مفاهيم القرآن ـ جلد السابع ::: 151 ـ 160
(151)
    وأنزل اللّه في النفر الذين كانوا يصنّفون القول في رسول اللّه وفيما جاء به من اللّه تعالى : ( كَمَا اَنْزَلْنَا عَلى المُقْتَسِمِينَ * الّذِينَ جَعَلوا القُرآنَ عضينَ * فَوَ رَبّكَ لَنسْألنَّهُمْ اَجْمَعِينَ * عَمّا كَانُوا يَعْمَلُونَ ) ( الحجر/90 ـ 93 ) (1).
1 ـ السيرة النبويّة لابن هشام : ج1 ص270.

(152)
ب ـ الاستنكار والاحتجاج بالاُمور الواهية
    قد اطّلعت على الظنون والشبهات التي نسجها القوم على منوال التّهم وعرفت إجابة القرآن عنها ، فهلمّ معي ندرس إستنكارات القوم الباطلة التي جعلوها سدّاً في وجه الإذعان برسالته ، وهاتيك الإحتجاجات وإن كانت قد صدرت من أفواه رجال طعنوا في السن ولكنّها أشبه شيء بمنطق الّذين لا يعون ما يقولونه وإليك سردها واحدة واحدة :
     1 ـ لماذا لم ينزل القرآن على رجل مُثْر ؟!
    إنّ الوليد بن المغيرة كان رجلاً مثرياً معروفاً في مكّة ومثله عروة بن مسعود الثقفي في الطائف ، فكان من حججهم الواهية على النّبي أنّه لماذا لم ينزل ما تدّعيه من القرآن عليهما ونزل عليك ؟ فهما مثريان وأنت معوز فقير ، فبما أنّ الرجلين كانا عظيمي قومهما و من أصحاب الأموال الطائلة في البلدين ، فدخلت الشبهة عليهم حتّى اعتقدوا إنّ من كان كذلك فهو أولى بالنبوّة. قال سبحانه حاكياً عنهم : ( لَوْلانُزِّلَ هَذَا القُرآنُ عَلى رَجُل مِنَ القَرْيَتَيْنِ عَظِيم ) ( الزخرف/31 ) فهؤلاء وإن كانوا صادقين في أنّ شأن القرآن أن ينزل على من له مكانة مرموقة يمتاز بها عن الآخرين ، ولكنّهم أخطأوا في جعل السموّ والعظمة في الثروة والمال لأنّ نزول الوحي رهن كون المنزول عليه رجلاً تقيّاً طاهر النفس ، صامداً في تحمّل أعباء الرسالة الإلهيّة ، لايخاف من مواجهة الملك ، ولايخفى عليك أنّه لاصلة لهذه الشروط بالغنى والفقر ، أو الثروة وخلّو اليد ، والقرآن يردّ على تلك الفرية بقوله : ( اَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الحَياةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْض دَرَجَات لِيَتّخِذَ


(153)
بَعْضُهُمْ بَعْضاً سُخْريّاً وَرَحْمَتُ رَبّكَ خَيْرٌ ممّا يَجْمَعُونَ ) ( الزخرف/32 ) والمعنى إنّهم لا يملكون النبوّة الّتي هي رحمة اللّه ولطفه الّذي يختصّ به من يشاء من عباده حتّى يمنعوك منها ، فيعطوها من شاؤوا ، فهم عاجزون عن قسمة ما هو دون النبوّة بمراحل وهو معيشتهم في الحياة الدّنيا فنحن قسّمناها بينهم ، فكيف يتدخّلون فيما هو أرفع منزلة منها بما لا يقدّر قدره ، ألا وهي النبوّة الّتي هي من شؤون الباري جلّ وعلا ؟

2 ـ الرسالة الإلهيّة فوق طاقة البشر
    كان عرب الجاهليّة يزعمون : إنّ الرسالة الإلهيّة فوق قدرة البشر وإنّما هي شؤون الملك ، وإليه يشير قوله سبحانه : ( وَاَسَرُّوا النّجوَى الّذِينَ ظَلَمُوا هَلْ هَذا اِلاّ بَشَرٌ مِثْلُكُمْ أفَتَأتُونَ السِّحْرَ وَأنْتُمْ تُبصِرُونَ ) ( الأنبياء/3 ) وقال سبحانه : ( وَمَا مَنَعَ النّاسَ اَنْ يُؤمِنُوا إذْ جَاءَهُمُ الهُدى اِلاّ اَنْ قَالُوا أَبَعَثَ اللّهُ بَشَراً رَسُولاً ) ( الاسراء/94 ) ويظهر من غير واحد من الآيات إنّ تلك الظاهرة الفكرية كانت تدور في أذهان أقوام نوح وثمود وعاد من قبل ، حيث إعترضوا على رسلهم بأنّهم بشر مثلهم ، قال سبحانه حاكياً عنهم : ( قَالُوا اِنْ اَنْتُمْ اِلاّ بَشَرٌ مِثْلُنَا تُرِيدُونَ اَنْ تَصُدُّونَا عمّا كَانَ يَعْبُدُ آباؤنَا فَأْتُونَا بِسُلْطَان مُبِين * قَالتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ اِنْ نَحْنُ اِلاّ بَشَرٌ مِثْلُكُمْ وَلَكِنّ اللّهَ يَمُنُّ عَلى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ ) ( إبراهيم/10و11 ) ويلوح من بعض الآيات إنّ بعض اليهود المعاصرين للنبيّ الأكرم كانوا يتذرّعون بهذه الحجّة الواهية كما يحكي عنهم بقوله : ( وَمَا قَدرُو اللّهَ حَقّ قَدْرِهِ اِذْ قَالُوا مَا اَنْزَلَ اللّهُ عَلى بَشَر مِنْ شَيء ) يقولون ذلك بصلافة ووقاحة في الوقت الذي كانوا يعتقدون بنبوّة موسى وكتابه ، وإليه يشير قوله سبحانه : ( قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الكِتَابَ الَّذِى جَاءَ بِهِ مُوسى نُوراً وَ هُدًى لِلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَ تُخْفُونَ كَثِيراً ) ( الأنعام/91 ).
    و القوم على جهل بسر لزوم كون الرسول بشراً لاملكاً ، و لو كانوا على إحاطة به و منصفين في الحكم لما احتجّوا بمثل تلك الحجّة الواهية ، إذ يترتّب على وجود المماثلة النوعية بين الرسول و المرسل إليه ما لا يترتّب على عدمها و ذلك لاُمور :


(154)
    أوّلاً : المسانخة و المماثلة أساس ترتكز عليه القيادة ، فلو عدمت لانتّفت الغاية المنشودة ، فإنّ القائد إذا كان مشاكلاً للمقود يكون واقفاً على حدود طاقات المرسل إليهم و غرائزهم و طبائعهم و ميولهم ، فيبادر إلى معالجة ما يعانونه من تخلّف و جهل و إنحطاط كما يقوم بتنمية طاقاتهم و إستعداداتهم في مجالي المادة و المعنى ، إذ يحسّ منهم ما يحسّ من نفسه ، فأين طبيعة الملك من فطرة الإنسان ، فالملك مخلوق على نمط خاص لايحيد عنه فلايتمكّن من العصيان ، وأمّا البشر فقد خلق مخيّراً بين الطاعة و المخالفة إن شاء إمتثل و آمن ، و إن شاء إرتدّ و كفر.
    و بعبارة ثانية : إنّ الإنسان جبل على غرائز متضادّة سائدة عليه ، ففيه الشهوة والغضب و هما من الميول السفلية في كيان ذاته ، كما فيه الميول العلوية التي تجرّه إلى الخير و الإحسان و التجافي عن الطبيعة و التوجّه إلى ماوراءها ، فالإنسان المثالي هو من يقوم بتعديل تلك الفطريّات المتضادّة ، و أمّا الملك فقد جبل على سلوك الخير و الطاعة ، فلايقدر على الخلاف و العصيان ، فهل يدرك هذا الموجود المفارق موقف الإنسان الذي خلق هلوعاً.
    و ثانياً : إنّ القائد كما يهدي بكلامه و مقاله ، يهدي بفعله و عمله ، فهو قدوة في مجالي القول و العمل ، و الدعوة بالفعل أرسخ في القلوب من الدعوة بالقول ، وهذا يقتضي و جود السنخية بين الرسول و المرسل إليهم حتّى يكون الرسول في الغرائز الباعثة إلى الشرّ و العصيان ، مثل المرسل إليهم في ذلك المجال ، و بالتالي يكون سلوكه طريق الخير و الصلاح حجّة على المرسل إليهم ، و لولا السنخيّة لما تمّت الحجّة و بقى مجال للإعتراض.
    و إلى بعض ما ذكرنا يمكن أن يشير قوله سبحانه : ( وَ مَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الهُدَى إِلاَّ أَنْ قَالُوا أَبَعَثَ اللّهُ بَشَراً رَسُولاً * قُلْ لَوْ كَانَ فِى الأَرْضِ مَلاَئِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ مَلَكاً رَسُولاً ) ( الأسراء/94و95 ) أي لو وجد


(155)
في الأرض ملائكة يمشون كما يمشي البشر ، و يقيمون فيها كما يقيم و يسهل الإجتماع يهم ، و تلقّي الشرائع منهم ، لنزّلنا عليهم من السماء رسلاً من الملائكة للهداية و الإرشاد و تعليم الناس ما يجب عليهم تعلّمه ، و لكن طبيعة الملك لاتصلح للإجتماع بالبشر ، فلايسهل عليهم التخاطب و التفاهم معهم ، لبعد ما بين الملك و بينهم ، و من ثمّ لم نبعث ملائكة ، بل بعثنا خواص البشر ، لأنّ اللّه قدوهبهم نفوساً زكيّة ، و أيّدهم بأرواح قدسية ، و جعل لهم ناحية ملكية بها يستطيعون أن يتلقّوا من الملائكة ، و ناحية بشرية بها يبلّغون رسالات ربّهم إلى عباده (1).
    و قد نبّه سبحانه إلى عظيم هذه الحكمة و جليل تلك النعمة بقوله : ( لَقَدْ مَنَّ اللّهُ عَلَى المُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ ... ) ( آل عمران/164 ) و قوله : ( لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيِهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ ) ( التوبة/128 ). و قوله : ( كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولاً مِنْكُمْ يَتْلُوا عَلَيْكُم آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَ يُعَلِّمُكُمُ الكِتَابَ وَ الحِكْمَةَ وَ يُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ ) ( البقرة/151 ) إلى غير ذلك من الآيات التي وقع التنصيص فيها بكون الرسول من جنس البشر.

3 ـ نبذ سنّة الآباء :
    التشبّث بسيرة الآباء من الاُمور الجبلية للبشر ، خصوصاً فيمن يعيش في واحات الصحراء بعيداً عن الحضارة و أسبابها ، فقد كان العرب متعصّبين على مسلك آبائهم تعصّباً حال بينهم و بين الإيمان بالرسول بحجّة انّه يدعوا إلى خلاف سيرة آبائهم ، وفي ذلك يقول سبحانه : ( وَ إِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالُوا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللّهُ وَ إِلَى الرَّسُولِ قَالُوا حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيهِ آبَائَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لاَيَعْلَمُونَ شَيْئاً وَلايَهْتَدُونَ ) ( المائدة/104 ) وقدعرفت الكلام في ذلك عند البحث عن الدوافع الروحيّة التي منعتهم عن الإيمان إجمالاً.
1 ـ تفسير المراغي : ج15 ص97.

(156)
    و على ضوء ذلك كانوا يتعجّبون من جعل الآلهة المتعدّدة إلهاً واحداً ، فقدكان للعرب أصنام منصوبة على سطح الكعبة ، كاللات و العزّى و هبل ، و يعكفون على عبادتها ، فقال لهم النبي : يا معشر العرب ، أدعوكم إلى عبادة اللّه ، و خلع الأنداد والأصنام ، و أدعوكم إلى شهادة أن لا إله إلاّ اللّه ، فقالوا : أنَدَع ثلاث مائة و ستين إلهاً و نعبد إلهاً واحداً ، و إليه الإشارة في قوله سبحانه : ( وَ عَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ وَقَالَ الكَافِرُونَ هَذَا سَاحِرٌ كَذَّابٌ * أَجَعَلَ الآلهة إِلهَاً وَاحِداً إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ ) ( ص/4و5 ) (1).
    روى المفسّرون أنّ أشراف قريش و هم خمسة و عشرون منهم : الوليد بن المغيرة و هو أكبرهم ، و أبوجهل ، و اُبي و اُميّْة إبنا خلف ، و عتبة و شيبة ابنا ربيعة ، و النضر بن الحارث ، أتوا أباطالب ، و قالوا : أنت شيخنا و كبيرنا و قدأتيناك لتقضي بيننا و بين ابن أخيك ، فإنّه سفّه أحلامنا وشتم آلهتنا ، فدعا أبو طالب رسولاللّه وقال : يا بن أخي هؤلاء قومك يسألونك ، فقال : ما ذا يسألونني ؟ قالوا : دعنا وآلهتنا ، ندعك و إلهك ، فقال : أتعطوني كلمة تملكون بها العرب و العجم ؟ فقال أبو جهل للّه أبوك ، نعطيك ذلك عشر أمثالها ، فقال : قولوا لا إله إلاّ اللّه ، فقاموا وقالوا : أجعل الآلهة إلهاً واحداً ، و روي أنّ النبي استعبر ثمّ قال : يا عمّ واللّه لووضعت الشمس في يميني و القمر في شمالي ما تركت هذا القول حتى أنفذه أو اُقتل دونه ، فقال له أبوطالب : امض لأمرك فواللّه لاأخذلُك أبداً (2).

4 ـ الدعوة إلى الحياة الاُخروية
    كانت عرب الجاهلية خصوصاً المترفين منهم يخافون من سماع أخبار البعث و النشور ، و أنّ الإنسان سيبعث بعد موته و يحاسب و يجزى حسب أعماله ، و كان
1 ـ مناقب ابن شهر آشوب : ج1 ص49 ، بحار الأنوار : ج18 ص115 ، و لاحظ تاريخ الطبري : ج2 ص66.
2 ـ مجمع البيان : ج8 ص465.


(157)
هذا أحد الدوافع للإعراض عن الدعوة ، و قدجاء في الذكر الحكيم ما ذكروه في هذا المجال من الحجج الواهية ، و سنوافيك به عند البحث عن المعاد في الذكر الحكيم و نكتفي في هذا المقام ببعض الآيات ، فقال سبحانه : ( وَقَالُوا أَإِذَا ضَلَلْنَا فِى الأَرْضِ أَءِنَّا لَفِى خَلْق جَدِيد ) ( السجدة/10 ) ، و قال سبحانه : ( وَ قَالُوا أَإِذَا كُنَّا عِظَاماً وَرُفَاتاً أَءِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقَاً جَدِيداً ) ( الإسراء/98 ) ، و قال سبحانه : ( وَ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلَى رَجُل يُنَبِّئُكُمْ إِذَا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّق إِنَّكُمْ لَفِى خَلْق جَدِيد ) ( سبأ/7 ).
    و تعرب الآية الاُولى عن أنّهم كانوا يظنّون إنّ الموت إفناء للإنسان و اعدام واضمحلال له ، فكيف يمكن إحياؤه ثانياً ؟ و القرآن يجيب عنه بقوله سبحانه : ( قُلْيَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ المَوْتِ الَّذِى وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ ) ( السجدة/11 ). إنّالوفاء في الآية بمعنى الأخذ ، و حاصل الجواب : إنّ ملك الموت الذي وكّل بكم يأخذكم فلاتضلّون في الأرض ثمّ إلى ربّكم ترجعون.
    و بعبارة ثانية : إنّ الإنسان مركّب من جسم و روح فما يبقى في الأرض هو جسمه و ليس حقيقته و واقعيّته ، و أمّا حقيقة الإنسان فهي روحه و نفسه و هي محفوظة عندنا يأخذها ملك الموت فما بقي فهو غير حقيقته ، و ما هو واقعية الإنسان ( الروح ) ، و النفس فهي محفوظة عنداللّه غير ضالة في الأرض.
    قال العلاّمة الطباطبائي : « أمر سبحانه رسوله أن يجيب عن حجّتهم المبنيّة على الاسبتعاد بأنّ حقيقة الموت ليس بطلاناً لكم و ضلالاً منكم في الأرض ، بل ملك الموت الموكّل بكم يأخذكم تامّين كاملين من أجسادكم أي ينزع أرواحكم من أبدانكم بمعنى قطع علاقتها من الأبدان ، و أرواحكم تمام حقيقتكم ، فأنتم أي ما يعني لفطة « كم » محفوظون لايضل منكم شيء من الأرض ، و إنّما تضلّ الأبدان وتتغيّر من حال إلى حال ، و قدكانت في معرض التغيّر من أوّل كينونتها ، ثمّ إنّكم محفوظون حتّى ترجعوا إلى ربّكم بالبعث و رجوع الأرواح إلى أجسادها » (1).
1 ـ الميزان : ج16 ص252.

(158)
    و تعرب الآية الثانية عن أنّ سبب الإنكار هو تخيّل قصور القدرة و عدم إمكان البعث ، فكيف يمكن إحياء العظام الرميمة ؟ فردّ عليه سبحانه بقوله : ( أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللّهَ الَّذِى خَلَقَ السَّموَاتِ وَ الأَرْضَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُم ) ( الإسراء/99 ) فليس إحياء العظام الرميمة أكبر و أعظم من خلق السموات و الأرض ، فالقادر على خلقهما قادر على إحيائهم من جديد (1).

5 ـ طلب المشاركة في امتيازات النبوّة
    كان المشركون ـ لأجل قصور معارفهم عن درك مقام النبوّة السامي ، يطلبون المشاركة في أمر النبوّة ، فكان الوليد بن المغيرة يقول : لو كانت النبوّة حقّاً لكنت أولى بها منك ، لأنّي أكبر سنّا و أكثر منك مالاً! و قال أبوجهل : زاحمنا بني عبد مناف في الشرف حتى صرنا كفرسي رهان. قالوا منّا نبيّ يوحى إليه ، و اللّه لانؤمن به و لانتبعه أبداً إلاّ أن يأتينا وحي كما يأتيه (2).
    و إلى هذه الحجّة الواهية يشير قوله سبحانه حاكياً عنهم : ( وَ إِذَا جَاءَتْهُمْ آيَةٌ قَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتَى مِثْلَ مَا اُوتِىَ رُسُلُ اللّهِ ) ( الأنعام/124 ).
    إنّ كلامهم هذا ينمّ عن حقد دفين و عناد مستبطن فردّ عليهم سبحانه بقوله : ( اَللّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ ) ( الأنعام/124 ). فهو سبحانه أعلم منهم و من جميع الخلق بمن يصلح لتنفيذ رسالاته ، و يعلم من له الأهلية بتحمّل أعباء الرسالة.
     6 ـ المطالبة بمثل ما اُوتي سائر الرسل
    كان المشركون المتواجدون في عصر الرسالة بلغ مسامعهم بأنّ الكليم موسى
1 ـ قد جمعنا مجموع شبهاتهم الواهية في إمكان المعاد و تحقّقه في الجزء المختص بالمعاد و قد إكتفينا بهذا المقدار هنا روماً للإختصار.
2 ـ مجمع البيان : ج2 ص362 ( ط صيدا ).


(159)
بعث بمعاجز مثل العصا إذا رمى بها في مجال التحدّي تنقلب ثعباناً ، و بإدخال اليد في الجيب إذا أخرجها منه تكون بيضاء للناظرين ، فاعترضوا عليه ( صلى الله عليه وآله وسلم ) بأنّه يجب أن تكون حجّة رسالته كحجج الكليم موسى ( عليه السلام ) وقدحكى ذلك منهم سبحانه بقوله : ( فَلَمَّا جَاءَهُمْ الحَقُّ مِنْ عِنْدِنَا قَالُوا لَوْلاَ أُوتِىَ مِثْلَ مَا أُوتِىَ مُوْسَى ) ( القصص/48 ).
    و في آية اُخرى : ( وَ قَالُوا لَوْ لاَ نُزِّلَ عَلَيِهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّ اللّهَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يُنَزِّلَ آيَةً وَ لكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَيَعْلَمونَ ) ( الأنعام/37 ). و ربّما يحتجّ بهذا الإعتراض من في قلبه مرض من المستشرقين ، فيجب علينا تناوله بشيْء من الدراسة و التحليل لرفع ما فيه من الإيهام و الإبهام و ذلك من خلال جوابين مستفادين من القرآن الكريم :
    أ ـ إنّ هذا الإعتراض كان لمحض إختلاق المعاذير ، و الشاهد على ذلك إنّ هؤلاء المشركين وصفوا ما اُوتي الكليم بالسحر أيضاً ، فقد روى المفسّرون أنّ المشركين بعثوا رهطاً إلى رؤوس اليهود في عيد لهم فسألوهم عنه ( صلى الله عليه وآله وسلم ) فأخبروهم بنعته وصفته في كتابهم التوراة ، فرجع الرهط إلى قريش فأخبروهم بقول اليهود ، فقالوا عند ذلك : ( سِحْرَانِ تَظَاهَرَا ) و إليه يشير قوله سبحانه : ( أَوَلَمْيَكْفُرُوا بِمَا اُوتِىَ مُوْسَى مِنْ قَبْلُ قَالُوا سِحْرانِ تَظَاهَرَا وَ قَالُوا إنّا بِكُلّ كَافِرُونَ ) ( القصص/48 ).
    و يظهر من الآيات الواردة بعد هذه الآية أنّهم رجعوا إلى أهل الكتاب واستفتوهم في أمره و عرضوا عليهم بعض القرآن النازل عليه ، فأجابوا عنه بتصديقه والإيمان به ، فساء ذلك المشركين و أغلظ عليهم بالقول و أعرض الكتابيّون عنهم وقالوا : سلام عليكم لانبتغي الجاهلين. قال سبحانه : ( الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الكِتَابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ * وَ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ قَالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الحَقُّ مِنْ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ ... وَ إِذَا سَمِعُوا الْلَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَ قَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَ لَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ لانَبْتَغِى الجَاهِلِينَ ) ( القصص/52 ـ 55 ) (1).
1 ـ لاحظ التفاسير.

(160)
    ب ـ إنّ هؤلاء جاهلون بالحكمة في إختلاف المعاجز و الآيات التي تنزل على أنبياء اللّه تعالى و يزعمون أنّه يجب أن تكون معاجز الجميع على حد سواء مع أنّ المصالح تقتضي أن تختلف معاجز الأنبياء ذاتاً و سنخاً حتى تتم الحجّة على المرسل إليهم ، و تفصيل القول في ذلك إنّه يجب أن تكون معجزة كل نبي مجانسة للفن الرائج في عصره حتى إذا عرضت على مهرة ذلك الفن و خبرائه ، أذعنوا بتفوّقه على قدراتهم و طاقاتهم ، و الذي جاء به مدّعي النبوّة فوق حدود العلم و الفن الذي تمرّسوا فيه ، و هذا يقتضي كون المعجزة مسانخة لما برعوا فيه في ذلك العصر إذ لوكان مغايراً و مفارقاً لما تمّت الحجة و لما اُلزموا بها إذ بوسعهم أن يعترضوا ويقولون : لاخبرة بشأن ما اُتيت به ، فكيف لنا التحدّي و المناجزة أو التصديق بأنّ ما جئت به معجزة إلهية تفوق قدرة البشر ، فاقتضت المصلحة تسانخ المعاجز للفنون الرائجة في عصر كل نبي.
    و قدبلغ فن السحر و الشعبذة في عصر الكليم موسى الذروة و القمّة كما اكتسب الطب في عصر المسيح أهميّة بالغة ، فجاء الكليم موسى بالعصا و اليد البيضاء فأبطل سحرهم و أثبت أنّ ما أتى به معجزة تفوق حد السحر و إن كان بينهما مشاكلة في الصورة و لكنّها تباينه بالذات ، كما أنّ المسيح بابراء الأكمه و الأبرص وإحياء الموتى كان قدأثبت أنّ ما أتى به فوق علمهم و طاقتهم و براعتهم ، و خارج عن الموازين الطبيعية التي كانوا يعتمدونها في الإبراء و المداواة.
    فنفس تلك المصلحة تتطلّب أن تكون معجزة النبي الأكرم مشابهة لما برع فيه العرب في العصر الجاهلي لأنّه كان قدراج بينهم إنشاء الخطب البليغة الفصيحة ونظم الشعر و التحدّي بينهم في ذلك ، فجاء بكتاب متحدّياً بصريح نصّه : ( وَ إِنْ كُنْتُمْ فِى رَيْب مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَة مِنْ مِثْلِهِ وَ ادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ * فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَ لَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِى وَ قُودُهَا النَّاسُ وَالحِجَارَةُ اُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ ) ( البقرة/23و24 ).
    و إلى هذا الجواب يشير قوله سبحانه في ذيل الآية التي نبحث عنها :
مفاهيم القرآن ـ جلد السابع ::: فهرس