مفاهيم القرآن ـ جلد السابع ::: 291 ـ 300
(291)
فهلمّوا نؤمن به و نكون قد أدركنا الكتابين ، فلم تجبه قينقاع إلى ذلك (1).
    هذا هو نص الميثاق ، و سنوافيك في هذا البحث و ما يتلوه إنّهم كيف ضربوا به عرض الجدار خصوصاً بعد ما بلغهم إنتصار المسلمين على قريش في غزوة بدر فانتابهم الهلع و الخوف ، و ترقّبوا الخطر المحدق بهم ، و قد بلغ النبيَّ أخبار بني قينقاع ، و ما أخذوا يتفوّهون به ضدّه ، فلأجل إتمام الحجة جمعهم رسول اللّه في سوق بني قينقاع بعد نزوله عن بدر ، فقال : يا معشر يهود أسلموا قبل أن يصيبكم اللّه بمثل ما أصاب به قريشاً ، فقالوا له : يا محمّد لايغرّنّك من نفسك أنّك قتلت نفراً من قريش ، كانوا أغماراً (2) لايعرفون القتال ، إنّك و اللّه لو قاتلتنا لعرفت انّا نحن الناس وإنّك لنتلقى مثلنا ، فأنزل اللّه تعالى في ذلك من قولهم : ( قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلَى جَهَنَّمَ وَ بِئْسَ المِهَادُ * قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِى فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِى سَبِيلِ اللّهِ وَ اُخْرَى كَافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْىَ العَيْنِ وَ اللّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشَاءُ إِنَّ فِى ذِلِكَ لَعِبْرَةً لاُِولِى الأَبْصَارِ ) ( آل عمران/12و13 ) (3).
    و بين ما هم عليه من إظهار العداوة و نقض العهد ، جاءت امرأة نزيعة (4) من العرب تحت رجل من الأنصار إلى سوق بني قينقاع ، و جلست عند صائغ في حُليّ لها ، فجاء رجل من يهود قينقاع فجلس من ورائها و لاتشعر ، فخلّى (5) درعها إلى ظهرها بشوكة ، فلمّا قامت المرأة بدت عورتها ، فضحكوا منها ، فقام إليه رجل من المسلمين فاتّبعه فقتله ، فاجتمعت بنو قينقاع فتحايشوا ، فقتلوا الرّجل و نبذوا العهد إلى النبيّ و تحصّنوا في حصنهم (6).
1 ـ البحار ج19 ص110 ـ 111 ( طبع بيروت ).
2 ـ الأغمار جمع الغمر و هو الذي لم يجرّب الاُمور.
3 ـ السيرة النبويّة ج1 ص552 ، مجمع البيان ج2 ص 706 ، المغازي للواقدي ج1 ص176.
4 ـ المرأة التي تزوّجت في غير عشيرتها.
5 ـ أي جمع بين طرفي الشيء.
6 ـ المغازي للواقدي ج1 ص176و177.


(292)
    فاستصرخ أهل المسلم المسلمين على اليهود ، فغضب المسلمون ، فحاصرهم رسول اللّه حتّى نزلوا على حكمه.
    روى الواقدي : لمّا رجع ( رسول اللّه ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ) من بدر حسدوه فأظهروا الغشّ ، فنزل عليه جبرئيل ( عليه السلام ) بهذه الآية : ( وَ أَمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْم خِيَانَة فَأْنْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سِوَاء إِنَّ اللّهَ لاَيُحِبُّ الخَائِنِينَ ) ( الأنفال/58 ).
    قال : فلمّا فرغ جبرئيل قال له رسول اللّه ( صلى الله عليه وآله وسلم ) فأنا أخافهم. فسار رسول اللّه ( صلى الله عليه وآله وسلم ) بهذه الآية حتّى نزلوا على حكمه و لرسول اللّه أموالهم ، و لهم الذرّية و النساء (1).
    فقام عبد اللّه بن اُبي بن سلول رئيس المنافقين في المدينة بالشفاعة لهم فقال : يا محمّد أحسن في موالي ، و كانوا حلفاء الخزرج ، فأبطأ عليه رسول اللّه ، فقال : يامحمّد ، أحسن في موالي ، فأعرض عنه ، فأدخل يده في جيب درع رسول اللّه ، فقال له رسول اللّه : أرسلني ، و غضب رسول اللّه حتّى رأوا لوجهه ظللاً ، ثمّ قال : ويحك أرسلني ، قال : لا و اللّه لاأرسلك حتّى تحسن في موالي ، أربعمائة حاسر (2) وثلاث مائة دارع ، قد منعوني من الأحمر و الأسود ، تحصدهم في غداة واحدة إنّي واللّه أمرؤٌ أخشى الدوائر ، فقال رسول اللّه : هم لك ، فاستعمل رسول اللّه على المدينة في محاصرته إيّاهم بشير بن عبد المنذر ، و كانت محاصرته إيّاهم خمس عشرة ليلة.
    و كان لعبادة بن الصامت مثل الحلف الذي كان لهم من عبد اللّه بن اُبي ، فجاء عبادة بن الصامت و قال : يا رسول اللّه أتولّى اللّه و رسوله و المؤمنين ، و أبرأُ من حلف هؤلاء الكفّار و ولايتهم ، و في تلك القصّة نزلت الآيات التالية :
    ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَتَتَّخِذُوا اليَهُودَ وَ النَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْض وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللّهَ لاَيَهْدِى القَوْمَ الظَّالِمِينَ * فَتَرَى الَّذِينَ فِى قُلُوبِهِمْ
1 ـ مغازي الواقدي ج1 ص180.
2 ـ الحاسر الذي لادرع له و يقابله الدارع.


(293)
مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهُمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنا دَائِرَةٌ فَعَسَى اللّهُ أَنْ يَأْتِيَه بِالفَتْحِ أَوْ أَمْر مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلَى مَا أَسَرُّوا فِى أَنْفُسِهِمْ نَادِمِينَ * وَ يَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا أَهَؤُلاَءِ الَّذِينَ أَقْسَمُوا بِاللّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَأَصْبَحُوا خَاسِرِينَ ) ( المائدة/51 ـ 53 ).
    فلمّا أصرّ ابن اُبي فيهم تركهم رسول اللّه و أمر بهم أن يجلوا من المدينة.
    و روى الواقدي : كان ابن اُبيّ أمرهم أن يتحصّنوا و زعم أنّه سيدخل معهم ، فخذلهم و لم يدخل معهم ، و لزموا حصنهم فما رموا بسهم ، و لاقاتلوا حتّى نزلوا على صلح رسول اللّه و حكمه ، و أموالهم لرسول اللّه ، فلمّا نزلوا و فتحوا حصنهم ، كان محمّد بن مسلمة هو الذي أجلاهم و قبض أموالهم ، و أمر رسول عبادة بن الصامت أن يجليهم ، فقالت قينقاع ، يا أبا الوليد نحن مواليك فعلت هذا بنا ؟
    قال لهم عبادة لمّا حاربتم جئت إلى رسول اللّه فقلت : يا رسول اللّه إنّي أبراُ إليك منهم و من حلفهم ، و كان ابن اُبي وعبادة بن الصامت منهم بمنزلة واحدة في الحلف ، فقال عبداللّه بن اُبي : تبرّأت من حلف مواليك ، فقال عبادة : أبا الحبّاب تغيّرت القلوب و محي الإسلام العهود ، فخرجوا إلى الشام و لحقوا بإذرعات (1) ثمّ هلكوا (2).
1 ـ بلد في أطراف الشام يجاور أرض البلقا و عمان « معجم البلدان ج1 ص162 ).
2 ـ السيرة النبويّة ج1 ص47 ـ 49 ، المغازي للواقدي ج1 ص176 ـ 180.


(294)
2 ـ إجلاء بني النضير
    قدم أبو براء ، عامر بن مالك على رسول اللّه المدينة فعرض عليه رسول اللّه الإسلام و دعاه إليه ، فلم يسلم و لم يبعد من الإسلام ، و قال : يا محمّد لو بعثت رجالاً من أصحابك إلى نجد ، فادعوهم إلى أمرك رجوت أن يستجيبوا لك ، فقال رسول اللّه : إنّي أخشى عليهم أهل نجد ، قال أبو براء : أنا لهم جار ، فابعثهم فليدعوا الناس إلى أمرك ، فبعث رسول اللّه المنذر بن عمرو في أربعين رجلاً (1) من خيار المسلمين فساروا حتّى نزلوا بئر معونة و هي بين أرض بني عامر ، و حرة بني سليم ، كلا البلدين منها قريب و هي إلى حرّة بني سليم أقرب.
    فلمّا نزلوها بعثوا ابن ملحام بكتاب رسول اللّه إلى عامر بن الطفيل ، فلمّا أتاه لمينظر في كتابه حتّى عدى على ا لرجل فقتله ، ثمّ استصرخ عليهم بني عامر فأبوا أن يجيبوه إلى ما دعاهم إليه ، وقالوا لن نحفر (2) أبا براء لقد عقد لهم عقداً و جواراً ، فاستصرخ عليهم قبائل من بني سليم فأجابوه إلى ذلك ، فخرجوا حتّى غشوا القوم ، فأحاطوا بهم في رحالهم ، فلمّا رأوهم أخذوا سيوفهم ثمّ قاتلوهم حتّى قتلوا من عندآخرهم إلاّ كعب بن زيد فإنّهم تركوه وبه رمق ، فرفع من بين القتلى فقدم المدينة.
    و كان في مسير القوم عمرو بن اُميّة الضمري و رجل من الأنصار فلمّا إطّلعا على قتل إخوانهم ، قال عمرو بن اُميّة : نخبر رسول اللّه ، فقال الأنصاري : ما كنت لأرغب بنفسي عن موطن قتل فيه المنذر بن عمرو ، فقاتل القوم حتّى قتل و اُسر عمرو ابن اُميّة ، و أطلقه عامر بن الطفيل و جزّ ناصيته ، فأقبل عمرو بن اُميّة إلى المدينة
1 ـ أو سبعين رجلاً على ما في صحيح البخاري و مسلم.
2 ـ أي لاننقض عهده.


(295)
ولقى في مسيره رجلين من بني عامر و قد سألهما ممّن أنتما ؟ فقالا : من بني عامر فأمهلهما حتّى إذا ناما ، عدى عليهما فقتلهما و هو يرى أنّه أصاب بهما الثأر من بني عامر ، فيما أصابوا من أصحاب رسول اللّه ، فلمّا قدم عمرو بن اُميّة على رسول اللّه فأخبره الخبر ، قال رسول اللّه : لقد قتلت قتيلين لاُدِينهما (1).
    خرج رسول اللّه إلى بني النضير يستعينهم في ديّة ذينك القتيلين من « بني عامر » اللذين قتلهما عمرو بن اُميّة الضمري ، فكان بين بني النضير و بين بني عامر عقد وحلف ، فلمّا أتاهم رسول اللّه يستعينهم في أداء الديّة ، قالوا : نعم يا أبا القاسم نعينك على ما أجبت ممّا استعنت بنا عليه ، ثمّ خلا بعضهم ببعض فقالوا : إنّكم لنتجدوا الرجل على مثل حاله هذه ، و رسول اللّه إلى جنب جدار من بيوتهم قاعد ، فمن رجل يعلو على هذا البيت فيلقي عليه صخرة فيرحنا منه ، فانتبذ لذلك عمرو بن جحاش بن كعب فصعد ليلقي عليه صخرة و رسول اللّه في نفر من أصحابه.
    فأتى الخبر من السماء بما أراد القوم ، فقام و خرج إلى المدينة « و كأنّه يريد أن يقضي حاجة و ترك أصحابه في مجلسهم » (2) فلمّا إستلبث النبيّ أصحابه قاموا في طلبه فلقوا رجلاً مقبلاً من المدينة فسألوه عنه ، فقال : رأيته داخلاً المدينة ، فأقبل أصحاب رسول اللّه حتّى إنتهوا إليه فأخبرهم الخبر بما أراد اليهود من الغدر إليه ، وأمر رسول اللّه بالتهيّؤ لحربهم ، و السير إليهم ، و استعمل على المدينة ابن أمّ مكتوم فتحصّنوا في الحصون.
    و قد بعث عبد اللّه بن اُبي بعض أصحابه إلى بني النضير ، فقال لهم : إثبتوا وتمنّعوا فإنّا لن نسلّمكم ، إن قوتلتم قاتلنا معكم ، و إن اُخرجتم خرجنا معكم ،
1 ـ أي لأدفع ديّتهما ، و وجهه : إنّ القتل وقع بقبيلة بني سليم لاببني عامر ، فإنّهم و إن لميدافعوا عن المسلمين و خذلوهم ، و لكنّهم لم يشتركوا في مقاتلتهم ، فكان قتل هذين الرجلين بلاظلامة اقترفاها ، و هذا إن دلّ على شيء فإنّما يدلّ على أنّ الرسول كان يقوم بالعدل ولايأخذه في ذلك شيء من الأهواء.
2 ـ ما بين القوسين ممّا رواه الواقدي.


(296)
فتربّصوا ذلك من نصرهم ، و لم يكن وعده إلاّ خداعاً ، و في ذلك نزل الوحي :
    ( أَلَمْ تَرَ إِلِى الَّذِينَ نَافَقُوا يَقُولُونَ لاِِخْوَانِهِمُ الَّذِينَ كَفُرُوا مِنْ أَهْلِ الكِتَابِ لَئِنْ اُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَ لاَنُطِيعُ فِيكُمْ أَحَداً أَبَداً وَ إِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ وَ اللّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ * لَئِنْ اُخْرِجُوا لاَيَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَ لَئِنْ قُوتِلُوا لاَيَنْصُرُونَهُمْ وَ لَئِنْ نَصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ الأَدْبَارَ ثُمَّ لاَيُنْصَرُونَ * لاَنْتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِى صُدُورِهِمْ مِنَ اللّهِ ذِلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَيَفْقَهُونَ * لاَيُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعَاً إِلاَّ فِى قُرىً مُحَصَّنَة أَوْ مِنْ وَرَاءِ جُدُر بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً وَ قُلُوبُهُمْ شَتَّى ذِلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَيَعْقِلُونَ * كَمَثَلِ الَّذِينَ قَبْلِهِمْ قَرِيباً ذَاقُوا وَ بَالَ أَمْرِهِمْ وَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ) ( الحشر/11 ـ 15 ) ففي هذه الآيات ملاحم و تنبّؤات غيبية كشف عنها الوحي. و إليك الإشارة إليها :
    1 ـ إنّ اليهود لعلاقتهم الشديدة بالحياة لايجرأون على مقاتلتكم خارج حصونهم ، و إنّما يقاتلونكم متمنّعين بحصونهم ، و يكتفون في ذلك برشقهم بالحجارة و نحوها ، كما أشار إليه قوله : ( لاَيُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعاً إِلاَّ فِى قُرَىً مُحَصَّنَة أَوْ مِنْ وَرَاءِ جُدُر ).
    2 ـ يستأسدون عند الإجتماع ببعضهم البعض و لكنّهم عند لقاء المسلمين ينتابهم الخوف و الرعب و الهلع ، و يستفاد ذلك من ضم الآيتين أعني قوله : ( بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ ) إلى قوله : ( لاَنْتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِى صُدُورِهِمْ مِنَ اللّهِ ).
    3 ـ إنّهم يتظاهرون بوحدة الكلمة ، و لكنّها وحدة شكلية صورية و قلوبهم شتّى ، و إليه يشير قوله سبحانه : ( تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً وَ قُلُوبُهُمْ شَتَّى ).
    ثمّ إنّ الذكر الحكيم يصفهم بأنّهم قوم لايعقلون و لايتّخذون العبرة ممّا لاقاه بنو قينقاع ، و إليه يشير قوله : ( كَمَثَلِ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَرِيباً ذَاقُوا وَ بَالَ أَمْرِهِمْ ).
    ثمّ إنّ الملاحم الواردة فيما سبق من الآيات لاتنحصر بذلك بل تنبّأت بأنّ وعد النصر من جانب المنافقين وعد خاو و مكذوب لايفون به ، و إليه يشير قوله سبحانه : ( لَئِنْ اُخْرِجُوا لاَيَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَ لَئِنْ قُوتِلُوا لاَيَنْصُرُونَهُمْ وَ لَئِنْ نَصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ الأَدْبَارَ ثُمَّ لاَيُنْصَرُونَ ).


(297)
    و قد تنبّأ القرآن بكل ما ذكرنا قبل وقوع النصر و غلبة المسلمين عليهم.
    روى البيهقي : إنّ النبيّ مضى لأمر اللّه تعالى فأمر أصحابه فأخذوا السلاح ، ثمّ مضى إليهم و تحصّنت اليهود في دورهم و حصونهم ، فلمّا إنتهى رسول اللّه ( صلى الله عليه وآله وسلم ) إلى أزقّتهم و حصونهم فأمر بالأدنى فالأدنى من دورهم أن تهدم ، وبالنخل أن تحرق و تقطع ، و كفّ اللّه تعالى أيديهم و أيدي المنافقين فلم ينصرونهم ، و ألقى اللّه عزّو جلّ في قلوب الفريقين الرعب (1).
    لم يكن عمل النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) في هذا المجال إلاّ إيجاداً للرعب في قلوب الكافرين و التعجيل في إستسلامهم ، فإنّ اليهود ما زالوا و لن يزالوا عالقين بالمال و الثروة ، و يحبّونهما كحب الأنفس و الأولاد ، فلم يكن للنبيّ إلاّ الإضرار ببعض أموالهم و ثرواتهم لتلك الغاية ، و الشاهد على ذلك أنّ النبيّ لم يقطع إلاّ بعض النخيل قوله تعالى : ( مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَة أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى اُصُولِهَا فَبِإِذْنِ اللّهِ وَ لِيُخْزِىَ الفَاسِقِينَ ) ( الحشر/5 ) ، و أمّا الدور التي هدمها النبي فكانت عبارة عن الدور الواقعة خارج الحصن بشهادة أنّهم هدموا دورهم بأيديهم عند مغادرة المدينة ، يقول سبحانه : ( يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَ أَيْدِى المُؤْمُنِينَ فَاعْتَبِرُوا يَا اُولِى الأَبْصَارِ ) ( الحشر/2 ).
    فهذا العمل العسكري من النبي و أصحابه كان عملاً تكتيكيّاً لغاية قصوى ، وهو الإستيلاء عليهم بلا إراقة الدم من الجانبين ، و لولا ذلك ربّما طال الحصار وكان من المتوقّع تحقّق الإشتباك الدموي بين الطرفين. فلما رأوا أنّ النبيّ مصمّم على الإستيلاء عليهم ، سألوه أن يجليهم و يكف عن دماءهم على أنّ لهم ما حملت الإبل من أموالهم إلاّ السلاح ، فقبل النبيّ ، فاحتملوا من أموالهم ما إستقالت به الإبل ، فكان الرجل منهم يهدم بيته عن نجاف (2) بابه ، فيضعه على ظهر بعيره
1 ـ دلائل النبوّة ج3 ص181 ، و المغازي للواقدي ، ج1 ص374 ، و السيرة النبويّة لابنهشام ج2 ص191.
2 ـ نجاف ـ على وزن كتاب ـ : العتبة التي على الباب.


(298)
فينطلقبه ، فخرجوا من المدينة إلى خيبر و بعضهم صار إلى الشام.
    و من الذين صاروا إلى خيبر سلاَّم بن أبي الحقيق و كنانة بن الربيع بن أبي الحقيق و حُيي بن الأخطب.
    و العجب انّهم خرجوا بنساءهم و أبنائهم و أموالهم ومعهم الدفوف و المزامير و القيان يعزفن خلفهم ، و ماهذا إلاّ لأجل إلقاء الستار على خذلانهم فكأنّهم أرادوا بالخروج بهذه الكيفية أنّهم ليسوا بمغلوبين ولامحزونين ، وإنّما يخرجون مع النشاط والسرور لأنّهم ينتقلون إلى أمكنة خصبة بالعطف والحنان (1).
    و أمّا الأراضي التي تركوها فجعلها سبحانه نفلاً لرسول اللّه و لم يجعل فيها سهماً لأحد غيره ، قال سبحانه : ( وَمَا أَفَاءَ اللّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَا أَوْجَفْتُمْ (2) عَلَيْهِ مِنْ خَيْل وَ لاَرِكَاب وَ لَكِنَّ اللّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَ اللّهُ عَلَى كُلِّ شَيْء قَدِيرٌ * مَا أَفَاءَ اللّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ القُرَى فَلِلّه وَ لِلرَّسُولِ وَ لِذِى القُرْبَى وَ اليَتَامَى وَالمَسَاكِينِ وَ ابْنِ السَّبِيلِ كَىْ لاَيَكُونَ دُوْلَةً بَيْنَ الأَغْنِياءِ مِنْكُمْ وَ مَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَ مَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَ اتَّقُوا اللّهَ إِنَّ اللّهَ شَدِيدُ العِقَابِ * لِلْفُقَرَاءِ المُهَاجِرِينَ الَّذِينَ اُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَ أَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللّهِ وَ رِضْوَانَاً وَ يَنْصُرُونَ اللّهَ وَ رَسُولَهُ اُولئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ ) ( الحشر/6 ـ 8 ).
    فالآيات الكريمة تحدّد مواضع صرف الأموال التي أفاء اللّه على رسوله ، فذكر مصارفها المتعدّدة فيها ، و لكنّ النبيّ حسب ما ورد في السيرة قسّمها على المهاجرين الأوّلين دون الأنصار إلاّ سهل بن حنيف و أبا دجانة الأنصاري ـ سماك بن حرشة ـ ذكرا فقراً فأعطاهما رسول اللّه ( صلى الله عليه وآله وسلم ) .
    و لم يسلم من بني النضير إلاّ رجلان. أسلما على أموالهما فأحرزاها.
1 ـ قال الواقدي : و مرّوا يضربون بالدفوف ، و يزمّرون بالمزامير ... مظهرين ذلك تجلّداً المغازي للواقدي ج1 ص375.
2 . فما أوجفتم : أي ما حرّكتم و أتعبتم في السير ، قال سبحانه : ( قُلُوب يَوْمَئِذ وَاجِفَة ).


(299)
    و قد نزلت سورة الحشر في هذه القصة و اللّه سبحانه يمنّ على المؤمنين ، بأنّه سبحانه سلّطهم على الكافرين عن طريق إيجاد الرعب في قلوبهم ، كما يبيّن بأنّهم جوزوا بسوء أعمالهم ، قال سبحانه :
    ( هُوَ الَّذِى أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الكِتَابِ مِنْ دِيَارِهِمْ لاَِوَّلِ الحَشْرِ مَاظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا وَ ظَنُّوا أَنَّهُمْ مَانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللّهِ فَأَتَاهُمُ اللّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْيَحْتَسِبُوا وَ قَذَفَ فِى قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَ أَيْدِى المُؤْمِنِينَ فَاعْتَبُرُوا يَا أُولِى الأَبْصَارِ * وَ لَوْلاَ أَنْ كَتَبَ اللّهُ عَلَيْهِمُ الجَلاَءَ لَعَذَّبَهُمْ فِى الدُّنْيَا وَ لَهُمْ فِى الآخِرَةِ عَذَابُ النَّارِ * ذلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللّهَ وَ رَسُولَهُ وَ مِنْ يُشَاقِّ اللّهَ فَإِنَّ اللّهَ شَدِيدُ العِقَابِ ) ( الحشر/2 ـ 4 ).
    و بإجلاءهم لم تبق في المدينة طائفة من اليهود ، إلاّ قبيلة بني قريظة ، و كان النبي يحترم عهودهم ماداموا حافظين عليها. و لمّا ظهرت منهم بادرة النقض ، أخذهم النبيّ أخذ عزيز مقتدر ، كما سيبيّن في الفصل القادم.


(300)
3 ـ إبادة بني قريظة
    لقد أجلى النبيّ الأكرم قبيلتي بني قينقاع ، و بني النضير ، و جزاهم بأعمالهم الإجرامية ، و كانت فكرة تأليب العرب على النبي و المسلمين فكرة إختمرت في نفوس رؤساء بني النضير ، و قبلهم بني قينقاع ، نظراء حيي بن أخطب و سلاّم بن أبي الحقيق و كنانة بن الربيع بن أبي حقيق ، الذين نزلوا حصن خيبر ، فأرادوا درك ثأرهم من المسلمين بتأليب الأحزاب عليهم ، فقدموا إلى قريش ، و دعوهم إلى حرب رسول اللّه و قالوا : إنّا سنكون معكم عليه ، حتّى نستأصله ، و قدسألتهم قريش و قالوا يا معشر يهود : إنّكم أهل الكتاب الأوّل ، و أهل العلم بما أصبحنا نختلف فيه نحن و محمد. أفديننا خير أم دينه ؟ قالوا : بل دينكم خير من دينه ، وأنتم أولى بالحقّ منه (1).
    و لم يكتف زعماء بني النضير بتأليب قريش على النبي الأكرم بل خرجوا إلى غطفان و كلّ من له عند المسلمين ثأر ، حرّضوهم على الأخذ بثأرهم ، و يذكرون لهم متابعة قريش إيّاهم على حرب محمد ، فاتّفقوا على الخروج و الحضور في المدينة في يوم واحد ، و أحاطوا المدينة رجالاً و ركباناً و قد بلغ عددهم عشرة آلاف ، و كان قد بلغ النبي مؤامرتهم فضرب الخندق على المدينة حتّى يكون كالحصن لها حائلاً بينه و بينهم ، و قد طال الحصار على المدينة قرابة شهر ، و وقع هناك إشتباك بينهم وبين العدوّ على وجه سنذكره في مغازي النبيّ ( صلى الله عليه وآله وسلم ) .
    و قد أدركت الأحزاب المؤلّفة من قريش و غطفان و يهود خيبر و على رأسهم حيي بن أخطب أنّ الإنتصار على محمد أمر غير ميسور ، مادام الخندق يحول بينه و
1 ـ قد مرّ نقل هذا الخطأ الفاحش في مناظرات النبيّ مع اليهود ، فلاحظ.
مفاهيم القرآن ـ جلد السابع ::: فهرس