مفاهيم القرآن ـ جلد السابع ::: 301 ـ 310
(301)
بين العدوّ ، و قد وضع المسلمون الأحجار إلى جانب الخندق ، يرمون بها من أراد العبور ، فعند ذلك قام حيي بن أخطب بمؤامرة اُخرى و هو فتح الطريق لدخول يثرب من ناحية اُخرى ، و هو إقناع بني قريظة ( الطائفة الوحيدة المتبقّاة من اليهود في المدينة ) على رفض عهدها مع محمد ، و انضمامها إلى الأحزاب ، فاجتمع مع أكابر الأحزاب ، و قال : إنّه مقنع بني قريظة بنقض عهد موادعتهم محمداً و المسلمين ، حتّى يقطعوا بذلك المدد و المير عنه ، و يفتحوا الطريق لإجتياز الأحزاب من حصونهم إلى داخل المدينة ، و لمّا سمعت ذلك قريش و قبائل غطفان فرحوا بذلك و زعموا أنّ هذه الخطوة سوف تكون ناجحة ، و أنّها مفتاح الإنتصار ، فخرج حيي بن أخطب حتّى أتى كعب بن أسد القرظي صاحب عقد بني قريظة و عهدهم ، و لمّا سمع كعب بحيي بن أخطب ، أغلق دونه باب حصنه ، فاستأذن عليه ، فأبى أن يفتح له فناداه حينئذ : و يحك يا كعب ، إفتح لي. قال : و يحك يا حيي إنّك رجل مشؤوم ، و إنّي قد عاهدت محمداً و لست بناقض ما بيني و بينه ، و لم أر منه إلاّ وفاءً و صدقاً. قال : ويحك إفتح لي اُكلّمك. قال : ما أنا بفاعل. قال : و اللّه إن أغلقت دوني إلاّ خوفاً عن جشيشتك أن آكل معك منها ، فعندئذ غضب كعب ففتح له فقال : و يحك يا كعب جئتك بعزّ الدهر و بحر طامّ (1) ، جئتك بقريش على قادتها وسادتها ، قد عاهدوني و عاقدوني على أن لايبرحوا حتّى يستأصلوا محمداً و من معه. قال : فقال له كعب : جئتني و اللّه بذلّ الدهر ، و يحك يا حيي! فدعني وما أنا عليه ، فإنّي لم أر من محمّد إلاّ صدقاً و وفاءً. فلم يزل حيي بكعب يفتله في الذروة والغارب حتّى سمع له ، على أن أعطاه عهداً ( من اللّه ) و ميثاقاً : لئن رجعت قريش وغطفان ، ولم يصيبوا محمّداً أن يدخل معه في حصنه حتّى يصيبه ما أصابه ، فنقض كعب بن أسد عهده ، وبرئ ممّا كان بينه وبين رسول اللّه ( صلى الله عليه وآله وسلم ).
    و قد بلغ المسلمين نبأ إنضمام قريظة إلى الأحزاب ، فاهتزّوا و خافوا مغبّته فبعث رسول اللّه سعد بن معاذ ، و هو سيد الأوس و سعد بن عبادة و هو سيد الخزرج و معهما لفيف من المسلمين ، فقال : إنطلقوا حتّى تنظروا أحق ما بلغنا عن هؤلاء
1 ـ يشير إلى الأحزاب المؤلّفة.

(302)
القوم أم لا ؟ فإن كان حقّاً فألحنوا لي لحناً (1) أعرفه ، و لاتفتّوا في أعضاد الناس ، وإن كانوا غير ناقضين فأجهروا به للناس ، قال فخرجوا حتى أتوهم ، فوجدوهم على أخبث ما بلغهم عنهم فيما نالوا من رسول اللّه و قالوا : مَن رسول اللّه ؟ لاعهد بيننا وبين محمد و لاعقد ، فشاتمهم سعد بن معاذ و شاتموه ، و كان رجلاً فيه حدّه ، فقال له سعد بن عبادة : دع عنك مشاتمتهم فما بيننا و بينهم أعظم من المشاتمة ، فأقبلا إلى رسول اللّه فسلّموا عليه ، و قالوا : « عضل و القارة » أي غدروا كغدر عضل و القارة ، وأصحاب الرجيع ، فقال رسول اللّه : اللّه أكبر! أبشروا يا معشر المسلمين. و عظم عند ذلك البلاء و اشتدّ الخوف و ذلك لأنّهم لو قطعوا المير و المدد وفتحوا الطريق للأحزاب ، لدخلوا المدينة و استأصلوا أهلها ، فما مضى وقت حتّى بدت بوادر النقض فقطعوا المدد و الميرة عن المسلمين ، و خرجوا يطيفون في أزقّة المدينة ، يخوّفون النساء والصبيان. قالت صفيّة و كانت في حصن « حسّان » : مرّ بنا رجل من اليهود فجعل يطيف بالحصن ، فقلت : يا حسّان! إنّ هذا اليهودي كما ترى يطيف بالحصن وإنّي واللّه ما آمنه أن يدلّ على عورتنا مَنْ وراءنا من يهود ، و قد شغل عنّا رسول اللّه وأصحابهم ، فانزل إليه فاقتله. قال : يغفر اللّه لك يا ابنة عبد المطلب! و اللّه لقدعرفت ما أنا بصاحب هذا! قالت : فلمّا قال لي ذلك ، و لم أر عنده شيئاً إحتجزت (2) ثمّ أخذت عموداً ثمّ نزلت من الحصن إليه ، فضربته بالعمود ، حتّى قتلته. قالت : فلمّا فرغت منه ، رجعت إلى الحصن (3).
    ثمّ إنّه سبحانه سلّط على الأحزاب البرد و الريح الشديدة ، و فرّق كلمتهم على وجه سيوافيك تفصيله ، و تفرّقوا و جلوا عن جوانب المدينة و رجعوا إلى أوطانهم من دون أن ينالوا من المسلمين شيئاً.و لم يكن عود الأحزاب بعد فصل الشتاء أمراً غير بعيد في نظر النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) و بنو قريظة هم الأعداء الغدرة ، و من الممكن أن يتكرّر التاريخ و يقع المسلمون في مغبّته ، و بينما كان النبيّ يفكر في
1 ـ أي تكلّموا بالإشارة و التعريض ، و لاتوهنوا عزائم المسلمين.
2 ـ شددت معجري.
3 ـ السيرة النبويّة لابن هشام ، ج2 ص228.


(303)
ذلك و قد صلّى الظهر ، جاء جبرئيل و قال : إنّ اللّه عزّ و جلّ يأمرك بالمسير إلى بني قريظة ، فأمر رسول اللّه مؤذناً فأذّن في الناس من كان سامعاً مطيعاً فلايصلّين إلاّ ببني قريظة (1) و لبس رسول اللّه السلاح و المغفر و الدرع و البيضة و أخذ قناتاً بيده ، وتقلّد الترس ، و ركب فرسه ، و حفّ به أصحابه ، و تلبّسوا السلاح و ركبوا الخيل ، وكانت ستّة و ثلاثين فرساً ، و كان رسول اللّه قد قاد فرسين و ركب واحداً ، و انتهى رسول اللّه إلى بني قريظة ، فنزل على أسفل حرّة بني قريظة ، و كان عليّ ( عليه السلام ) قد سبق في نفر من المهاجرين و الأنصار ، فيهم أبو قتادة ، و طلع رسول اللّه ، فلّما رأى رسول اللّه عليّاً أمره بأخذ اللواء و كره أن يسمع رسول اللّه أذاهم و شتمهم ، فتقدّمه أسيد بن حضير ، قال : فقال : يا أعداء اللّه لانبرح حصنكم حتّى تموتوا جوعاً. قال : يا بن الحضير نحن مواليكم دون الخزرج. قال : لا عهد بيني و بينكم و دنا رسول اللّه ، فقال ( صلى الله عليه وآله وسلم ) : يا إخوة القردة و الخنازير و عبدة الطواغيت أتشتموني ؟ قالوا : فجعلوا يحلفون بالتوراة التي أنزلت على موسى ما فعلنا وقالوا : نكلّمك ، فقال رسول اللّه ( صلى الله عليه وآله وسلم ) : نعم فانزلوا نباش بن قيس ، و قالوا : يا محمّد ننزل على ما نزلت عليه بنو النضير. لك الأموال و الحلقة وتحقن دمائنا و نخرج من بلادكم بالنساء و الذراري و لنا ما حملت الإبل إلاّ الحلقة فأبى رسول اللّه و قال : لا إلاّ أن تنزلوا على حكمي. فرجع نبّاش إلى أصحابه بمقالة رسول اللّه و لمّا وقف القوم على عزم رسول اللّه بنزولهم على حكمه ، عقدوا مجلساً للمشاورة إشترك فيها أكابر القوم ، فاقترح كعب بن أسد عليهم عدّة إقتراحات ، يعرب بعضها عن ضآلة تفكيره و يدلّ البعض الآخر على قسوته ، و إليك تلك الإقتراحات :
     1 ـ الإيمان بما جاء به محمّد ( صلى الله عليه وآله وسلم )
    يا معشر بني قريظة إنّكم لتعلمون أنّ محمداً نبي اللّه و ما منعنا من الدخول معه إلاّ الحسد بالعرب ، و لقد كنت كارهاً لنقض العقد و العهد ، و لكنّ البلاء و شؤم
1 ـ قال الواقدي : صار إليهم النبيّ لسبع بقين من ذي القعدة ، فحاصرهم خمسة عشر يوماً ، ثمّ انصرف يوم الخميس سبع خلون من ذي الحجة سنة خمس.

(304)
هذا الجالس (1) علينا و على قومه ... فتعالوا نصدّقه و نؤمن به ، فنأمن على دمائنا و أبنائنا و نساءنا و أموالنا فنكون بمنزلة من معه ، قالوا لانكون تبعاً لغيرنا. نحن أهل الكتاب و النبوّة ، فجعل كعب يردّ عليهم الكلام بالنصيحة لهم. قالوا : لانفارق التوراة و لاندع ما كنا عليه من أمر موسى.
     2 ـ قتل النساء و الأولاد
    إذا كنتم كارهين للإيمان بمحمّد ( صلى الله عليه وآله وسلم ) فهلمّوا نقتل أبناءنا و نساءنا ثمّ نخرج و في أيدينا السيوف إلى محمّد و أصحابه ، فإن قتلنا قتلنا ، و ماوراءنا أمر نهتم به ، و إن ظهرنا لنتّخذن النساء و الأبناء.
    فصاح حيّي بن أخطب و قال : ما ذنب هؤلاء المساكين ؟ و قالت رؤساء اليهود : ما في العيش خير بعد هؤلاء.
     3 ـ الخروج على أصحاب محمّد ليلة السبت
    إنّ محمّداً و أصحابه آمنين لنا فيها أن نقاتله ، فنخرج فلعلّنا أن نصيب منه غرّة قالوا نفسد سبتنا و قد عرفت ما أصابنا فيه. قال حيّي : قد دعوتك إلى هذا و قريش وغطفان حضور فأبيت أن تكسر السبت فإن أطاعتني اليهود فعلوا. فصاحت اليهود : لانكسر السبت. قال نبّاش بن قيس و كيف نصيب منهم غرّة و أنت ترى أنّ أمرهم كل يوم يشتدّ كانوا أوّل ما يحاصروننا إنّما يقاتلون بالنّهار و يرجعون بالليل ، فهم الآن يبيتون الليل و يظلّون النهار ، فأي غرّة نصيب منهم ؟ هي ملحمة و بلاء كتب علينا ، فاختلفوا و سقط في أيديهم و ندموا على ما صنعوا ورقّوا على النساء و الصبيان و كنّ يبكين.
    وعندئذ قال ثعلبة وأسيد إبنا سعيّد وأسد بن عبيد عمّهم : يا معشر بني قريظة!
    و اللّه إنّكم لتعلمون أنّه رسول اللّه ، و أنّ صفته عندنا. حدّثنا بها علماؤنا
1 ـ يعني حيّي بن أخطب وقد وفى بعهده ، بعد تفرّق الأحزاب ، فدخل حصن بني قريظة ليشترك معهم في المصير.

(305)
وعلماء بني النضير ،. هذا أوّلهم يعني حيّي بن أخطب مع جبير بن الهيّبان. أصدق الناس عندنا و هو خبّرنا بصفته عند موته. قالوا : لانفارق التورة ، فلمّا رآى هؤلاء النفر إباءهم ، نزلوا في الليلة التي في صبحها نزلت قريظة ، فأمنّوا على أنفسهم و أهلهم وأموالهم.
     اقتراح رابع
    و إقترح عمرو بن سعد و قال : يا معشر اليهود إنّكم حالفتم محمداً على ما حالفتموه عليه ، أن لاتنصروا عليه أحداً من عدوّه و أن تنصروه ممّن دهمه فنقضتم ذلك العهد الذي كان بينكم و بينه فلم أدخل فيه و لم أشرككم في عذركم ، فإن أبيتم أن تدخلوا معه ، فاثبتوا على اليهوديّة و أعطوا الجزية ، فو اللّه ما أدري يقبلها أم لا ؟ قالوا : نحن لانقرّ للعرب بخرج في رقابنا يأخذوننا به ، القتل خير من ذلك.
    و لمّا طال الحصار و أذعنت بنو قريظة أنّ النبيّ الأكرم لايتركهم إلاّ أن ينزلوا على حكمه ، بعثوا إلى رسول اللّه حتّى يبعث إليهم أبا لبابة بن عبد المنذر ، و كان حليف الأوس ليستشيروه في أمرهم ، فأرسله رسول اللّه فلّما رأوه قام إليه الرجال ، و بكت النساء و الصبيان ، فرّق لهم ، و قالوا : يا أبا لبابة أترى أن ننزل على حكم محمّد ؟ فأشار بيده إلى حلقه ، يعني أنّه الذبح.
    ثمّ ندم أبو لبابة من إذاعة سرّ رسول اللّه ، قال : فو اللّه ما زالت قد ماي من مكانهما حتّى عرفت أنّي قد خنت اللّه و رسوله ، ثمّ إنطلق أبو لبابة على وجهه ولميأت رسول اللّه حتّى إرتبط في المسجد إلى عمود من عمده و قال : لا أبرح مكاني هذا حتّى يتوب اللّه عليّ ممّا صنعت ، و عاهد اللّه أن لاأطأ بني قريظة أبتداء ولاأرى في بلد خنت اللّه و رسوله فيه أبداً ، و في ذلك نزل قوله سبحانه : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَتَخُونُوا اللّهَ وَ الرَّسُولَ وَ تَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَ أَنْتُمْ تَعْلَمُونَ ) ( الأنفال/27 ).
    فمكث سبعة أيّام لايذوق فيها طعاماً و لاشراباً حتّى خرّ مغشياً عليه ، ثمّ تاب اللّه عليه ، فقيل له يا أبا لبابة قد تيب عليك ، فقال : لا واللّه لا أحلّ نفسي حتّى يكون رسول اللّه هو الذي يحلّني ، فجاءه فحلّه بيده ، ثمّ قال أبو لبابة : إنّ من تمام توبتي أن


(306)
أهجر دار قومي التي أصبت فيها الذنب و أن أنخلع من مالي ، فقال النبيّ : يجزيك السدس أن تصدّق به.
    و قد نزل أيضاً في توبته قوله سبحانه : ( وَ آخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلاً صَالِحاً وَ آخَرَ سَيِّئاً عَسَى اللّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيهِمْ إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ) ( التوبة/102 ) (1).
    فلمّا أصبحوا ، نزلوا على حكم رسول اللّه ( صلى الله عليه وآله وسلم ) فتواثبت الأوس ، فقالوا : يا رسول اللّه و قد فعلت في موالي إخواننا بالأمس ما قدعلمت ( يريدون بني قينقاع ـ و كانوا حلفاء الخزرج ـ فسأله إيّاهم عبد اللّه بن أبي ، فوهبهم له ) قال رسول اللّه : ألا ترضون يا معشر الأوس أن يحكم فيهم رجل منكم ؟ قالوا : نعم. قال رسول اللّه : فذلك إلى سعد بن معاذ ، فلمّا حكّمه رسول اللّه أتاه قومه إلى رسول اللّه ، فلمّا إنتهى سعد إلى رسول اللّه قال ـ يخاطب الأوسيين ـ : قوموا إلى سيّدكم ، قالت الأوس ـ الذين بقوا عند رسول اللّه ـ : يا أبا عمرو! إنّ رسول اللّه قد ولاّك الحكم ، فأحسن فيهم و اذكر بلاءهم عندك ، فقال سعد بن معاذ : أترضون بحكمي لبني قريظة ؟ قالوا : نعم ، قد رضينا بحكمك و أنت غائب عنّا ، قال سعد : عليكم عهد اللّه و ميثاقه أنّ احكم فيكم ما حكمت. قالوا : نعم ، قال سعد : فإنّي أحكم فيهم أن يقتل من جرت عليه الموسى ، و تسبى النساء و الذريّة و تقسّم الأموال ، وفي نقل آخر : أحكم فيهم أن تقتل الرجال و تقسّم الأموال و تسبى الذراري و النساء ، ورضي رسول اللّه بحكم سعد (2).
    و قال ابن هشام : إنّ بني قريظة طلبوا من النبيّ أن ينزلوا على حكم سعد بن معاذ ، قال : إنّ علي بن أبي طالب صاح و هم محاصرو بني قريظة : يا كتيبة الإيمان! و تقدّم هو و الزبير بن العوّام ، فقال : و اللّه لأذوقنّ ما ذاق حمزة أو لأفتحن حصنهم ، فقالوا : يا محمّد ننزل على حكم سعد بن معاذ ، و اُجري الحكم حسبما رأى سعد.
1 ـ السيرة النويّة ، لابن هشام ، ج2 ص237 ، و المغازي للواقدي ج2 ص505 و مجمعالبيان ج4 ص824.
2 ـ المغازي للواقدي ج2 ص512.


(307)
    إنّ المستشرقين قد استغلّوا هذه الواقعة ، فحاولوا أن يتّهموا قضاء سعد بن معاذ بالقسوة و الخروج عن العدل ، و لكنّهم نظروا إلى الواقعة بعين واحدة ، فنظروا إلى ما حاق ببني قريظة من الذّلّ و الخزي ، و قد أحاطت بهم نساؤهم و أطفالهم بالبكاء عليهم ، فزعموا أنّ مقتضى العدل و الرحمة هو الإغماض عنهم ، و عن جريمتهم ، ولأجل دعم أنّ العدل و الحق كانا يقضيان بما قضى به سعد بن معاذ نشير للاُمور التالية.
    لاشك أنّ عواطف سعد و أحاسيسه و مشاعره و مناظر الصبيان و نساء بني قريظة ، و أوضاع رجالهم و ملاحظة الرأي العام ( الأوسيين ) ، كان يثير الإشفاق لهم والإغماض عن جريمتهم. كلّ هذه الإعتبارات كانت تقتضي أن تجعل القاضي فريسة العاطفة ، و يبرّئ بني قريظة الجناة الخونة و أن يخفّف من عقوبتهم أكبر قدر ممكن ، لكنّ منطق العقل و حرّية القاضي و استقلاله ، و قبل كلّ شيء مراعاة المصالح العامّة ، قاده إلى الحكم بقتل رجالهم الخونة و سبي نسائهم و أطفالهم ، ولقد استند الحاكم في حكمه إلى الاُمور التالية :
    1 ـ إنّ يهود بني قريظة كانوا قد تعهّدوا للنّبي ـ عند نزوله بالمدينة ـ بأنّهم لو تآمروا ضدّ الإسلام و المسلمين و ناصروا أعداء التوحيد و ألّبوهم على المسلمين ، كان للنبيّ أن يقوم بقتلهم و سبي نسائهم ، و إليك نقل هذه الإتفاقيّة : ... ألاّ يعينوا على رسول اللّه ، و لا على أحد من أصحابه بلسان و لايد و لا بسلاح و لا بكراع في السرّ والعلانية لابليل و لابنهار. اللّه عليهم بذلك شهيد ، فإن فعلوا فرسول اللّه في حلّ من سفك دماءهم ، و سبي ذراريهم و نسائهم ، و أخذ أموالهم (1).
    إنّ النبيّ ( صلى الله عليه وآله وسلم ) كتب لكل قبيلة منهم كتاباً على حدة وكان الذي تولّى أمر بني النضير : حيي بن أخطب و هو الذي رغّب رئيس بني قريظة على نقض العهد و رفضه ، كما أنّ الذي تولّى أمر بني قريظة هو كعب بن أسد ،
1 ـ بحار الأنوار ج19 ص111 ، و نقله الصدوق في كمال الدين ، و أخرجه علي بن إبراهيم القمي في تفسيره.

(308)
الذي نقض عهد النبي و سبّه بمحضر من أصحابه من سعدين و غيرهما.
    فلو حكم سعد بن معاذ على قتل رجالهم و سبي نسائهم فإنّما استند إلى هذه الإتفاقية التي تولّى أمرها رؤساؤهم و أكابرهم ، فلو كان سعد حاكماً بغير ما ورد فيها ، فقد بخس حقْ المسلمين و ظلمهم ، فالعدل في القضاءكان يقتضي عدم الخضوع لحكم العاطفة.
    2 ـ إرتكبت بنو قريظة جريمة عظيمة في ظروف حرجة عندما لم يبق بين المسلمين ، و إبادتهم و استئصالهم و استيلاء الأحزاب عليهم و نسفهم من رأس إلاّ خطوة أو خطوتان لولا أنّ اللّه بدّد شمل الكفّار ، و سخّر عليهم الرياح و البرد ، و فرّق كلمتهم ، و نشر فيهم سوء الظن بحلفائهم.
    هذا ما قد كان ، و لكنّ التاريخ يمكن أن يعيد نفسه و يرجع الأحزاب في العام القابل أو بعد برهة من الزمن مستمدّين في إستيلائهم من هذا الطابور الخامس المتواجد بين المسلمين ، و لم يكن ذلك الإحتمال أمراً بعيداً في نظر القاضي بل أمراً قريباً جدّاً ، فلو كان حكم عليهم بالعفو لخان بمصالح المسلمين العامّة و جعلهم في دائرة الخطر.
    إنّ بني قريظة قد جسّدوا العداوة بين اليهود و المسلمين و أثبتوا أنّ بني إسرائيل لاتطيب نفوسهم إلاّ باستئصال المسلمين ، فلو عادت الأحزاب إلى المدينة من جديد لعادوا إلى مشاركة العرب و قريش في حربهم ضدّ النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ، أفهل يمكن للقاضي العادل أن ينظر إلى هذا الإحتمال بعين التساهل ؟!
    3 ـ من المحتمل جداً أنّ سعد ابن معاذ رئيس قبيلة الأوس الموالين ليهود بني قريظة كان واقفاً على قانون العقوبات لدى اليهود. فإنّ التوراة تنصّ على ما يلي :
    « حين تقرب من مدينة لكي تحاربها إستدعها إلى الصلح. فإن أجابتك إلى الصلح و فتحت لك فكل الشعب الموجود فيها ، يكون لك للتسخير و يستعبد لك ،


(309)
    وإن لم تسالمك بل عملت معك حرباً فحاصرها ، وإذا دفعها الربّ إلهك إلى يدك فاضرب جمعى ذكورها بحدّ السيف ، وأمّا النساء والأطفال والبهائم وكلّ ما في المدينة كلّ غنيمتها فتغتنمها لنفسك » (1).
    4. والّذي نتصوّره أنّ أكبر أسباب هذا الحكم هو أنّ سعد بن معاذ رأى باُمّ عينيه أنّ رسول الله عفا عن بني قينقاع ونزل على طلب الخزرجيين منه العفو منهم ، واكتفى من عقابهم بإخراجهم من المدينة ، ولكنّ تلك الزومرة ما غادرت أراضي الإسلام حتّى بدأت بالمشاغبة والمؤامرة الدنيئة ضد الإسلام ، فذهب كعب بن الأشرف إلى مكّة وأخذ يتباكى دجلاً وخداعاً على قتلى بدر ولم يفتأ عن تأليب قريش ضد الرسول ، وكانت نتيجة تلك المؤامرة وقعة اُحد الّتي استشهد فيها أزيد من سبعين صحابيّاً من خيرة أبناء الإسلام.
    هكذا عفا الرسول عن بني النضير المتآمرين واكتفى من عقابهم بمجرّد الإجلاء ، ولكنّهم قابلوا هذا الموقف الإنساني بتأليب القبائل العربية ضد الإسلام ، حتّى أنّهم عقدوا إتّحاداً عسكريّاً فيما بينهم ، وكانت من أخطر المعارك على الإسلام لولا منّه سبحانه وحنكة رسوله وتضحيات أصحابه.
    وقد أعطت هاتان الواقعتان للقاضي دروساً كافية ، فوقف على أنّ الإفراج عن بني قريظة ـ هذه الشرذمة الباغية والطغمة الظالمة ـ سوف يثير على المسلمين ما كانوا يجتنبون عنه ، فسوف يقومون باتّحاد عسكري أوسع ويؤلّبون العرب على الإسلام.
    والّذي يكشف عن إخلاص ونواياه الحسنة أنّ قومه الأوسيين كانوا مصرّين على العفو عن بني قريظة والحنان لهم ، وكان الرئيس أحوج ما يكون إلى تأييد قومه ، وكانت مخالفتهم توجّه إليه أكبر ضربة ، ولكنّ القاضي الحر أدرك أنّ جميع هذه الشفاعات تخالف مصالح الآلاف من المسلمين ، فانطلق من منطق العقل ورفض رضا قومه فأخذ برضا الله.
1 ـ التوراة ، سفر التثنية الفصل العشرون /10 ـ 14.

(310)
4 ـ غزوة خيبر أو بؤرة الخطر :
    كانت منطقة خيبر منطقة واسعة خصبة تقع على بعد 176 كيلومتراً من المدينة و كانت تسكنها قبائل من اليهود مشتغلين فيها بالزراعة و جمع الثروة ، و كانوا متسلّحين بأقوى الوسائل الدفاعيّة ، حيث كان عدد نفوسهم يقارب عشرين ألف نسمة بينهم عدد كبير من الأبطال الشجعان (1).
    إنّ النبي الأكرم قد أجلى بني قينقاع و بني النضير من المدينة ، و أباد بني قريظة ، و ظلّ السلام يخيّم على المدينة و أطرافها ، غير أنّه كان بقرب المسلمين حصن حصين ليهود خيبر ، و هم الذين شجّعوا جميع القبائل العربية على محاربة الحكومة الإسلامية و القضاء عليها ، فلم يكن النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) أن يضرب الصفح عنهم و لايفكّر فيهم ، و هم الذين موّنوا جيش العرب بأموالهم ، وثرواتهم ، و وعدوهم بثمار المدينة.
    و بما أنّ النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) قد عقد الصلح مع قريش في السنة السادسة من الهجرة و اطمئنّ من جانبهم ، و بما أنّه راسل الملوك والسلاطين ودعاهم جميعاً إلى الإسلام ، فلم يكن من المستبعد أن يستغلّ كسرى و قيصر يهود خيبر فيتعاونوا على القضاء على الإسلام.
    و من هنا رأى النبيّ الأكرم ( صلى الله عليه وآله وسلم ) أن لايضيّع هذه الفرصة حيث إنّ قريش صالحت رسول اللّه على أن لاتتعاون عليه ، فقد فرغ باله من جانبهم ، فلو دخل هو في محاربة اليهود ، لما ساعدتهم قريش ، و لكن كان من الممكن أن تقوم قبائل النجد بمساعدتهم ، فخطّط رسول اللّه للإستتار ، و فاجأهم على وجه لميعلموا به حتّى وجدوا جيش المسلمين أمام حصونهم.
1 ـ تاريخ الطبري ، ج2 ص46 ، السيرة الحلبية ج3 ص36.
مفاهيم القرآن ـ جلد السابع ::: فهرس