مفاهيم القرآن ـ جلد السابع ::: 271 ـ 280
(271)
20 ـ ظلمهم في الديّة :
    كانت قبيلة بني النضير يؤدّون الديّة كاملة وبنو قريظة كانوا يؤدّون نصف الدية فتحاكموا في ذلك إلى رسول اللّه ، فنزل قوله سبحانه : ( وَ إِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالقِسْطِ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ المُقْسِطِينَ ) ( المائدة/42 ).
    فحملهم رسول اللّه على الحق ذلك و جعل الديّة سواء.
     21 ـ قصدهم الفتنة برسول اللّه ( صلى الله عليه وآله وسلم ) :
    قال جماعة من اليهود : اذهبوا بنا إلى محمد لعلّنا نفتنه عن دينه فإنّما هو بشر ، فأتوه فقالوا له : « يا محمد إنّك قد عرفت انّا أحبار اليهود وأشرافهم و سادتهم و إنّا إن إتّبعناك إتّبعتك اليهود و لم يخالفنا و إنّ بيننا و بين بعض قومنا خصومة أفنحاكمهم إليك فتقضي لنا عليهم و نؤمن بك و نصدّقك ؟ » فأبى ذلك رسول اللّه ، فأنزل اللّه فيهم : ( وَ أَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللّهُ وَ لاَتَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَ احْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللّهُ إِلَيْكَ فَإِنْ تَوَلَّوا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَ إِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ * أَفَحُكْمَ الجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَ مَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللّهِ حُكْمَاً لِقَوم يُوقِنُونَ ) ( المائدة/49و50 ).
     22 ـ إنكار نبوّة المسيح :
    مناصبة اليهود العداء للمسيحيين لها جذور متأصّلة في التاريخ فمذ أعلن المسيح بنبوّته و رسالته قامت اليهود في وجهه و أنكروا رسالته ، يقول سبحانه : ( وَإِذْقَالَ عِيْسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِى إِسْرائِيلَ إِنِّى رُسُولُ اللّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَىَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَ مُبَشِّراً بِرَسُول يَأْتِى مِنْ بَعْدِى اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالبَيِّنَاتِ قَالُوا هِذِا سِحْرٌ مُبِينٌ ) ( الصف/6 ).
    نعم نرى اليوم تحالف اليهود مع المسيحيين لضمان المصالح المشتركة التي


(272)
على رأسها و أهمّها القضاء على الإسلام و إبعاده عن المجتمع و الحياة ، و لأجل ذلك نرى أنّ البابا قام مؤخّراً بزيارة الكنيست اليهودي في روما و أعلن خلال زيارته له براءة اليهود من دم المسيح من أجل توحيد الصف و دعم الجهود الكفيلة بالقضاء على المسلمين و دينهم ، و لاكنّهم في الواقع و الحقيقة لازالوا يكنوّن نفس العداء التاريخي المتأصّل في نفوسهم.
    روي أنّ نفراً من اليهود أتوا رسول اللّه ( صلى الله عليه وآله وسلم ) فسألوه عمّن يؤمن به من الرّسل ؟ فقال : اُؤمن باللّه ، فعند ذاك جحدوا نبوّة المسيح و قالوا و اللّه مانعلم أهل دين قطّ أخطأ في الدّنيا و الآخرة منكم و لاديناً شرّاً من دينكم ، فأنزلاللّه : ( قُلْ يَا أَهْلَ الكِتَابِ هَلْ تنقمون مِنَّا إِلاَّ أَنْ آمَنَّا بِاللّهِ وَ مَا أَنْزَلَ إِلَيْنَا وَ مَا أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فَاسَقُونَ ) ( المائدة/59 ) (1).
     23 ـ إشراكهم باللّه عزّ و جلّ :
    إنّ العصبية العمياء ربّما تبلغ بالإنسان حدّاً ينكر ما كان يدين به هو وقومه طيلة قرون إنصرمت ، فهؤلاء اليهود المعاصرون كانوا يفتخرون و يتمجّدون بدين التوحيد ، وأنّهم ضحّوا في سبيله نفسهم و نفيسهم ، و لكنّهم لمّا رأوا أنّ النبيّ الأكرم يدعو إلى هذا المبدأ ، و يتّخد منه الحجر الأساس لدعوته ، عادوا ينكرونه و يروّجون الشرك تشفّياً لغيظهم و حنقهم.
    أتى رسول اللّه ( صلى الله عليه وآله وسلم ) جماعة من اليهود فقالوا له : يامحمد أما تعلم مع اللّه إله غيره ؟ فقال رسول اللّه ( صلى الله عليه وآله وسلم ) : « اللّه لا إله إلاّ هو بذلك بعثت و إلى ذلك أدعوا » ، فأنزل اللّه فيهم و في قولهم : ( قُلْ أَيُّ شَيْء أَكْبَرُ شَهَادَةً قُلِ اللّهُ شَهِيدٌ بَيْنِى وَ بَيْنَكُمْ وَ أُوحِىَ إِلَىَّ هَذَا القُرْآنُ لاُِنْذِرَكُمْ بِهِ وَ مَنْ بَلَغَ ءَإِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللّهِ آلِهَة اُخُرَى قُلْ لاَ أَشْهَدُ قُلْ إِنَّما هُوَ إِلهٌ وَاحِدٌ وَ إِنَّنِى
1 ـ السيرة الحلبية : ج1 ص567 ، مجمع البيان : ج3 ص329 ( طبع بيروت ).

(273)
بَرِىءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ ) ( الأنعام/19 ) (1).

24 ـ سؤالهم عن محين الساعة :
    تعلّقت مشيئته الحكيمة بكتمان وقت الساعة ، قال سبحانه : ( إِنَّ اللّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ ) ( لقمان/34 ) ، و مع ذلك جاء جماعة من اليهود قالوا : أخبرنا متى تقوم الساعة إن كنت نبيّاً ، فنزل قوله سبحانه : ( يُسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّى لاَيُجَلِّيهَا لَوَقْتِهَا إِلاَّ هُوَ ثَقُلَتْ فِى السَّموَاتِ وَ الأَرْضِ لاَتَأْتِيكُمْ إِلاَّ بَغْتَةً يَسْأَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِىٌّ عَنْهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اللّهِ وَ لَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَيَعْلَمُونَ ) ( الأعراف/187 ).
    و لم يكن هذا السؤال إلاّ تعنّتاً و عناداً لأنّهم هم الذين ذكروا لقريش : إسألوا محمداً عن وقت الساعة فإن خوّل علمها إلى اللّه سبحانه فاعلموا أنّه نبي ... (2).
    هذه نماذج من مناظراتهم و مشاغباتهم التي تنم عن مبلغ لجاجهم و عنادهم و ممّا يصوّر لك طبيعتهم.
     25 ـ تهجّمهم على ذات اللّه عزّو جل :
    أتى رهط من اليهود إلى رسول اللّه ( صلى الله عليه وآله وسلم ) فقالوا : يامحمّد هذا اللّه خلق الخلق ، فمن خلق اللّه ؟ فغضب رسول اللّه حتّى إنتقع لونه ثمّ ساورهم (3) غضباً لربّه ، فجاءه جبرئيل ( عليه السلام ) فسكّنه فقال : خفّض عليك يامحمد و جاءه عن اللّه بجواب ما سألوه عنه : ( قُلْ هُوَ اللّهُ أَحَدٌ * اللّهُ الصَّمَدُ * لَمْيَلِدْ وَ لَمْ يُولَدْ * وَ لَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ ).
1 ـ السيرة النبويّة : ج1 ص568.
2 ـ قد ذكرنا تفصيل القصّة في ص199 ـ 201.
3 ـ ساورهم : واثبهم و باطشهم.


(274)
    فلمّا تلاها عليهم ، قالوا : فصف لنا يا محمد كيف خلقه ( اللّه ) ، كيف ذراعه ، كيف عضده ؟ فغضب رسول اللّه أشدّ من غضبه الأوّل و ساورهم ، فأتى جبرئيل فقال له مثل ما قال له أوّل مرّة ، و جاءه من اللّه تعالى بجواب ما سألوه يقول اللّه تعالى : ( وَمَا قَدَرُوا اللّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَ الأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ القِيَامَةِ وَ السَّموَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَ تَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ ) ( الزمر/67 ).

26 ـ طلبهم كتاباً من السماء :
    إنّ اليهود كانت جاهلة بحكمة نزول القرآن تدريجيّاً و قد ورد النص بها في غير واحد من الآيات ، قال سبحانه : ( وَ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ لاَنُزِّلَ عَلَيْهِ القُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَ رَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلاً ) ( الفرقان/32 ).
    إنّ في نزول القرآن تدريجيّاً منجّماً حسب الوقائع و الأحداث لدلالة واضحة على أنّه وحي إلهي ينزل شيئاً فشيئاً حسب الحاجات و ليس شيئاً متعلّماً عن ذي قبل من إنس أو جن ، و لكن جهل اليهود بحكمته دعاهم إلى أن يطلبوا عن رسول اللّه نزول القرآن جملة واحدة من السماء حتّى يروا باُمّ أعينهم أنّه كتاب سماوي اُنزل من عند اللّه سبحانه و هم يضاهئون في هذا الإقتراح قول المشركين في مكّة (1).
    أتى جماعة من اليهود رسول اللّه ، فقالوا : يا محمد! إنّ هذا الذي جئت به لحقّ من عند اللّه فإنّا لانراه متّسقاً كما تتّسق التوراة ؟ فقال لهم رسول اللّه : أما و اللّه لأنّكم لتعرفون أنّه من عند اللّه تجدونه مكتوباً عندكم في التوراة و لو إجتمعت الإنس و الجنّ على أن يأتوا بمثله ما جاؤا به ، فقالوا : يا محمّد أما يعلّمك هذا إنس ولاجن ؟ فقال لهم رسول اللّه ( صلى الله عليه وآله وسلم ) : أما واللّه إنّكم تعلمون أنّه من عند اللّه و إنّي لرسول اللّه تجدون ذلك مكتوباً عندكم في التوراة ، فقالوا : يا محمد فإنّ اللّه يصنع لرسول إذا بعثه ما يشاء ويقدر منه على ما أراد ، فأنزل علينا كتاباً من السماء
1 ـ الإسراء/93 ، و قد مضى تفسيرها.

(275)
نقرؤه و نعرفه و إلاّ جئناك بمثل ما تأتي به ، فأنزل اللّه تعالى فيهم و فيما قالوا : ( قُلْلَئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنْسُ وَ الجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هِذَا القُرْآنِ لاَيَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْكَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْض ظَهِيراً ) ( الإسراء/88 ).

27 ـ تحويل القبلة إلى الكعبة :
    كان النبي الأكرم ( صلى الله عليه وآله وسلم ) يصلّي إلى بيت المقدس في المدينة المنوّرة إلى سبعة عشر شهراً (1) من الهجرة ، و كانت اليهود تعيّر المسلمين على تبعيّة قبلتهم و يتفاخرون بذلك عليهم ، فحزن رسول اللّه ذلك فخرج في سواد الليل يقلّب وجهه في السماء ينتظر الوحي من اللّه سبحانه و كشف همّه ، فنزل الوحي بقبلة جديدة ، فقطع تعييرهم و تفاخرهم ، قال سبحانه : ( قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِى السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَّنَكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ المَسْجِدِ الحَرَامِ وَ حَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ وَ إِنَّ الَّذِينَ اُوتُوا الكتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَ مَا اللّهُ بِغَافِل عَمَّا يَعْمَلُونَ ) ( البقرة/144 ).
    و روى الصدوق أنّ النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) صلّى إلى بيت المقدس ثلاث عشرة سنة و تسعة عشر شهراً بالمدينة ثمّ عيّرته اليهود ، فقالوا : إنّك تابع قبلتنا فاغتمّ لذلك غمّا شديداً ، فلمّا كان في بعض الليل خرج يقلّب وجهه في آفاق السماء فلمّا أصبح صلّى الغداة فلمّا صلّى من الظهر ركعتين جاء جبرئيل فقال له : ( قد نرى تقلّب وجهك في السماء فلنولّينّك قبلة ترضاها فوّل وجهك شطر المسجد الحرام ... ) ثمّ أخذ بيد النبي فحوّل وجهه إلى الكعبة و حوّل من خلفه وجوههم حتى قام الرجال مقام النساء و النساء مقام الرجال ، فكان أوّل صلاته إلى بيت المقدس وآخرها إلى الكعبة ، فبلغ الخبر مسجداً بالمدينة و قد صلّى أهله من العصر ركعتين فحوّلوا نحو القبلة ، فكان أوّل صلاتهم إلى بيت المقدس و آخرها إلى الكعبة فسمّي
1 ـ و في رواية الفقية كما سيوافيك تسعة عشر شهراً.

(276)
ذلك المسجد مسجد القبلتين (1).
    و قد أثار هذا الأمر أسئلة و اعتراضات من جانب اليهود بل المؤمنين أنفسهم وجاء الذكر الحكيم مجيباً عنها بما يلي :
    1 ـ أتى جماعة من اليهود مثل رفاعة بن قيس و كعب بن الأشرف و غيرهما فقالوا : يا محمد ماولاّك عن قبلتك التي كنت عليها و أنت تزعم أنّك على ملّة إبراهيم و دينه أرجع إلى قبلتك التي كنت عليها نتّبعك و نصدّقك. و إنّما يريدون بذلك فتنته عن دينه ، و هذا هو الإعتراض الذي يتناوله الوحي مشفوعاً بالجواب : ( سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مَا وَلاَّهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِى كَانُوا عَلَيْهَا ) و بعبارة اُخرى إنّ التحوّل كان بأمر من اللّه فكيف يأمر به مع انّه هو الذي جعل بيت المقدس قبلة فكيف ينقض حكمه و ينسخ ما شرعه ( و اليهود من القائلين بامتناع النسخ ) و إن كان بغير أمر اللّه فهو إنحراف عن الصراط المستقيم.
    و أمّا الجواب فهو إنّ جعل بيت من البيوت أو بناء من الأبنية قبلة ليس لإقتضاء ذاتي فيه يستحيل التعدّي عنه ، بل جميع الأجسام و الأبنية بل جميع الجهات من الشرق و الغرب إليه سبحانه على السواء يحكم فيها ما يشاء و كيف يشاء و متى شاء ، و إنّ الإعتراض نابع من قلّة عقلهم أو عدم إستقامته في درك حقيقة التشريع.
    و إلى هذا الجواب يشير قوله سبحانه : ( قُلْ للّهِ المَشْرِقُ وَ المَغْرِبُ يَهْدِى مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاط مُسْتَقِيم ) ( البقرة/142 ).
    2 ـ لمّا كان المقدّر أن تكون الكعبة هي القبلة الأخيرة فما هو السبب في جعل بيت المقدس قبلة اُولى للمسلمين ؟
    و الجواب : إنّ المصالح كانت تقتضي أن يصلّي المسلمون إلى القبلة الاُولى في مكّة و المدينة في أوائل البعثة و أوائل الهجرة و ذلك لأنّ النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) في مكّة المكرمة و بعد الهجرة بقليل كان مبتلى بالمشركين الذين
1 ـ من لايحضره الفقيه ج1 ص178 ج3.

(277)
لا يصلّون للّه سبحانه و لايعبدونه و إنّما يعبدون الأوثان و الأصنام ، فعندئذ أمر النبي بالصلاة إلى بيت المقدس ( الذي كان الموحّدون من اليهود و النصارى يصلّون إليه ) حتّى يتميّز الموحّدون عن المشركين و يكون ذلك سمة التوحيد و علامته ، فكانت الصلاة إلى بيت المقدس وسيلة لتميّز الموّحدين عن المشركين.
    و لمّا كانت العرب شديدة الاُلفة بمكّة و قبلتها فأحبّ اللّه تعالى أن يمتحن القوم بغير ما ألفوا ليميّز من يتّبع الرسول عمّن ينقلب على عقبيه.
    و لأجل هذين الوجهين ( تميّز الموحّدون عن المشركين و امتحان من يتّبع الرسول ممّن ينقلب على عقبيه من العرب الآلفة بمكّة و قبلتها ) أمر المسلمون بالصلاة إلى بيت المقدس مؤقّتاً و إلى ذلك يشير قوله سبحانه : ( وَ مَا جَعَلْنَا القِبْلَةَ الَّتِى كُنْتَ عَلَيْهَا إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ وَ إِنْ كَانَتْ لَكِبِيرةً إِلاَّ عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللّهُ ) ( البقرة/143 ).
    و لعلّ قوله : ( لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ ) إشارة إلى الوجه الأوّل.
    كما أنّ قوله : ( وَ إِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلاَّ عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللّهُ ) إشارة إلى الوجه الثاني و هو اختبار من يخالف العادة و الاُلفة لأجل إمتثال أمر الرسول ، فإنّ مخالفة العادات و التقاليد كبيرة إلاّ على الذين هدى اللّه.
    و الحاصل إنّ جعل بيت المقدس قبلة لأجل تمحيص المؤمنين من غيرهم وتميّز المطيعين من العاصين و المنقادين من المتمرّدين.
    و أمّا العدول عن بيت المقدس إلى الكعبة فقد عرفت أنّه ليس لمكان أو بيت شرفٌ ذاتي بل الحكم يدور مدار المصلحة ، فصارت المصالح مقتضية بأن يتميّز المسلمون من اليهود بتفكيك قبلتهم التي كانوا يصلّون إليها عن قبلة اليهود ، و يميّز المنافق المتظاهر بالإسلام من اليهود عن المؤمن المنقاد الواقعي ، و لأجل ذلك حوّلت القبلة إلى الكعبة.
    3 ـ ما حكم الصلوات التي كان المسلمون قد أدّوها إلى بيت المقدس ؟


(278)
    و الجواب : إنّ القبلة قبلة ما لم تنسخ و إنّ اللّه سبحانه إذا نسخ حكماً نسخه من حين النسخ لا من أصله لرأفته و رحمته بالمؤمنين ، و إليه يشير قوله سبحانه : ( وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُضِيعَ إِيْمَانَكُمْ إِنَّ اللّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُوفٌ رَحِيمٌ ) ( البقرة/143 ).
    و أمّا الإقتراح الذي تقدّمت به اليهود إلى النبيّ ( صلى الله عليه وآله وسلم ) من رجوعه إلى القبلة السابقة حتّى يتّبعوه و يصدّقوه فإنّما هو وعد مكذوب لايتّبعون قبلته إلى آخر الدهر ، و إليه يشير قوله سبحانه : ( وَ لَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ اُوتُوا الكِتَابَ بِكُلِّ آيَة مَا تَبِعُوا قِبْلَتَكَ وَ مَا أَنْتَ بِتَابِع قِبْلَتَهُمْ وَ مَا بَعْضُهُمْ بِتَابِع قِبْلَةَ بَعْض وَ لَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ العِلْمِ إِنَّكَ إِذاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ ) ( البقرة/145 ).
    و المراد من الإيمان في الآية في قوله : ( مَا كَانَ اللّهُ لِيُضَيِّعَ إِيمَانَكُمْ ) هو العمل. قال ابن عباس : قالوا كيف بمن مات من إخواننا قبل ذلك ؟ و كان قد مات أسعد بن زرارة و البراء بن معرور و كانا من النقباء.
    و بذلك يعلم أنّ ما ذكره سبحانه قبل هذه الآيات من قصّة إبراهيم و أنواع كرامته و كرامة ابنه إسماعيل و دعوتهما للكعبة و مكّة و للنبيّ و الاُمّة المسلمة وبنائهما البيت و الأمر بتطهيره للعبادة ، كل ذلك تمهيد لحادثة تغيير القبلة و إتّخاذ الكعبة قبلة ، فإنّ تحويل القبلة من أعظم الحوادث الدينية و أهم التشريعات التي قوبل بها الناس بعد هجرة النبيّ إلى المدينة. فكانت محتاجة إلى ترويض النفوس لقبولها.

28 ـ مباهلة النبيّ نصارى نجران : (1)
    لمّا كتب رسول اللّه إلى ملوك العرب و العجم رسائلة التبليغية و بعث رسله إلى
1 ـ نجران في مخاليف اليمن من ناحية مكة ، و بها كان خبر الأخدود و إليها تنسب كعبة نجران ، و كانت بيعة ، بها أساقفة مقيمون منهم السيّد و العاقب اللّذان جاءا إلى النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) في أصحابها و دعاهم إلى المباهلة و بقوابها حتّى أجلاهم عمر. وقال زيني دحلان :
نجران بلدة كبيرة واسعة على سبع مراحل من مكة إلى جهة اليمن تشتمل على ثلاث وسبعين قرية.
مراصد الإطلاع في معرفة الأمكنة و البقاع ، مادة ( نجران ).


(279)
الاقوام و القبائل ، أرسل عتبة بن غزوان ، و عبد اللّه بن أبي اُميّة و صهيب بن سنان إلى نجران و نواحيه و كتب معهم (1) إلى أساقفة نجران يدعوهم إلى رفض الأقانيم والأنداد و إلتزام التوحيد و عبادة اللّه تعالى ، و ها نحن نسوق إليك نصّ كتابه :
    « بسم إله إبراهيم و إسحاق و يعقوب ، من محمّد النبيّ رسول اللّه إلى أسقف نجران ، فإنّي أحمد إليكم إله إبراهيم و إسحاق و يعقوب ، أمّا بعد فإنّي أدعوكم إلى عبادة اللّه من عبادة العباد و أدعوكم إلى ولاية اللّه من ولاية العباد ، و إن أبيتم فالجزية ، فإن أبيتم آذنتكم بحرب » (2).
    و لمّا قرأ الأسقف الكتاب فزع و ارتاع و شاور أهل الحجى و الرأي منهم ، فقال شرحبيل و كان ذالبّ و رأي بنجران : قد علمت ما وعد اللّه إبراهيم في ذريّة إسماعيل من النبوّة فما يؤمنك أن يكون هذا الرجل ؟ و ليس لي في النبوّة رأي لو كان أمر من اُمور الدنيا أشرت عليك فيه وجهدت لك.
    فبعث الأسقف إلى واحد من بعد واحد من أهل نجران فتشاوروا فكثر اللغط وطال الحوار ، فاجتمع رأيهم على أن يبعثوا وفداً يأتي رسول اللّه فيرجع بخبره.
    فأوفدوا إليه ستّين راكباً و فيهم ثلاثة عشر رجلاً من أشرافهم و ذوو الرأي والحجى منهم و ثلاثة يتولّون أمرهم : العاقب إسمه عبد المسيح ، أمير الوفد الذي لايصدرون إلاّ عن رأيه ، و السيّد و إسمه الأيهم و هو ثمالهم و صاحب رحلهم ، وأبوحارثة بن علقمة أسقفهم الأوّل و حبرهم و إمامهم و صاحب مدارسهم و هو
1 ـ و كان بخط الإمام علي بن أبي طالب ( عليه السلام ) راجع : صبح الاعشى ج1 ص65 ( طبعبيروت ).
2 ـ تاريخ اليعقوبي ج2 ص65 ، دلائل النبوّة ج5 ص385 ، البداية و النهاية ج5 ص53.


(280)
الأسقف الأعظم (1).
    فجاءوا إلى النبي حتّى دخلوا على رسول اللّه وقت العصر ، فدخلوا المسجد وعليهم ثياب الحبرات (2) و أردية الحرير مختمين بخواتيم الذهب و أظهروا الصليب و أتوا رسول اللّه فسلّموا عليه ، فلم يرد عليهم السلام و لم يكلّمهم ، فانطلقو يبتغون عثمان بن عفّان و عبد الرحمن بن عوف و كان لهما معرفة بهم فوجدوهما في مجلس من المهاجرين ، فقالوا : إنّ نبيّكم كتب إلينا بكتاب فأقبلنا مجيبين له ، فأتيناه وسلّمنا عليه فلم يردّ سلامنا و لم يكلّمنا. فما الرأي ؟
    فقالا لعلي بن أبي طالب : ما ترى يا أبا الحسن في هؤلاء القوم ؟ قال : أرى أن يضعوا حللهم هذه ، و خواتيمهم ثمّ يعودون إليه ، ففعلوا ذلك ، فسلّموا فردّ عليهم سلامهم ، ثمّ قال : و الذي بعثني بالحق لقد آتيتموني المرّة الاُولى و إنّ إبليس لمعكم (3).
    و كانوا قد آتوا معهم بهديّة و هي بسط إلى النبيّ فيها تماثيل و مسوح ، فصار الناس ينظرون للتماثيل ، فقال : أمّا هذه البسط فلاحاجة لي فيها ، و أمّا هذه المسوح فإن تعطونيها آخذها ، فقالوا : نعم نعطيكها ، و لمّا رأى فقراء المسلمين ما عليه هؤلاء من الزينة و الزيّ الحسن ، تشوّقت نفوسهم ، فنزل قوله سبحانه :
    ( قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْر مِنْ ذَلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوا عِنْد رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِى مِنْ تَحْتِهَا الاَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيها وَ أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَ رِضْوَانٌ مِنَ اللّهِ وَ اللّهُ بَصِيرٌ بِالعِبَادِ ) ( آل عمران/15 ).
    ثمّ أرادوا أن يصلّوا بالمسجد بعد أن حانت وقت صلاتهم ، و ذلك بعد العصر فأراد الناس معهم ، فقال النبي : دعوهم ، فاستقبلوا المشرق فصلّوا صلاتهم فلمّاقضوا صلاتهم ناظروه.
1 ـ دلائل النبوّة ج5 ص386 ، الدر المنثور ج2 ص38 ، و تاريخ اليعقوبي ج2 ص66.
2 ـ ثوب من ثياب اليمن.
3 ـ السيرة الحلبية ج3 ص239.
مفاهيم القرآن ـ جلد السابع ::: فهرس