مفاهيم القرآن ـ جلد السابع ::: 331 ـ 340
(331)
4 ـ إستغاثة المسلمين و نزول الملائكة
    إنّ النّبي لمّا نظر إلى كثرة عدد المشركين وقلّة عدد المسلمين إستقبل القبلة ، وقال : اللّهم أنجز لي ما وعدتني ، اللّهم إن تهلك هذه العصابة ، لا تعبد في الأرض. فمازال يهتف ربّه مادّاً ييديه حتّى سقط رداوه من منكبيه ، فأنزل الله تعالى : ( إذْتَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُم فَاْسْتَجَابَ لَكُم أنِّى مُمِدُّكُم بِأَلْف مِّنَ المَلاَئِكَةِ مُرْدِ فِينَ * وَمَاجَعَلَهُ اْللَّهُ إلاَّ بُشْرَى وَلِتَطْمَئِنَ بِهِ قُلُوبُكُمْ وَمَا النَّصْرُ إلاَّ مِنْ عِندِ اللَّهِ إنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ) ( الأنفال/9و10 ).
    لعلّ معنى قوله : ( وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ اِلاَّ بُشْرَى ) إنّه سبحانه جعل الإمداد بالملائكة بشرى للمسلمين بالنّصر ولتسكن به قلوبهم وتزول الوسوسة عنها ، وإلاّ فملك واحد كاف للتدمير.
    أو لعلّ معناها : إنّ الإمداد بالملائكة إمداد بالسبب والنصر الحقيقي من جانب المسبّب وهو اللّه العزيز الحكيم ، وليس للسبب أصالة ولا إستقلال (1).
    ثمّ إنّه سبحانه جعل عدد الملائكة في هذه الآية ألفاً ، مع أنّه سبحانه أمدّ المسلمين ـ حسب آية اُخرى ـ بثلاثة آلاف كما في قوله : ( اِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيَكُم اَنْ يُمدَّكُم رَبُّكُم بِثَلاَثَةِ آلاَف مِنَ المَلاَئِكَةِ مُنْزَلِينَ * بَلَى اِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُم مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُم رَبُّكُم بِخَمْسَةِ آلاَف مِنَ المَلاَئِكَةِ مُسَوِّمِينَ * وَمَاجَعَلَهُ اللَّهُ اِلاَّ بُشْرَى لَكُم وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُم بِهِ وَمَا النَّصْرُ اِلاَّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ العَزِيزِ الحَكِيمِ ) ( آل عمران/124 ـ 126 ).
    و لكنّ الإختلاف يرتفع بالإمعان بما في ذيل الآية التّاسعة من سورة الأنفال حيث قال : ( بِأَلْف مِنَ المَلاَئِكَةِ مُرْدِفِينَ ) أي مردفين بملائكة اُخرى ، كما يقال أردفت زيداً خلفي ، فيكون المفعول الثاني محذوفاً ، فلو كان عدد الملائكة الاُخرى ألفين ، يصير المجموع ثلاثة ألاف.
1 ـ و قد تكرّر مضمون الآية في سورة آل عمران ، الآية 126.

(332)
    و هناك وجه آخر لرفع الإختلاف وهو أنّ هذا العدد ( ثلاثة آلاف ) جاء في كلام النّبي عند مخاطبة المسلمين حيث قال : ( اِذْ تَقُولُ لِلْمُؤُمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيَكُم أَنْ يُمِدَّكُم رَبُّكُم بِثَلاَثَةِ آلاَف مِنَ المَلاَئِكَةِ ) وأمّا عدد الألف فقد جاء في كلامه سبحانه و وعده حيث قال : ( اِذْ تَسْتَغِيْثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ اَنِّي مُمِدُّكُم بِاَلْف مِنَ المَلاَئِكَةِ ).
    والجمع بين الآيتين بأنّه كان في ضمير النّبي أنّه سبحانه ينزّل ثلاثة آلاف ، ولكنّه سبحانه نزّل ألفاً منهم ، وما ذلك إلاّ لأنّ الملائكة لم يقتحموا المعركة اِلاَّ بشكل جزئي كما سيوافيك ، وكان الوعد والعمل به لأجل تثبيتهم وإزالة الوسوسة عنهم.
    و أمّا عدد الخمسة آلاف فلم يكن إلاّ وعداً مشروطاً بأنّ المؤمنين لوصبروا على الجهاد واتّقوا معاصي اللّه ومخالفة الرسول ورجع المشركون إليهم فوراً ، فاللّه سبحانه يمددهم بخمسة آلاف من الملائكة مسوّمين أي معلَّمين.

5 ـ الإمداد بالنعاس
    إنّ الإنسان لا يأخده النوم في حال الخوف ، وقد قيل : الخوف مسهر والأمن منوّم ، فاللّه سبحانه أمدّهم بالنّعاس وهو أوّل النوم قبل أن يثقل ، فقوّاهم ـ بالإستراحة ـ على قتال العدو.
     6 ـ الإمداد بنزول المطر
    وقد أصابهم المطر ـ وكانوا أحوج شي إليه فطهّروا به أبدانهم واغتسلوا من الجنابة ، وزادهم قوّة قلب وسكون نفس وثقة بالنّصر ، وثبّت أقدامهم في الحرب بتلبّد الرّمل.
    وإلى الإمدادين : الخامس والسادس يشير قوله سبحانه : ( اِذْ يُغَشِّيْكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِنْهُ وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُم مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُم بِهِ وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ (1)
1 ـ و هو الجنابة.

(333)
وَلِيَرْبِطَ عَلَى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الاَقْدَامَ ) ( الأنفال/11 ).
    فإلى فائدة الإمداد بالنّعاس أشار بقوله : ( أَمَنَةً مِنْهُ ).
    و إلى فوائد نزول المطر المختلفة أشار بقوله :
    1 ـ ( يُطَهِّرَكُم ) 2 ـ ( يُذْهِبَ عَنْكُم رِجْزَ الشَّيْطَانِ ) 3 ـ ( وَلِيَرْبِطَ عَلَى قُلُوبِكُم ) 4 ـ ( وَيُثَبِّتَ بِهِ الاَقْدَامَ ).

7 ـ الإمداد بتثبيت أقدام المؤمنين
    و قد كان لنزول الملائكة فائدة اُخرى ، وهي تثبيت أقدام المؤمنين في ميدان الحرب لئلاّتزلّ أقدامهم عند هجوم العدو ، و كانت ساحة القتال رملاً.
     8 ـ الإمداد بإلقاء الرّعب في قلوب المشركين
    و قد أمدّهم سبحانه بإلقاء الرّعب في قلوب الكافرين.
    يقول سبحان مشيراً إلى الإمدادين : ( اِذْ يُوحِى رَبُّكَ اِلَى المَلاَئِكَهِ اَنِّى مَعَكُم فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِي فِى قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الأَعْنَاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُم كُلَّ بَنَان ) ( الأنفال/12 ).
    والمراد من « فَوقَ الأَعناق » هي الرؤوس ، لأنّها فوق الأعناق ، كما أنّ المراد من قوله : « كُلَّ بَنَان » ، أطراف الأصابع ، و لعلّه سبحانه اكتفى به عن جملة اليد والرّجل.
    وأمّا الخطاب ، فيحتمل أن يكون للملائكة ، كما استظهره أكثر المفسّرين ، أو للمؤمنين كما هو الظّاهر ، لما عرفت من أنّ الملائكة لم يقتحموا المعركة ، وإنّما كان نزولهم لأجل تثبيت القلوب.
    و أمّا وجه إذلاله سبحانه قريشاً ، و أعزازه المؤمنين ، فقد بيّنه في قوله : ( ذَلِكَ بِأَنَّهُم شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَمَنْ يُشَاقِقِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَاِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ العِقَابِ * ذَلِكُم فَذُوقُوهُ


(334)
وَاَنَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابَ النَّارِ ) ( الأنفال/13و14 ).
    هذه مجموعة الإعانات الغيبيّة التّي شملت المسلمين ، وقد تعلّقت مشيئته سبحانه بإختصاص الإعانات الربّانيّة بالمؤمنين ، والوساوس الشيطانيّة بالمشركين ، فقد ظهر الشيطان ، وتجسّم للكافرين يوم بدر ، وزيّن لهم أعمالهم وخروجهم بطراً ورئاء النّاس ، ثمّ قال لهم بأنّه لا يغلبكم أحد من الناس لكثرة عددكم ، وقوّتكم ، وأنا ناصر لكم ، ودافع عنكم السوء ، ولمّا إلتقت الفرقتان ، رجع العدو القهقرى منهزماً ، لأنه رأى عناية اللّه سبحانه بالمسلمين.
    وإلى ذلك يشير قوله سبحانه : ( وَاِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ اَعْمَالَهُمْ وَقَالَ لاَ غَالِبَ لَكُمُ اليَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَاِنِّي جَارٌّ لَكُمْ فَلَمَّا تَرَاَءتِ الفئتَانِ نَكَصَ عَلَى عَقِبيْهِ وَقَالَ اِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ إِنِّي أَرَى مَا لاَتَرَوْنَ اِنِّي اَخَافُ اللَّهَ وَ اللَّهُ شَدِيدُ العِقَابِ ) ( الأنفال/48 ).
    و قد علّل الشيطان تقهقره بأمرين :
    الأوّل : إنّه يرى ما لا تراه قريش أعني الملائكة الّذين جاؤا لنصرة المؤمنين.
    الثّاني : إنّه يخاف اللّه.

إختلافهم في الفيء
    إنّ رسول اللّه ( صلى الله عليه وآله وسلم ) أمر بما في العسكر ، ممّا جمع النّاس ، فجُمع ، فاختلف المسلمون فيه فقال من جمعه : هو لنا ، وقال الّذين كانوا يقاتلون العدو ويطلبونه : واللّه لولا نحن ما أصبتموه لنحن شغلنا عنكم القوم حتّى أصبتم ما أصبتم ، وقال الّذين يحرسون رسول اللّه ( صلى الله عليه وآله وسلم ) : واللّه ما أنتم بأحق به منّا ، واللّه لقد رأينا أن نقتل العدو إذ منحنا اللّه أكتافهم ، و قد رأينا أن نأخذ المتاع حين لم يكن دونه من يمنعه ، فخفنا على رسول اللّه كرّة العدو ، فقمنا دونه ، فما أنتم بأحقّ به منّا.
    كان الأولى بالمسلمين أن يفوّضوا أمر الفيء إلى الرّسول أخذاً بالتسليم الّذي


(335)
أمر به المسلمون.
    سُئل عبادة بن الصامت عن الأنفال فقال : فينا أصحابَ بدر نزلت ، حين اختلفنا في النفل ، و ساءت أخلاقنا ، فنزعه اللّه من أيدينا ، فجعله إلى رسوله ، وقال : ( يَسْئَلُونَكَ عَنِ الاَنْفَالِ قُلِ الاَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَاَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ وَاَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ اِنْ كُنْتُم مُؤْمِنِينَ ) ( الأنفال/1 ) (1).
    و روي عن ابن عباس أنّ سبب سؤالهم هو أنّ النّبي قال يوم بدر : من جاء بكذا ، فله كذا ، ومن جاء بأسير ، فله كذا ، فتسارع الشبّان ، وبقي الشيوخ تحت الراية ، فلمّا إنقضت الحرب طلب الشبّان ما كان قد نفلهم النّبي به ، فقال الشيوخ : كنّا ردءاً لكم ولو وقعت عليكم الهزيمة لرجعتم إلينا وجرى بين أبي اليسر وبين سعد بن معاذ كلام ، فنزع اللّه تعالى الغنائم منهم (2).

ما معنى الأنفال في الآية ؟
    الأنفال جمع نفل ، وهو بمعنى الزيادة ، ولو أطلقت على الرواتب من الصلوات وغيرها فلأجل أنّها زيادة على الفريضة ، و ربّما تستعمل في العطيّة ، ولعلّ المعنيين متقاربان.
    و قد اُطلق هذا اللّفظ في الآية واُريد منه غنائم الحرب ، فيكون مساوياً لقوله سبحانه : ( وَاعْلَمُوا اَنَّمَاغَنِمْتُم مِنْ شَىْء فَإِنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِى القُرْبَى وَاليَتَامَى وَالمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ اِن كُنْتُم آمَنْتُم بِاللَّهِ وَمَا أَنزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الجَمْعَانِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَىْء قَدِيرٌ ) ( الأنفال/41 ) والآيتان نزلتا في غزوة بدر ، و سيوافيك الجمع بين مضمونيهما ، حيث جعلت الاُولى الأنفال للّه. والثّانية خصّت الخمس منها للّه وللرّسول ولذي القربى ، والطوائف الثلاث الاُخرى ، فانتظر.
1 ـ السيرة النبويّة لابن هشام ج1 ص641 ـ 642.
2 ـ مجمع البيان ، ج2 ص518.


(336)
    وأمّا الغنائم التّي يحصل عليها النّبي عن غير طريق الحرب ، أي بلا إيجاف عليه بخيل ، ولا ركاب ، فيطلق عليها الفيء ، قال سبحانه : ( وَمَا اَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَا اَوجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْل وَلاَ رِكَاب وَلَكِنَّ اللَّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَىْء قَدِيرٌ * مَا اَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ اَهْلِ القُرَى فَلِلّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِى القُرْبَى وَاليَتَامَى وَالمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لاَ يَكُونَ دُوْلَةً بَيْنَ الاَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَا كُم عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ اِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ العِقَابِ ) ( الحشر/6و7 ).
    و قد نزلت الآيتان في أموال كفّار أهل القرى ، وهم بنو النضير و بنو قريظة قرب المدينة ، وفدك. وقال رسول اللّه ( صلى الله عليه وآله وسلم ) يوم بني النضير للأنصار : إن شئتم قسّمتم للمهاجرين من أموالكم ودياركم ، وتشاركونهم في هذه الغنيمة ، وإنشئتم كانت لكم دياركم وأموالكم ولم يقسّم لكم شيء من الغنيمة ، فقال الأنصار : بل نقسّم لهم من أموالنا و ديارنا ونؤثرهم بالغنيمة ، ولا نشاركهم فيها ، وفيهم نزل قوله سبحانه : ( وَالَّدِينَ تَبَوَّءُو الدَّارَ وَالاِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ اِلَيْهِم وَلاَيَجِدُونَ فِى صُدُورِهِم حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى اَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِم خَصَاصَةٌ وَمَن يُوْقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَاُوْلَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ ) ( الحشر/9 ).
    نعم ربّما تطلق الأنفال ويراد منها غير غنائم الحرب بل معنى يرادف الفيء ، أو شيئاً أوسع منه ، قال الإمام الصادق : « الأنفال ما لم يوجف عليه بخيل ولاركاب ( الفيء ) ، أو قوم صالحوا ، أو قوم أعطوا بأيديهم ، وكلّ أرض خربة ، وبطون الأودية ، فهو لرسول اللّه ، وللإمام من بعده يضعه حيث يشاء ».
    وبذلك يعلم أنّ الأنفال بما أنّ له معنى وسيعاً ، يطلق على غنائم الحرب تارة ، وعلى ما يحصل عليه النّبي من غير إيجاف بخيل ولا ركاب ، وثالثاً على معنى أوسع يشمل على بطون الأودية ، و رؤوس الجبال ممّا ورد في الروايات.


(337)
الجمع بين مفاد الآيتين
    إنّ الآيتين : ( قُلِ الاَنْفَالُ لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ ـ وَاعْلَمُوا اَنَّ مَا غَنِمْتُم مِنْ شَىْء فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ و ... ).
    نزلتا في غزوة بدر ، فعلى ضوء ذلك يكون المراد من الأنفال هو غنائم الحرب ، وقد جعله في الآية الاُولى للّه وللرّسول ، وفي الآية الثانية للمسلمين إلاّ الخمس ، فخصّه للّه والرسول و ذي القربى والطوائف الثلاث الباقية ، فكيف التوفيق بينهما ؟ فهل الآية الثانية ناسخة للاُولى أو لا ؟
    و الجواب إنّه لا تنافي بين الآيتين حتّى تكون الثانية ناسخة للاُولى لا تفيد إلاّ كون أصل ملكها للّه وللرّسول من دون أن تتعرّض لكيفيّة التصرّف و جواز الأكل والتمتّع ، وأمّا الآية الثانية فهو يبيّن كيفيّة التصرّف والأكل والتمتع ، وتكون الثانية مبيّنة للاُولى. فأصل الملك في الغنيمة للّه والرّسول ، ثمّ ترجع أربعة أخماسها إلى المجاهدين به يمتلكونها ، ويرجع خمس منها إلى اللّه والرّسول وذي القربى وغيرهم (1).
    وبعبارة اُخرى : إنّ أمرها مفوّض إلى اللّه ورسوله ، ثمّ بيّن سبحانه مصارفها ، وكيفيّة قسمتها في آية الخمس ، ثمّ إنّ التعبير عن الغنائم بالأنفال التّى هي بمعنى الزيادات ، لأجل الإشارة إلى تعليل الحكم بموضوعه ، كأنّه قيل يسألونك عن الغنائم ، وهي زيادات لا مالك لها بين النّاس ، وإذا كان كذلك ، فأجبهم بحكم الزيادات والأنفال ، و قل الأنفال للّه والرّسول ، ومنها الغنيمة ، فهي للّه والرّسول بالذات ، و إنّما يتمتّع بها المسلمون ، حسب ماورد في الآية الثانية.
    ثمّ إنّ اللام في قوله : ( يَسْأَ لُونَكَ عَنِ الاَنْفَالِ ) وإن كانت للعهد ، تشير إلى غنائم الحرب ، لكنّها في قوله : ( قُلِ الاَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ ) للجنس ، وعليه فكل مايعدّ زيادة ، فهو لهما بالذات من غير فرق بين غنائم الحرب ، أو ما حصل عليه
1 ـ الوسائل ج6 كتاب الخمس الباب الأوّل من أبواب الأنفال ، الحديث1 ص364.

(338)
بغير خيل ولا ركاب ، أو ليس له مالك خاص ، فالأموال الزائدة في المجتمع نظير الديار الخالية ، والقرى البائدة ، ورؤوس الجبال ، وبطون الأودية ، وقطائع الملوك ، وتركة من لا وارث له.
    نعم يقسّم قسم خاص من الأنفال بين المقاتلين ، وهو ما أوجفوا عليه بخيل و ركاب ، دون الباقي ، وتفصيل الكلام في الفقه.

أخذ الأسرى قبل الدعم والإستقرار
    أمر رسول اللّه بقتل أسيرين أعني النضربن حارث وعقبة بن أبي معيط لأعمالهما الإجرامية في مكّة قبل الهجرة و بعدها ، فخافت الأنصار أن يقتل الأسرى ، فقالوا يا رسول اللّه : قتلنا سبعين وهم قومك واُسرتك أتجذّ أصلهم ؟ فخذ يا رسول اللّه منهم الفداء. و قد كانوا أخذوا ما وجدوه من الغنائم في عسكر قريش ، ولمّا طلبوه و سألوه ، نزل قوله سبحانه : ( مَا كَانَ لِنَبِىّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرى حتَّى يُثْخِنَ فىِ الاَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللَّهُ يُريِدُ الآخِرَةَ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ * لَوْلاَ كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُم فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ * فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُم حَلاَلاً طَيِّباً وَاتَّقُواللَّهَ اِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ) ( الأنفال/67 ـ 69 ).
    إنّ الإثخان في الأرض عبارة عن التغليظ. يقال : ثخن ا لشيء فهو ثخيبن إذا غلظ فلم يسل ، فكنّي به عن إستقرار دينه بين النّاس كاستقرار الشيء الغليظ المنجمد الثّابت بعدما كان رقيقاً سائلاً مخشيّ الزوال بالسيلان ، فالآية تحرّم أخذ الأسرى قبل أن يستقر للمسلمين أمرهم ، ويعرب عن أنّ الهدف من الأمر بقتل الأسرى ، وعدم أخذ الفداء ، لأجل إنّ في إطلاق سراحهم قبل الإستقرار مظنّة إجتماعهم ، وتكاثفهم ، ووثوبهم على النّبي ، والمسلمين من جديد ، فيجب إبادتهم واستئصالهم إلى حد الإثخان الذّي لا يخاف معه عن توثّبهم وتكاثفهم مرّة اُخرى.
    إنّ إتخاذ الأسرى إنّما يكون خيراً ورحمة ومصلحة للبشر إذا كان الظهور والغلب لأهل الحق والعدل ، ولولاه لانقلب شرّاً ، والّذين يقترحون أخذ الأسرى ،


(339)
يريدون عرض الدّنيا ، أعني المال الّذي يأخذونه من الأسرى فداء لهم ، واللّه يريد ثواب الآخرة الباقي.
    والعتاب خاص بالصحابة والمسلمون الأوائل دون النّبي ، بشهادة تغيّر لحن الكلام حيث إبتدأه بقوله : ( ماكانَ لِنّبيّ أنْ يكونَ لَهُ أسرى ) وانتهى بالخطاب للمسلمين ( تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا ) ، والخطاب خاص بهم لا يشمل النّبي ، وحاشا نبيّ العظمة أن يريد عرض الدّنيا.
    ومن ردي الكلام ما مرّ في تفسير المراغْي وغيره ، من أنّه سبحانه عاتبهم على ما فعلوا بعد بيان سنّة النبيين كما عاتب رسوله (1).
    والآية تعرب أنّ السنّة الجارية في الأنبياء الماضيبن هي أنّهم كانوا إذا حاربوا أعداءهم ، وظفروا بهم ينكّلونهم بالقتل لكي يضعفوا أوّلاً ، ويعتبر بهم مَنْ وراءهم ، فيكفّوا عن محادّة اللّه ورسوله ، فكانوا لا يأخذون أسرى حتّى يثخنوا في الأرض ، ويستقرّ دينهم بين النّاس ، وأمّا مسألة المنّ أو الفداء ، فإنّما هو بعدما علا أمر الإسلام ، واستقرّ في الحجاز واليمن : ( فَاِذَا لَقِيتُم الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّى اِذَا اَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الوِثَاقَ فَاِمَّا مَنّاً بَعْدُ وَاِمَّا فِدَاءً ) ( محمد/4 ) ، فحكم الأسرى قبل الإثخان هو القتل ، و أمّا بعده ، فالحكم هو شدّهم في الحبال ، وسوقهم على الأقدام حتّى يتعامل معهم بأحد الأمرين : المنّ وإطلاق السراح ، أو أخذ الفدية.
    وبذلك يعلم أنّ الأمر بقتل الأسرى إنّما كان حكماً مؤقّتاً زمنياً مختصّاً بزمن لم يستقر أمر النّبي ولا دينه ، فكان في أخذ الأسرى مظنّة الخوف على بيضة الإسلام ، وأمّا إذا إرتفع ذلك الخوف ، وضرب الإسلام بجرانه (2) في الأرض ، فالحكم السائد هو ما جاء في سورة محمد ( صلى الله عليه وآله وسلم ) من المنّ ، أو أخذ الفداء ، فلربّما يستدلّ بالآية على أنّ الإسلام يسرف في إراقة الدماء ، وقتل النفوس ، لا أصل له ، لأنّ الأمر بالقتل ، وعدم أخذ الأسرى ، كان راجعاً إلى حالة خاصّة ، وهي حالة
1 ـ تفسير المراغي ج4 ص36.
2 ـ ضرب الإسلام بجرانه : أي ثبت و استقرّ.


(340)
عدم إستقرار الإسلام في المنطقة كما كان الحال كذلك في السنوات الاُولى قبل غزوة الأحزاب ، وأمّا بعدها فقد علا أمر النّبي واستقرّ ، فلم تكن حاجة إلى قتل الأسرى ، بل كان السائد هو ما ورد في سورة محمد ( صلى الله عليه وآله وسلم ) من إطلاق سراحهم منّاً عليهم ، أو أخذ الفدية منهم.
    بل الظروف في غزوة واحدة كانت مختلفة ، فربّما تسود في السّاعات الاُولى من الحرب حالة عدم الإستقرار والتزلزل ، ومظنّة رجوع العدو ثانياً بعد إطلاق سراحه ، فلا يؤخذ الأسرى ، والحال إنّ الحالات الأخيرة من الحرب كانت على عكس ذلك ، فلم يكن أيّة مظنّة للكرّة ، فيختصّ قتل الأسرى في غزوة واحدة بالسّاعات الاُولى أي ساعات عدم الإستقرار ، ومظنّة الكرة لا الساعات الأخيرة.
    ثُمَّ انّ الآية الثانية أعني قوله : ( لَوْلاَ كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُم فِيْمَا اَخَذْتُم عَذَابٌ عَظِيمٌ ) يعرب عن عظم المعصية ، أعني أخذ الأسرى قبل الإثخان في الأرض لما فيه من مظنّة زوال الإسلام وكيانه.
    كيف ولو لا كتاب سابق لمسّ المسلمين ، أو المصرّين على الأخذ عذاب عظيم.وأمّا ما هو هذا الكتاب الّذي سبق ، فقد اُبهم غاية الإبهام ، لأنّه أنسب في مقام المعاتبة ليذهب ذهن السامع كل مذهب ممكن ، ولا يتعيّن عنده ، فيهون عنده الأمر. ومن ردي الكلام ما مرّ في غير واحد من التفاسير : قال رسول اللّه : « إن كاد ليمسّنا في خلاف ابن الخطّاب ( حيث كان يقترح القتل خلاف الباقين حيث كانوا يقترحون الأخذ ) عذاب عظيم ، ولو نزل العذاب ما أفلت إلاّ عمر ».
    ومعناه شمول العذاب ، للرّسول الأعظم ، وقد سبق من المراغي وغيره : إنّ العتاب عام يعمّ المسلمين والنّبي الأكرم ، مع أنّه سبحانه يقول : ( وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَاَنْتَ فِيْهِم ) ( الأنفال/33 ).
    فالّذي يدفع بوجوده العذاب ، صاريُدفع عنه العذاب بوجود غيره. ( كَبُرتكَلِمَة تَخْرُج مِنْ اَفْوَاهِهِم ) ( الكهف/5 ).
مفاهيم القرآن ـ جلد السابع ::: فهرس