مفاهيم القرآن ـ جلد السابع ::: 241 ـ 250
(241)
المقالة هم جمهور النصارى من الملكانية و اليعقوبية ، و النسطورية و المقصود أنّه أحد الثلاثة : الأب و الابن و روح القدس أي أنّه ينطبق على كل واحد من الثلاثة وهذا لازم قولهم : إنّ الأب إله ، و الابن إله ، و الروح إله ، و هو ثلاثة و هو واحد ، ويمثّلون لذلك بقولهم : إنّ زيدبن عمرو إنسان فهناك اُمور ثلاثة هي زيد ، و ابن عمرو و الإنسان ، و هناك أمر واحد و هو المنعوت بهذه النعوت.
    و يلاحط عليه : إنّ هذه الكثرة إن كانت حقيقية غير إعتبارية أوجبت الكثرة في المنعوت حقيقة ، و إنّ المنعوت إن كان واحداً حقيقة أوجب ذلك أن تكون الكثرة إعتباريّة غير حقيقيّة ، فالجمع بين هذه الكثرة العددية و الوحدة العددية كما في المثال بحسب الحقيقة ممّا يستنكف العقل عن تعقله.
    و لأجل ذلك التجأ دعاة النصارى في الآونة الأخيرة إلى القول بأنّ مسألة التثليث من المسائل المأثورة من مذاهب الاثلاث و هي لاتخضع للموازين العلميّة (1).
    و قد ردّ الذكر الحكيم على ذلك بقوله : ( وَ مَا مِنْ إِلِه إِلاَّ إِلَهٌ وَاحِدٌ ... ) ببيان أنّ اللّه سبحانه لايقبل بذاته المتعالية ، الكثرة بوجه من الوجوه فهو تعالى ذاته واحد وإذا اتّصف بصفاته الكريمة و أسمائه الحسنى لم يزد ذلك على ذاته الواحدة شيئاً ، و لا الصفة إذا اُضيفت إليها أورثت كثرة و تعدّداً ، فهو تعالى أحديّ الذات لاينقسم لا في خارج و لافي وهم و لا في عقل.
    و يستفاد من قوله : ( وَ إِنْ لَمْ يَتْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ) بحكم الإتيان بلفظ ( منهم ) المشعرة بالتبعيض ـ ، إنّ هناك طائفة لايعتقدون بالتثليث و لايقولون في المسيح إلاّ إنّه عبد اللّه و رسوله كما عليه مسيحيّة الحبشة بعضهم أو جلّهم.
1 ـ الميزان : ج4 ص70.

(242)
مشكلة الجمع بين التوحيد و التثليث :
    إنّ المسيحيّين يعتبرون أنفسهم موّحدين و إنّهم من المقتفين أثر التوحيد الذي جاءت به جميع الشرائع السماوية ، و من جانب آخر يعتقدون بالتثليث إعتقاداً جازماً ، و هذان لايجتمعان إلاّ أن يكون أحد الوصفين حقيقيّاً و الآخر مجازيّاً ولكنّهم ياللأسف يقولون بكونهما معاً حقيقيين ، و لأجل ذلك أصبحت عندهم : 1=3 و هو محال ببداهة العقل.
    و القرآن الكريم ينسب التثليث إلى أقوام آخرين كانوا قبل المسيح و المسيحيّة و هؤلاء إنّما اتّبعوا اُولئك ، و لعلّ الثالوث الهندي هو الأصل حيث يعتقدون بأنّ الإله الواحد له مظاهر ثلاثة : « برهما » : « الموجد » ، و « فيشفو » : « الحافظ » ، و « سيفا » : « المميت » فقد دان بتلك العقيدة المسيحيّون بعد رفع المسيح آماد متطاولة ، ولمّاجاء المتأخّرون منهم و رأوا أنّ الوحدة الحقيقية لاتخضع للكثرة كذلك حاولوا أن يصحّحوه بوجهين :
    الأوّل : تفكيك المسائل الدينية عن المسائل العلميّة و أنّ الدين فوق العلم وأن مسألة 1=3 و إن كانت باطلة حسب القوانين الرياضية المسلّمة و لكن الدين قبلها ونحن نعتقد بها. و لكنّه عذر أقبح من ذنب فكيف نعتنق ديناً يتصادم مع أوضح الواضحات و أبده البديهيّات.
    الثاني : إنّ المعادلة الرياضية السابقة ليست باطلة و ذلك لوجود نظائرها في الخارج ، فإنّ الشمس بها جرم و لها نور و لها حرارة و مع ذلك فهي شيء واحد.
    و هذا الإستدلال يكشف عن جهل مطبق بحقيقة الوحدة المعتبرة في حقه سبحانه فإنّ المقصود منها في حقه هو الوحدة الحقيقية التي لاكثرة فيها لاخارجاً ولاذهناً و لا وهماً و أين هو من وحدة الشمس التي هي وحدة إعتبارية لاحقيقية حيث تتركّب من جرم و نور و حرارة و كل منها ينقسم إلى انقسامات.
    و على كلّ تقدير فماذا يريدون من قولهم ( إنّه إِله واحد ) و في الوقت نفسه


(243)
ثلاثة ، فهل يريدون أنّ هناك أفراداً متميّزة و متشخّصة من الإله الصادق هو عليهم صدق الكلي على الأفراد ؟
    أو يريدون أنّ هناك فرداً واحداً ذا أجزاء و ليس لكل واحد منها إستقلال ولاتشخّص و إنّما يتشكّل الإله من تلك الأجزاء ؟
    فالفرض الأوّل يستلزم تعدّد الإله تعدّداً حقيقيّاً و هو لايجتمع مع التوحيد بحال من الحالات.
    و الفرض الثاني لايخلو إمّا أن يكون كل واحد من هذه الأجزاء واجبة الوجود أو ممكنة ، فعلى الأوّل يلزم منه كثرة الإله ( واجب الوجود ) و هم يدّعون الفرار منه.
    و على الثاني يلزم أن يكون واجب الوجود محتاجاً في تحقّقه و تشخّصه إلى أجزاء ممكنة و هو كما ترى.
    و لأجل ذلك نرى أنّ الذكر الحكيم ينادي ببطلان التثليث بأيّ نحو يمكن أنّ يتصوّر بقوله : ( يَا أَهْلَ الكِتَابِ لاَتَغْلُوا فِى دِينِكُمْ وَ لاَتَقُولُوا عَلَى اللّهِ إِلاَّ الحَقَّ إِنَّمَا المَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللّهِ وَ كَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَ رُوحٌ مِنْهُ فَآمِنُوا بِاللّهِ وَرُسُلِهِ وَ لاَتَقُولُوا ثَلاَثَةٌ انْتَهُوا خَيْراً لَكُمْ إِنَّمَا اللّهُ إِلهٌ وَاحِدٌ سُبْحَانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لَهُ مَا فِى السَّمواتِ وَ مَا فِى الأَرْضِ وَ كَفَى بِاللّهِ وَكِيلاً ) ( النساء/171 ).
    إنّ الآية تركّز على أنّ نسبة الإلوهيّة إلى المسيح من آثار الغلوّ في حقه فلو تنزّه القوم عن هذا التمادي الفكريّ المفرط لوقفوا على سمة المثالية فيه و نفوا عنه مقام الإلوهية.
    و الآية تصف المسيح بالصّفات الخمس :
    1 ـ عيسى ابن مريم 2 ـ رسول اللّه 3 ـ كلمته 4 ـ ألقاها إلى مريم 5 ـ روح منه.إنّ بعض هذه الصفات المسلّمة في حق المسيح تشهد بعبوديّته و تنفي الوهيّته وإليك مزيد من التوضيح حولها :


(244)
    1 ـ عيسى ابن مريم : و قد ورد في الذكر الحكيم ذكره عشر مرّات و بنوّته لمريم التي لاتنفك عن كونه جنيناً رضيعاً في المهد صبيّاً يافعاً و ... لدليل واضح على بشريّته.
    2 ـ رسول اللّه : و معناه مبعوثه و مرسله و ليس نفسه.
    3 ـ كلمة اللّه : و قد أطلق القرآن لفظ الكلمة على المسيح كما أطلقه على جميع الموجودات الإمكانية و قال : ( قُلْ لَوْ كَانَ البَحْرُ مِدَاداً لِكَلِمَاتِ رَبِّى لَنَفِدَ البَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَذ كَلِمَاتُ رَبِّى ) ( الكهف/109 ).
    و أمّا إطلاق الكلمة على الموجودات الإمكانية لأجل وجود التشابه بين الكلمة و الموجود الإمكاني فإنّ الكلمة تكشف عمّا يقوم في ذهن المتكلّم من المعاني فهكذا الموجودات الإمكانية عامّة ، و خلقة المسيح على وجه الإعجاز خاصّة تكشف هي الاُخرى عن علم و قدرة وسيعين و كما ل لا متناه يكمن في ذاته سبحانه و لأجل ذلك يعد القرآن المسيح و جميع العوالم الإمكانية كلمات اللّه سبحانه.
    4 ـ ألقاها إلى مريم : إنّ الإلقاء إلى رحم الاُم آية كونه مخلوقاً و قد ذكر تفصيله في سورة مريم ، الآية16 إلى 36 و اختتمها بقوله : ( ذَلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الحَقِّ الَّذِى فِيهِ يَمْتَرُونَ ) ( مريم/34 ).
    5 ـ و روح منه : إنّ هذا التعبير ربّما وقع دليلاً على تطرّف فكرة الاُلوهيّة في حق المسيح و هم يتخيّلون إنّ ( منه ) تبعيضية و لكنّها إبتدائية مثل قوله سبحانه : ( وَسَخَّرَلَكُمْ مَا فِى السَّمواتِ وَ مَا فِى الأَرْضِ جَمِيعاً مِنْهُ ) ( الجاثية/13 ) و المعنى إنّ السموات و ما في الأرض جميعاً ناشئ منه و حاصل من عنده ، و مبتدأ منه ، فذوات الأشياء تبتدئ منه بإيجاده لها من غير مثال سابق و كذلك خواصّها و آثارها. قالتعالى : ( أَللّهُ يَبْدَأُ الخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ ) ( الروم/11 ).
    أضف إلى ذلك إنّ ذلك التعبير لايفوق في حق آدم حيث قال : ( فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِى فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ ) ( الحجر/29 ).


(245)
    فقد وصف آدم ( عليه السلام ) بلفظة « من روحي » و لم يقل أحد بأنّه جزء من الإله.
    ثمّ إنّه سبحانه ختم تلك الصفات بقوله : ( فَآمِنُوا بِاللّهِ وَ رُسُلِهِ وَ لاَتَقُولُوا ثَلاَثَةٌ انْتَهُوا خَيْراً لَكُمْ ).

سمات العبودية في المسيح :
    إنّ الذكر الحكيم يستدل على عبوديته بوجوه ثلاثة :
    1 ـ كيفيّة خلق المسيح و اُمّه.
    2 ـ طبيعة عيشهما في المجتمع.
    3 ـ تصريح المسيح بعبوديّته.
    هذه هي الوجوه التي يستدلّ بها القرآن الكريم على عبوديّته ، أمّا الأوّل فقد بسط الذكر الحكيم في تناولها في سورة مريم كما مرّ و هذه الآيات تلقي الضوء على كيفيّة خلقه إلى أن توّج بالرسالة فيقول سبحانه :
    ( فَأَجَاءَهَا المَخَاضُ إِلَى جِذْعِ النَّخْلَةِ قَالَتْ يَا لَيْتَنِى مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَ كُنْتُ نَسِيّاً مَنْسَيّاً ) إلى أن يقول : ( ذَلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الحَقِّ الَّذِى فِيهِ يَمْتَرُونَ ).
    و لو تمّسك الخصم على عدم بشريته بأنّه ولد من غير أب فهو محجوج بخلقة آدم فقد خلق من غير اُم و والد ، قال سبحانه : ( إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَاب ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ) ( آل عمران/59 ).
    و أمّا الثاني فيلمح إليه ما ورد بأنّ المسيح و اُمّه كانا يعيشان شأنهما كشأن سائر بني آدم و لايحيدان عنها قيد شعرة ، قال سبحانه : ( مَا المَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْخَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَ أُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلانِ الطَّعَامَ انْطُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ


(246)
الآياتِ ثُمَّ انْظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونُ ) ( المائدة/75 ) فمن الممتنع أن يكون آكل الطعام إله العالمين.
    و أمّا الثالث فيشير إليه قوله سبحانه : ( لَنْ يَسْتَنْكِفَ المَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْداً للّهِ وَ لاَ المَلاَئِكَةُ المُقَرَّبُونَ وَ مَنْ يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ وَ يَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعاً ) ( النساء/172 ).
    و ليس بوسع إنسان أن ينكر عبادة المسيح و هي آية وجود المعبود له و هناك كلمة قيّمة للإمام الطاهر علي بن موسى الرضا في مناظرته مع الجاثليق ، قال الإمام : يا نصراني واللّه إنّا لنؤمن بعيسى الذي آمن بمحمد و ما ننقم على عيسى شيئاً إلاّ ضعفه و قلّة صيامه و صلاته.
    قال الجاثليق : أفسدت و اللّه علمك و ضعفت أمرك و ما كنت أظن إلاّ إنّك أعلم أهل الإسلام.
    قال الرضا : و كيف ذلك ؟
    قال الجاثليق : من قولك إنّ عيسى كان ضعيفاً قليل الصيام و الصلاة وما أفطر عيسى يوم قط و ما نام بليل قط و ما زال صائم الدهر قائم الليل.
    قال الرضا : فلمن كان يصوم و يصلّي ؟
    فخرس الجاثليق و انقطع (1) الحديث.
    إنّ الذكر الحكيم يصرّح بأنّ المسيح سوف يعترف يوم البعث بعبوديته على رؤوس الأشهاد و أنّه لم يأمر قطّ الناس بعبادة نفسه :
    ( وَ إِذْ قَالَ اللّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ ءَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ إتَّخِذُونِى وَ اُمِّى إِلهَيْنِ مِنْ دُونِ اللّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِى أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِى بِحَقّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِى نَفْسِى وَ لاَ أَعْلَمُ مَا فِى نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلاَّمُ الغُيُوبِ ) ( المائدة/116 ).
1 ـ الاحتجاج : ج2 ص203و204.

(247)
    و قال عزّ اسمه حاكياً عنه : ( مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلاَّ مَا أَمَرْتَنِى بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللّهَ رَبِّى وَ رَبُّكُمْ وَ كُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِى كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْء شَهِيدٌ ) ( المائدة/117 ).
     ج ـ المسيح ابن اللّه :
    قد طرأت أزمة حادّة على خط التوحيد من قبل المشركين و اليهود و النّصارى بزعم وجود الابن أو البنت للّه سبحانه ، فتارة جعلوا بينه وبين الجِنَّة نسباً ، و اُخرى اتّهموه بأنّه اتّخذ من الملائكة إناثاً ، و ثالثة نسبوا إليه الولد بصورة مطلقة ، و قد جاء الجميع في الذكر الحكيم مشفوعاً بالردّ و النقض :
    1 ـ الجن : ( وَ جَعَلُوا بَيْنَهُ وَ بَيْنَ الجِنَّةِ نَسَباً ) ( الصافّات/158 ).
    و أمّا ما هذا النسب ، فيحتمل أن يكون المراد نسب البنوّة و الاُبوّة و لأجل ذلك كان جماعة من العرب يعبدون الجن ، كما ورد في قوله سبحانه : ( قَالُوا سُبْحَانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنَا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الجِنَّ ... ) ( سبأ/41 ).
    2 ـ الملائكة : ( أَفَأَصْفَاكُمْ رَبُّكُمْ بِالبَنِينَ وَ اتَّخَذَ مِنَ المَلاَئِكَةِ إِنَاثاً إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ قَولاً عَظِيماً ) ( الإسراء/40 ) و لأجل ذلك كان جماعة أيضاً من العرب تعبد الملائكة ، و بما أنّهم كانوا يتخيّلون الملائكة على أنّهم خلقوا بصور جذّابة جميلة خالوا إنّهم اُناثاً قال سبحانه : ( وَ جَعَلُوا المَلاَئِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمنِ إِنَاثاً ) ( الزخرف/19 ).
    3 ـ المسيح : و قد اشتهر النصارى بأنّهم جعلوا « المسيح » إبناً للّه تعالى ، وهذه الفكرة الخاطئة و إن لم تكن منحصرة فيهم ، بل كان لليهود أيضاً مثل تلك الفكرة في حقّ « عزير » لكن النصارى أكثر ، اشتهاراً بهذه النسبة ، غير نافين عن أنفسهم هذا العار ، و اليهود يؤوّلون الفكرة بأنّه ولد فخري لاحقيقي.
    و القرآن الكريم يندّد بتلك الفكرة في غير واحد من الآيات مشيراً إلى براهين


(248)
عقلية محتاجة إلى التوضيح ، و إليك نقل الآيات مع توضيح مضامينها :
     1 ـ البقرة/116 ـ 117.
    ( وَ قَالُوا اتَّخَذَ اللّهُ وَلَداً سُبْحَانَهُ بَلْ لَهُ مَا فِى السَّمواتِ وَ الأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ * بَدِيعُ السَّموَاتِ وَ الأَرْضِ وَ إِذَا قَضَى أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ).
    تريك هذه الآية كيف إنّهم نسبوا إلى اللّه ولداً من غير فرق بين أن يكون الناسب يهوديّاً أو مسيحيّاً ، و لكنّ الآيتين تتضمّنان ردّاً لهذه النسبة يستفاد من الإمعان في الجمل التالية :
    1 ـ سبحانه. 2 ـ بل له ما في السموات و الأرض كل له قانتون.
    3 ـ بديع السموات و الأرض. 4 ـ و إذا قضى أمراً فإنّما يقول له كن فيكون.
    و إليك شرح هذه الجمل التي يعد كل واحد منها بمثابة ردّ و نقض للفكرة الخاطئة المصرّحة بالبنوّة للّه عزّ و جلّ.
    أ ـ « سبحانه » : و هذه الكلمة تفيد تنزيه اللّه سبحانه من كل نقص و عيب وشائنة ، و لأجل ذلك يأتي هذا اللفظ في آية اُخرى بعد بيان تلك النسبة الخاطئة ، قال تعالى : ( قَالُوا اتَّخَذَ اللّهُ وَلَداً سُبْحَانَهُ هُوَ الغَنِىُّ ) ( يونس/68 ).
    و اللفظة تفيد إنّ اتّخاذ الولد نقص و عيب على اللّه تعالى ، يجب تنزيهه عنه ، و ذلك لأنّ اتّخاذ الولد إمّا لغاية إشباع الغريزة الجنسية أو لأجل الإستعانة من الولد أيّام الهرم و الكهولة ، أو لأجل إبقاء النسل و إدامته التي تعد نوع بسط وجود للشخصية ، و الكل غير لائق بساحته سبحانه.
    و يمكن أن يكون اللفظ مشيراً إلى أمر آخر و هو أنّ اتّخاذ الابن فرع التوالد والتناسل و هو من شؤون الموجودات المادية حيث ينتقل جزءً من الأب إلى رحم الاُم فتتّحد نطفة الأب مع البويضة في رحم الاُمّ فتخصبها فينتج عن ذلك نشأة الجنين واللّه سبحانه أعلى و أجل و أنبل عن أن يكون جسماً أو جسمانيّاً.


(249)
    ب ـ ( بَلْ لَهُ مَا فِى السَّموَاتِ وَ الأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ ) :
    إنّ هذه الجملة مشعرة ببرهان دامغ و هو أنّ كل ما في الكون قانت للّه و خاضع لسلطته و مسخّر و مقهور له و من هذا شأنه لايتصوّر أن يكون له ولد و ذلك لأنّ الولد يكون مماثلاً للوالد ، فكما هو واجب الوجود يكون الولد مشاطراً له في ذلك ، و ما هو كذلك لايمكن أن يكون مقهوراً و مسخّراً لموجود من الموجودات.
    ج ـ ( بَدِيعُ السَّموَاتِ وَ الأَرْضِ ) :
    أي انّه سبحانه خالق مبدع لهما و ما فيهما و المراد من الإبداع هو خلقهما بلامثال سابق و لامادّة متقدّمة ، فيكون المجموع مسبوقاً بالعدم ، و ما هو كذلك كيف يمكن أن يكون ولداً للّه سبحانه ؟ لما عرفت من أنّ الولد يماثل الوالد في الاُلوهيّة و وجوب الوجود ، و هو لايجتمع مع كون السموات و الأرض و ما فيهما مخلوقاً حادثاً مسبوقاً بالعدم.
    د ـ ( وَ إِذَا قَضَى أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ) :
    و هذه الآية تفيد أنّ سنّة اللّه تبارك و تعالى في الإيجاد و الإنشاء و الخلق و أنّه لو أراد إيجاد شيء فإنّه يوجد بلاتريّث أو تلبّث ، و لكنّ الولد إنّما يتكوّن من إلتقاء النطفتين في رحم الاُم ثمّ يتكامل تدريجيّاً على إمتداد أمد بعيد و هذا لايجتمع مع مامرّ ذكره في السنّة الحكيمة.
    ثمّ إنّ العلاّمة الطباطبائي جعل الجمل الثلاث مشيرة إلى برهانين ( لا إلى ثلاثة براهين كما أوضحناه ) فقال :
    إنّ قوله : ( بَلْ لَهُ مَا فى السَّموَاتِ ... ) يشتمل على برهانين ينفي كلّ منهما الولادة و تحقّق الولد منه سبحانه ، فإنّ اتّخاذ الولد هو أن يجزي موجود طبيعي ، بعض أجزاء وجوده و يفصله عن نفسه فيصيّره بتربية تدريجية فرداً من نوعه مماثلاً لنفسه ، وهو سبحانه منزّه عن المثل بل كل شيء ممّا في السموات و الأرض مملوك له قائم الذات به قانت ذليل عنده ذلّة وجودية فكيف يكون شيء من الأشياء ولداً له


(250)
مماثلاً نوعيّاً بالنسبة إليه ؟ و هو سبحانه بديع السموات و الأرض ، إنّما يخلق ما يخلق على غير مثال سابق فلايشبه شيء من خلقه خلقاً سابقاً و لايشبه فعله فعل غيره في التقليد و التشبيه و لا في التدريج و التوّصل بالأسباب إذا قضى أمراً فإنّما يقول له كن فيكون من غير مثال سابق و لاتدريج ، فكيف يمكن أن ينسب إليه اتّخاذ الولد ؟ وتحقّقه يحتاج إلى تربية و تدريج فقوله : ( لَهُ مَا فِى السَّموَاتِ وَ الأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ ) برهان تام ، و قوله : ( بَدَيعُ السَّموَاتِ وَ الأَرْضِ وَ إِذَا قَضَى أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونَ ) برهان آخر تام (1).
     2 ـ الأنعام/100 ـ 102
    ( وَ جَعَلُوا للّهِ شُرَكَاءَ الجِنَّ وَ خَلقَهُمْ وَ خَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَ بَنَات بِغَيْرِ عِلْم سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَصِفُونَ ) ( الأنعام/100 ).
    ( بَدَيعُ السَّموَاتِ وَ الأَرْضِ أَنَّى يَكْونُ لَهُ وَلَدٌ وَ لَمْ تَكُنْ لَهُ صَاحِبَةٌ وَ خَلَقَ كُلَّ شَيْء وَ هُوَ بِكُلِّ شَيْء عَلِيمٌ ) ( الأنعام/101 ).
    ( ذَلِكُمُ اللّهُ رَبُّكُمْ لاَ إِلهَ إِلاَّ هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْء فَاعْبُدُوهُ وَ هُوَ عَلَى كُلِّ شَيْء وَكِيلٌ ) ( الأنعام/102 ).
    و في هذه الآيات إشارات إلى بطلان النظرية القائلة بكون الجن شركاء للّه سبحانه و خرق بنين و بنات له بغير علم ، و إليك بيانها :
    أ ـ ( سُبْحَانَهُ وَ تَعَالَى عَمَّا يَصِفُونَ ) : و قد مرّ توضيح تلك الجملة في القسم الأوّل من الآيات.
    ب ـ ( بَدِيعُ السَّموَاتِ وَ الأَرْضِ ) : و قد تقدّم معناه أيضاً.
    ج ـ ( أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَ لَمْ تَكُنْ لَهُ صَاحِبَةٌ ) : و هذه الجملة تشير إلى أنّ إتّخاذ الابن يستلزم اتّخاذ الزوجة حتى يقع جزء من الزوج في رحم الزوجة و اللّه
1 ـ الميزان : ج1 ص261.
مفاهيم القرآن ـ جلد السابع ::: فهرس