مفاهيم القرآن ـ جلد السابع ::: 421 ـ 430
(421)
6 ـ غزوة ذات السلاسل
    إنّ غزوة ذات السلاسل بالنحو الذي سيمر عليك ذكره في هذا الفصل انفردت بنقله جملة من أعلام الإمامية و مفاده :
    إنّ أعرابياً جاء إلى النبيّ ( صلى الله عليه وآله وسلم ) فجثا بين يديه ، و قال له : جئتك لأنصح لك. قال : و ما نصيحتك ؟ قال : قوم من العرب قد اجتمعوا بوادي الرمل ، و عملوا على أن يبيتوك بالمدينة ، و وصفهم له ، فأمر النبيّ ( صلى الله عليه وآله وسلم ) أن ينادي بالصلاة جامعة ، فاجتمع المسلمون ، و صعد المنبر فحمد اللّه وأثنى عليه ، ثمّ قال : أيّها الناس إنّ هذا عدوّ اللّه و عدوّكم قد عمل على أن يبيتكم فمن لهم ، فقام جماعة من أهل الصفة ، فقالوا : نحن نخرج إليهم يا رسول اللّه فولّ علينا من شئت ، فأقرع بينهم ، فخرجت القرعة على ثمانين رجلاً منهم و من غيرهم ، فاستدعى أبابكر ، فقال له : خذ اللواء و امض إلى بني سليم ، فانّهم قريب من الحرة ، فمضى و معه القوم حتى قارب أرضهم ، و كانت كثيرة الحجارة و الشجر ، وهم ببطن الوادي و المنحدر إليه صعب ، فلمّا صار أبوبكر إلى الوادي ، و أراد الانحدار ، خرجوا إليه فهزموه و قتلوا من المسلمين جمعاً كثيراً ، و انهزم أبوبكر من القوم ، فلمّا قدموا على النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) عقده لعمر بن الخطاب وبعثه إليهم ، فكمنوا له تحت الحجارة و الشجر ، فلمّا ذهب ليهبط خرجوا إليه فهزموه ، فساء رسول اللّه ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ذلك ، فقال له عمرو بن العاص : ابعثني يا رسول اللّه إليهم ، فإنّ الحرب خدعة ، فلعلّي أخدعهم ، فانفذه مع جماعة و وصّاه ، فلما صار إلى الوادي خرجوا إليه فهزموه و قتلوا من أصحابه جماعة.


(422)
    و مكث رسول اللّه ( صلى الله عليه وآله وسلم ) أيّاماً يدعو عليهم ثمّ دعى أمير المؤمنين ( عليه السلام ) فعقد له ثمّ قال : أرسلته كرّاراً غير فرار ، ثمّ رفع يديه إلى السماء و قال : « اللهمّ إن كنت تعلم أنّي رسولك فاحفظني فيه و افعل به و افعل ... » فدعا له ما شاء و خرج علي بن أبي طالب ( عليه السلام ) و خرج رسول اللّه ( صلى الله عليه وآله وسلم ) لتشييعه ، و بلغ معه إلى مسجد الأحزاب ، و علي ( عليه السلام ) على فرس أشقر ، مهلوب عليه بردان يمانيّان ، و في يده قناة خطّية ، فشيّعه رسول اللّه ( صلى الله عليه وآله وسلم ) و دعا له ، و أنفذ معه فيمن أنفذ أبابكر و عمر وعمرو بن العاص ، فسار بهم نحو العراق متنكّباً للطريق ، حتى ظنّوا أنّه يريد بهم غير ذلك الوجه ، ثمّ أخذ بهم على محجّة غامضة ، فسار بهم حتى استقبل الوادي من فمه ، و كان يسير الليل و يكمن النهار ، فلمّا قرب من الوادي أمر أصحابه أن يعلموا الخيل (1) و وقفهم مكاناً ، و قال : لاتبرحوا و انتبذ أمامهم ، فأقام ناحية منهم.
    فلمّا رأى عمرو بن العاص ما صنع لم يشك أنّ الفتح يكون له ، فقال لأبي بكر : أنا أعلم بهذه البلاد من علي ( عليه السلام ) ، و فيها ما هو أشد علينا من بني سليم ، وهي الضباع و الذئاب ، فإن خرجت علينا خفت أن تقطّعنا ، فكلّمه يخل عنّا نعلوا الوادي ، قال : فانطلق أبوبكر فكلّمه فأطال ، فلم يجبه أمير المؤمنين ( عليه السلام ) حرفاً واحداً ، فرجع إليهم فقال : لا و اللّه ما أجابني حرفاً واحداً ، فقال عمرو بن العاص لعمر بن الخطاب : أنت أقوى عليه ، فانطلق عمر فخاطبه ، فصنع به مثل ما صنع بأبي بكر ، فرجع إليهم فأخبرهم انّه لم يجبه ، فقال عمرو بن العاص : إنّه لاينبغي أن نضيع أنفسنا انطلقوا بنا نعلوا الوادي. فقال له المسلمون : لا واللّه مانفعل ، أمرنا رسول اللّه ( صلى الله عليه وآله وسلم ) أن نسمع لعلي ( عليه السلام ) ونطيع فنترك أمره و نطيع لك و نسمع ، فلم يزالوا كذلك حتى أحسّ أميرالمؤمنين ( عليه السلام ) بالفجر ، فكبس القوم و هم غارون ، فأمكنه اللّه تعالى منهم ، و نزلت على النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ( وَ العَادِياتِ ضَبْحاً ... إلى
1 ـ يعلموا الخيل : يعلّقون عليها صوفاً ملوناً في الحرب.

(423)
آخرها ) فبشّر النبيّ ( صلى الله عليه وآله وسلم ) أصحابه بالفتح ، و أمرهم أن يستقبلوا أمير المؤمنين ( عليه السلام ) ، فاستقبلوه و النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) يتقدّمهم فقاموا له صفين ، فلمّا أبصر بالنبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ترجّل له عن فرسه ، فقال له النبيّ ( صلى الله عليه وآله وسلم ) : اركب فإنّ اللّه و رسوله عنك راضيان ، فبكى أمير المؤمنين ( عليه السلام ) فرحاً ، فقال له النبيّ ( صلى الله عليه وآله وسلم ) : يا عليّ لولا أنّني اشفق أن تقول فيك طوائف من اُمّتي ما قالت النصارى في المسيح عيسى بن مريم ، لقلت فيك اليوم مقالاً لاتمر بملأ من الناس إلاّ أخذوا التراب من تحت قدميك (1).
    و قال أمين الإسلام الطبرسي :
    قيل نزلت السورة لمّا بعث النبيّ ( صلى الله عليه وآله وسلم ) علياً ( عليه السلام ) إلى ذات السلاسل فأوقع بهم ، و ذلك بعد أن بعث عليهم مراراً غيره من الصحابة ، فرجع كل منهم إلى رسول اللّه ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ، و هو المروي عن أبي عبد اللّه ( عليه السلام ) في حديث طويل قال : و سمّيت هذه الغزوة ذات السلاسل لأنّه أسر منهم و قتل وسبى وشدّ أسراهم في الحبال ، مكتّفين كأنّهم في السلاسل ، و لما نزلت السورة خرج رسول اللّه ( صلى الله عليه وآله وسلم ) إلى الناس ، فصلّى بهم الغداة و قرأ فيها و العاديات ، فلمّا فرغ من صلاته. قال أصحابه : هذه سورة لم نعرفها. فقال رسول اللّه : نعم إنّ علياًّ ظفر بأعداء اللّه ، وبشّرني بذلك جبرئيل ( عليه السلام ) في هذه الليلة ، فقدم عليّ ( عليه السلام ) بعد أيام بالغنائم و الأسارى (2).
1 ـ الإرشاد للشيخ المفيد : ص86 ـ 88 و تفسير فرات : ص222 إلى 226 ، و تفسير القمي : ج2 ص434 ـ 439 مع زيادات في الأخير ، و قد نقل ما جاء فيه من الفضائل في الشرح الحديدي : ج 9 ص168 و مناقب المغازي : ص237و238 و غيرهما.
2 ـ مجمع البيان : ج10 ص802 ـ 803 ط بيروت.


(424)
    هذا ما رواه جمع من أعلام الشيعة الإماميّة إلاّ أنّ ما يذكره أصحاب السير والمغازي (1) من أهل السنّة يغاير ما حكيناه لك ، و هؤلاء لايتعرّضون بالذكر بتاتاً إلى دور شخصية الإمام علي بن أبي طالب ( عليه السلام ) كما لايذكرون نزول الآيات في تلك المناسبة ، و مع ذلك يختلفون في تحديد موضع الغزوة و القبيلة المحاربة فيه ، فيسمّيه ابن هشام بأرض بني عذرة ، بينما نجد الواقدي في مغازية يشير إليهم بقوله : إنّ جمعاً من بَلِيّ وقضاعة قد تجمّعوا يريدون أن يدنوا إلى أطراف رسول اللّه ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ، و من أراد الوقوف على مضانّها ، فليرجع إلى محالها.

السر في انتصار عليّ ( عليه السلام ) دون من عداه :
    إنّ الحنكة و البراعة الحربيّة التي انتهجها أمير المؤمنين ( عليه السلام ) هي التي كفلت له الانتصار حيث تكمن في الأساليب الحربية التي نستعرضها لك فيما يلي :
    1 ـ تغيير مسير الجيش لإيهام العدو بعدم القصد للمباغتة و المهاجمة ، وحتى لايصل خبرهم إليهم عن طريق أعراب البادية و القبائل المجاورة.
    2 ـ اتّخاذ الليل ستراً و حجاباً عن أعين الجواسيس ، و طلائع المقاتلين ، فقدسار ليلاً و اختبأ نهاراً.
    3 ـ المهاجمة ليلاً و المباغتة لهم في عقر دارهم ، و هم غاطّون في سبات الغفلة و النوم.
    4 ـ البأس و الحميّة و الشجاعة التي أبداها عند الهجوم على مواقعهم حيث لم يترك لهم أي فرصة للمقابلة والدفاع عن أنفسهم ، فلم يكدينادي المنادي منهم بالاستنفار ، إلاّ وقد كبس القوم برّمتهم ، واسقطوا فى أيدي المسلمين.
1 ـ السيرة النبوية : ج2 ص623 ـ 625 ، و المغازي للواقدي : ج2 ص769 ـ 774.

(425)
    وأمّا الآيات النازلة في هذه الواقعة ، فعلى حسب ما نقلناه هي سورة العاديات بأكملها بمناسبة تلك الواقعة وإليك تفسير ما تضمنته.
    ( وَالعَادِيَاتِ ضَبْحاً * فَالمُورِيَاتِ قَدْحاً * فَالمُغِيرَاتِ صُبْحاً * فَاَثَرْنَ بِهِ نَقْعاً * فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعاً * اِنَّ الاِنْسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ * وَاِنَّهُ عَلَى ذَلِكَ لَشَهِيدٌ * وَاِنَّهُ لِحُبِّ الخَيْرِ لَشَدِيدٌ * اَفَلاَ يَعْلَمُ اِذَا بُعْثِرَ مَا فِى القُبُورِ * وَحُصِّلَ مَا فِى الصُّدُورِ * اِنَّ رَبَّهُم بِهِم يَوْمَئِذ لَخَبِيرٌ ).
    إنّ السياق العام الذي تضمّنته الآيات الشريفة يوحي بأنّ السورة مكّية لكون فواصلها متقاربة ، ولكن المضمون يدل على أنها من السور المدينة ، حيث تتناول الحكاية عن خيل الغزاة ، وقد شرع الجهاد في المدينة.
    ( وَالعَادِيَاتِ ) : من العدو وهو الجري بسرعة.
    ( ضبحاً ) : و الضبح صوت أنفاس الخيل عند عدوها ، والمعنى لاُقسم بالخيل التي تعدو وهي تضبح.
    ( فَالمُورِيَاتِ قَدْحاً ) « الايراء » : إخراج ، « القدح » : الضرب. يقال : قَدَحَ فَأورى : إذا أخرج النار بالقدح ، والمراد الشرر المتطاير الذي ينتج من اصطكاك حوافر الخيل إذا عدت فوق الحجارة والأرض المحصبة.
    ( فَالمُغِيرَاتِ صُبْحاً ) الإغارة : الهجوم على العدو بغتة بالخيل ، فأقسم بالخيل الهاجمة على العدو بغتة في وقت الصبح.
    ( فَاَثَرْنَ بِهِ نَقْعاً ) الإثارة : هو تهييج الغبار ونحوه ، والنقع : الغبار ، والمعنى إطارة الغبار من على وجة الأرض.
    ( وَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعاً ) الوسط والتوسّط : بمعنى واحد ، والضمير المجرور يرجع إلى الصبح ، أو إلى النقع ، والمعنى فصرن في وقت الصبح في وسط الجمع ، والمراد منه كتيبة العدو.
    ( اِنَّ الاِنْسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ ) الكنود : الكفور ، والآية كقوله : ( اِنَّ الاِنْسَانَ


(426)
لَكَفُور ) ( الحج/66 ) وهو إخبار عمّا في طبع الإنسان من اتبّاع الهوى والإنكباب على عرض الدنيا ، وفيه تعريض للقوم المغار عليهم.
    ( وَاِنَّهُ عَلَى ذَلِكَ لَشَهِيدٌ ) : أي إنّ الإنسان على كفرانه بأنعم ربّه شاهد فانّ « الإنسان على نفسه بصيرة ».
    ( وَاِنَّهُ لِحُبِّ الخَيْرِ لَشَدِيدٌ ) : أي إنّ الإنسان لأجل حبّ المال لبخيل شحيح.
    ( اَفَلاَ يَعْلَمُ اِذَا بُعْثِرَ مَا فِى القُبُورِ * وَحُصِّلَ مَا فِى الصُّدُورِ * اِنَّ رَبَّهُم بِهِم يَوْمَئِذ لَخَبِيرٌ ) : أي أفلا يعلم الإنسان أنَّ لكفرانه بنعمة ربّه ، تبعة ستلحقه وسيجازى بها إذا اُخرج ما في القبور من الأبدان ، وحصل ما في الصدور من سرائرها ، وانّ ربهم خبير بسرائرهم ، فيجازيهم بما فيها.
    بقي في تقسير الآيات بيان نكتتين :
    1 ـ ما هو سر الحلف بالعاديات ، فالموريات ، فالمغيرات.
    2 ـ ما هي الصلة بين الحلف بها والجواب عن القسم بقوله :
    ( اِنَّ الاِنْسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ * وَاِنَّهُ عَلَى ذَلِكَ لَشَهِيدٌ * وَاِنَّهُ لِحُبِّ الخَيْرِ لَشَدِيدٌ ).
    إنّ كثيراً من التفاسير تتضمّن سرّ الحلف بها ، ولم يذكر سرّ الصلة بينهما بل أهمله فى جميع الأقسام الواردة في القرآن ، وهو أمر عجيب.
    أمّا علّة القسم بالاُمور المذكورة ، فلأنّ الخيل أقوى وسيلة للمقاتل المجاهد في سبيل الله ، فتضفي له طابع القداسة ، لقداسة غايته ، فإنّ كرامة الوسيلة بكرامة ذيها ، وأمّا القسم بضبحها ، والموريات التي تتطاير من حوافر أرجلها ، فلأنّ هذه الحالات المجتمعة في الخيل عند العدو تبعث الرعب والهلع والخوف في نفوس الأعداء ، فتكون بمجموعها من مقوّمات النصر والغلبة ، والظهور على الكفر ، وهنا يكمن السر في تشريفها وتعظيمها ، واستحقاقها لتكون محلاًّ للقسم.
    قال رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) : « الخير كلّه في السيف ، وتحت


(427)
ظل السيف ، ولا يقيم الناس إلاّ السيف ، والسيوف مقاليد الجنّة والنار » (1).
    وعنه ( صلى الله عليه وآله وسلم ) أيضاً قال : « إنّ أفضل عمل المؤمنين الجهاد في سبيل الله » (2).
    إلى غير ذلك من الروايات الواردة في شرف الجهاد مضافاً إلى قوله سبحانه : ( وَاَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُم مِنْ قُوَّة وَمِنْ رِبَاطِ الخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ ) ( الأنفال/60 ).
    هذا برّمته حول سر الحلف بهذه الأشياء ، بقي الحديث عن بيان المناسبة بين القسم بهذه الأشياء والجواب عنها بجملة ( اِنَّ الاِنْسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ ) فنقول : إنّ قوله سبحانه : ( لَقَدْ خَلَقْنَا الاِنْسَانَ فِى اَحْسَنِ تَقْوِيم * ثُمَّ رَدَدْنَاهُ اَسْفَلَ سَافِلِينَ * اِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ اَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُون ) ( التين/4 ـ 6 ).
    يشهد بأنّ للإنسان قدرة على السمو إلى أعلى درجات الكمال ، وكذلك له قابلية على الإنحطاط إلى أدنى المستويات كما يشهد بهذين الأمرين قوله : ( ثُمَّرَدَدْنَاه ... ) وقوله : ( اِلاَّ الَّذِينَ ... ) ، وعلى ضوء ذلك ، فالإنسان ربّما يصل عنداتصافه بجملة تلك الملكات السامية إلى درجة يستحق أن يحلف لا به فقط ، بل بخيله و ما يطرأ عليه من العوارض المذكورة.
    وربّما ينحط عن تلك الرتبة إلى حد يكون فيه جاحداً بكل أنعم ربّه وفضله عليه كما قال سبحانه : ( اِنَّ الاِنْسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ ) وفي آية اُخرى : ( اِنَّ الاِنْسَانَ لِرَبِّهِ لَكَفُورٌ ) ( الحج/66 ) وفي آية ثالثة : ( اِنَّ الاِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ ) ( إبراهيم/34 ) وفي آية رابعة : ( اِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً ) ( الأحزاب/72 ) وفي نقس تلك السورة : ( وَاِنَّهُ عَلَى ذَلِكَ لَشَهِيدٌ ) (3).
1 ـ وسائل الشيعة : ج6 ص45.
2 ـ نهج الفصاحة : ص120.
3 ـ أنّ دراسة الأقسام الواردة في القرآن البالغ عددها قرابة أربعين حلفاً ، من الأبحاث والدراسات الجديرة بالإهتمام ، و قد كتب ابن القيم كتاباً حولها و أسماها « الأقسام في القرآن » ولكنّه أهمل الجانب المهم منها و هو بيان الصلة بين المقسم به و جوابه. نعم قام ولدي الفاضل المجاهد الشهيد الشيخ أبو القاسم الرزاقي ( قدس سره ) بهذه المهمة وأقرده بالتأليف باللغة الفارسية و إنّي أرجو أن يقوم أحد البارعين في اللغتين ، بنقلهإلى اللغة العربية ، فإنّه خير كتاب في هذا الموضوع و قد طبع بتقديم منّا أيام حياته ، و لقد لقى ربه مضرجاً بدمه أثناء الحرب المفروضة على الشعب المسلم في إيران ، و قد أسقطت طائرته ، فاستشهد هو و قرابة أربعين شخصاً ، بين عالم و كاتب وسياسي محنّك ، حشرهم اللّه مع النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) والأئمة المعصومين ( عليهم السلام ) و قد أحرق الحادث قلبي و اراق دموعي.


(428)
7 ـ فتح مكّة أو الفتح المبين
    إنّ أوّل بيت وضع لعبادة الله وتوحيده وتقديسه ، هو الكعبة بيت الله الحرام ، وقد اندرست آثاره وعفيت رسومه في حادثة الطوفان في زمن نبي الله نوح ( عليه السلام ) ، ثم بقي على تلك الحال إلى زمن إبراهيم ( عليه السلام ) ، فأمره عزّ وجلّ بإقامة قواعده وتشييد أركانه ليكون مثابة للناس وأمناً ، قال سبحانه : ( وَاِذْ جَعَلْنَا البَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَاَمْناً وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ اِبْرَاهِيمَ مُصَلّى وَعَهِدْنَا اِلَى اِبْرَاهِيمَ وَاِسْمَاعِيلَ اَنْ طَهِّراً بَيْتِىَ لِلطَّائِفِينَ وَالعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ ) ( البقره/125 ).
    وقد ظلّ البيت الحرام على تلك الوتيرة مدة مديدة من الزمن حتّى تمكّن الشرك من النفوذ إلى نفوس القاطنين في ضواحيه ، وذلك في زمن قصي بن كلاب (1) وعندما بعث النبي الأكرم كانت الأصنام منصوبة وتحيط بالبيت الحرام ، وتعلوها أعلام الكفر والشرك.
1 ـ لاحظ السيرة النبويّة : ج1 ص130 ط بيروت.

(429)
    ولما وقع إبرام الصلح بين النبي الأكرم ، وقريش عبدة الأوثان وسدنة الكعبة ، واتّفقوا على أن يتجنّبوا كل ما من شأنه إثارة الحرب بينهما طيلة عشرة أعوام ، لميكن يتبادر في خلد أحد انّ النبي الأكرم سوف تسنح له الفرصة لفتح ذلك الحصن المنيع للشرك ، ويوقعه في شراك الأسر و الذلة والمسكنة.
    لكنّه سبحانه عندما رجع رسوله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) من صلح الحديبية عازماً الدخول إلى المدينة وعده بفتحين :
    1 ـ الفتح القريب.
    2 ـ الفتح المبين.
    أمّا الأوّل فقد أشار إليه بقوله : ( وَاَثَابَهُم فَتْحاً قَرِيباً ) ( الفتح/18 ) وقال : ( فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذَلِكَ فَتْحاً قَرِيباً ) ( الفتح/27 ).
    وأمّا الثاني فهو الذي ورد في صدر هذه السورة وقال : ( اِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً ).
    أمّا الفتح القريب فقد سلف أن ذكرنا انّه فتح خيبر.
    أمّا الفتح المبين فهو فتح مكّة ، ولم يكن يعلم أحد من الصحابة المراد من ذلك الفتح المبين ، الذي تنبّأ به الوحي قبل مجيئه ، غير أنّه لم تشارف السنتان على الانقضاء بعد نزول تلك الآية إلاّ وقد ظهرت الخيانة من قريش لبنود ذلك الصلح ، وعندها سنحت الفرصة للنبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) بعد أنْ تمكّن من بناء جيش قوي له أن ينقض أركان الشرك ويهاجمهم في عقر دارهم.
     بيانه
    قد كان من بنود الصلح : إنّ من أحب أن يدخل في عقد قريش وعهدهم فليدخل فيه. فدخلت بنوبكر في عقد قريش وعهدهم ، و دخلت خزاعة في عقد رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) وعهده.


(430)
    فلمّا كانت الهدنة اغتنمها طائفة من بني بكر ، فخرج نوفل بن معاوية في جمع حتى باغت خزاعة وهم على الوتير ، ماء لهم ، فأصابوا منهم رجلاً واقتتلوا وأعانت قريش بني بكر بالسلاح ، وقاتل معهم من قريش مَنْ قاتل ، بالليل مستخفياً حتى ساقوا خزاعة إلى الحرام. فلمّا دخلت خزاعة مكّة لجأوا إلى دار « بديل بن ورقاء » ، ودار مولى لهم يقال له « رافع » ، فلمّا تظاهرت بنوبكر وقريش على خزاعة ، وأصابوا منهم ما أصابوا ، ونقضوا ما كان بينهم وبين رسول الله من العهد والميثاق ، وما استحلّوا من خزاعة ، خرج « عمرو بن سالم » الخزاعي حتى قدم على رسول الله المدينة ، فدخل المسجد فانتصب قائماً وقال :
يا رب إنّي ناشد محمدا كنت لنا أباً وكنا ولْدا فانصر هداك الله نصراً أبدا هم بيتونا بالوتير هجّدا حلف أبينا وأبيه الأتلدا ثمت أسلمنا فلم ننزع يدا وادع عباد الله يأتوا مددا وقتلونا ركّعاً وسجّدا
    ولما سمع رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) شعره ، ووقف على صدق مقاله ، قال : نَصَرْتَ يا عمرو بن سالم.
    ثم خرج « بديل بن ورقاء » في نفر من خزاعة حتى قدموا على رسول الله المدينة ، فأخبروه بما اُصيب منهم وبمظاهرة قريش بني بكر عليهم ، ومضى « بديل ابن ورقاء » ، وأصحابه حتى لقوا أباسفيان بن حرب بعسفان قد بعثته قريش إلى رسول الله ليشد العقد ، ويزيد في المدّة ، فدخل أبوسفيان المدينة ، فدخل على ابنته اُمّ حبيبة بنت أبي سفيان ، فلمّا ذهب ليجلس على فراش رسول الله طوته عنه ، فقال : يابنيّة ما أدري أرغبت بي عن هذا الفراش ، أم رغبت به عني ؟ فقالت : بل هو فراش رسول الله ، وأنت رجل مشرك نجس ، ولم أحب أن تجلس على فراش رسول الله ، ثم خرج حتى أتى رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) فكلّمه ، فلم يرد عليه شيئاً ، فتوسّل بجمع من الصحابة أن يشفعوا له عند النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ، فلميجيبوه فآيس منهم ، فركب بعيره وأقفل راجعاً ، فلمّا قدم على قريش قالوا له :
مفاهيم القرآن ـ جلد السابع ::: فهرس