيدته المعروفة في مدح النبي التي مستهلّها :
الم تغتمض عينك ليلة أرمدا وما ذاك من عشق النساء و إنّما وبتّ كما بات السليم مسهّدا تناسيت قبل اليوم صحبة مَهددا

1 ـ سنن أبي داود ج2 ص128 ، مسند أحمد ج1 ص 153 ، سنن النسائي ج8 ص187 ، مستدرك الحاكم ج2 ص278 ، إلى غير ذلك من المصادر.

(42)
    إلى أن قال :
فإيّاك و الميتات لاتقربنها و لاتقربنَّ حرّة كان سرها تأخذن سهماً حديداً لتفصدا عليك حراماً فانكحن أو تأبّدا (1)
    فلمّا كان بمكّة أو قريباً منها إعترضه بعض المشركين من قريش فسأله عن أمره فأخبره أنّه يريد رسول اللّه ( صلى الله عليه وآله وسلم ) للسلم فقال له : يا أبا بصير إنّه حرّم الزنا ، فقال الأعشى واللّه إنّ ذلك لأمر ما لي فيه من ارب ، فقال له يا أبا بصير :
    فإنّه يحرّم الخمر ، فقال الأعشى :
    أمّا هذه فو اللّه إنّ في النفس منها لعلالات ، ولكنّي منصرف فاتروى منها عامي هذا ، ثم آتيه فاُسلم ، فانصرف فمات في عامه هذا ، ولم يعد إلى رسول اللّه (2).
    وببالي إنّه جاء في بعض المصادر أنّه قيل له : إنّه يحرّم الأطيبين والمراد بهما الخمر والزنا ، وقد عرفت أنّه مع ما رأى من نور النبوّة ودخل عليه من بصيص الإيمان لم يتحمّل ترك الخمر ، فعاد ليتروّى منها ، ليعود بعد عام إلى المدينة ، ولكن وافاه الأجل قبل أن يسلم.
    وهذا مَثل آخر يعرب عن ترسّخ هذه العادة القبيحة في ذلك ا لمجتمع.

8 ـ وأد البنات
    أوّل من لطّخ يده بدم البنات البريئات هم العرب الجاهليّون ، فقد كانوا يئدون بناتهم لأعذار مختلفة واهية ، فتارة يتذرّعون بخشية الإملاق ، والاُخرى يتجنّون بحجّة
1 ـ الأرمد : الذي يشتكي عينيه من الرمد ، و السليم : الملدوغ ، و المسهّد : الذي منع من النوم ، و المهدد ـ على وزن معلل ـ : اسم امرأة ، و تأبّد : أي تعزّب و ابتعد عن النساء.
2 ـ السيرة النبوية ج1 ص386.


(43)
الاجتناب عن العار ، وقد حكى سبحانه عقيدة العرب في بناتهم ووأدهنّ في آيات نذكر ما يلي :
    ( وَإذا بُشِّرَ اَحَدُهُمْ بالأُنْثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدّاً وَهُوَ كَظِيمٌ * يتَوَارَى مِنَ الَقْومِ مِنْ سُوءِ مَا بُشِّرَ بهِ اَيُمْسكُهُ عَلَى هُونِ اَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرابِ اَلاَ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ ) ( النحل/58 و59 ).
    والآية تصوّر احساس القوم وإنفعالهم عندما كان أحدهم يبشّر بولادة أُنثى له ، فكان يتجهّم وجهه ويتغيّر إلى السواد ، ويظهر فيه أثر الحزن والكراهة ، والقوم يكرهون الاُنثى مع أنّهم جعلوها للّه سبحانه (1) ، ثمّ لم يزل الحزن يتزايد فيمتلئ الشخص غيظاً ، وعند ذلك يستخفي من القوم الذي يستخبرونه عمّا ولد له ، إستنكافاً منه ، وخجلاً ممّا بشّر به من الاُنثى ، ثمّ هو ينكر في أمر البنت المولودة له أيحفظها على ذل وهوان ، أم يخفيها في التراب ، ويدفنها حيّة وهذا هو الوأد ( اَلاَ سَاءَ مَا يَحْكُمونَ ) أي في قتل البنات البريئات المظلومات.
    ثمّ إنّه سبحانه يحارب بشدّة هذا العمل الإجرامي في بعض الآيا ت ويقول :
    ( وَلاَ تَقْتُلُوا اَوْلادَكُمْ خَشيَةَ اِمْلاَق نَحْنُ نَرْزُقهُمْ واِيَّاكُمْ اِنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطَأكَبِيراً ) ( الإسراء/31 ).
    فاللّه سبحانه هو المتكفّل برزقهم ورزق أولادهم وقتلهم خطأ عظيم عند اللّه.
    وقال سبحانه : ( وَلاَ تَقْتُلُوا اَوْلادَكُمْ مِنْ اِمْلاق نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ واِيَّاهُمْ ) ( الأنعام/151 )
    ويؤكّد القرآن على تحريم قتل هذه البنات المظلومات بأنّ المؤودة سيسأل منها يوم القيامة ، قال سبحانه : ( وإذَا الموْءُوْدَةُ سُئِلَتْ ) ( التكوير/8 ).
1 ـ إشارة إلى قوله سبحانه : ( أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَ لَهُ الاُنْثَى * تِلْكَ إِذَاً قِسْمَةٌ ضِيزَى ) ( النجم/21و22 ).

(44)
    وقد ذكر أصحاب السير بعض الدوافع التي دفعت العرب إلى اتّخاذ مثل هذا الموقف الظالم بشأن تلك البريئات لا يسع المجال لنقلها ، ولكن يظهر ممّا نقله صعصعة بن ناجية ـ جد الفرزدق ـ : إنّ ذلك العمل الإجرامي كان شائعاً ورائجاً في غير و احدة من القبائل آنذاك ، وإليك البيان :
    إنّ صعصعة بن ناجية بن عقال كان يفدّي ا لمؤودة من القتل ، ولمّا أتى رسول اللّه ( صلى الله عليه وآله وسلم ) قال : يا رسول اللّه إنّي كنت أعمل عملاً في الجاهلية ، أفينبغي ذلك اليوم ؟ قال : وما عملك ؟ فقال : إنّه حضر ولادة امرأة من العرب بنتاً ، فأراد أبوها أن يئدها ، قال فقلت له : أتبيعها ؟ قال : وهل تبيع العرب أولادها ؟ قال : قلت إنّما أشتري حياتها ولا أشتري رقّها ، فاشتريتها منه بناقتين عشراوين و جمل ، وقد صارت لي سُنَّة في العرب على أن أشتري ما يئدونه بذلك فعندي إلى هذه الغاية ثمانون ومائتا مؤودة وقد أنقذتها.
    فقال رسول اللّه ( صلى الله عليه وآله وسلم ) لك أجره إذ منّ اللّه عليك بالإسلام (1).
    وقد ذكر الفرزدق احياء جدّه للمؤودات في كثير من شعره كما قال :
ومنّا الذي منع الوائدات وأحيى الوئيد فلم يؤدد (2)
    ويعرب عن شيوع هذه العادة الوحشيّة والمروّعة قوله سبحانه :
    ( وَكَذلَك زُيِّنَ لِكَثِيرِ مِنَ المُشْرِكيِنَ قَتْلَ اَوْلادِهِمْ شُركَاؤهُمْ لِيُرْدُوهُمْ وَليَلْبِسُوا عَلَيْهِمْ دِيْنَهُمْ وَلَو شَاءَ اللّه مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفتَرُونَ ) ( الأنعام /137 ).
    وكذا قوله : ( قَدْ خَسِرَ الَّذيِنَ قَتَلُوا اَوْلاَدَهُمْ سَفَهَاً بِغَيْرِ عِلْم وَحرَّمُوا مَا رَزَقهُمُ اللّهُ افْتِرَاءً عَلَى اللّهِ قَدْ ضَلُّوا وَمَا كَانُوا مُهتَديِنَ ) ( الأنعام/140 ).
1 ـ بلوغ الارب ج3 ص44.
2 ـ المصدر نفسه.


(45)
9 ـ أكل الخبائث من الدماء والحشرات
    كانت العرب تأكل لحوم الأنعام وغيرها من الحيوانات كالفأر والضب الوزغ ، وتأكل من الأنعام ما قتلته بذبح ونحوه ، وتأكل الميتة بجميع أقسامها أعني المنخنقة ، والموقوذة ، والمتردّية والنطيحة ، وما أكل السبع ، و كانوا يملؤون الأمعاء من الدم و يشوونه و يطعمونه الضيف وكانوا إذا أجدبوا جرحوا إبلهم بالنصال وشربوا ما يسيل منها من الدماء.
    هذا ورغم أنّه مضى على ظهور التشريع الإسلامي إلى الآن أربعة عشر قرناً كثيراً من الاُمم غير المسلمة تأكل أصناف الحيوانات حتّى الكلب والهر ، بل والديدان والأصداف ، وقد إتّخذ الإسلام بين هذا وذاك طريقاً وسطاً ، فأباح من اللحوم ما تستطيبه الطباع المعتدلة من بني الإنسان ، فحلّل من البهائم الضأن والمعز والبقر والإبل ، وكرّه أكل لحوم الفرس والحمار ، وحلّل من الطيور غير ذات الجوارح ممّا له حوصلة ودفيف ولا مخلب له ، كما حلّل من لحوم البحر بعض أنواع السمك ، واشترط في كل واحدمن هذه اللحوم نوعاً من التذكية.
    والإمعان في الآية التالية يقودنا إلى أنّ العرب كانت تفقد نظام التغذية ، أو كانت تتغذّى من كلّ ما وقعت عليه يدها من اللحوم ، كما أنّها كانت تفقد الطريقة الصحيحة لذبح الحيوان ، فكانوا يقتلونه بالتعذيب بدل ذبحه ، وإليه يشير قوله سبحانه :
    ( حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ المِيتَةُ والدَّمُ ولَحْمُ الخْنزير وَمَا اُهِلَّ لِغَيرِ اللّهِ بهِ وَالُمنخَنِقَةُ وَالموْقُوذَةُ وَالُمتَردِّيةُ وَالنَّطِيْحَةُ وَمَا اَكَلَ السَّبُعُ اِلاّ مَا ذَكَّيْتُمْ و َمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصبِ وَأَنْ تَستقْسِمُوا بالأَزْلاَمِ ذَلِكُمْ فِسْقٌ ) ( المائدة/3 ).
    فقد كانوا ينتفعون من الميتة والدم ولحم الخنزير والمذبوح باسم الأصنام والأوثان.
    كما كانوا يستفيدون من « المنخنقة » وهي التي تدخل رأسها بين شعبتين من


(46)
شجرة فتختنق فتموت أو تخنق بحبل الصائد ، « والموقوذة » وهي التي تضرب حتّى تموت ، « والمترديّة » وهي التي تقع من جبل أو مكان عال أو تقع في بئر ، « والنطيحة » وهي التي ينطحها غيرها فتموت.

10 ـ التقسيم بالأزلام
    كان التقسيم بالأزلام ميسّراً رائجاً بينهم ، وكان لهذا العمل صبغة الدين ، وقدإختلفوا في تفسيره على قولين :
    1 ـ قالوا : المراد طلب قسم الأرزاق بالقداح التي كانوا يتفائلون بها في أسفارهم ، وابتداء أُمورهم ، وهي سهام كانت في الجاهليّة مكتوب على بعضها : « أمرني ربّي » ، وعلى بعضها « نهاني ربّي » ، وبعضها غفل لم يكتب عليه شيء ، فإذا أرادوا سفراً أو أمراً يهتمّون به ، ضربوا على تلك القداح ، فإن خرج السهم الذي عليه « أمرني ربّي » ، مضى الرجل في حاجته ، وإن خرج الذي عليه « نهاني ربّي » لميمض ، وإن خرج الذي ليس عليه شيء أعاد.
    2 ـ روى علي بن إبراهيم في تفسيره عن الصادقين كيفيّة التقسيم بالأزلام بشكل آخر ، فقال :
    إنّ الأزلام عشرة ، سبعة لها انصباء وثلاثة لا انصباء لها ، فالتي لها انصباء : الفذ ، التوأم ، المسبل ، النافس ، الحلس ، الرقيب ، المعلى. فالفذ له سهم ، والتوأم له سهمان ، والمسبل له ثلاثة أسهم ، والنافس له أربعة أسهم ، والحلس له خمسة أسهم ، والرقيب له ستّة أسهم ، والمعلى له سبعة أسهم.
    والتي لا انصباء لها : السفيح والمنيح والوغد.
    وكانوا يعمدون إلى الجزور فيجزّئونه أجزاء ، ثمّ يجتمعون عليه فيخرجون السهام ، ويدفعونه إلى رجل ، وثمن الجزور على من تخرج له « التي لا انصباء لها »


(47)
وهو القمار ، فحرّمه اللّه تعالى (1).
    والتفسير الثاني أنسب لكون البحث في الآية عن اللحوم المحرّمة.

11 ـ النسي في الأشهر الحرم
    لقد شاع في الألسن إنّ العرب لمّا كانوا أصحاب غارات وحروب وكان استمرار الحروب والغارات مانعاً عن إدارة شؤون المعاش ، عمدوا إلى تحريم القتال والحرب في الأشهر الأربعة المعروفة بالأشهر الحرم أعني : « رجب وذي القعدة وذي الحجة ومحرّم ».
    والظاهر من بعض الآيات أنّ التحريم هذا كان مستنداً إلى تشريع سماوي ، كما هو المستفاد من قول اللّه تعالى :
    ( اِنَّ عِدَّةَ الشُّهورِ عِنْدَ اللّهِ اثْنا عَشَرَ شَهْراً فِي كِتابِ اللّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّماوَاتِ وَالأَرْضَ مِنْهَا اَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ القَيِّمُ فَلاَ تَظْلِمُوا فِيهِنَّ انْفُسَكُمْ ) ( التوبة/36 ).
    فإنّ قوله ( ذلِكَ الدَّينُ القيّم ) إشارة إلى أنّه جزء من الدّين ا لقيّم لا من طقوس العرب الجاهلي ، و لعلّه كان سنّة من سنن النبي إبراهيم ورثتها عنه العرب.
    وعلى كلّ تقدير فقد كان العرب يتدخّلون في هذا التشريع الإلهي فيؤخّرون الحرمة من الشهر الحرام إلى بعض الأشهر غير المحرّمة.
    وبعبارة اُخرى كانوا يؤخّرون الحرمة ، ولا يبطلونها برفعها من أساسها و أصلها حفاظاً على السنّة الموروثة عن أسلافهم عن النبي إبراهيم ( عليه السلام ) .
    فمثلاً كانوا يؤخّرون تحريم محرّم إلى صفر ، فيحرّمون الحرب في صفر
1 ـ مجمع البيان ج2 ص158 و ما أشبه التقسيم بالأزلام بالعمل المعروف في عصرنا بـ « اليانصيب الوطني ».

(48)
ويستحلّونها في محرّم فيمكثون على ذلك زماناً ثمّ يزول التحريم عن صفر ويعود إلى محرّم ، وهذا هو المعنى بالنسي ( أي التأخير ).
    وكان الدافع وراء هذا النسي هو انّهم أصحاب حروب وغارات ، فكان يشقّ عليهم أن يمتنعوا عن القتال ثلاثة أشهر متوالية وهي : ذو القعدة وذو الحجة ومحرّم ، ولا يغزون فيها ، ولهذا كانوا يؤخّرون تحريم الحرب في محرّم إلى شهر صفر ، قال سبحانه :
    ( اِنّما النَّسِيءُ زيَادَةٌ في الكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُحِلُّونَهُ عَاماً وَيُحرِّمُونَهُ عَاماً لِيُوَاطِئُو عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللّهُ فَيُحِلُّوا مَا حَرَّمَ اللّهُ زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أعْمَالِهِمْ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي القَوْمَ الكَافِرِينَ ) ( التوبة/37 ).
    روى أهل السير أنّه ( صلى الله عليه وآله وسلم ) قال في خطبة حجّة الوداع :
    « ألا وإنّ الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق اللّه السماوات والأرض ، السنة اثنا عشر شهراً منها أربعة حرم ثلاثة متواليات ، ذو القعدة وذو الحجّة ومحرّم ورجب مضربين جمادى وشعبان » (1).
    والحديث يعرب عن شكل آخر للنسي غير ما ذكرناه فإنّ ما ذكرناه كان مختصاً بتأخير حكم الحرب من محرّم إلى صفر ، ولكن النسي المستفاد من الحديث على وجه آخر وهو انّ المشركين كانوا يحجّون في كل شهر عامين فحجّوا في ذي الحجة عامين ، وحجّوا في محرّم عامين ، ثمّ حجوا في صفر عامين ، وكذا في بقيّة الشهور اللاحقة حتّى إذا وافقت الحجّ التي قبل حجّة الوداع في ذي القعدة ثمّ حجّ النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) في العام القادم حجّة الوداع ، فوافقت في ذي الحجة ، فعند ذلك قال النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) : « ألا إنّ الزمان قداستدار كهيئته ».
1 ـ مجمع البيان ج3 ص22.

(49)
12 ـ الربا ذلك الاستغلال الجائر
    كان العرب الجاهليّون يرون البيع والربا متماثلين ، ويقولون : « إنّما البيع مثل الربا » فيضفون الشرعيّة على الربا كإضفائها على البيع ، ولكن شتّان ما بين البيع والربا ، فإنّ الثاني ينشر القسوة والخسارة ، ويورث البغض والعداوة ، ويفسد الأمن والاستقرار ، ويهيء النفوس للانتقام بأية وسيلة ممكنة ويدعو إلى الفرقة والاختلاف سواء كان الربا مأخوذاً من قبل الفرد أو مأخوذ من جانب الدولة.
    وفي الثاني من المفاسد ما لا يخفى إذ أدنى ما يترتّب عليه تكديس الثروة العامّة ، وتراكمها في جانب ، وتفشّي الفقر والحرمان في الجانب الآخر ، وظهور الهوّة السحيقة بين المعسرين والموسيرين بما لا يسدّه شيء.
    ولسنا هنا بصدد بيان هذه المفاسد والمساوئ ، لكن الهدف هو الإشارة إلى أنّ الربا كان من دعائم الاقتصاد الجاهلي ، والقرآن نزل يوبّخ العرب على ذلك بوجه لا مثيل له ، ويقول سبحانه :
    ( يَا اَيُّهَا الَّذينَ آمَنُوا اتّقُوا اللّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرَّبَا اِنْ كُنْتُمْ مُؤمِنِينَ * فإنْ لَمْتَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْب مِنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ واِن تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤوسُ اَمْوالِكُمْ لاَ تَظلِمُونَ وَلاَتُظْلَمُونَ ) ( البقرة/278 و279 ).
    ويقول سبحانه : ( الَّذينَ يأْكُلُونَ الرِّبا لاَ يَقُومُونَ إلاّ كَمَا يَقُومُ الَّذي يَتخَبَّطُهُ الشَّيْطانُ مِنَ المَسِّ ذَلكَ بِانّهُمْ قَالُوا اِنّمَا البَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا ) ( البقرة/275 ).
    والآية تشبّه آكل الربا بالممسوس المجنون ، فكما أنّه لأجل اختلال قوّته المميّزة لا يفرّق بين الحسن والقبح ، والنافع والضار ، والخير والشر ، فهكذا حال المرابي عند أخذ الربا ، فلأجل ذلك عاد لا يفرّق بين الربا والبيع ، ويقول : « اِنّمَا البَيَعُ مِثْلُ الرِّبَا » مع أنّ الذي تدعو إليه الفطرة وتقوم عليه الحياة الإجتماعية للإنسان ، هو أن يعامل بمعاوضة ما عنده من المال الذي يستغني عنه ، بما عند غيره من المال الذي يحتاج إليه.


(50)
    وأمّا إعطاء المال وأخذ ما يماثله بعينه ، مع زيادة فهذا شيء يخالف قضاء الفطرة وأساس المعيشة ، فإنّ ذلك يؤدِّي من جانب المرابي إلى إختلاس مال المدين ، وتجمّعه عند المرابي وهذا المال لا يزال ينمو ويزيد ، ولا ينمو إلاّ من مال الغير ، فهو في الانتقاص والانفصال من جانب ، وفي الزيادة والانضمام من جانب آخر ، ونتيجة ذلك هو ظهور الاختلاف الطبقي الهائل الذي يؤول إلى انقسام المجتمع إلى طبقتين : طبقة ثريّة تملك كل شيء ، وطبقة فقيرة تفقد كل شيء ، والأُولى تعاني من البطنة ، والثانية تتضرر من السغب.

خاتمة المطاف
    ونختم البحث بما رواه علي بن إبراهيم في تفسيره من أنّه قدم أسعد بن زرارة وذكوان بن عبد قيس ـ وهما من الخزرج ـ وكان بين الأوس والخزرج حرب قد بغوا فيها دهوراً طويلة ، وكانوا لا يضعون السلاح لا بالليل ولا بالنهار ، وكان آخر حرب بينهم يوم بعاث ، وكانت الأوس على الخزرج ، فخرج أسعد بن زرارة وذكوان إلى مكّة في عمرة رجب يسألون الحلف على الأوس ، وكان أسعد بن زرارة صديقاً لعُتبة بن ربيعة ، فنزل عليه فقال له : إنّه كان بيننا وبين قومنا حرب وقد جئناكم نطلب الحلف عليهم. فقال عتبة : بعدت دارنا عن داركم ولنا شغل لا نتفرّغ لشيء.
    قال : وما شغلكم وأنتم في حرمكم وأمنكم ؟
    قال له عتبة : خرج فينا رجل يدّعي أنّه « رسول اللّه » سفَّه أحلامَنا وسبَّ آلهتنا ، وأفسد شبابنا ، وفرّق جماعتنا.
    فقال له أسعد : من هو منكم ؟
    قال : ابن عبد اللّه بن عبد المطلب من أوسطنا شرفاً وأعظمنا بيتاً.
    وكان أسعد وذكوان وجميع الأوس والخزرج يسمعون من اليهود الذين كانوا بيينهم : النضير وقريظة وقينقاع ، إنّ هذا أوان نبيّ يخرج بمكّة يكون مهجره المدينة لنقتلنّكم به يا معشر العرب.
مفاهيم القرآن ـ جلد السابع ::: فهرس