مفاهيم القرآن ـ جلد السابع ::: 131 ـ 140
(131)
    5 ـ و هناك مناقشات أو مشاغبات لابن تيميّة حول الحديث نبعت من موقفه تجاه فضائل الإمام أمير المؤمنين ، فإنّه يردّ كثيراً من فضائل علي ( عليه السلام ) ويضعّفه جزافاً و ممّا قال في حق الحديث :
    « إنّ مجرّد الإجابة للمعاونة على هذا الأمر لايوجب أن يكون المجيب وصيّاً وخليفة بعده ، فإنّ جميع المؤمنين أجابوه إلى الإسلام و أعانوه على هذا الأمر ، وبذلوا أنفسهم و أموالهم في سبيله ، كما أنّه لو أجابه الأربعون أو جماعة منهم فهل يمكن أن يكون الكل خليفة له ؟ » (1).
    إنّ هذا الإشكال يرجع إلى أمرين :
    الأوّل : إنّ مجرّد الإجابة للمعاونة لايلازم أن يكون المجيب و صيّاً ، و لكنّه غفلة عن التدبّر في الرواية فإنّه لم يجعل مطلق الإجابة دليلاً على كون المجيب وصيّاً حتى يقال : إنّ جميع المؤمنين أجابوا إلى الإسلام بل جعل الإجابة من العشيرة فقط علّة للوصاية ، فلايشمل المؤمنين الخارجين عن دائرة إطارهم.
    الثاني : لو افترضنا إنّ الكل أجابوه ، فهل يكون الكل خليفة ؟
    و الجواب : إنّ النبي الأكرم كان مطّلعاً على أنّه لايجيبه غير علي ، لأنّهم لميكونوا مطّلعين على مبادئ رسالته ، و خصوصيّات شريعته ، فلايبادرون بالإجابة بخلاف عليّ ( عليه السلام ) فإنّه قدنشأ و تربّى في أحضان النبي و تغذى بلبانه ، وقدصلّى مع النبي قبل الناس بسنين ، فكان سبقه أمراً طبيعيّاً بالنسبة له.
    إنّ كتب السيرة تذكر أنّه ( صلى الله عليه وآله وسلم ) خاطبهم في هذا الإجتماع بقوله : « إنّ الرائد لايكذب أهله ، و اللّه لو كذبت الناس جميعاً ما كذبتكم ، و لو غررت الناس جميعاً ما غررتكم ، و اللّه الذي لا إله إلاّ هو ، إنّي لرسول اللّه إليكم خاصّة و إلى الناس عامّة ، و اللّه لتموتنّ كما تنامون ، و لتبعثنّ كما تستيقظون ، ولتحاسبنّ بما تعملون ، و لتجزونّ بالإحسان إحساناً ، و بالسوء سوءاً ، فإنّها الجنّة أبداً
1 ـ منهاج السنة : ص83.

(132)
و لنار أبداً. يا بني عبد المطلب ما أعلم شابّاً جاء قومه بأفضل ممّا جئتكم به إنّي قدجئتكم بخير الدنيا و الآخرة » ، فتكلّم القوم كلاماً ليّناً غير أبي لهب ، فإنّه قال : « يابني عبد المطلب هذه و اللّه لسوأة خذوا على يديه و امنعوه عن هذا الأمر بحبس أو غيره قبل أن يأخذ على يده غيركم ، فإن التمسوه حينئذ ذللتم و إن منعتموه قتلتم » ، فقالت اُخته صفيّة عمّة رسول اللّه اُمّ الزبير : « أي أخي! أيحسن بك خذلان ابن أخيك ؟ فو اللّه ما زال العلماء يخبرون أنّه يخرج من ضئضئ ( الأصل ) عبد المطلب نبي فهو هو » قال أبولهب : « هذا و اللّه الباطل و الأماني ، و كلام النساء في الحجال ، فإذا قامت بطون قريش و قامت العرب معها بالكلاب فما قوّتنا بهم ؟ فو اللّه ما نحن عندهم إلاّ أكلة رأس » ، فقال أبوطالب : « و اللّه لنمنعنّه ما بقينا » (1).
    و هل النبي خطب بهذه الخطبة في الدعوة الاُولى أو الثانية ؟ فلو صحّت فهي بالدعوة الاُولى ألصق لما تضافر أنّ أبالهب لم يكن مدعوّاً في الدعوة الثانية ، و يظهر من سيرة زيني دحلان أنّه خطب بها في الدعوة الاُولى فلمّا أصبح رسول اللّه بعث إلى بني عبد المطلب فحضروا و كان فيهم أبولهب ، فلمّا أخبرهم بما أنزل اللّه عليه ، أسمعه أبولهب ما يكره و قال : تبّاً لك ، ألهذا جمعتنا ؟ و أخذ حجراً ليرمي به ، وقال : ما رأيت أحداً جاء بني أبيه و قومه بأشرّ ممّا جئتهم به ، فسكت رسول اللّه و لم يتكلّم في ذلك المجلس.

الدعوة العامة و كسح العراقيل الماثلة أمامه
    كان للدعوة السرية أوّلاً و دعوة الاُسرة ثانياً دور خاص في استقطاب لفيف من الناس و استمالة قلوب طائفة منهم إلى الإسلام ، و قد أوجد هذا الإقبال أرضيةً صالحةً لمرحلة ثالثة من الدعوة و هي التي يصحّ وصفها بالدعوة العامّة ، و كانت تهدف إلى توسيع نطاقها ، فقام النبي الأكرم بها إمتثالاً لقوله تعالى : ( فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَ أَعْرِضْ عَنِ المُشْرِكِينَ ) ( الحجر/94 ).
1 ـ سيرة زيني دحلان بهامش السيرة الحلبيّة ج1 ص194.

(133)
    إنّ هذه الآية تناسب الدعوة العامّة بقرينة قوله : ( إِنَّا كَفَيْنَاكَ المُسْتَهْزِئِينَ ) ( الحجر/95 ).
    نقل الطبري عن سعيد بن جبير أسماء المستهزئين برسول اللّه و هم خمسة : الوليدبن المغيرة ، و العاص بن وائل ، و أبو زمعة ، و الحرث بن عيطلة ، و الأسود بن قيس ، و كلّهم هلكوا قبل بدر (1).
    و قد حكى أصحاب السير خطبة النبي في بدء تلك المرحلة ، قالوا :
    1 ـ دعا النبي جميع قريش و هو قائم على الصفا و قال : إن أخبرتكم إنّ خيلاً تخرج من صفح هذا الجبل تريد أن تغير عليكم أكنتم تكذّبوني ؟ قالوا : و اللّه ما جرّبنا عليك كذباً ، فقال : « يا معشر قريش إنقذوا أنفسكم من النار فإنّي لاأغني عنكم من اللّه شيئاً إنّي لكم نذير مبين بين يدي عذاب شديد ».
    2 ـ و في رواية : « إنّ مثلي و مثلكم كمثل رجل رأى العدو فانطلق يريد أهله أن يسبقوه إلى أهله فجعل يهتف : يا صباحاه! يا صباحاه! أتيتم أتيتم أنا النذير العريان (2) الذي ظهر صدقه » (3).
    3 ـ و في رواية : دعا قريشاً فخصّ و عمّ و قال يا بني كعب بن لؤي أنقذوا أنفسكم من النار ، يا بني مرّة بن كعب أنقذوا أنفسكم من النار ، يا بني هاشم أنقذوا أنفسكم من النار ، يا بني عبد شمس أنقذوا أنفسكم من النار ، يا بني عبد مناف أنقذوا أنفسكم من النار ، يا بني زهرة أنقذوا أنفسكم من النار ، يا بني عبد المطلب أنقذوا أنفسكم من النار ، يا فاطمة أنقذي نفسك من النار ، يا صفيّة عمّة محمد أنقذي
1 ـ تفسير الطبري ج14 ص49.
2 ـ العريان : الذي أقبل عرياناً ينذر بالعدو. إنّه لايتّهم بخلاف الذي لم يجرّد فإنّه قد يتّهم والمعنى أنا النذير الذي لا أتّهم.
3 ـ سيرة زيني دحلان ، على هامش السيرة الحلبيّة ج1 ص194 ـ 195 ، و البداية و النهاية ج3 ص38 ، و تاريخ الخميس ج1 ص288.


(134)
نفسك من النار ، فإنّي لاأملك لكم من اللّه شيئاً (1).
    ولو كان المراد من فاطمة هي فاطمة بنت النبي فالرواية بأجمعها أو خصوص هذه الجملة موضوعة لأنّها ولدت في السنة الخامسة من الهجرة ، وقد جاء في تاريخ الخميس توصيفها ب ـ ( بنت محمد ) حيث قال : « يا صفيّة بنت عبد المطلب ، يافاطمة بنت محمد لا أغني عنكم من اللّه شيئاً ، سلاني من مالي ما شئتم ».
    ولذلك إحتمل زيني دحلان أنّ فاطمة من خلط الرواة وانّما ذكرت في حديث آخر وقع بالمدينة جاء فيه الزوجات والبنات وقال لهن : « لا أغني عنكنّ من اللّه شيئاً » حثّاً لهنّ على صالح الأعمال.
1 ـ تاريخ الخميس ج1 ص288 ، و سيرة زيني دحلان على هامش السيرة الحلبية ج1 ص193.

(135)
(6)
الإيجابيات والسلبيات
تجاه الدعوة المحمّدية
    لم تكن الدعوة المحمّدية بدعاً من الرسالات السماويّة ، فقد واجهت ما واجهته سائر الرسالات فحظيت بالقبول من بعض ، بينما حاربتها الأكثرية الساحقة ، شأنها شأن ما سلفها من الدعوات الإصلاحية حذو القذة بالقذّة ، ومن سَبَر تاريخ الأنبياء وتاريخ الدعوات الإصلاحية بإمعان يقف على أنّ النجاح لم يكن حليفهم خصوصاً في الوهلة الاُولى من دعوتهم بل كان الناس على مفرق طريقين ، فهم بين مؤمن بالدعوة ومصدّق لها ومستنفد طاقته في سبيلها ومضحّ بنفسه ونفيسه ، ومكذّب عنود يضع في طريق دعوة المصلحين الموانع والعراقيل الكفيلة بصدّهم عمّا يطمحون إليه من الغايات المنشودة.
    وكانت هذه المجابهة والمحاربة المستميتة مع المصلحين وليدة حالة من الجهل والإنحطاط الفكري والثقافي ، وكلّما كان القوم أبعد غوراً في تعصّبهم لآبائهم وأجدادهم وما كانوا يدينون به من العقائد الشنيعة والسخيفة كانت المكافحة أشدّ والمنابذة أقوى.
    ولمّا كانت الدعوة الإصلاحية سواء كانت سماوية أم أرضية ، وضعية تؤدّي إلى تفويت مصالح بعض الطبقات الخاصّة كالإقطاعيين وذووا رؤوس الأموال الطائلة ، لم تحظ الدعوة في أغلب صورها وحالاتها بقبول الرأي العام ، وهذه هي الظاهرة المألوفة غالباً ، فترى أنّ المسيطرين على المجتمع في كافّة الأجيال و الأحقاب كانوا على طرف نقيض من الدعوة الإصلاحية ، وكان التصويب بالإذعان والإيمان مختصّاً بالطبقة المحرومة المقهورة المستضعفة.


(136)
    هذا هو جون. اف.كندي الذي تربّع على منصّة الحكم بالولايات المتحدة الأمريكية عام 1960 م ، بعد أن انتخب رئيساً بالغالبية العظمى ، فلقد كان صاحب نظرة خاصّة في الملوّنين الأمريكيين ، وكان بصدد اصلاح حياتهم المليئة بالبؤس والشقاء عن طريق منحهم بعض الحقوق والحريات استلهاماً من الفطرة الإنسانية ، ولكن ما أن طلع نجمه إلاّ وقد اُغتيل من جانب المتعصّبين العنصريين بشكل لميعهد التاريخ له مثيل إلاّ القليل النادر ، فعلى الرغم من عظمة جهاز الاستخبارات الأمريكية وسطوته لم يعرف قاتله ولم يعثر له على أثر أو خبر يذكر ، وكان التخطيط قددبّر ليلاً.
    وتصوّر لنا هذه الظاهرة في محكية عن قوم نوح بقوله تعالى : ( فَقالَ المَلأُ الّذينَ كَفرُوا مِنْ قَوْمِهِ مَا نَراكَ إلاّ بَشَراً مِثلَنا ومَا نَراكَ اتّبعَكَ إلاّ الّذينَ هُمْ اَراذِلُنَا بادِيَ الرّأي وَما نَرى لَكُمْ عَلَيْنا مِنْ فَضْل بَلْ نَظُنُّكُمْ كاذِبِين ) ( هود/27 ).
    هذه هي الظاهرة الملموسة في حياة الأنبياء وما لا قوّه في سبيل انجاح دعوتهم ، وعلى ضوء ذلك فلا ينتابك العجب عندما تلقي بنظرة خاطفة على حياة الرسول ( صلى الله عليه وآله وسلم ) في بدء دعوته حيث كان الإيمان والانطواء تحت راية الرسالة مختصّاً برجال أحرار الفطرة أصفياء الطوية لم يعمِ بريق زخارف الدنيا وزينتها بصائرهم فلبّوا دعوة الرسول بصدر رحب.


(137)
الف : العراقيل و الموانع تجاه دعوة الرسول ( صلى الله عليه وآله وسلم )
    ظلّ النبي الأكرم في موطنه قرابة ثلاثة عشر عاماً ولم يكن النصر حليفه وما كان ذلك إلاّ نتيجة الموانع والعراقيل التي حيكت ضدّه ، وإليك لمحة خاطفة عنها :
    1 ـ إنّ الرسالة المحمدية كسائر الرسالات الإلهية كانت تهدف إلى انتشال المستضعفين من حضيض التخلّف المادي والمعنوي والرقي بهم إلى حالة الإزدهار الحضاري ، ومن المعلوم أنّ تلك الخطّة ما كانت تنسجم مع مطامع أصحاب السلطة والثروة الذين يسيطرون على المجتمع بسطوتهم وجبروتهم ويمتصّون دماء المحرومين بلا هوادة ، يقول سبحانه :
    ( وَلاَ تَطرُدِ الّذينَ يَدعُونَ رَبّهُم بِالغَدواةِ والعَشِيِّ يُريدُونَ وَجْهَهُ مَا عَليْكَ مِنْ حِسابِهِم مِنْ شيء وَما مِنْ حسابِك عَليهِم مِنْ شَيء فَتَطْرُدَهُمْ فَتكونَ مِنَ الظّالِمينَ ) ( الأنعام/52 ).
    روى الثعلبي في تفسيره باسناده عن عبد اللّه بن مسعود ، قال : مرّ الملأ من قريش على رسول اللّه وعنده صهيب وخباب وبلال وعمّار وغيرهم من ضعفاء المسلمين وقالوا : يا محمد! أرضيت بهؤلاء من قومك ، أفنحن نكون تبعاً لهم ، أهؤلاء الذين منّ اللّه عليهم ؟ اطردهم عنك ولعلّك إن طردتهم اتّبعناك (1).
    2 ـ التعصّب المقيت لسيرة الآباء والأجداد أمر جبلي للبشر يتنامى في اطار حياتهم القبلية ، وكانت دعوة النبي على خلاف سيرتهم ولذلك اهتمّوا بمكافحته ومنازعته قائلين : بأنّ دعوتك تضاد سيرة آبائنا ، ولم يكتفوا بذلك حتى استدلّوا على صحّة سيرتهم بأنّه لولا مشيئة اللّه سبحانه لما عبد الآباء الأصنام والأوثان ، يقول سبحانه حاكياً عنهم : ( وَقالَ الّذينَ اَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللّهُ مَا عَبدْنا مِنْ دُونِهِ مِنْ شيء نَحنُ
1 ـ مجمع البيان ج2 ص305 ، طبع صيدا.

(138)
وَلا آباؤنَا وَلا حَرَّمْنَا مِن دُونهِ مِنْ شيء كَذلكَ فَعَلَ الّذينَ مِنْ قَبْلهِمْ فَهَلْ على الرُّسُلِ إلاّ البلاغُ المُبينُ ) ( النحل/35 ) ، وقال سبحانه : ( بَلْ قَالُوا إنّا وَجدْنَا آباءَنَا عَلى أُمّة وإنّا عَلى آثارهِمْ مُهْتدُونَ ) ( الزخرف/22 ) ويظهر من غير واحد من الآيات انّ تلك الظاهرة الروحية لم تزل تعرقل خطى الدعوة في أكثر الرسالات السماوية ، قال سبحانه : ( وَكذلِكَ مَا اَرسَلنْا مِنْ قَبلكَ في قَريْة مِنْ نَذِير إلاّ قَالَ مُتَرفُوهَا إنّا وَجدْنَا آباءَنَا عَلى أُمّة وإنّا عَلى آثارِهِم مُقتدُونَ * قال أَوَلَوْ جِئْتُكُم بِأهدى مِمّا وَجدْتُمْ عَلَيْه آباءَكُمْ قَالُوا إنّا بما أُرْسلْتمُ بِهِ كَافِرُونَ ) ( الزخرف/23و24 ).
    3 ـ لقد كانت الاُمّية والإنحطاط الثقافي متفشّية في شبه الجزيرة العربية آنذاك خصوصاً في أُمّ القرى وما حولها ، فكانت العقلية الإنسانية التي تميّز الحق من الباطل والصالح من الفاسد متدهورة جدّاً. وهذا هو البلاذري يعكس لنا صورة هذا التدهور الثقافي بقوله في كتابه :
    « دخل الإسلام وفي قريش سبعة عشر رجلاً كلّهم يكتب : عمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب ... » (1).
    وقال ابن خلدون :
    « إنّ عهد قريش بالكتابة والخط العربي لم يكن بعيداً بل كان حديثاً وقريباً بعهد الرسول وقد تعرّفوا عليها قبيل ظهور الإسلام » (2).
    فإذا كان هذا مبلغ تعرّفهم على الكتابة والقراءة ، فليكن هذا مقياساً لثقافتهم ومدى ازدهار قواهم العقلية.
    4 ـ ارتكزت الدعوة المحمّدية على دعامتين أصيلتين :
    أ ـ اختصاص العبودية للّه سبحانه ورفض عبادة غيره.
1 ـ فتوح البلدان : ص 457.
2 ـ مقدمة ابن خلدون : ص348.


(139)
    ب ـ الاعتقاد بيوم الحساب وأنّ وراء الحياة الدنيوية ، حياة اُخرى تجزى فيها كل نفس بما عملت من خير وشر ، وانّ الناس في ذلك اليوم على فئتين : فئة ضاحكة مستبشرة وفئة بائسة مكفهرّة ، وانّ الظالمين والمتجاوزين سوف يحاسبون فيها أشدّ الحساب ودقيقه.
    يقول سبحانه : ( فإذا جاءتِ الصّاخّةُ * يَوْمَ يَفرُّ المَرءُ مِنْ أَخِيِه * واُمّهِ وَأَبيهِ * وَصاحِبَتِهِ وَبَنِيِه * لِكُلِّ امْرىء منْهُمْ يَوْمَئِذ شأنٌ يُغنِيهِ * وُجُوهٌ يَوْمَئذ مُسْفِرَةٌ * ضَاحِكَةٌ مُسْتَبشِرَةٌ * وَوُجُوهٌ يَومئذ عَليْها غَبَرَةٌ * تَرهَقُها قَتَرةٌ * أُولَئِكَ هُمُ الَكَفرةُ الفَجَرةُ ) ( عبس/33 ـ 42 ).
    ويقول عزّ اسمه في سورة اُخرى : ( يَا اَيُّها النّاسُ اتّقُوا ربّكُمْ اِنّ زَلزَلَةَ السّاعَةِ شَيءٌ عَظيمٌ * يَوْمَ تَرَوْنَها تَذْهَلُ كُلُّ مُرضِعة عَمّا اَرضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْل حَمْلَهَا وتَرى النّاسَ سُكَارى وَمَا هُمْ بِسُكارَى وَلَكنّ عَذَابَ اللّهِ شَدِيدٌ ) ( الحج/1و2 ).
    كانت هذه الندءات الربّانيّة تبعث الرعب والهلع في قلوب المشركين ، لأنّهم يجدون أنفسهم أمام عذاب أليم لا مناصّ منه ولا مفرّ عنه ، وبما أنّهم كانوا يعانون من تبنّي هذه الفكرة بل من سماعها واحتمال صدقها ، فجنحوا إلى إراحة أنفسهم من هذا العذاب الآجل بإنكار الدعوة وتكذيبها من الأساس.
    إنّ هؤلاء الجناة كانوا معتادين أن ينحروا للأصنام طلباً لمحو سيئاتهم ثم تتركهم في القتل والنهب وارتكاب الفحشاء وغيرها في مستقبل حياتهم ، وأمّا الدعوة التي لاتقبل الرشوة والمهادنة وترفض القرابين والنحور فلا تحقّق أملهم ولا تلقي إليهم بالضوء الأخضر حتّى يقترفوا ما يشاؤوا.
    5 ـ إنّ المترفين والملأ كانوا يكافحون دعوة الأنبياء وينابذونها والقرآن قد سجّل أعمالهم الإجرامية في غير واحد من الآيات ، قال سبحانه : ( قَالَ المَلأُ الّذِينَ اسْتَكبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَنُخرِجَنّكَ يَا شُعيْبُ وَالّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِن قَريَتِنا اَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلّتِنَا قَالَ أَوَلَوْكُنّا كَارهِينَ ) ( الأعراف/88 ).


(140)
    ويقول سبحانه في حق المترفين : ( وَمَا اَرْسَلنا في قَرْيَة مِنْ نَذِير إلاّ قَالَ مُتْرَفُوهَا إنّا بِمَا اُرْسِلْتُمْ بِهِ كافِرونَ ) ( سبأ/34 ).
    إنّ طبيعة الترف وانبساط النعمة والعيش الرغيد تؤدّي إلى الجموح والطغيان والتغافل عن كل ما من شأنه أن يحول بينه وبين شهواته وميوله وغرائزه ، يقول سبحانه : ( اِنّ الاِنْسانَ لَيطْغَى * اَنْ رَآهُ اسْتغْنَى ) ( العلق/6و7 ).
    أين هذه الفكرة من طبيعة الشريعة السماوية التي تفرض على الإنسان الاعتدال في الشهوات وسلوك الجادة القويمة ، فلا ينسفها من رأس ولا يرخي لها العنان.
    فلأجل ذلك نرى أنّ الملأ في عصر النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) وأصحاب المجون والترف عارضوا النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) وخالفوا لمّا رأوا أنّه يريد أن يضع حدوداً في طريق ميولهم والحيلولة دون اشباع نهم غرائزهم المستعرة ، فلذلك قاموا بتكثيف الجهود في وجه الدعوة المحمّدية.
    6 ـ إنّ الحسد والتنافس والتنازع من العوامل التي تصطنع حجباً أمام البصائر فلا تتمكّن من رؤية الحقائق على ما هي عليه و مثله الكبر والغرور فيصدّان الإنسان عن رؤية الحقيقة بل يبعثان إلى اختلاف أعذار واهية للتنكّب عن قبول الحقّ والإذعان به ، فنحن نرى ذلك العامل في وجه الدعوة النبويّة حيث إنّ قريشاً كانت تشعر بأنّ النبوّة مقام شامخ إلهي يستعقب عزّة الصادع بها وقومها على القبائل الاُخر ، فكان ذلك رادعاً عن قبول عدّة من أكابر قريش الدعوة الإلهيّة قائلين : لماذا لم ينزل هذا القرآن على الوليد بن المغيرة وهو أحقّ به من النبي بزعمهم.
    يقول سبحانه : ( وَقالُوا لَوْلا نُزّلَ هَذا القُرْآنُ علَى رَجُل مِنَ القَرْيتَيْنِ عَظِيم * اَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيْشَتَهُمْ فِي الحَياةِ الدُّنْيَا وَرَفعْنَا بَعضَهُمْ فَوْقَ بَعْض دَرَجَات لِيتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعَضاً سُخريّاً وَرَحْمتُ ربّكَ خيرٌ ممّا يَجمَعُونَ ) ( الزخرف/31و32 ).
    هذه هي الموانع التي اصطنعتها قريش في وجه الرسول ( صلى الله عليه وآله وسلم )
مفاهيم القرآن ـ جلد السابع ::: فهرس