مفاهيم القرآن ـ جلد السابع ::: 161 ـ 170
(161)
    ( قُلْ فَاتْوا بكَتاب مِنْ عِنْدِ اللّهِ هُوَ أهدى مِنْهُمَا (1) اَتّبِعْهُ اِنْ كُنْتُمْ صَادقِينَ ) ( القصص/49 ).
    ويدلّ على هذه الحقيقة مضافاً إلى ذلك ما روي عن أبي السكيت أنّه قال لأبي الحسن الرضا ( عليه السلام ) :
    « لماذا بعث اللّه موسى بن عمران ( عليه السلام ) بالعصا ، و يده البيضاء ، و آلة السحر ؟ وبعث عيسى بآلة الطب ؟ وبعث محمداً ( صلى الله عليه وآله وسلم ) وعلى جميع الأنبياء ـ بالكلام والخطب ؟.
    فقال أبو الحسن ( عليه السلام ) : إنّ اللّه لمّا بعث موسى ( عليه السلام ) كان الغالب على أهل عصره السحر ، فأتاهم من عند اللّه بما لم يكن في وسعهم مثله ، وما أبطل به سحرهم ، وأثبت به الحجة عليهم. وإنّ اللّه بعث عيسى ( عليه السلام ) في وقت قد ظهرت فيه الزمانات ، واحتاج النّاس إلى الطب ، فأتاهم من عند اللّه بما لميكن عندهم مثله ، وبما أحيى لهم الموتى ، وأبرأ الأكمه والأبرص بإذن اللّه ، وأثبت به الحجّة عليهم.
    وإنّ اللّه بعث محمد ( صلى الله عليه وآله وسلم ) في وقت كان الغالب على أهل عصره الخطب والكلام. وأظنّه قال : الشعر ، فأتاهم من عند اللّه من مواعظه وحكمه ما أبطل به قولهم ، وأثبت به الحجّة عليهم » (2).
    أضف إلى ذلك إنّ نبوّة الرسول الأكرم نبوّة خالدة ورسالته رسالة أبدية فهو خاتم الأنبياء والمرسلين كما أنّ كتابه خاتم الكتب ، ورسالته خاتمة الرسالات ، فيجب أن تقترن الرسالة الأبديّة بمعجزة خالدة حتّى تتمّ الحجّة على مرّ الأجيال والعصور ، ولا يختلق الجاهل عذراً يبرّر له رفضه لتلك الرسالة بعد رحيل الصادع بها ، وتباعد العهد وطول الشقّة الزمنيّة.
1 ـ الضمير راجع إلى التوراة و القرآن.
2 ـ الكافي : ج1 « كتاب العقل و الجهل » الرواية20.


(162)
    كلّ ذلك كان حافزاً لدعم دعوة النبيّ ( صلى الله عليه وآله وسلم ) بالقرآن الكريم الّذي ما أفلت أنواره منذ أن بزغ نجمه في أوّل مرّة.

7 ـ لماذا لا ينزلّ عليه ملك ؟!
    وهذا الإعتراض يحكيه عنهم قوله سبحانه : ( وَقَالُوا لَوْلا اُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ ) ( الأنعام/8 ) وما كانوا يقصدون به أنّه لماذا لا ينزل الملك إليه ( صلى الله عليه وآله وسلم ) فإنّه كان يدّعي نزول الملك عليه والقرآن أيضاً يصدّقه في ذلك بقوله : ( نَزَلَ بِهِ الُّروحُ الأَمِينُ * عَلَى قَلْبِكَ لِتَكونَ مِنَ المُنْذِرينَ ) ( الشعراء/193 و 194 ).
    وقال سبحانه : ( إِنّهُ لَقَوْلُ رَسُول كَرِيم * ذِي قُوّة عِنْدَ ذِي العَرْشِ مَكيِن * مُطَاع ثَمّ اَمِين ) ( التكوير/19 ـ 21 ) إلى غير ذلك من الآيات الصريحة في أنّ الوحي ينزل على النّبيّ بتوسّط الملك ، ومع هذا التصريح فما معنى قوله : ( لَوْلاَ اُنْزِلَ علَيْهِ مَلَكٌ ) ؟.
    أقول : إنّ الاقتراحات الّتي تقدّم بها المشركون في نزول الملك معه أو إليه كانت على أنحاء :
    الأوّل : إنّهم كانوا يطلبون المشاركة في امتيازات مقام النبوّة ويقولون : إنّه لوصحّ نزول الملك على النبيّ فلماذا لا ينزل علينا مباشرة على جهة الاستقلال ؟ وقدورد في ذلك آيات نحو قوله تعالى : ( وَقَالَ الّذِينَ لاَ يَرْجُونَ لِقَاءنَا لَوْلاَ اُنْزِلَ عَلَيْنَا المَلائِكَةُ اَوْ نَرىَ رَبّنَا ) ( الفرقان/21 ) وقال سبحانه : ( اِذْ جَاءَتْهُمُ الرُّسُلُ مِنْ بَيْنِ اَيْدِيْهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ اَلاّ تَعْبُدُوا إلاّ اللّهَ قَالُوا لَوْ شاءَ رَبُّنَا لأنْزَلَ مَلائكَةً فَانّا بِمَا اُرْسلْتُمْ به كَافِرُونَ ) ( فصّلت/14 ).
    إنّ هذا القسم من الآيات مبني على إعتقادهم بأنّه لا يصحّ لأحد من البشر ولوكان أرقاهم عقلاً وخلقاً وأدباً أن يكون رسولاً وواسطة بين اللّه و عباده ، لأنّهم يأكلون ويشربون وفي ذلك قال سبحانه حاكياً عنهم : ( مَا هَذا إلاّ بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يَاْكُلُ مِمّا تَاكُلُونَ مِنْهُ ويَشْرَبُ مِمّا تَشْرِبُونَ * وَلَئنْ اَطعْتُمْ بَشَراً مِثْلَكُمْ اِنّكُمْ اذاً


(163)
لَخَاسِرونَ ) ( المؤمنون/33 ـ 34 ).
    الثاني : كانوا يطلبون أن ينزل مع النّبيّ ملك يصدّقه ، وقد ورد هذا المعنى في عدّة آيات ، قال سبحانه : ( وَقَالُوا مَا لِهذَا الرّسُولِ يَأكُلُ الطّعامَ وَيمشِي فِي الأسْواقِ لَوْلا أُنْزِلَ اِليْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيراً ) ( الفرقان/7 ) فالغاية من نزول الملك إلى النبي كونه نذيراً معه ومصدّقاً له ، قال سبحانه : ( فَلوْلاَ اُلْقِيَ عَلَيْهِ اَسْوِرةٌ مِنْ ذَهَب أوْ جَاءَ مَعَهُ المَلائِكةُ مُقترِنيِنَ ) ( الزخرف/53 ) وقال سبحانه : ( فَلَعَلَّكَ تَاركٌ بَعْضَ مَا يُوْحَى اِليْكَ وضَائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ اَنْ يَقُولُوا لَوْلا اُنْزِلَ عَلَيْهِ كَنْزٌ أوْ جَاءَ مَعَه مَلَكٌ اِنّما اَنْتَ نَذِيرٌ وَاللّهُ عَلَى كُلّ شَيء وَكيِلٌ ) ( هود/12 ).
    وعلى ذلك يحمل قوله سبحانه : ( وَقَالُوا لَوْلا اُنْزِلَ عَلَيْه مَلَكٌ وَلَوْ اَنْزِلْنَا مَلَكاً لَقُضِيَ الأَمْرُ ثُمّ لاَ يُنْظرُونَ ) ( الأنعام/8 ).
    ويحتمل أن يكون المراد مشاهدة الملك معه فقط سواء أنذر معه أو لا ؟ فيدخل في القسم الثالث الآتي.
    ثمّ إنّ إنزال الملك مع النبيّ ليصدّق دعوته وينذر معه يتصوّر على وجهين :
    أ ـ أن ينزل الملك بصورته الواقعية ـ وسيوافيك في القسم الثالث ـ إنّ نتيجة ذلك هو موت المنذرين لأنّهم لا يحتملون رؤيته ومشاهدته بحسب طاقتهم البشريّة إلاّ بالانسلاخ عن الماديّة والإنتقال إلى مرحلة أعلى منها.
    ب ـ أن ينزل الملك لا بصورته الواقعيّة بل يتمثّل بصورة إنسان وهذا لا يفيد شيئاً لأنّهم باستطاعتهم أن يتّهمونه بأنّه بشر مثل النبيّ وليس بملك.
    وبعبارة اُخرى : لو جعله ملكاً في صورة بشر لجزموا ببشريّته لأنّهم لا يدركون منه إلاّ صورته الظاهرية وصفاته البشريّة التي تمثّل بها ، وحينئذ لا يصدّقونه ويرجع الأمر كما كان في بادي ذي بدء ، وإليه يشير قوله سبحانه : ( وَلَوْ جَعَلنَاهُ مَلَكاً لَجَعلْنَاهُ رَجُلاً وَللَبَسْنَا عَليْهِمْ مَا يَلْبِسُونَ ) ( الأنعام/9 ) أي لكان يلحقهم فيه من اللبس مثل ما


(164)
لحق ، وهذا إحتجاج عليهم بأنّ الّذي طلبوه لا يزيدهم بياناً بل يكون الأمر عبثاً ولغواً لا طائل وراءه (1).
    الثالث : كانوا يطلبون مشاهدة الملك عياناً على أن يكون الإتيان بالملك ، احدى معاجزه مثل قوله سبحانه : ( اَوْ تَأتِيَ بِاللّهِ والمَلائِكَةِ قَبيلاً ) ( الإسراء/92 ) ، قال سبحانه : ( لَوْ مَا تَاْتِيْنَا بِالمَلائكَةِ اِنْ كُنْتَ مِنَ الصّادِقينَ ) ( الحجر/7 ) ، قال سبحانه : ( وَلَوْ أنّنا نَزّلنَا اِليْهِمُ المَلائِكَةَ وَكَلّمَهُمُ المَوتَى وَحَشَرنْا عَليْهِمْ كُلّ شَيء قُبُلاً مَا كَانُوا لِيُؤمِنُوا اِلاّ أنْ يَشَاءَ اللّهُ وَلَكِنّ أكْثَرهُمْ يَجْهلُونَ ) ( الأنعام/111 ).
    ويرد القرآن على هذا الاحتجاج : ( وَلَوْ أنْزَلْنَا مَلَكاً لَقُضِيَ الأَمْرُ ثُمّ لا يُنْظرُونَ ) ( الأنعام/8 ) أي يكون هلاكهم قطعيّاً على ما يوضّحه النص التالي :
    إنّ نفوس المتوغّلين في عالم المادّة لا تطيق مشاهدة الملائكة لو نزلوا عليهم واختلطوا بهم لكون ظرفهم غير ظرف الملائكة فلو إرتفع الناس إلى المرتبة الوجودية للملائكة لم يكن ذلك إلاّ إنتقالاً منهم من حضيض المادة إلى ذروة ما وراءها وهو الموت كما قال تعالى : ( وَقَالَ الّذِينَ لاَ يَرجُونَ لِقاءَناَ لَوْلاَ أُنْزِلَ عَلَيْنَا المَلائِكةُ أوْ نَرَى رَبّنَا لَقَد إسّتَكبَرُوا فِي أنْفُسِهمْ وَعَتَوْ عُتُوّاً كَبِيراً * يَوْمَ يَرَوْنَ المَلائِكَةَ لاَ بُشّرَى يَوْمئِذ لَلْمُجرِمِينَ وَيَقُولُونَ حِجْراً مَحْجُوراً ) ( الفرقان/21 و 22 ) (2). قال ابن عباس : ولوأتاهم ملك في صورته لأهلكناهم ثمّ لا يؤخّرون (3).

8 ـ التفاؤل بغلبة فارس على الروم
    قد نشبت حرب دامية بين الروم والفرس ، والنبيّ والمسلمون بمكّة حوالي سنة سبع من البعثة ، فغلبت الفرس على الروم فتفألت بذلك قريش بحجّة أنّ الفرس
1 ـ مجمع البيان : ج2 ص 76و77.
2 ـ الميزان : ج7 ص16.
3 ـ دلائل النبوّة للبيهقي : ج2 ص 332.


(165)
وثنيّون والروم أهل كتاب فقالوا : الروم أهل كتاب وقد غلبتهم الفرس وأنتم تزعمون أنّكم ستغلبون بالكتاب الّذي اُنزل على نبيكم فسنغلبكم كما غلبت فارس الروم ، فأنزل اللّه سبحانه : ( الم * غُلِبَتِ الرُّومُ * فِي اَدنى اَلأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعَدِ غَلَبِهِمْ سَيَغلِبُونَ * فَي بِضْعِ سِنِينَ للّهِ الاَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعَدُ وَيوْمَئذ يَفْرَحُ المُؤمِنُونَ * بِنْصرِ اللّهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشاءُ وَهُوَ العَزِيزُ الرّحِيمُ ) ( الروم/1 ـ 5 ).
    والآية تتضمن خبراً غيبياً بل خبرين حيث يخبر عن غلبة الروم على الفرس أوّلاً في بضع سنين أي في مدة لا تتجاوز تسع سنين ، وانّه في ذلك اليوم ينزل النصر على المؤمنين أيضاً وقد تحقّق الخبران يوم ظهر المسلمون على مشركي قريش يوم بدر. قال عطية : وسألت أبا سعيد الخدري عن ذلك فقال التقينا مع رسول اللّه ومشركي العرب ، و التقت الروم وفارس فنصرنا اللّه على مشركي العرب ونصر أهل الكتاب على المجوس ففرحنا بنصر اللّه إيّانا على مشركي العرب ونصر أهل الكتاب على المجوس ، وذلك قوله : ( يَوْمئِذ يَفْرَحُ المُؤمِنُونَ بِنَصْرِ اللّه ) (1).

9 ـ طلب رفع العذاب
    لمّا رأى رسول اللّه ( صلى الله عليه وآله وسلم ) من الناس إدباراً فقال : اللّهمّ سبع كسبع يوسف ، فأخذتهم سنة حتى أكلوا الميتة والجلود والعظام ، فجاءه أبو سفيان وناس من أهل مكّة فقالوا يا محمّد ، إنّك تزعم أنّك بعثت رحمة وأنّ قومك قدهلكوا فادع اللّه لهم ، فدعا رسول اللّه فسقوا فأطبقت عليهم سبعاً ، فشكى الناس كثرة المطر ، فقال : اللّهمّ حوالينا ولا علينا ،. فانحدرت السحابة عن رأسه فسقى الناس حولهم (2).
    وروى السيوطي : إنّ قريشاً لمّا استعصيت على رسول اللّه وأبطأؤا عن الإسلام قال : اللّهمّ أعنّي عليهم بسبع كسبع يوسف فأصابهم جهد وقحط حتّى أكلوا العظام
1 ـ مجمع البيان : ج4 ص295.
2 ـ دلائل النبوّة : ج2 ص326.


(166)
فجعل ينظر إلى السماء فيرى ما بينه وبينها كهيئة الدخان من الجوع فأنزل اللّه : ( فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَاتِي السّمَاءُ بِدُخان مُبِين * يَغْشَى النّاسَ هَذا عَذابٌ اَلِيمٌ ) ( الدخان/10 و11 ) فأتى النبيّ فقيل : يا رسول اللّه استسق اللّه لمضر ، فاستسقى لهم فسقوا فأنزل اللّه : ( اِنّا كَاشِفُوا العَذابِ قَليِلاً اِنّكُمْ عائِدُونَ ) ( الدخان/15 ) ، فلمّا أصابتهم الرفاهية عادوا إلى حالهم فأنزل اللّه : ( يَوْمَنَبْطِش البَطْشَة الكُبُرى اِنّا مُنْتَقِمُونَ ) ( الدخان/16 ) فانتقم اللّه منهم يوم بدر (1).

10 ـ كيف يمكن إحياء العظام البالية ؟
    مشى اُبي بن خلف إلى رسول اللّه بعظم بال قد اُرفت فقال : يا محمّد إنّك تزعم أنّ اللّه يبعث هذا بعدما أرم ؟ ثمّ فتّه بيده ، ثمّ نفخه في الريح ، فقال رسول اللّه : نعم أنا أقول ذلك ، يبعثه اللّه وإيّاك بعدما تكون هكذا ثمّ يدخلك اللّه النار ، فأنزل اللّه تعالى فيه : ( وَضَربَ لَنَا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحيِي العِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ * قُلْ يُحيِيهَا الّذي اَنشأهَا أَوّلَ مَرّة وَهُوَ بِكلِّ خَلْق عَلِيمٌ * الّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشّجَرِ الاَخْضَرِ نَاراً فَاذِا اَنْتُم مِنْهُ تُوقِدُونَ ) ( يس/78 ـ 80 ) (2).
     11 ـ هل المسيح حصب جهنّم ؟!
    جلس رسول اللّه مع الوليد ين المغيرة في المسجد فجاء النضر بن الحارث ، حتّى جلس معهم في المجلس وفي المجلس غير واحد من رجال قريش فتكلّم رسول اللّه ، فعرض له النضر بن الحارث ، فكلّمه رسول اللّه حتّى أفحمه ثمّ تلى عليه وعليهم : ( اِنّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دونِ اللّهِ حَصَبُ جَهَنّمَ اَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ * لَوْ كَانَ
1 ـ الدر المنثور : ج6 ص28.
2 ـ السيرة النبويّة لابن هشام : ج1 ص361و362. و سيوافيك جميع حججهم الواهية حول المعاد في الجزء المختص به بإذن اللّه ، و لذلك آثرنا في المقام الإختصار.


(167)
هَؤُلاءِ آلِهَةَ مَا وَردُوهَا وَكُلٌ فِيْهَا خَالِدُونَ * لَهُمْ فِيهَا زَفيِرٌ وَهُمْ فِيهَا لاَ يَسْمَعُونَ ) ( الأنبياء/98 ـ 100 ).
    فأقبل عبد اللّه بن الزبعري السهمي حتّى جلس فقال الوليد بن مغيرة لعبد اللّه ابن الزبعري : واللّه قد زعم محمّد إنّا وما نعبد من آلهتنا هذه حصب جهنّم. فقال عبد اللّه بن الزبعري : أمّا واللّه لو وجدته لخصمته ، فسلوا محمداً أكلُّ ما يعبد من دون اللّه في جهنّم مع من عبده ؟ فنحن نعبد الملائكة ، واليهود تعبد عزيراً ، والنّصارى تعبد عيسى بن مريم ، فعجب الوليد ومع من كان معه في المجلس من قول عبد اللّه بن الزبعري ورأوا أنّه قد احتجّ وخاصم فذكر ذلك لرسول اللّه من قول ابن الزبعري .... فأنزل اللّه تعالى عليه : ( اِنّ الّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنّا الحُسْنَى اُؤلئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ * لاَيَسْمَعُونَ حَسِيْسَهَا وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ اَنْفُسُهُمْ خَالِدُونَ ) ( الأنبياء/101و102 ) أي عيسى بن مريم وعزيراً ومن عبدوا من الأحبار والرهبان الذين مضوا على طاعة اللّه فاتّخذهم من يعبدهم من أهل الضلالة أرباباً من دون اللّه.
    فنزل فيما يذكرون أنّهم يعبدون الملائكة ، وإنّهنَّ بنات اللّه : ( وَقَالُوا اتّخذ الرّحْمنُ وَلداً سُبحانَهُ بَلْ عِبادٌ مُكْرَمُونَ * لاَ يَسْبِقُونَهُ بِالقَوْلِ وَهَمْ بِأمْرِهِ يَعْملُونَ ... ـ إلى قوله ـ وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إنِّى اِلهٌ مِنْ دُوِنهِ فَذَلِكَ نجْزِيِهِ جهَنَّمَ كَذَلِكَ نَجْزِي الظّالِمينَ ) ( الأنبياء/26 ـ 29 ).
    ونزل في ما ذكر من أمر عيسى بن مريم أنّه يعبد من دون اللّه. وعجب الوليد ومن حضر من حجّته وخصومه ( وَلَمّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيمَ مَثَلاً اِذا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصدُّونَ * إنْ هُوَ اِلاّ عَبْدٌ ا َنْعَمْنَا عَلَيْهِ وَجَعَلْنَاهُ مَثَلاً لِبَنِي اِسرائِيلَ * و َلَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَا مِنْكُمْ مَلائِكة فِي الأَرْضِ يَخْلُفُونَ * وَ اِنّهُ لَعِلْمٌ للِسّاعَةِ فَلا تَمْتَرُنّ بِهَا وَاتّبِعُونِي هَذا صِراطٌ مُسْتقِيمٌ ) ( الزخرف/57 و 59 ـ 61 ).


(168)
خاتمة المطاف :
دعاء النّبيّ على سبعة من قريش

    استقبل رسول اللّه البيت فدعا على نفر من قريش سبعة فيهم أبو جهل ، واُميّة ابن خلف ، وعتبة بن ربيعةوشيبة بن ربيعة ، وعتبة بن أبي معيط ، قال عبد اللّه بن مسعود اُقسم باللّه لقد رأيتهم صرعى على بدر ، قد غيّرتهم الشمس وكان يوماً حارّاً (1).
    وقد نزلت آيات في حقّهم وحقّ غيرهم تقدّم بعضها وإليك البقية الباقية منها :
    1 ـ لمّا أرادت قريش البطش بالنبيّ أخذوا يتناولونه بالنبز واللمز والهمز وصور الاستهزاء المختلفة وجعل القرآن ينزل في قريش يخبر عن أعمالهم وعدائهم ، فمنهم من سمّي لنا ، ومنهم من لم يسمّ ، وممّن سمّي لنا من قريش عمّه أبو لهب بن عبد المطلب وامرأته اُم جميل بنت حرب بن اُميّة ، حمّالة الحطب ، وإنّما سمّاها اللّه تعالى حمّالة الحطب ، لأنّها كانت ـ تحمل الشوك فتطرحه على طريق رسول اللّه ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ـ حيث يمرّ ، فأنزل اللّه تعالى فيهما : ( تَبّت يَدَا أبِي لَهَب وَتَبْ * مَا أغنَى عَنهُ مَالهُ ومَا كَسَبَ * سَيَصلَى نَاراً ذَاتَ لَهَب * و امْرأتُهُ حَمّالَةَ الحَطَبِ * فِي جِيدِهَا حَبلٌ مِّن مّسد ) (2).
    2 ـ إنّ اُميّة بن خلف كان إذا رأى رسول اللّه ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ، وهمزه و لمزه ، فأنزل اللّه تعالى فيه : ( وَيْلٌ لِكُلّ هُمَزَة لُمَزَة * الّذي جَمَعَ مَالاً وعَدّدهُ * يَحْسَبُ اَنّ مَالهُ اَخلَدَهُ * كَلاّ لَيُنْبَذَنّ فِي الحُطَمَةِ * وَمَا اَدْراكَ مَا الحُطَمَةُ * نَارُ اللّهِ المُوقَدَةُ * الّتي تَطَّلِعُ عَلَى الاَفْئدِةِ * اِنّها عَلَيْهِم مُؤصَدَةٌ * فِي عَمَد مُمَدّدة ) ( الهمزة/1 ـ 9 ) (3).
1 ـ دلائل النبوة : ج2 ص335.
2 ـ السيرة النبوية لابن هشام : ج1 ص355.
3 ـ المصدر السابق : ج1 ص356.


(169)
    3 ـ لقى أبو جهل بن هشام رسول اللّه فقال له : واللّه يا محمّد لتتركنّ سب آلهتنا أو لنسبنّ إلهك الذي تعبد ، فأنزل اللّه تعالى : ( وَلاَ تَسُبّوا الّذِينَ يَدعُونَ مِن دُونِ اللّهِ فَيَسِبُّوا اللّه عَدْواً بِغيْرِ عِلْم ) ( الأنعام/108 ) (1).
    لمّا نزل قوله سبحانه : ( سَاُصْليهِ سَقرَ * ومَا أَدْراكَ مَا سَقَرُ * لاَ تُبْقي وَلا تَذَرُ * لوّاحَةٌ لِلْبَشرِ * علَيْهَا تِسْعةَ عَشَرَ ) ( المدثر/26 ـ 30 ) ، قال أبو جهل لقريش : ثكلتكم اُمّهاتكم أتسمعون ابن أبي كبيشة يخبركم بأنّ خزنة النار تسعة عشر وأنتم الدهم الشجعان ، أفيعجز كل عشرة منكم أن يبطشوا برجل من خزنة جهنّم ، فقال أبو الأسد الجمحي : أنا أكفيكم سبعة عشر ، عشرة على ظهري ، وسبعة على بطني ، فاكفوني أنتم اثنين ، فنزل قوله : ( وَمَا جَعَلْنَا اَصْحَابَ النّارِ اِلاّ مَلائِكةً وَمَا جَعَلْنَا عِدّتَهُمْ اِلاّ فِنْتنَةً لِلذِينَ كَفَرُوا لِيسْتَيْقنَ الّذِينَ اُوتُوا الكِتَابَ وَيَزْدَادَ الّذينَ آمَنُوا اِيماناً ) ( المدثر/31 ) (2).
    لمّا ذكر اللّه عزّ وجلّ شجرة الزقوم ترهيباً بها و قال : ( اَذَلِكَ خَيْرٌ نُزُلاً اَمْ شَجَرةُ الزّقُّوم * اِنّا جَعَلْنَاهَا فِتْنَةً لِلظّالِمِينَ * اِنّهَا شَجَرَةٌ تَخرُج فِي اَصْلِ الجَحِيمِ * طَلْعُهَا كَانّهُ رُؤوسُ الشّياطِينِ * فَانّهُمْ لآكِلُونَ مِنْهَا فَمَالِئُونَ مِنْهَا البُطُونَ * ثُمّ اِنَّ لَهُمْ عَلَيْهَا لَشَوْباً مِنْ حَمِيم * ثُمّ اِنّ مَرجِعَهُمْ لاَلى الجَحيمِ ) ( الصافات/62 ـ 68 ).
    قال أبو جهل : يا معشر قريش ، هل تدرون ما شجرة الزّقوم ا لّتي يخوّفكم بها محمّد ؟ قالوا : لا ، قال : عجوة يثرب بالزبد ، واللّه لئن استمكنّا منها لنتزقمنّها تزقّماً. فأنزل اللّه تعالى فيه : ( اِنّ شَجَرةَ الزّقُّومِ * طَعَامٌ الاَثِيمِ * كَالمُهْلِ يَغْلِي فِي البُطُونِ * كَغَلْي الحَمِيمِ ) ( الدخان/43 ـ 46 ).
1 ـ المصد السابق : ج1 ص357.
2 ـ لاحظ مجمع البيان : ج5 ص388. و الميزان : ج20 ص170 ، و المقصود ما أخبرنا عن عدّتهم انّها تسعة عشر إلاّ ليكون فتنة للذين كفروا ، و في الوقت نفسه يكون سبباً لاستيقان أهل الكتاب ، لأنّهم يجدونه موافقًا لما جاء في كتابهم كما يكون سبباً لزيادة إيمان المؤمنين بسبب ما يجدون من تصديق أهل الكتاب ذلك.


(170)
    قال ابن هشام : المهل كلّ شيء أذبته من نحاس أو رصاص ، أو ما أشبه ذلك ، فيما أخبرني أبا عبيدة : قال : كان عبد اللّه بن مسعود والياً لعمر بن الخطاب على بيت مال الكوفة وأنّه أمر يوماً بفضة فاُذيبت فجعلت تلوّن ألواناً ، فقال : هل بالباب من أحد ؟ قالوا : نعم. قال : فاُدخلوهم ، فاُدخلوا ، فقال : إنّ أدنى ما أنتم راوون شبهاً بالمهل كهذا (1).
    4 ـ إنّ اُبي بن خلف وعقبة بن أبي معيط كانا متصافيين حسناً ما بينهما ، فكان عقبة قد جلس إلى رسول اللّه ( صلى الله عليه وآله وسلم ) وسمع منه ، فبلغ ذلك اُبيّاً ، فأتى عقبة فقال ( له ) : ألم يبلغني إنّك جالست محمّداً و سمعت منه وجهي من وجهك حرام أن اُكلّمك ـ واستغلظ من اليمين ـ إن أنت جلست إليه أو سمعت منه ، أو لم تأته فتتفل في وجهه. ففعل ذلك عدو اللّه عقبة بن أبي معيط لعنه اللّه. فأنزل اللّه تعالى فيهما : ( وَيَوْمَ يَعَضُّ الظّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يِقُولُ يَاليْتَنِي اتّخذْتُ مَعَ الرّسُولِ سَبيلاً ... إلى وقوله تعالى : ( لِلإنْسَانِ خَذُولاً ) ( الفرقان/27 ـ 29 ).
    5 ـ ابن أخنس بن شريف الذهبي حليف بني زهرة ، كان من أشراف القوم وممّن يستمع منه ، وكان يصيب من رسول اللّه ويرد عليه ، فأنزل اللّه تعالى فيه : ( وَلاَتُطِعْ كُلّ حَلاّف مَهِين * هَمّاز مَشّاء بِنَمِيم * مَنّاع لِلخَيْرِ مُعْتَد اَثيِم * عُتُلّ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيِم ) ( القلم/10 ـ 13 ).
    قال ابن هشام : ولم يقل « زنيم » لعيب في نسبه وإنّ اللّه لا يعيب أحداً بنسب ولكنّه حقّق بذلك نعته ليعرف ، والزنيم العديد ( الدعيّ ) للقوم (2).
    6 ـ إنّ العاص بن وائل كان من أعداء النبيّ وكان خبّاب بن الأرتّ ، صاحب رسول اللّه ( صلى الله عليه وآله وسلم ) قيناً بمكّة يعمل السيوف ، و كان قد باع من العاص بن وائل سيوفاً عملها له حتى كان عليه مال ، فجاءه يتقاضى ، فقال له
1 ـ السيرة النبوية : ج1 ص362و363.
2 ـ السيرة النبويّة لابن هشام : ج1 ص360.
مفاهيم القرآن ـ جلد السابع ::: فهرس