مفاهيم القرآن ـ جلد السابع ::: 341 ـ 350
(341)
    ثُمَّ إنّه سبحانه يبيح لهم ـ رحمة منه ـ ما تسلّط عليه المسلمون من أموال المشركين ، وما أخذوا من الأسرى للفداء ، ويقول : ( فكلوا ممَّا غَنِمْتُمْ حلالاً طيّباً واتّقواللّهَ غفور رحيم ) وحاصل مضمون الآيات الثلاث عبارة عن :
    1 ـ إنّ أخذ الأسرى قبل الإثخان غير مشروع في الشرائع السماويّة.
    2 ـ لولا كتابٌ من اللّه سبق ، لمسّ المسلمين في أخذ الأسرى قبل الإثخان عذاب عظيم.
    3 ـ لقد أباح اللّه سبحانه الجميع من الأموال والأسرى رحمة منه.

الوعد الجميل للأسرى
    إنّ فداء كل رجل من المشركين يوم بدر كان أربعين أوقية والأوقية أربعون مثقالاً ، إلاّ العبّاس فإنّ فداءه كان مائة مثقال ، وكان اُخذ منه حين اُسر عشرون أوقية ذهباً ، فقال النّبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) : ذلك غنيمة ففاد نفسك ، وابني أخيك نوفلاً وعقيلاً. فقال : ليس معي شيء. فقال : أين الذّهب الّذي سلّمته إلى أم الفضل وقلت : إن حدث بي حدث فهولك وللفضل وعبد اللّه وقثم ؟ فقال : من أخبرك بهذا ؟ قال : اللّه تعالى. فقال : أشهد انّك رسول اللّه ، واللّه ما اطّلع على هذا إلاّ اللّه.
    ثمّ إنّه سبحانه ـ رحمة منه ـ يعد الأسرى بأنّهم إن آمنوا ، واتبّعوا الحق ، يؤتهم خيراً ممّا اُخذ منهم ، ويغفر لهم ، ولكنّهم إن أرادوا خيانتك بعد إطلاق سراحهم بالفداء ، والعود إلى ما كانوا عليه من العناد والفساد ، فقد خانوا اللّه من قبل ، فأمكنك منهم ، وأقدرك عليهم ، وهو قادر على أن يفعل بهم ذلك ثانياً ، كما يقول سبحانه : ( يَا اَيُّهَا النَّبِىُّ قُلْ لِمَنْ فِى اَيْدِيكُم مِنَ الاَسْرَى اِنْ يَعْلَمِ اللَّهُ فِى قُلُوبِكُمْ خَيراً يُؤْتِكُم خَيْراً مِمَّا اُخِذَ مِنْكُمْ وَيَغْفِرُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ * وَاِنْ يُرِيدُوا خِيَانَتَكَ فَقَدْ خَانُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ فَأَمْكَنَ مِنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ) ( الأنفال/70 ـ 71 ).


(342)
    و روي أنّه قدم مال من البحرين يقدر بـ « ثمانين » ألفاً ، و قد توضّأ النّبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) لصلاة الظهر ، فما صلّى يومئذ حتّى فرّقه ، وأمر العباس أن يأخذ منه ، ويحثي ، فأخذ ، فكان العبّاس يقول : هذا خير ممّا اُخذ منّا ، وأرجو المغفرة (1).
1 ـ لاحظ مجمع البيان ج2 ص557 ـ 560 ، و الميزان ج9 ص136 ـ 140.

(343)
2 ـ غزوة أحد (1)
    لقد كانت لغزوة « بدر » أصداء في عهد النّبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ومابعده ، وقد أوجد إنتصار النّبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) فيها خوفاً ووجلاً في قلوب المشركين ، خصوصاً بعد ما شاع خبر أنّ النّبي الأكرم ( صلى الله عليه وآله وسلم ) طرح أجساد قتلى المشركين في القليب ، ووقف عليهم رسول اللّه ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ، فخاطبهم بقوله : يا أهل القليب هل وجدتم ما وعدكم ربّكم حقّاً ، فإنّي قد وجدّت ما وعدني ربّي حقّاً. فلمّا قيل لرسول اللّه : أتكلّم قوماً موتى ، أو أتنادي قوماً قد جيفوا ؟ فقال : ما أنتم بأسمع لما أقول منهم ، ولكنّهم لا يستطيعون أن يجيبوني.
    فلمّا بلغ خبر إنتصار النّبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) وهزيمة المشركين إلى مكّة ، ناحت قريش على قتلاها ، ثم منعت النياحة بتاتاً في مكّة ونواحيها حذراً من شماتة المسلمين أوّلاً ، واستنهاضاً لعزائمهم لأخذ الثأر ثانياً ، فإنّ النياحة والبكاء وسكب الدّموع تهبّط العزائم ، وتثبّط الهمم.
    و كان الأسود بن عبدالمطلب قد اُصيب له ثلاثة من ولده ، وكان يحب أن يبكي على بنيه ، و لكنّه كان يكبح جماح مشاعره حذراً من نقمة قريش ، فبينما هو كذلك إذ سمع نائحة في الليل ، فقال لغلام له و قد ذهب بصره : انظر هل اُحلّ النحب لعلّي أبكي على أولادي ، فإنّ جوفي قد احترق ، فرجع الغلام و قال : إنّما هي امرأة تبكي على بعير لها أضلّته.
1 ـ وقعت غزوة اُحد يوم السبت لسبع خلون من شوّال في السنة الثالثة من الهجرة.

(344)
    فعند ذلك أنشأ يقول :
أتبكي أن يضل لها بعير فلا تبكي على بكر ولكن ويمنعها من النوم السهود على بدر تقاصرت الجدود (1)
    باتت قريش على تلك الحالة وصدورهم مليئة بالغيظ والحقد ، وهم بصدر العزم على أخذ الثأر ، وتحيّن الفرصة المناسبة لذلك.
    ولأجل ذلك مشى عبداللّه بن أبي ربيعة ، وعكرمة بن أبي جهل ، وصفوان بن اُميّة ، في رجال من قريش ممّن اُصيب آباؤهم وأبناؤهم وإخوانهم يوم بدر ، فكلّموا أباسفيان ومن كانت له في تلك العير من قريش تجارة ، فقالوا : يا معشر قريش ، إنّ محمّداً قد وتركم ، و قتل خياركم ، فأعينونا بهذا المال ( إشارة إلى العير الّتي أقبل بها أبوسفيان من الشام إلى مكّة ) على حربه ، فلعلّنا ندرك منه ثأرنا بمن أصاب منّا ، ففعلوا ، وفي ذلك نزل قوله سبحانه :
    ( اِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ اَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنْفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونَ عَلَيْهِم حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا اِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ ) ( الأنفال/36 ) (2).
    فاجتمعت قريش لحرب رسول اللّه ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ، و من أطاعهم من قبائل كنانة ، وأهل تهامة. وكان أبو عزّة عمرو بن عبداللّه الجمحي قد منّ عليه رسول اللّه يوم بدر ، و كان فقيراً ، ذا عيال وحاجة ، وكان في الأسارى ، فقال : إنّي ذو عيال وحاجة ، فامنن عليّ صلّى اللّه عليك; فمنّ عليه رسول اللّه. فقال له صفوان ابن اُميّة : يا أبا عزّة إنّك إمرؤٌ شاعر ، فأعنّا بلسانك ، فاخرج معنا; فقال : إنّ محمداً قد منّ عليّ ، فلا أريد أن اظاهر عليه. قال : بلى ، فاعنا بنفسك ، فلك اللّه عليّ إن رجعت أنْ أغنيك ، وإن أصبتَ أن أجعل بناتك مع بناتي يصيبهن ما أصابهن من عسر ويسر. فخرج أبو عزّة في تهامة.
1 ـ السيرة النبويّة ج1 ص648.
2 ـ السيرة النبويّة ج2 ص60 ، و مجمع البيان ج2 ص832 ، نقلاً عن أبي إسحاق.


(345)
    خرجت قريش بحدّها وجدّها ، وحديدها وأحابيشها (1) و من تابعها من بني كنانة ، و أهل تهامة ، وخرجت معهم النساء في الهوادج التماس الحفيظة وألاّ يفرّوا. فخرج أبوسفيان بهند بنت عتبة ، وخرج عكرمة بأمّ حكيم ، وهكذا.
    فخرجوا حتّى نزلوا على شفير الوادي مقابل المدينة ، وهم ثلاثة آلاف بمن أنضم إليهم ، وكان فيهم من ثقيف مائة رجل ، وخرجوا بعدّْة وسلاح كثير ، وقادوا مائتي فرس ، وكان فيهم سبعمائة دارع ، وثلاثة ألاف بعير.
    ثم إنّ العباس بن عبدالمطلب أخبر النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) بنيّة القوم ، ومسير هم نحو المدينة وعددهم وعُدتهم ، فكتب كتاباً وختمه ، واستأجر رجلاً من بني غفار ، وأشترط عليه أن يسير ثلاثاً ، فوجد رسول اللّه بقباء ، فدفع إليه الكتاب ، فقرأه عليهم أبيّ بن كعب ، واستكتم أبيّاً ما فيه. فدخل منزل سعد بن الربيع ، فأخبره بكتاب العباس ، وجعل سعد يقول : يا رسول اللّه إنّي لأرجو أن يكون في ذلك خير.
    فلمّا سمع رسول اللّه نزولهم على شفير الوادي ، شاور قومه في الخروج عن المدينة ، أو البقاء فيها ، فاختلفت آراء أصحابه ، فكان عبدالله بن أبيّ وأصحابه يكرهون الخروج ، فقالوا : يا رسول اللّه أقم بالمدينة لاتخرج إليهم ، فو اللّه ما خرجنا منها إلى عدوّ لنا قطّ إلاّ أصاب منا ، ولا دخلها علينا إلاّ أصبنا منه.
    وكان الشّباب من أصحاب الرّسول يصرّون على الخروج ، ويقولون : « أخرج بنا إلى أعدائنا لا يرون إنّا جبنا عنهم وضعفنا ».
    فلمّا رآى رسول اللّه ( صلى الله عليه وآله وسلم ) اصرار هم على الخروج. وهم يقولون : ( هي إحدى الحسنيين أمّا الشهادة وأمّا الغنيمة ) ، صلّى رسول اللّه ( صلى الله عليه وآله وسلم ) الجمعة بالنّاس ، ثم وعظهم ، وأمرهم بالجد والجهاد ، ثم صلّى العصر ، وصفّْ النّاس له ما بين منبره وحجرته ، فجاء هم سعد بن معاذ ، وأسيد بن
1 ـ الأحابيش من إجتمع إلى العرب و إنضمّ إليهم من غيرهم.

(346)
حضير ، فقالا للنّاس : قلتم لرسول اللّه ما قلتم ، واستكرهتموه على الخروج ، فردّوا الأمر إليه ، فما أمركم فافعلوه ، فبينا القوم على ذلك ، إذ خرج رسول الله قد لبس لامّته ودرعه ، وحزم وسطها بمنطقة من حمائل سيف من أدم ، فقالوا يا رسول اللّه : إستكرهناك ، ولم يكن ذلك لنا ، فإن شئت فاقعد صلّى اللّه عليك ، فقال رسول الله : ما ينبغى لنبيّ إذا لبس لامّته أن يضعها حتّى يقاتل ، فخرج في ألف من أصحابه (1).

عودة المنافقين القهقرى إلى المدينة :
    كان عبداللّه بن أبيّ ممّن أبدى الإصرار على الإقامة في المدينة والتّحصن بها فلمّا رأى أنّ رسول اللّه ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ترك رأيه وأخذ برأي الآخرين ، فقال : أطاعهم وعصاني ، ما ندري علام نقتل أنقسنا ها هنا ، فرجع بمن اتّبعه من قومه من أهل النفاق والريب ، وهم ثلث النّاس ، واتبعهم عبد اللّه بن عمرو ، فقال : ياقوم أذكّركم اللّه ألاّ تخذلوا قومكم ونبيّكم عندما حضر من عدوّهم; قال عبد الله بن أبىّ : لو نعلم أنّكم تقاتلون لما أسلمناكم ، ولكنّا لا نرى أنّه يكون قتال.
    فلمّا استعصوا عليه وأبوا إلاّ الإنصراف عنهم ، قال : أبعدكم اللّه أعداء اللّه ، فسيغني اللّه عنكم نبيّه.
    و في ذلك نزل قوله سبحانه : ( وَ قِيلَ لَهُم تَعَالَوْا قَاتِلُوا فِى سَبِيلِ اللَّهِ اَوِ ادْفَعُوا قَالُوا لَوْ نَعْلَمُ قِتَالاً لاَ تَّبَعْنَاكُمْ هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذ اَقْرَبُ مِنْهُم لِلاِيْمَانِ يَقُولُونَ بِاَفْوَاهِهِم مَالَيْسَ فِى قُلُوبِهِم وَاللَّهُ اَعْلَمُ بِمَا يَكْتُمُونَ ) ( آل عمران/167 ).
    و قد أوجد رجوع رئيس النفاق في أثناء الطريق شقاقاً وخلافاً بين أصحاب النّبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) على نحوين :
    1 ـ فقال قوم من المسلمين : نقاتل قريشاً ، وقال آخرون : لا نقاتلهم ، وفي ذلك نزل قوله سبحانه ( فَمَا لَكُم فِى المُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَاللَّهُ اَرْكَسَهُم بِمَا كَسَبُوا اَتُرِيدُونَ
1 ـ المغازي للواقدي ، ج1 ص213 ، و السيرة النبويّة ج2 ص63.

(347)
اَنْ تَهْدُوا مَنْ اَضَلَّ اللَّهُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَن تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً ) ( النساء/88 ).
    فالآية تشير إلى أنّ المسلمين صاروا في أمر ما صار إليه المنافقون فرقتين مختلفتين ، فمنهم من مال إلى مقالتهم ومنهم من يخالفهم في الرأي.
    2 ـ همّت طائفتان من المسلمين أن تأخذ برأي رئيس النفاق ، ويرجعا في أثناء الطريق ، وهما بنو سلمة وبنو حارثة من الأنصار ، وإليه يشير قوله سبحانه :
    ( وَاِذْ غَدَوْتَ مِنْ اَهْلِكَ تُبَوِّءُ المُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ * اِذْهَمَّت طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ اَنْ تَفْشَلاَ وَاللَّهُ وَلِيُّهُمَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ المُؤْمِنُونَ ) ( آل عمران/121و122 ).

نزول رسول اللّه أرض أحد :
    لمّا انتهى رسول اللّه ( صلى الله عليه وآله وسلم ) إلى أحد ، جعل جبل أحد خلف ظهره ، واستقبل المدينة ، وجعل عينين عن يساره ، وجعل الرماة وهم خمسون رجلاً على عينين (1) عليهم عبد اللّه بن جبير ، فقال لرئيسهم : إنضح الخيل عنّا بالنّبل لا يأتونا من خلفنا إن كانت لنا أو علينا ، فأثبت مكانك لا نؤتين من قبلك.
    ثم قام رسول اللّه ( صلى الله عليه وآله وسلم ) وخطب النّاس وقال : إنّ جهاد العدو شديد ، شديد كربه ، قليل من يصبر عليه ، إلاّ من عزم اللّه رشده ، فإنّ اللّه مع من أطاعه ، و أنّ الشيطان مع من عصاه ، فافتتحوا أعمالكم بالصبر على الجهاد ، والتمسوا بذلك ما وعدكم اللّه (2).
    و كان للمشركين كتيبتان ميمنة عليها خالد بن الوليد ، وميسرة عليها عكرمة بن أبي جهل. وجعل رسول اللّه ميمنة ، وميسرة ، ودفع لواءه الأعظم إلى مصعب بن
1 ـ جبل باُحد له هضبتان بينهما معبر ينتهي إلى ساحة القتال.
2 ـ راجع المغازي للواقدي ج1 ص222 ، و للخطبة صلة.


(348)
عمير ، ودفع لواء الأوس إلى أسيد بن حضير ، ولواء الخزرج إلى سعد أو حباب بن المنذر ، والرماة يحمون ظهور هم يرشقون خيل المشركين بالنّبل.
    وعند ذلك دنا القوم بعضهم من بعض فقدّمت قريش صاحب لوائهم طلحة بن أبي طلحة ، وصفّوا صفوفهم ، وأقاموا النساء خلف الرجال بالإكبار والدفوف ، وهند وصواحبها يحرّضن ويذمّرن (1) الرجال ويذكرن من أصيب ببدر.
    وصاح طلحة بن أبي طلحة : من بني عبد الدار ، وكانت راية قريش يوم ذلك بأيدي هؤلاء ، فقال علي ( عليه السلام ) : هل لك في البراز ؟ قال طلحة : نعم ، فبرزا بين الصفين ، ورسول اللّه ( صلى الله عليه وآله وسلم ) جالس تحت الراية عليه درعان ومغفر وبيضة ، فالتقيا ، فبدره عليّ ، فضربه على رأسه ، فمضى السيف حتّى فلق هامته حتّى انتهى إلى لحيته ، فوقع طلحة ، و انصرف علي (2).
    ثمّ أخذ الراية أبو سعيد بن أبي طلحة ، فقتله علي و سقطت الراية ، فأخذها مسافع بن أبي طلحة ، فقتله علي. حتّى قتل تسعة نفر من بني عبد الدار ، حتّى صارلواؤهم إلى عبد لهم أسود يقال له صوأب ، فانتهى إليه علي ، فقطع يده اليمنى ، فأخذاللواء باليسرى ، فضرب يسراه فقطعها ، فاعتنقها باليدين المقطوعتين ، فضربه على رأسه فقتله ، فسقط اللواء ، فأخذته عمرة بنت علقمة الكنانّية ، فرفعتها (3).
    وقد كان لعليّ ( عليه السلام ) مواقف مشهودة كما كان لأبي دجانة ، والزبّير بن العوّام ، وفي ظل بطولة هؤلاء ، ولفيف من غيرهم إنهزمت قريش هزيمة نكراء لايلوون ، ونساؤهم يدعون بالويل بعد ضرب الدفاف ، فلمّا انهزم المشركون تبعهم المسلمون يضعون السلاح فيهم حتّى أخرجوهم عن الساحة ثمّ اشتغلوا بعد وضع سيوفهم على الأرض بنهب ما إستولوا عليه في معسكرهم.
1 ـ أي يحضضن الرجال باللوم على الفرار.
2 ـ المغازي للواقدي ، ج1 ص226.
3 ـ مجمع البيان ج1 ص825.


(349)
    وعند ذلك قال بعض الرماة لبعض : لِمَ تقيمون ههنا في غير شيء ؟ قد هزم اللّه العدو ، وهؤلاء إخوانكم ينهبون معسكرهم ، فادخلوا معسكر المشركين ، فاغنموا مع إخوانكم. فقال بعض الرماة لبعض : ألم تعلموا أنّ رسول اللّه قال لكم : « إحموا ظهورنا ، فلا تبرحوا مكانكم ، وإن رأيتمونا نقتل ، فلا تنصرونا ، وإن رأيتمونا غنمنا ، فلا تشركونا » فقال الآخر : لم يرد رسول اللّه هذا ، وقد أذلّ اللّه المشركين وهزمهم ، فادخلوا المعسكر ، فانتهبوا مع إخوانكم ، فلمّا إختلفوا خطبهم أمير هم عبد اللّه بن الجبير ، و أمرهم بأن لايخالفوا لرسول اللّه أمراً ، فعصوا ، فانطلقوا فلم يبق من الرماة مع أميرهم عبد اللّه بن الجبير إلاّ نفراً ما يبلغون العشرة ، واشترك المنطلقون في النهب ، واشتغلوا بما إشتغل به سائر المسلمين.

الهزيمة بعد الإنتصار :
    قد كان الإنتصار حليف المسلمين في الغزوة ، ولكن لمّا خالف الرماة أمر رسول اللّه ، وأخلوا مكانهم رأى العدو ، أنّ جبل العينين قد أضحى خالياً من الرماة والمدافعين ، وكان جبل العينين يقع على ضفّتين يتخللهما معبر ، وينتهي مداه إلى المعسكر ، وقد أمر رسول اللّه ( صلى الله عليه وآله وسلم ) بوقوف الرماة على الضفتين حتّى يمنعوا من دخول العدو من هذا المعبر على ساحة القتال ، والحيلولة دون هجومه عليهم من خلفهم ، ولمّا خالف الرماة بأخلائهما ، رأى العدو أنّ الفرصة مساعدة لمباغتة المسلمين ، فأدار خالدبن الوليد ومن معه من وراء المسلمين (1) فورد المعسكر من هذا المعبر على حين غفلة من المسلمين بعد ما قتل من بقي من الرماة فوق الهضبة ، وعند ذلك أثخنوا المسلمين ضرباً وقتلاً ، فألقى كل مسلم ماكان بيده مما انتهب ، و عاد إلى سيفه يسلّه ليقاتل به ولكنّ هيهات هيهات لقد تفرّقت الصفوف ، وتمزّقت الوحدة ، بعد أن كانت تقاتل تحت لواء قيادة قوّية حازمة حكيمة ، وهي الآن أصبحت تقاتل ولا قيادة لها ، فلم يكن عجباً أن ترى مسلماً يضرب مسلماً بسيفه ، وهو لا يكاد يعرفه.
1 ـ و لعلّه نجح لذلك بإدارتهم على ظهر جبل اُحد حتّى دخل المعسكر من هذا المعبر.

(350)
النداء بنعي النّبي :
    والذي زاد في الطّين بلّة وأعان على تمّزق الصفوف ، وتفرّق المسلمين عن ساحة الحرب ، ولجوئهم إلى مخابئ الجبل وثناياه ، سماعهم خبراً مكذوباً يهتف بموت النّبي ، إذ نادى أحد المشركين أنّ محمّداً قد قتل ، فعند ذلك سقط ما في أيدي المسلمين ، وتفرّقوا في كل وجه ، وصعدوا الجبل ، والتجاؤا إلى المخابئ ، فلم يبق إلاّ الأقل القليل من أصحابه.
    هذه هي الحالة التّي صار إليها المسلمون. وأمّا المشركون ، فقد امتلأوا فرحاً وطرباً ، واستنهضت هممهم كل يريد أن يشفي غليله بالمساعدة على الإجهاز على النبيّ ( صلى الله عليه وآله وسلم ).
    و في هذه المرحلة الرهيبة كيف يتصوّر حال النبيّ ؟ فهو بين تجرّع مرارة جلاء أصحابه من ساحة القتال ، وبين مضض هجوم عدوه بشراسة وحماسة تجاه موقعه وموضعه الّذي ربض فيه.
    فلم يصمد معه في ساحة المعركة إلاّ شرذمة قليلة ، وعلى رأسهم ابن عمّه علي بن أبي طالب ، وأبو دجانة سمّاك بن خرشة ، وكلمّّا حملت طائفة على رسول اللّه إستقبلهم علي ( عليه السلام ) ، فد فعهم عنه حتّى تقطّع سيفه ، فدفع إليه رسول اللّه سيفه ذا الفقار ، وانحاز رسول اللّه إلى ناحية جبل أحد ، فصار القتال من وجه واحد ، فلم يزل علي يقاتلهم حتّى أصابه في رأسه ووجهه ويديه سبعون جراحاً. كان علي يدافع عن ساحة النّبي ، والنّبي يريد اللجوء إلى جانب الجبل ، كان النّبي على هذه الحالة إذ عرفه أحد اصحابه وهو كعب بن مالك ، عرفه من عينيه وهما تزهران من تحت المغفر ، فنادى بأعلى صوته : يا معشر المسلمين ، أبشروا ، هذا رسول اللّه ( صلى الله عليه وآله وسلم ). فأشار إليه رسول اللّه ( صلى الله عليه وآله وسلم ) : أن أنصت (1) وإذا أردت أن تقف عن كثب على حقيقة الحال ، وعلى ما حاق
1 ـ السيرة النبويّة ج2 ص83 ، و المغازي للواقدي ج1 ص236.
مفاهيم القرآن ـ جلد السابع ::: فهرس