مفاهيم القرآن ـ جلد السابع ::: 121 ـ 130
(121)
    هي أنّه تعلّقت مشيئته سبحانه على نزول الوحي نجوماً ـ أي فترة بعد فترة ـ حسب المقتضيات و الأسباب الموجبة لنزوله أوّلاً ، و تثبيت فؤاد النبي بذلك ثانياً ، قال سبحانه مشيراً إلى مشيئته الحكيمة :
    ( وَ قُرْآناً فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْث وَ نَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلاً ) ( الأسراء/106 ). و قال سبحانه مشيراً إلى أنّ من بواعث نزول الوحي تدريجيّاً كونه سبباً لتثبيت فؤاده : ( وَ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلاَ نُزِّلَ عَلَيهِ القُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَ رَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلاً ) ( الفرقان/32 ) فعلى ضوء ذلك لم يكن هناك إلاّ مسألة طبيعية على صعيد الوحي و هو نزوله تدريجيّاً لادفعة واحدة ، غير أنّ المشركين الجاهلين بمشيئته سبحانه و أسرار نزول الوحي تدريجيّاً ، كانوا يترقّبون نزول الوحي عليه دوماً و في كل يوم و ساعة ، أو نزول مجموع الشريعة دفعة واحدة كما نزلت التوراة على موسى. قال سبحانه : ( وَ كَتَبْنَا لَهُ فِى الأَلْوَاحِ مِنْ كُلِّ شَىْء مَوْعِظَةً وَ تَفْصِيلاً لِكُلِّ شَىْء فَخُذْهَا بِقُوَّة وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِاَحْسَنِهَا سَأُورِيكُمْ دَارَ الفَاسِقِينَ ) ( الأعراف/145 ). فلمّا شاهدوا خلاف ما كانوا يترقّبونه من مدّعي النبوّة إنصرفوا إلى اتّهام النبي بأنّه ودّعه ربّه الذي ينزّل عليه الوحي أو الشيطان الذي يلهمه على حدّ تعبيرهم.
    فحصيلة البحث : إنّه لم يكن هناك إنقطاع و لافتور و لاسبب من الأسباب المذكورة في الروايات بل كان مجرّد توهّم توهّموه.
    ثُمّ إنّ المعروف بين المفسّرين أنّ سورة الضحى حسب الترتيب النزولي ، السورة الحادية عشرة ، و كانت الاُولى هي العلق ، فالقلم ، فالمزّمّل ، فالمدّثّر ، فلهب ، فالتكوير ، فالأعلى ، فالإنشراح ، فالعصر ، فالفجر ، فالضحى (1).
    و الظاهر ممّن ينقل مسألة إنقطاع الوحي و فتوره أنّها نزلت في بدء الوحي بعد إنقطاعه أي نزل بعد العلق أو بعد المدثّر مع أنّها نزلت متأخّرة ، و كان الوحي ينزل على النبي تترى حسب مقتضيات الظروف و المناسبات و الوقائع و الأحداث.
1 ـ تاريخ القرآن للزنجاني ص36.

(122)
    نعم ذكر اليعقوبي أنّ سورة « الضحى » هي السورة الثالثة ، و لعلّه متفرّد في ذلك القول (1).

مراحل الدعوة الثلاث
    نزل الأمين جبرئيل مبشّراً النبي الأكرم بالنبوّة و الرسالة ، و ألقى على عاتقه مقاليد مهامّها هداية الاُمّة ، التي يصوّرها قوله سبحانه : ( إِنَّا سَنُلْقِى عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً ) ( المزّمّل/5 ).
    و قوله سبحانه : ( يَا أَيُّهَا المدَّثِّرُ * قُمْ فَاَنْذِرْ * وَ رَبَّكَ فَكَبِّرْ ) ( المدّثّر/1 ـ 3 ) و أيّ مسؤولية أثقل من مسؤولية هداية الاُمّة الغارقة في ظلمات الجهل و أوحال عبادة الأصنام و الأوثان ، المنغمسة في الدنيا ، المعرضة عن الآخرة ، فقام الرسول مؤدّياً رسالته مستضيئاً بهدى الوحي قدقطعت رسالته مراحل ثلاث حتّى تكلّلت بالنجاح وبلغت الغاية المنشودة ، و إليك تبيين هذه المراحل التي أشار إليها القرآن الكريم في مواضع متفرّقة.
     المرحلة الاُولى : السرّية في الدعوة
    إتّخذ الرسول الدعوة السرّية خطوة اُولى خطاها في سبيل تحقيق إنجاح الدعوة الإلهيّة ، و لم يكن الغرض من التركيز على السرّيّة في الدعوة الخوف على نفسه وصيانتها من كيد الأعداء ، بل هذه هي الخطّة الرائجة بين الدعاة المخلصين ، فلايجهرون بالدعوة ، و لايعلنونها بادئ بدء ، بل يبدأون بعرض الدعوة سرّاً على الأفراد الذين يطمئنّون لهم ـ و لأجل ذلك ـ بدأ الرسول ( صلى الله عليه وآله وسلم ) بالدعوة السرّية إلى الاسلام فدخل تحتها عدّة من الشباب ، فتعلّموا الفرائض و السنن سرّاً وكانوا يذهبون إلى شعاب مكّة فيقيمون الفرائض فيها.
1 ـ تاريخ اليعقوبي ج2 ، ص33.

(123)
    وهذه الثلّة القليلة الّتي تشرّفت باعتناق الإسلام ، هم الذين يعبّر عنهم القرآن الكريم بقوله : ( والسّابِقُونَ السّابِقُونَ اُوْلئِكَ المُقَرّبُونَ ) ( الواقعة/10و11 )
    فكان النبي الأ كرم يعرض دعوته على من يتفرّس فيه علائم قبول الإسلام ولذلك لمّا هبط من غار حراء عرضه على زوجته خديجة وابن عمّه علي ، وقد تمكّن الإسلام بذلك في قلوب عدّة سجّلت أسماؤهم في التاريخ (1) مثل زيد بن حارثة وعثمان بن مظعون وقدامة بن مظعون وغيرهم. يقول ابن هشام في تفسير قوله : ( وَاَمّابِنعِمَةِ رَبّكَ فَحَدّث ) أي بما جاءك من اللّه من نعمته وكرامته ، من النبوّة فحدّث أي اذكرها ، فادع إليها ، فجعل رسول اللّه يذكر ما أنعم اللّه به عليه وعلى العباد به من النبوّة سرّاً إلى من يطمئنّ إليه من أهله (2).
    وليس في الذكر الحكيم آية تكشف عن أحداث هذه المرحلة غير ما ذكرنا من الآيتين ، فمن أراد التفصيل فيجب عليه أن يرجع إلى كتب السيرة النبويّة ، ولنكتف ببعض ما جاء في المقام.
    1 ـ روى ابن هشام عن ابن إسحاق أنّه ذكر بعض أهل العلم : إنّ رسول اللّه كان إذا حضرت الصلاة خرج إلى شعاب مكّة وخرج معه علي بن أبي طالب مستخفياً من أبيه ومن جميع أعمامه وسائر قومه فإذا أمسيا رجعا ومكثا كذلك ما شاء اللّه أن يمكثا .... ثم أسلم زيد بن حارثة وكان أوّل ذكر أسلم وصلّى بعد علي بن أبي طالب (3).
    2 ـ روى الطبري عن جابر قال : بعث النبي يوم الاثنين وصلّى علي يوم الثلاثاء ، وروي عن زيد بن أرقم قال : أوّل من أسلم مع رسول اللّه ( صلى الله عليه وآله وسلم ) علي بن أبي طالب ، ويقول علي : أنا عبد اللّه وأخو رسوله أنا الصّدّيق الأكبر
1 ـ السيرة النبوية ج1 ص 247 ـ 262.
2 ـ السيرة النبويّة ج1 ص243.
3 ـ السيرة النبويّة ج1 ص246.


(124)
لا يقولها بعدي إلاّ كاذب مفتر صلّيتُ مع رسول اللّه قبل الناس بسبع سنين (1).
    ولعلّ بعض هذه السنين يرجع إلى ما قبل البعثة حيث إنّ الرسول كان يتعبّد للّه سبحانه في غار حراء في كل سنة.
    3 ـ يقول ابن إسحاق : وكان أصحاب رسول اللّه ( صلى الله عليه وآله وسلم ) إذا صلّوا ذهبوا في الشعاب فاستخْفوا بصلاتهم من قومهم ، فبينا سعد بن أبي وقّاص في نفر من أصحاب رسول اللّه في شعب من شعاب مكّة إذ ظهر عليهم نفر من المشركين وهم يصلّون ، فناكروهم ، وعابوا عليهم ما يصنعون حتى قاتلوهم ، فضرب سعد بن أبي وقّاص يومئذ رجلاً من المشركين بلَحى بعير ، فشجَّه ، فكان أوّل دم أهريق في الإسلام (2).

اتّخاذ النبي دار الأرقم مركزاً لنشر الدعوة.
    كان النبي يؤدّي رسالته مستخفياً من قريش بمكّة ويعرض الإسلام لمن يطمئن إليه ، وقد ألجأته الظروف إلى إتّخاذ بيت لتبليغ تعاليمه ، وإقامة المؤمنين فيها فرائضهم ، وقد وقع الإختيار على دار الأرقم بمكّة على الصفا (3) مركزاً لهذه المهمّة فدخل ( صلى الله عليه وآله وسلم ) وأصحابه مستخفين فيها بعد وقوع الصدام بين سعد ابن أبي وقّاص وبعض المشركين ، فكان ( صلى الله عليه وآله وسلم ) وأصحابه يقيمون الصلاة بها ويعبدون اللّه فيها إلى أن أمره اللّه تعالى بالإعلان عنها ، فامتثل صادعاً بما اُمر ، وقد إختلفت كلمة أصحاب السيرة في مدّة هذه المرحلة بين ثلاث سنين إلى خمس سنين ، كما اختلفوا في مدّة اقامتهم في دار زيد بن الأرقم بين كونه
1 ـ تاريخ الطبري ج2 ص56 ، و فيه نصوص اُخرى على أنّه ( عليه السلام ) أوّل من آمن برسولاللّه.
2 ـ السيرة النبويّة ج1 ، ص262.
3 ـ هي المعروفه الآن بدار الخيزران عند الصفا ، اشتراها الخليفة المنصور و أعطاها ولده المهدي ، ثمّ أعطاها المهدي للخيزران اُمّ ولديه : موسى الهادي و هارون الرشيد. لاحظ : السيرة الحلبيّة ج1 ، ص283.


(125)
شهراً أو أزيد ، كما إختلفت كلمتهم في عدد المؤمنين بالنبي في تلك المرحلة فقد أنهاه ابن هشام في سيرته معتمداً على سيرة ابن إسحاق بما يربو على خمسين بين رجل وامرأة وإن كان الأكثر هم الرجال ولأجل أن يقف القارئ على هؤلاء الأشخاص وأسمائهم نستعرض ذكرهم إجمالاً على النحو التالي.
    1 ـ خديجة بنت خويلد ( زوجة النبي ). 2 ـ علي بن أبي طالب. 3 ـ زيد بن حارثة. 4 ـ أبو بكر. 5 ـ عثمان بن عفّان.6 ـ عبد الرحمن بن عوف. 7 ـ الزبير بن العوّام. 8 ـ سعد بن أبي وقّاص. 9 ـ طلحة بن عبيد اللّه. 10 ـ أبو عبيدة. 11 ـ أبوسلمة. 12 ـ أرقم. 13 ـ قدامة بن مظعون. 14 ـ عبد اللّه بن مظعون. 15 ـ عبيدة بن الحارث. 16 ـ سعيد بن زيد. 17 ـ امرأته ( فاطمة بنت الخطاب ). 18 ـ أسماء بنت أبي بكر. 19 ـ خباب بن الأرت. 20 ـ عمير بن أبي وقاص. 21 ـ عبد اللّه بن مسعود. 22 ـ مسعود بن القارئ. 23 ـ سليط بن عمرو. 24 ـ حاطب بن عمرو. 25 ـ عيّاش بن أبي ربيعة. 26 ـ أسماء بنت سلامة. 27 ـ خنيس بن حذافة. 28 ـ عامر بن ربيعة. 29 ـ عبد اللّه بن جحش. 30 ـ أبوأحمد بن جحش. 31 ـ جعفر بن أبي طالب. 32 ـ أسماء بنت عميس. 33 ـ حاطب بن الحارث. 34 ـ حطّاب بن الحارث 35 ـ معمّر بن الحارث. 36 ـ سائب بن عثمان بن مظعون. 37 ـ مطلب بن أزهر. 38 ـ زوجته ( رملة بنت أبي عوف ). 39 ـ نعيم بن عبد اللّه. 40 ـ عامر بن فهيرة. 41 ـ خالد بن سعيد. 42 ـ اُميّة بنت خلف. 43 ـ أبو حذيفة. 44 ـ واقد بن عبد اللّه. 45 ـ خالد بن بكير. 46 ـ عامر بن بكير. 47 ـ عاقل بن بكير. 48 ـ اياس بن بكير. 49 ـ عمّار بن ياسر 50 ـ صهيب بن سنان (1).
    هذا ما ذكره ابن هشام ، وقد ذكر في ثنايا كلامه ممّن آمن في تلك الفترة عائشة بنت أبي بكر ، وهو غير صحيح جدّاً لأنّها ولدت في السنة الرابعة من البعثة ، وقد عقد عليها النبي في شوال قبل الهجرة بثلاث سنين وهي بنت ست سنين ، وبنى بها رسول
1 ـ السيرة النبويّة ، ج1 ، ص262.

(126)
اللّه وهي بنت تسع بالمدينة في شوال في السنة الاُولى من الهجرة ، فكيف تكون من المؤمنات في المرحلة السرّية ؟ (1).
    أضف إلى ذلك إنّ أبا ذر من السابقين إلى الإسلام وقد أخرج ابن سعد في الطبقات عن طريق أبي ذر ، قال : كنت في الإسلام خامساً ، وفي لفظ أبي عمرو وابن الاثير : « أسلم بعد أربعة » ، وفي لفظ آخر يقال : « أسلم بعد ثلاثة » ، ويقال : « بعد أربعة » ، وفي لفظ الحاكم : « كنت رابع الإسلام أسلم قبلي ثلاثة نفر وأنا الرابع » ، وفي لفظ أبي نعيم : « كنت رابع الإسلام ، أسلم قبلي ثلاثة وأنا الرابع » ، وفي لفظ المناوي : « أنا رابع الإسلام » ، وفي لفظ ابن سعد من طريق ابن أبي وضّاح البصري : « كان إسلام أبي ذر رابعاً أو خامساً » (2).
    وقد ذكر الشيخان في الصحيحين وابن سعد في طبقاته كيفيّة إسلامه ومن أراد فليرجع إليهما.

المرحلة الثانية : دعوة الأقربين
    إجتازت الدعوة المحمّدية المرحلة السرّية إلى مرحلة ثانية بعد ما آمن به جماعة من قريش وغيرهم ودخل الناس في الإسلام آحاداً من الرجال والنساء حتى فشا ذكر الإسلام بمكّة ، فتحدّث به القريب والنائي ، فعندئذ أمر سبحانه بدعوة الأقربين ، بقوله : ( وَأَنْذر عَشِيْرتَكَ الأَقْرَبِينَ * و اخفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتّبعَكَ مِنَ المُؤمِنينَ * فَإِنْ عصَوكَ فَقُلْ إنّي برِيءٌ ممّا تعْمَلُونَ ) ( الشعراء /214 ـ 216 ).
    إنّ المعاجلة والمسارعة لدعوة العشيرة الأقربين قبل البدء بإعلان الدعوة العامّة يمكن أن يكون فيها سرّ إجتماعي وتوضيحه بما يلي :
1 ـ لاحظ : أعلام النساء ج3 ص11 نقلاً عن طبقات ابن سعد و سنن النسائي و صحيح البخاري و شرح الزرقاني على المواهب و السمط الثمين.
2 ـ الغدير ج 8 ص308 ـ 309.


(127)
    أوّلاً : إنّ النبي الأكرم كان مطّلعاً على أنّ قومه سوف يجابهونه بالعنف والشدّة ويتآمرون للقضاء عليه قبل تمكّنه من تحقيق اُمنيته ، فصيانة الدعوة من مكائد الأعداء مرهونة بوجود قوّة داخلية تحصّنها من غوائلهم ولا يمكن تصوّرها إلاّ في قومه وعشيرته من آل هاشم.
    وثانياً : إنّ إنقياد قومه لدعوته وعشيرته لدعوته لدليل واضح على قداسته ونزاهته وصدق كلامه وانّهم ما رأوا منه إلا الصدق والصلاح طيلة أربعين سنة فأجابوا دعوته وصدّقوا كلامه. فإنّ الإنسان مهما كان فطناً مهتمّاً بستر عيوبه وزلاّته لا يتمكّن من سترها عن بطانته وخاصّته ، فإيمان البطانة وقبولهم دعوته دليل واضح على صفاء سريرته ، فلأجل ذلك بدأ بدعوة العشيرة قبل إعلان الدعوة العامّة ، وهذا بطبيعة الحال يكون مؤثّراً في إعداد الأرضية الصالحة لقبول المرحلة الاُخرى. وبعبارة ثانية : إنّ ضمان نجاح المصلحين في الدعوة العامّة يكمن في نجاحهم في دعوة اُسرتهم ، فلوافترضنا أنّ الداعي لم ينجح في دعوة اُسرته ، يكون حظّ نجاحه في الدعوة العامّة طفيفاً لأنّ رفض الاُسرة لدعوة المصلح وعدم إيمانها به ، سوف يتّخذ ذريعة إلى تقوّل الآخرين وسخريتهم بأنّه لو كان الصادع محقّاً في كلامه فاُسرته أولى بقبول دعوته.
    وقد نقل المفسّرون وأهل السير في تفسير قوله سبحانه : ( وأنذر عشيرتك الأقربين ) كيفيّة دعوة الاُسرة ، وإليك نصّ ما ذكره الطبري في تاريخه عن عليّ ( عليه السلام ) : لمّا نزلت هذه الآية على رسول اللّه فقال لي : يا علي! إنّ اللّه أمرني أن أنذر عشيرتي الأقربين ، فضقت بذلك ذرعاً و عرفت أنّي متى أبدأهم بهذا الأمر أرى منهم ما أكره فصمّمت عليه حتى جاءني جبرئيل ، فقال : يا محمد إنّك إن لم تفعل ما تؤمر به يعذّبك ربّك ، فاصنع لنا صاعاً من طعام و اجعل عليه رجل شاة و املأ لنا عِسّاً من لبن ثم إجمع لي بني عبد المطلب (1) ، حتى اُكلّمهم و اُبلّغهم ما اُمرت به ، ففعلت ما أمرني به ثمّ دعوتهم له و هم يومئذ أربعون رجلاً ، يزيدون رجلاً أو ينقصونه ، فيهم أعمامه أبوطالب و حمزة و العبّاس و أبولهب ، فلمّا إجتمعوا إليه دعاني بالطعام الذي
1 ـ و في البداية و النهاية ج 3 ص40 « بني هاشم » و هو الأصح.

(128)
صنعت لهم ، فجئت به ، فلمّا وضعته تناول رسول اللّه ( صلى الله عليه وآله وسلم ) حذية من اللحم فشقّها بأسنانه ثمّ ألقاها في نواحي الصفحة ثم قال : خذوا باسم اللّه ، فأكل القوم حتى ما لهم بشيء حاجة و ما منهم ليأكل ما قدّمت لجميعهم ، ثمّ قال : اسق القوم ، فجئتهم بذلك العس ، فشربوا منه حتى رووا منه جميعاً ، و أيم اللّه إن كان الرجل الواحد منهم ليشرب مثله ، فلمّا أراد رسول اللّه ( صلى الله عليه وآله وسلم ) أن يكلّمهم بدره أبولهب إلى الكلام فقال : لقد سحركم صاحبكم ، فتفرّق القوم و لميكلّمهم رسول اللّه ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ، فقال في الغد : يا علي إنّ هذا الرجل سبقني إلى ما قدسمعت من القول فتفرّق القوم قبل أن اُكلّمهم ، فعد لنا بمثل ما صنعت ثمّ اجمعهم ـ إلى أن قال ـ : ففعلت ، ثمّ جمعتهم ثمّ دعاني بالطعام فقرّبته لهم ، ففعل كما فعل بالأمس ، فأكلوا حتى ما لهم بشيء حاجة ، ثمّ قال : اسقهم ، فجئتهم بذلك العس ، فشربوا حتى رووا منه جميعاً ، ثمّ تكلّم رسول اللّه ( صلى الله عليه وآله وسلم ) فقال : يا بني عبد المطلب إنّي واللّه ما أعلم شابّاً في العرب جاء قومه بأفضل ممّا قدجئتكم به ، إنّي قدجئتكم بخير الدنيا و الآخرة ، وقدأمرني اللّه تعالى أن أدعوكم إليه فأيّكم يوازرني على هذا الأمر على أن يكون أخي و وصيّي و خليفتي فيكم ؟ قال : فأحجم القوم عنها جميعاً ، و قلت و إنّي لأحدثهم سنّاً و أرمضهم عيناً وأعظمهم بطناً و أحمشهم ساقاً : أنا يا نبيّ اللّه أكون وزيرك عليه ؟ فأخذ برقبتي ثمّ قال : إنّ هذا أخي و وصيّي و خليفتي فيكم فاسمعوا له و أطيعوا ، قال : فقام القوم يضحكون و يقولون لأبي طالب : قدأمرك أن تسمع لابنك و تطيع (1).
    هذا هو النصّ الذي رواه الطبري حول حادثة بدء الدعوة و قد ذكره غيره ، فمن أراد الوقوف على مصادر الحديث فليرجع إلى كتاب الغدير (2).
    إنّ الحديث يستفاد منه اُمور عن تاريخ بدء الدعوة نشير إليها بالنقاط التالية :
    1 ـ إنّ الخلافة تتمشّى مع النبوّة جنباً إلى جنب و إنّهما لايفترقان أبداً لأنّ النبيّ يوم صدع بالرسالة أعلن خلافة عليّ ( عليه السلام ) و كانت الخلافة تعدّ إكمالاً
1 ـ تاريخ الطبري ج1 ص63.
2 ـ الغدير ج2 ص278 ـ 284.


(129)
لوظائف الرسالة و إنّ الخليفة يقوم بتكميل وظائف النبي حيث يبيّن ما أجمله و يفصّل ما أوجزه.
    2 ـ إنّ عليّاً في ذاك اليوم و إن كان صغيراً لايتجاوز عمره الحلم لكنّه كان في القوّة و المقدرة على حدّ قام بتضييف مجموعة كبيرة تربو على أربعين نفراً فقد صنع لهم طعاماً و دعاهم إلى الضيافة ، و هذا العمل كما يكشف عن مرحلة من النضوج البدني يكشف عن تفتّح عقله و شعوره حيث قام بأمر لايقوم بأعبائه إلاّ الرجال الكبار.
    3 ـ إنّ الطبري في تاريخه نقل القصّة كما مرّ و لكنّه جنى على الحقيقة في تفسيره ، فذكر القصة و لكنّه عندما وصل إلى قوله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) : فأيّكم يوازرني على هذا الأمر على أن يكون أخي و وصيّي و خليفتي حرّفه و جاء مكانه بقوله : « فأيّكم يوازرني على هذا الأمر على أن يكون أخي و كذا وكذا » (1).
    فما معنى هذا التحريف أهكذا تصان الأمانة التاريخية و يتحفّظ في نقل الحديث ؟!
    و إن تعجب فعجب عمل ابن كثير فإنّه وضع تاريخه على غرار تاريخ الطبري حذو النعل بالنعل ، و لكنّه لمّا وصل إلى هذا المقام من تاريخه أعرض عن نقل نصّ الطبري في تاريخه و اعتمد على النصّ الذي ذكره الطبري في تفسيره ، و ما هذا إلاّ لأنّه رآه دليلاً قاطعاً على خلافة علي و وصايته ، و أعجب منه عمل محمد حسين هيكل في تاريخه فإنّه ارتكب جناية مفضوحة و أثبت الحديث في الطبعة الاُولى من كتابه و اكتفى منه بسؤال النبي بقوله : « فأيّكم يوازرني على هذا الأمر على أن يكون أخي و وصيّي و خليفتي فيكم » و أغفل ذكر جواب النبي لعلي عندما قام ، و لم يذكر منه شيئاً ، لكنّه في الطبعة الثانية أسقط جميع ما يرجع إلى أمير المؤمنين من كلام
1 ـ تفسير الطبري ج19 ص74 ، و قد رواه العلاّمة الأميني في غديره : 2/279 ـ 284.
و العلاّمة السيد جعفر مرتضى في كتابه : الصحيح من سيرة النبي ج2 ص12 عن مصادر كثيرة تعرب عن تضافر الرواية و تواترها.


(130)
النبي (1).
    4 ـ إنّ ابن تيميّة لمّا رأى دلالة الحديث على خلافة الإمام علي ( عليه السلام ) عكف على المناقشة في سند الحديث ، و أنّه يشتمل في رواية الطبري على أبي مريم الكوفي ، و هو مجمع على تركه ، و قال أحمد : ليس بثقة ، و اتّهمه ابن المديني بوضع الحديث (2).
    و لكنّه ترك توثيق الآخرين لأبي مريم ، فقد قال ابن عدي : سمعت ابن عقدة يثني على أبي مريم و يطريه و تجاوز الحدّ في مدحه و اثنى عليه شعبة ، و قال الذهبي : كان ذا إعتناء بالعلم و بالرجال (3).
    و أظنّ إنّ تضعيف الرجل لغاية تشيّعه و حبّه للوصي ، فإنّ التشيّع بالمعنى العام ( من يحب عليّاً و يبغض أعدائه الذين خرجوا عليه في حروبه الثلاثة ) أحد المضعّفات عند القوم ، و مع ذلك فقد روى الشيخان في صحيحيهما عن الشيعة كثيراً ، و قد قام العلاّمة السيد عبد الحسين شرف الدين بوضع قائمة لأسماء ، من روى عنهم الشيخان و غيرهما في صحيحيهما من الشيعة (4).
    على أنّ أحمد قد روى الحديث بسند آخر وجميع رجاله رجال صحاح بلاكلام ، و هم عفّان بن مسلم ، عن أبي عوانه ، عن عثمان بن المغيرة ، عن أبي صادق ( مسلم الكوفي ) ، عن ربيعة بن ناجذ (5) و بهذا السند و المتن أخرجه الطبري في تاريخه و غيره (6).
1 ـ لاحظ حياة محمد ( صلى الله عليه وآله وسلم ) الطبعة الاُولى : ص104 ـ و الطبعات الاخر : ص142.
2 ـ منهاج السنّة ج4 ص81.
3 ـ الصحيح من سيرة النبي الأعظم ج2 ص14.
4 ـ المراجعات : ص42 ـ 105 ، و ما جاء فيها يشكلّ رسالة اسماها شيخ الأزهر سليم البشري : « إسناد الشيعة في إسناد السنة ».
5 ـ مسند أحمد ج1 ص159.
6 . تاريخ الطبري ج2 ص63.
مفاهيم القرآن ـ جلد السابع ::: فهرس