مفاهيم القرآن ـ جلد السابع ::: 261 ـ 270
(261)
    فقوله سبحانه ( وَ هُمْ يَتْلُونَ الكِتَابَ ) إشارة إلى أنّ كلاّ من الفريقين يتلو في كتابه تصديق ما كفر به ، أي كفر اليهود بعيسى بن مريم و عندهم التوراة فيما أخذ اللّه عليهم على لسان موسى بالتصديق بعيسى ، و في الإنجيل ما جاء به عيسى ( عليه السلام ) من تصديق موسى ( عليه السلام ) و ما جاء به من التوراة من عنداللّه و كل يكفر بما في يد صاحبه.
    و قوله سبحانه : ( كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ لاَيَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ ) إشارة إلى أنّ مشركي العرب الذّين هم جهّال و ليس لهم كتاب ، هكذا قالوا لمحمد ( صلى الله عليه وآله وسلم ) و أصحابه : إنّهم ليسوا على شيء من الدين مثل ما قالت اليهود والنصارى بعضهم لبعض (1).
    و ربمّا بلغ تجاسرهم بساحة النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ، فطلبوا منه أن يقتدي بإحدى الشريعتين ، قال ابن عباس : إنّ جماعة من اليهود و نصارى نجران ذمّوا أهل الإسلام ، كل فرقة تزعم أنّها أحق بدين اللّه من غيرها ، فقالت اليهود : نبيّنا موسى أفضل الأنبياء و كتابنا التوراة أفضل الكتب ، و قالت النصارى : نبيّنا عيسى أفضل الأنبياء و كتابنا الإنجيل أفضل الكتب و كل فريق منهما قالوا للمؤمنين كونوا على ديننا ، فأنزل اللّه تعالى هذه الآية ، و قيل انّ ابن صوريا قال لرسول اللّه ( صلى الله عليه وآله وسلم ) : ما الهدى إلاّ ما نحن عليه فاتّبعنا تهتدِ ، و قالت النصارى مثل ذلك ، فأنزل اللّه هذه الآية. ( وَ قَالُوا كُونُوا هُوداً أَوْ نَصَارَى تَهَتَدُوا ).
    فرّد اللّه عليهم بقوله : ( بَلْ مِلَّةَ إبْرَاهِيمَ حَنِيفَاً وَ مَا كَانَ مِنَ المُشِركِينَ ) ( البقرة/135 ).

8 ـ التشبّث بالكلمات المتشابهة :
    كان اليهود لايألون جهداً في إثارة القلاقل و الفتن و الإستهزاء بالنبيّ إلى حدّ
1 ـ السيرة النبوية : ج1 ص549 ، و مجمع البيان : ج1 ص359.

(262)
يصرّون على إستعمال الكلمات المشتركة بين المعنى الحسن و المعنى القبيح.
    فعلى سبيل المثال عندما كان النبيّ ( صلى الله عليه وآله وسلم ) يتحدّث ، كان المسلمون يطلبون منه التأنّي في التحدّث فيقولون « راعنا » بمعنى أمهلنا مشتق من مادّة « رعى » فحرّفت اليهود هذه اللفظة ، فقالوا يا محمد راعنا ، و هم يلحدون إلى الرعونة يريدون به النقيصة و الوقيعة و معناه « حمّقنا » ، و لأجل ذلك وافى الوحي وأمر أن يتركوا هذه الكلمة و يستعملوا مكانه « انظرنا » قال سبحانه : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُو لاَتَقُولُوا رَاعِنَا وَ قُولُوا انْظُرْنَا وَ اسْمَعُوا وَ لِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ ) ( البقرة/104 ).
    و قال العلاّمة الطباطبائي في الآية نهي شديد عن قول « راعنا » و هذه الكلمة ذكرتها آية اُخرى و بيّنت معناها في الجملة و هي قوله تعالى : ( مِنَ الَّذِينَ هَادُوا يُحَرِّفُونَ الكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَ يَقُولُونَ سَمِعْنَا وَ عَصَيْنَا وَ اسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَع وَ رَاعِنَا لَيّاً بِاَلْسِنَتِهِمْ وَ طَعْناً فِى الدِّينِ ) ( النساء/46 ).
    و منه يعلم أنّ اليهود كانوا يريدون بقولهم للنبيّ ( صلى الله عليه وآله وسلم ) راعنا نحواً من معنى قوله : ( اسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَع ) و لذلك ورد النهي عن خطاب رسول اللّه ( صلى الله عليه وآله وسلم ) بذلك و حينئذ ينطبق على ما نقل : إنّ المسلمين كانوا يخاطبون النبيّ ( صلى الله عليه وآله وسلم ) بذلك إذا ألقى إليهم كلاماً يقولون « رَاعِنَا يَا رَسُولَ اللّهِ » يريدون أمهلنا و انظرنا حتّى نفهم ما تقول ، و كانت اللفظة تفيد في لغة اليهود معنى الشتم ، فاغتنم اليهود ذلك فكانوا يخاطبون النبيّ ( صلى الله عليه وآله وسلم ) بذلك يظهرون التأدّب معه و هم يريدون الشتم ، و معناه عندهم اسمع لااسمعت ، فنزل : ( مَنَ الَّذِينَ هَادُوا يُحَرِّفُونَ الكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ وَ يَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَ اسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَع وَ رَاعِنَا ... ) و نهى اللّه المؤمنين عن الكلمة و أمرهم أن يقولوا ما في معناه و هو انظرنا ، فقال : ( لاَ تَقُولُوا رَاعِنَا وَ قُولُوا انْظُرْنَا ) (1).
1 ـ الميزان : ج1 ص248.

(263)
9 ـ كتمان الحقائق :
    سأل معاذبن جبل ، و سعد بن معاذ ، و خارجة بن زيد ، نفراً من أحبار اليهود عن بعض ما في التوراة ، فكتموهم و أبوا أن يخبروهم عنه ، فأنزل اللّه تعالى فيهم : ( إِنَّالَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ البَيِّنَاتِ وَ الهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَاهُ لِلنَّاسِ فِى الكِتَابِ اُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللّهُ وَ يَلْعَنُهُمُ اللاَّعِنُونَ ) ( البقرة/159 ) (1).
    و لو أنّ أحبار اليهود مثل كعب بن الأشرف و كعب بن أسد و ابن صوريا وغيرهم من علماء النصارى بيّنوا للناس ما ورد في التوراة و الإنجيل من أوصافه ( صلى الله عليه وآله وسلم ) لعمّ الإسلام شرق العالم و غربه و يا للأسف رجّحوا الإحتفاظ بمناصبهم على ثواب الآخرة.

10 ـ النبيّ الأكرم و بيت المدارس :
    دخل رسول اللّه ( صلى الله عليه وآله وسلم ) بيت المدارس (2) على جماعة من اليهود فدعاهم إلى اللّه ، فقال لهم النعمان بن عمرو و الحارث بن زيد على أي دين أنت يا محمد ؟ قال على ملّة إبراهيم و دينه ، قال : فإنّ إبراهيم كان يهوديّاً. فقال لهما رسول اللّه ( صلى الله عليه وآله وسلم ) فهلمّا إلى التوراة فهي بيننا و بينكم. فأبيا عليه ، فأنزل اللّه تعالى فيهما : ( أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ اُوتُوا نَصِيباً مِنَ الكِتَابِ يُدْعَونَ إِلَى كِتَابِ اللّهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ وَ هُمْ مَعْرِضُونَ * ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلاَّ أَيَّاماً مَعْدُودات وَ غَرَّهُمْ فِى دِينِهِمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ ) ( آل عمران/23و24 ).
    و قد رووا أنّ أحبار اليهود و نصارى نجران إجتمعوا عند رسول اللّه ، فقالت الأحبار : ما كان إبراهيم إلاّ يهوديّاً ، و قالت النصارى من أهل نجران : ما كان إبراهيم
1 ـ السيرة النبوية : ج1 ص551.
2 ـ بيت المدارس : هو بيت اليهود يتدارسون فيه كتابهم.


(264)
إلاّ نصرانيّاً ، فأنزل اللّه عزّ و جلّ فيهم : ( يَا أَهْلَ الكِتَابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِى إِبْرَاهِيمَ وَمَا اُنْرِلَتِ التَّوْرَاةُ وَ الإِنْجِيلُ إِلاَّ مِنْ بَعْدِهِ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ * هَا أَنْتُمْ هؤُلاءِ حَاجَجْتُمْ فِيمَا لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيمَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَ اللّهُ يَعْلَمُ وَ أَنْتُمْْ لاَتَعْلَمُونَ * مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيّاً وَ لاَنَصْرَانِيّاً وَ لِكِنْ كَانَ حَنِيفاً مُسْلِماً وَ مَا كَانَ مِنَ المُشْرِكِينَ * إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَ هَذَا النَّبِىُّ وَ الَّذِينَ آمَنُوا وَ اللّهُ وَلِىُّ المُؤْمِنِينَ ) ( آل عمران/65 ـ 68 ) (1).
    إنّ ادّعاءهم بأنّ إبراهيم ( عليه السلام ) كان يهوديّاً أو نصرانيّاً نابع عن جهلهم المطبق بحياة إبراهيم ، فكيف يكون إبراهيم يهوديّاً أو نصرانيّاً و هو والد إسحاق الّذي هو والد يعقوب المعروف بيهودا فما ظنّك بكونه نصرانيّاً ؟

11 ـ الإيمان غدوة و الكفر عشيّة :
    لمّا رأت اليهود أنّ الإسلام ينتشر شيئاً فشيئاً فحاولوا تشويه سمعته بالتظاهر بالإنتماء إلى الإسلام صباحاً و الخروج عنه عشيّة حتّى يلبسوا على المسلمين دينهم ويصيروا مثلهم ، فقال جماعة منهم : تعالوا نؤمن بما اُنزل على محمد و أصحابه غِدوة و نكفر به عشيّة حتّى نلبس عليهم دينهم لعلّهم يصنعون كما نصنع و يرجعون عن دينه ، فأنزل اللّه تعالى فيهم : ( يَا أَهْلَ الكِتَابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الحَقَّ بِالبَاطِل وَتَكْتُمُونَ الحَقَّ وَ أَنْتُمْ تَعْلَمُونَ * وَ قَالَتِ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الكِتَابِ آمِنُوا بِالَّذِى اُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ * وَ لاَ تُؤْمِنُوا إِلاَّ لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ قُلْ إِنَّ الهُدَى هُدَى اللّهِ أَنْ يُؤْتَى أَحَدٌ مِثْلَ مَا اُوتِيتُمْ أَوْ يُحَاجُّوكُمْ عِنْدَ رَبِّكُمْ قُلْ إِنَّ الفَضْلَ بِيَدِ اللّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ ) ( آل عمران/71 ـ 73 ).
     12 ـ إتّهام النبيّ بأنّه يُؤَلِّهُ نفسه :
    اجتمعت الأحبار من اليهود و النصارى من أهل نجران عند رسول اللّه ( صلى الله عليه وآله وسلم )
1 ـ السيرة النبوية : ج1 ص553.

(265)
فدعاهم إلى الإسلام ، فقالوا : أتريد منّا يا محمد أن نعبدك كما تعبد النصارى عيسى بن مريم ؟ و قال رجل من أهل نجران : أو ذاك تريد منّا يامحمد ؟ و إليه تدعونا ؟ فقال رسول اللّه : معاذ اللّه أن أعبد غير اللّه أو آمر بعبادة غيره فما بذلك بعثني اللّه و لا أمرني. فأنزل اللّه تعالى في ذلك من قولهما : ( مَا كَانَ لِبَشَر أَنْ يُؤْتِيَهُ اللّهُ الكِتَابَ وَ الحُكْمَ وَ النٌّبُوَّةَ ، ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَاداً لِى مِنْ دُونِ اللّهِ وَلكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الكِتَابَ وَ بِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ * وَ لاَيَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا المَلاَئِكَةَ وَ النَّبِيِّينَ أَرْبَاباً أَيَأْمُرُكُمْ بِالكُفِرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ ) ( آل عمران/79و80 ).
    و محصّل ما يستفاد من الآية إنّ البشر الذي آتاه اللّه تعالى الكتاب و الحكم والنبوّة كائناً من كان ـ عيسى كان اُم محمد ـ إنّما يدعوكم إلى التلبّس بالإيمان واليقين بما في الكتاب الذي تعلّمونه و تدرسونه من اُصول المعارف الإلهيّة والإتّصاف بالملكات و الأخلاق الفاضلة التي يشتمل عليها و العمل بالصالحات حتى تنقطعوا بذلك إلى ربّكم و تكونوا به علماء ربّانيين.
    ثمّ إنّ الربّاني منسوب إلى الرب ، زيد عليه الألف و النون للدلالة على التفخيم كما يقال « لحياني » لكثير اللحية و نحو ذلك ، فمعنى الربّاني شديد الإختصاص بالرب و كثير الإشتغال بعبوديّته و عبادته (1).

13 ـ سعيهم للوقيعة بين الأنصار :
    نزل النبيّ الأكرم ( صلى الله عليه وآله وسلم ) مدينة يثرب فوجد الأوس والخزرج في شقاق ، فآخى بينهما و جعل الجميع صفّاً واحداً في وجه اليهود ، فشقّ ذلك على الكافرين فحاولوا جاهدين أن يشقّوا عرى وحدتهم بوسائل مختلفة ، فمرّ شاس بن قيس ـ و كان شيخاً عظيم الكفر ، شديد الضغن على المسلمين ، شديد
1 ـ السيرة النبوية : ج1 ص554 ، الميزان : ج3 ص276.

(266)
الحسد عليهم ـ على نفر من أصحاب رسول اللّه من الأوس و الخزرج ، في مجلس قدجمعهم يتحدّثون فيه فغاظه ما رأى من إلفهم وجماعتهم ، وصلاح ذات بينهم على الإسلام بعد الذي كان بينهم من العداوة في الجاهلية ، و قال : قد إجتمع ملأ بني قيلة بهذا البلاد ، لا و اللّه ما لنا معهم إذا إجتمع ملؤهم بها من قرار ، فأمر فتىً شابّاً من اليهود كان معهم ، فقال أعمد إليهم ، فاجلس معهم ثمّ اذكر يوم بعاث و ماكان قبله وأنشدهم بعض ما كانوا تقوّلوا فيه من الأشعار ، ففعل ذلك الشاب ، فتكلّم القوم عند ذلك و تنازعوا و تفاخروا حتى تواثب رجلان من الحيّين ... فبلغ ذلك رسول اللّه ( صلى الله عليه وآله وسلم ) فخرج إليهم فيمن معه من أصحابه المهاجرين حتى جاءهم فقال : يا معشر المسلمين! اللّه اللّه! أبدعوى الجاهلية. و أنا بين أظهركم بعد أن هداكم اللّه للإسلام و أكرمكم به و قطع به عنكم أمر الجاهلية ، و استنقذكم به من الكفر ، و ألّف به بين قلوبكم ، فعرف القوم أنّها نزعة من الشيطان و كيد من عدوهم فبكوا و عانق الرجال من الأوس و الخزرج بعضهم بعضاً ثمّ انصرفوا مع رسول اللّه ( صلى الله عليه وآله وسلم ) سامعين مطيعين قد أطفأ اللّه عنهم كيد عدوّ اللّه شاس بن قيس ، فأنزل اللّه تعالى في شاس بن قيس و ما صنع : ( قُلْ يَا أَهْلَ الكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللّهِ وَ اللّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا تَعْمَلُونَ * قُلْ يَا أَهْلَ الكِتَابِ لِمَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللّهِ مَنْ آمَنَ تَبْغُونَهَا عِوَجاً وَ أَنْتُمْ شُهَدَاءُ وَ مَا اللّهُ بِغَافِل عَمَّا تَعْمَلُونَ ) ( آل عمران/98و99 ) (1).

14 ـ الحط من شأن مَنْ آمن من اليهود :
    قد سبق و أن عرفت أنّ اليهود كانوا ـ و مازالوا ـ أكثر تعصّباً لقوميتهم و دينهم ولأجل ذلك لم يدخل منهم في الإسلام إلاّ الأقل القليل مثل عبد اللّه بن سلام ، وثعلبة بن سعية ، و أسيد بن سعية ، و أسد بن عبيد و من أسلم من اليهود معهم ، فخاف الملأ من اليهود أن يدخل الإسلام في سائر البيوت ، فنشروا بينهم : ما آمن بمحمد و لااتّبعه إلاّ شرارنا و لو كانوا من أخيارنا ما تركوا دين آبائهم و ذهبوا إلى غيره ،
1 ـ السيرة النبوية : ج1 ص556.

(267)
فأنزل اللّه تعالى في ذلك : ( لَيْسُوا سَوَاءً مِنْ أَهْلِ الكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللّهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَ هُمْ يَسْجُدُونَ ) ( آل عمران/113 ).

15 ـ دعوة المسلمين إلى البخل :
    كان الإسلام ينتشر صيته في الربوع و الآفاق بفضل ما كان يمتلكه من مبادئ سامية و قيم مثالية و إيثار معتنقيه النفس و النفيس ، فشق ذلك على اليهود فحاولوا خداع المسلمين حتّى يصدّوهم عن البذل في سبيل نصرة الدعوة المحمدية وخوّفوهم بحلول القحط.
    قال ابن هشام : كان رجال من اليهود يأتون رجالاً من الأنصار يخالطونهم ينتصحون لهم من أصحاب رسول اللّه ، فيقولون لهم : لاتنفقوا أموالكم فإنّنا نخشى عليكم الفقر في ذهابها و لاتسارعوا في النفقة فإنّكم لاتدرون على ما يكون ، فأنزل اللّه فيهم : ( الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَ يأْمُرُونَ النَّاسَ بِالبُخْلِ وَ يَكْتُمُونَ مَا آتَاهُمُ اللّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَأعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَاباً مُهَيناً ) ( النساء/37 ).
     16 ـ تفضيلهم الوثنية على الإسلام :
    كانت فكرة تأليب العرب هي الفكرة التي إختمرت في نفوس يهود المدينة خصوصاً بعد غزوة بدر و أُحد ، فخرجوا من المدينة نازلين بمكة ، فقالت قريش لليهود : يا معشر اليهود إنّكم أهل الكتاب الأوّل و أهل العلم بما أصبحنا نختلف فيه نحن و محمد أفديننا خير أم دينه ؟ قالت اليهود : بل دينكم خير من دينه وأنتم أولى بالحق منه ، فنزل القرآن ردّاً عليهم بقوله : ( أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ اُوتُوا نَصِيباً مِنَ الكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالجِبْتِ وَ الطَّاغُوتِ وَ يَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفُرُوا هؤُلاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلاً * اُولئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللّهُ وَ مَنْ يَلْعَنِ اللّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيراً ) ( النساء/51و52 ).
    و في موقف اليهود هذا من قريش و تفضيلهم و ثنيّتهم على توحيد


(268)
محمد ( صلى الله عليه وآله وسلم ) يقول الدكتور إسرائيل و لفنسون في كتابه ( تاريخ اليهود في بلاد العرب ) :
    « كان من واجب هؤلاء ألاّ يتورّطوا في مثل هذا الخطأ الفاحش و ألاّ يصرّحوا أمام زعماء قريش بأنّ عبادة الأصنام أفضل من التوحيد الإسلامي و لو أدّى بهم الأمر إلى عدم إجابة مطالبهم لأنّ بني إسرائيل الّذين كانوا مدّة قرون حاملي راية التوحيد في العالم بين الاُمم الوثنية بإسم الآباء الأقدمين و الذين نكبوا بنكبات لاتحصى من تقتيل و إضطهاد بسبب إيمانهم باله واحد في عصور شتّى من الأدوار التاريخية ، كان من واجبهم أن يضحّوا بحياتهم و كل عزيز لديهم في سبيل أن يخذلوا المشركين ، هذا فضلاً عن أنّهم بإلتجائهم إلى عبدة الأصنام إنّما كانوا يحاربون أنفسهم و يناقضون تعاليم التوراة التي توصيهم بالنفور من أصحاب الأصنام و بالوقوف منهم موقف الخصومة » (1).

17 ـ إدّعاؤهم أنّهم أحبّاء اللّه و أصفياؤه :
    أتى رسول اللّه ( صلى الله عليه وآله وسلم ) جماعة من اليهود فكلّموه و كلّمهم رسول اللّه ( صلى الله عليه وآله وسلم ) و دعاهم إلى اللّه و حذّرهم نقمته ، فأنزل اللّه تعالى فيهم : ( وَ قَالَتِ اليَهُودُ وَ النَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللّهِ وَ أَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَ يُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَ للّهِ مُلْكُ السَّموَاتِ وَ الأَرْضِ وَ مَا بَيْنَهُمَا وَ إِلَيْهِ المَصِيرُ ) ( المائدة/18 ).
     18 ـ إنكارهم نزول كتاب بعد موسى :
    دعا رسول اللّه ( صلى الله عليه وآله وسلم ) اليهود إلى الإسلام و رغّبهم فيه ، وحذّرهم غِيْرَ اللّه و عقوبته ، فأبوا عليه و كفروا بما جاءهم به ، فقال لهم معاذ بن
1 ـ السيرة النبوية : ج1 ص562 ، حياة محمد ( صلى الله عليه وآله وسلم ) لهيكل ، ص328 ـ 329.

(269)
جبل و سعد بن عبادة و عقبة بن وهب : يا معشر اليهود إتّقو اللّه فواللّه إنّكم لتعلمون أنّه رسول اللّه و لقد كنتم تذكرونه لنا قبل مبعثه و تصفونه لنا بصفته ، فقال بعضهم : ما قلنا لكم هذا قط و ما أنزل اللّه من كتاب بعد موسى و لاأرسل بشيراً و لانذيراً بعده ، فأنزل اللّه تعالى في ذلك من قولهما :
    ( يَا أَهْلَ الكِتَابِ قَدْجَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلَى فَتْرَة مِنَ الرُّسُلِ أَنْ تَقُولُوا مَا جَاءَنَا مِنْ بَشِير وَ لاَ نَذِير فَقَدْ جَاءَكُمْ بَشِيرٌ وَ نَذِيرٌ وَ اللّهُ عَلَى كُلِّ شَيْء قَدِيرٌ ) ( المائدة/19 ) (1).

19 ـ رجوعهم إلى النبيّ في حكم الرجم :
    إنّ أحبار اليهود إجتمعوا في بيت المدارس ، حين قدم رسول اللّه المدينة وقدزنى رجل منهم بعد إحصانه بامرأة من اليهود قد أحصنت ، فقالوا : إبعثوا بهذا الرّجل و هذه المرأة إلى محمد فسلوه كيف الحكم فيهما ، و ولّوه الحكم عليهما فإن عمل فيهما بعمل من التجبية فاتّبعوه (2) فإنّما هو ملك و صدّقوه ، و إن هو حكم فيهما بالرجم فإنّه نبي فاحذروه على ما في أيديكم أن يسلبكموه ، فأتوه فقالوا : يا محمد! هذا رجل قد زنى بعد إحصانه بامرأة قد أحصنت فاحكم فيهما ، فقد ولّيناك الحكم فيهما ، فمشى رسول اللّه حتّى أتى أحبارهم في بيت المدارس ، فقال : يا معشر اليهود! إخرجوا إليّ علماؤكم فاُخرج له عبد اللّه بن صوريا و غيره ، فقالوا : هؤلاء علماؤنا ، و قالوا : إنّ عبداللّه ابن صوريا أعلم من بقى بالتوراة ، فخلي به رسول اللّه وكان غلاماً شابّاً من أحدثهم سنّاً ، فألحّ رسول اللّه عليه المسألة و قال له : أنشدك اللّه و اُذكّرك بأيّامه عند بني إسرائيل ، هل تعلم أنّ اللّه حكم في من زنى بعد إحصانه بالرجم في التوراة ؟
1 ـ السيرة النبوية : ج1 ص563 ـ 564.
2 ـ الجلد بحبل من ليف مطلي بقار ثمّ تسوّد وجوههما ، ثمّ يحملان على حمارين و تجعل وجوهها من قبل ادبار الحمارين.


(270)
    قال : اللّهم نعم! أما واللّه يا أبا القاسم إنّه ليعرفونك أنّك لنبيّ مرسل و لكنّهم يحسدونك ، فخرج رسول اللّه فأمر بهما فرجما في باب مسجده ، ثمّ كفر بعد ذلك ابن صوريا و جحد نبوّة رسول اللّه ، فأنزل اللّه سبحانه : ( يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لاَيَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِى الكُفِرِ مِنَ الَّذِينَ قَالُوا آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَ لَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ وَ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْم آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ يُحَرِّفُونَ الكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَوَاضِعِهِ يَقُولُونَ إِنْ اُوتِيتُمْ هَذَا فَخُذُوهُ وَ إِنْ لَنْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا وَ مَنْ يُرِدِ اللّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللّهِ شَيْئاً اُولئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللّهُ أَنْ يِطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِى الدُّنْيَا خِزْىٌ وَ لَهُمْ فِى الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ * سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أكَّالُونَ لِلسُّحْتِ فَإِنْ جَاؤوكَ فَاحْكمْ بَيْنَهُمْ أَو أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَ إِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئاً وَ إِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالقِسْطِ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ المُقْسِطِينَ ) ( المائدة/41و42 ).
    و نقل ابن هشام عن ابن إسحاق : إنّه لما حكّموا رسول اللّه ( صلى الله عليه وآله وسلم ) فيهما ، دعاهم بالتوراة و جلس حبر منهم يتلوها و قد وضع يده على آية الرجم ، فضرب عبد اللّه بن سلام يد الحبر ثمّ قال : هذه يا نبيّ اللّه آية الرجم يأبى أن يتلوها عليك ، فقال لهم رسول اللّه ( صلى الله عليه وآله وسلم ) : و يحكم يا معشر يهود! ما دعاكم إلى ترك حكم اللّه و هو بأيديكم ؟ قال : « فقالوا أما و اللّه أنّه قد كان فينا يعمل به ، حتّى زنى رجل منّا بعد إحصانه من بيوت الملوك و أهل الشرف فمنعه الملك من الرّجم ثمّ زنى رجل بعده فأراد أن يرجمه فقالوا : لا و اللّه حتّى ترجم فلاناً! فلمّا قالوا له ذلك إجتمعوا فأصلحوا أمرهم على التجبية و أماتوا ذكر الرجم ، و العمل به ». قال : فقال رسول اللّه ( صلى الله عليه وآله وسلم ) : فأنا أوّل من أحيا أمر اللّه وكتابه و عمل به ، ثمّ أمر بهما فرجما عند باب مسجده ، قال عبد اللّه بن عمر : فكنت فيمن رجمهما (1).
1 ـ السيرة النبوية : ج1 ص566.
مفاهيم القرآن ـ جلد السابع ::: فهرس