مفاهيم القرآن ـ جلد السابع ::: 411 ـ 420
(411)
تَجْرِى مِنْ تَحْتِهَا الاَنْهَارُ وَمَنْ يَتَوَلَّ يُعَذِّبْهُ عَذَاباً اَلِيماً ) ( الفتح/11 ـ 17 ).
    نزلت هذه السورة الكريمة حين منصرفه ( صلى الله عليه وآله وسلم ) من الحديبيّة في ذي القعدة من سنة ست من الهجرة ، لمّا صدّه المشركون عن الوصول إلى المسجد الحرام ، وحالوا بينه وبين قضاء عمرته ، ثمّ مالوا إلى المصالحة والمهادنة ، وأن يرجع عامه هذا ثمّ يأتي من قابل ، فأجابهم إلى ذلك على كراهة جماعة من الصحابة ، فلمّا نحر هَدْيه حيث احصر ورجع ، أنزل الله تعالى هذه السورة فيما كان من أمره وأمرهم ، وجعل هذا الصلح فتحاً لما فيه من المصلحة ، كما سيجي التصريح في قوله سبحانه : ( فعجّل لكم هذه ).
    وقد تخلّف عن هذه الغزوة ، المنافقون ، ولمّا عاد المسلمون إلى المدينة ، أخذوا يعتذرون وإليك تحليل معذرتهم.

إعتذار المنافقين عن عدم الحضور
    إنّ هذه الآيات تتعرّض لحال الأعراب الذين قعدوا عن المشاركة ولم ينفروا إذ استنفرهم الرسول ، وهم أعراب نواحي المدينة ، وما قعدوا عن المشاركة إلاّ لأنّهم كان يخالون أنّ محمداً وأصحابه لا يرجعون أدراجهم في هذه السفرة ، لأنّهم يذهبون لغزو قريش الذين قتلوا المسلمين قتلاًذريعاً ، ونكّلوا بهم في عقر دارهم « غزوة اُحد » ولمّا رجع رسول الله وأصحابه سالمين ، أخذوا باختلاق المعاذير بقولهم :
    ( شَغَلَتْنَا اَمْوَالُنَا وَاَهْلُونَا فَاسْتَغْفِرْ لَنَا يَقُولُونَ بِاَلْسِنَتِهِم مَا لَيْسَ فِى قُلُوبِهِم ).
    إنّه سبحانه يردّ عليهم ، بأنّ الضر والنفع بيد الله سبحانه ، حيث ظنّوا انّ التخلّف عن النبي يدفع عنهم الضر أو يعجّل لهم النفع ، والسلامة في الأنفس والأموال ، فقال سبحانه : ( قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ لَكُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً اِنْ اَرَادَبِكُمْ ضَرّاً اَوْ اَرَادَ بِكُمْ نَفْعاً بَلْ كَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً ).


(412)
    ثم إنّه سبحانه صرّح بالسبب الواقعي لتخلّفهم فقال : ( بَلْ ظَنَنْتُمْ اَنْ لَنْ يَنْقَلِبَ الرَّسُولُ وَالمُؤْمِنُونَ اِلَى اَهْلِيهِم أَبَدَاً وَزُيِّنَ ذَلِكَ فِى قُلُوبِكُم وَظَنَنْتُم ظَنَّ السَّوْءِ فَكُنْتُمْ قَوْماً بُوْراً ) ولأجل أنّهم قوم غير مؤمنين ، فسوف يعذّبون في السعير لقاء ما يرتكبونه في دنياهم ، فقال سبحانه ( وَمَنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَاِنَّا اَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَعِيراً * وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالاَرْضِ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً ).
    إنّ النبي لمّا عقد الصلح مع قريش ، وعد المؤمنين بالغنائم الكثيرة في المستقبل ( غنائم خيبر ) ولمّا وصل خبر ذلك إلى المنافقين ، طلبوا من المؤمنين المشاركة لهم في هذه السفرة كما ينص عليه قوله سبحانه : ( سَيَقُولُ المُخَلَّفُونَ اِذَانْطَلَقْتُمْ اِلَى مَغَانِمَ لِتَاْخُذُوهَا ذَرُونَا نَتَّبِعْكُمْ ).
    والباعث لهم إلى الإصرار من المشاركة ، هو أنّ النبي الأكرم عندما وعد المؤمنين بالغنائم الكثيرة أخبر بعدم مشاركة غيرهم فيها ، فهؤلاء حاولوا بإصرارهم إبطال كلام الله ونبيّه كما يقول سبحانه : ( يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلاَمَ اللّهِ قُلْ لَنْ تَتَّبِعُونَا كَذَالِكُمْ قَالَ اللَّهُ مِنْ قَبْلُ ).
    ثم إنّهم لمّا سمعوا ذلك الجواب اتّهموا المؤمنين بأنهم يحسدونهم كما يحكي ذلك قوله سبحانه : ( فسيقولون بل تحسدوننا ) ولكنّ الحق أنّ اتّهام المؤمنين والنبي بهذه التهمة كلام من لا يعي ما يقول ، والرسول أجلّ من أن يستشعر حسداً تجاه أحد ، كما يقول سبحانه : ( بَلْ كَانُوا لاَ يَفْقَهُونَ اِلاَّ قَلِيلاً ).
    إنّه سبحانه و إن حرمهم من غنائم خيبر ولكنّه لسعة رحمته ، وعَدَهُم بأنّ المسلمين سيواجهون قوماً اُولي بأس شديد ، فإن شارك القاعدون منهم ، فإنّه سيكون لهم ما للمسلمين كما يقول :
    ( قُلْ لِلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الاَعْرَابِ سَتُدْعَوْنَ اِلَى قَوْم اُوْلِى بَاْس شَدِيد تُقَاتِلُونَهُم اَوْ يُسْلِمُونَ ( أى يقرّون بالإسلام ) فَاِنْ تُطِيعُوا يُؤْتِكُمُ اللَّهُ اَجْراً حَسَناً وَاِنْ تَتَوَلَّوْا كَمَا تَوَلَّيْتُم مِنْ قَبْْلُ يَعَذِّبْكُمْ عَذَاباً اَلِيماً ).


(413)
    وهذا أيضاً من عظيم فضل اللّه سبحانه وجزيل كرمه ، فما صدّ عليهم باباً حتّى فتح لهم باباً لأخذ الغنائم وكسب رضاه سبحانه.
    وهو أنّهم لو رجعوا عن تخلّفهم ، فإنه سبحانه سيغفر لهم.
    وهذه الآيات تشتمل على تنبّؤات غيبيّة نشير إليها :
    1 ـ سَيَقُولُ لَكَ المُخَلَّفُونَ ...
    2 ـ يُرِيدُونَ اَنْ يُبَدِّلُوا كَلاَمَ اللَّهِ
    3 ـ قُلْ لَنْ تَتَّبِعُونَا ...
    4 ـ فَسَيَقُولُونَ بَلْ تَحْسُدُونَنَا
    5 ـ سَتُدْعَوْنَ اِلَى ...
    وستجي تنبّوآت غيبيّة اُخرى نشير إليها في محلها.

بيعة الرضوان
    إنّه سبحانه يشير إلى حادثة بيعة الرضوان التي عرفت تفصيلها في أثناء ذكر قصة صلح الحديبيّة ويقول سبحانه : ( اِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ اِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ اَيْدِيهِمْ فَمَنْ نَكَثَ فَاِنَّمَا يَنْكُثُ عَلَى نَفْسِهِ وَمَنْ اَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهِ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً ) ( الفتح/10 ).
    ويقول سبحانه : ( لَقَدْ رَضِىَ اللَّهُ عَنِ المُؤْمِنِينَ اِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِى قُلُوبِهِمْ فَاَنْزَلَ السَّكِيْنَةَ عَلَيْهِم وَاَثَابَهُمْ فَتْحَاً قَرِيباً ) ( الفتح/18 ).
    نعم رضى الله عن المؤمنين عند المبايعة ، ولكن الرضى إنّما ينتج ويثمر إذا لميحيدوا عن نهج الصراط السوي ، فثواب كل ما يقوم به المسلم من أعمال حسنة


(414)
مشروط بحسن العاقبة ، فلو ارتّد أو افترق ما يوجب سخط الله عزّ وجل فلا ينفعه عمله.

الوعد بفتحين
    إنّه سبحانه وعد المؤمنين بفتحين : فتح قريب ، وفتح مبين.
    أمّا الأوّل : فهو ما ذكره في الآية المتقدّمة أعني قوله : ( فَعَلِمَ مَا فِى قُلُوبِهِم فَاَنْزَلَ اللَّهُ السَّكِييْنَةَ عَلَيْهِم وَاَثَابَهُم فَتْحاً قَرِيباً ) ( الفتح/18 ). و قال : ( فجعل من دون ذلك فتحاً قريبا ) ( الفتح/27 ).
    وأمّا الثاني : فقد أشار إليه في صدر الآية بقوله : ( إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُّبِيناً ).
    والظاهر أنّ المراد من الأوّل هو فتح خيبر لأنّه كان أقرب الفتوحات بعد الحديبيّة.
    وأمّا الثاني فالمراد منه هو فتح مكّة ، والظاهر من سياق ا لآيات ، وكلمات المفسّرين أنّ ما يرجع إلى الفتح القريب من الآيات نزل بعد صلح الحديبيّة.
    الوعد بمغانم ثلاث :
    إنّه سبحانه قد وعد المؤمنين بمغانم ثلاث وإليك الآيات الواردة في هذا الشأن :
    1 ـ ( وَمَغانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَهَا وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً ) ( الفتح/19 ).
    ( وَعَدَكُمُ اللَّهُ مَغَانِمَ كَثِيرَةً ).
    2 ـ ( فَعَجَّلَ لَكُمْ هَذِهِ وَكَفَّ اَيْدِىَ النَّاسِ عَنْكُمْ وَلِتَكُونَ آيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ وَيَهْدِيَكُمْ صِرَاطاً مُسْتَقِيماً ) ( الفتح/20 ).
    3 ـ ( وَاُخْرَى لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْهَا قَدْ اَحَاطَ اللَّهُ بِهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَىْء قَدِيراً ) ( الفتح/21 ).


(415)
    أمّا المغانم الاُولى : فالمراد منها فتح خيبر بقرينة إتّصاله بقوله : ( وَأَثَابَهُم فَتْحاً قَرِيباً ).
    وأمّا قوله : ( وَعَدَكُمُ اللَّهُ مَغَانِمَ كَثِيرَهً ) فأيضاً انّه تأكيد لما تقدّم أعني قولهسبحانه : ( وَمَغَانِمَ كَثِيرَهً ) وإنّما ذكره مقدّمة لقوله : ( فَعَجَّلَ لَكُم هَذِهِ ).
    وأمّا الثانية : أعني ما أشار إليه بقوله سبحانه : ( فَعَجَّلَ لَكُمْ هَذِهِ ) ، فالمراد منه نفس صلح الحديبيّة ، فعدّّها سبحانه غنيمة للمسلمين لما ترتّب عليه من الفوائد.
    وهذا ظاهر على القول بأنّ الآية نزلت في أثناء عودة النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) من الحديبيّة إلى المدينة ، والمسلمون وإن لم يستولوا فيها على غنائم مادّية ، لكنّ اكتسبوا غنائم معنويّة أشرنا إليها ولأجله جعل صلح الحديبيّة في عداد الغنائم.
    وأمّا قوله : ( وَكَفَّ أَيْدِيَ النَّاسِ عَنْكُم ) فالمراد الجماعة التي بعثوا ليطيفوا بعسكر رسول الله ليصيبوا لقريش من أصحابه أحداً ، فاُخذوا فاُوتي بهم رسول الله ، فعفى عنهم ، وخلّى سبيلهم ، وقد كانو رموا في عسكر رسول الله الحجارة والنبل (1).
    وأمّا الثالثة : فهي ما أشار إليه بقوله : ( وَاُخْرَى لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْهَا قَدْ اَحَاطَ اللَّهُ بِهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَىْء قَدِيراً ) ( الفتح/21 ).
    فالظاهر أنّ : ( اُخْرَى ) صفة لموصوف محذوف وهو ( مَغَانِم ) والجملة منصوبة على المحل لكونها مفعولة للفعل المتقدّم ( وعدكم الله ) ، والتقدير « وَعَدَكُمُ اللَّهُ مَغَانِمَ اُخْرَى لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْهَا بَعْدَ وَلَكِن اللَّه اَحَاطَ بِهَا » فما هو المراد من هذه الغنائم ، فلعلّ المراد غنائم قبيلة هوازن ، أو كل الغنائم التي يغنمها المسلمون طيلة جهاد هم في حياة النبي أو بعدها.
1 ـ السيرة النبويّة لابن هشام : ج2 ص314 ، و ستجيء الإشارة إليه في الآية24 أعني قوله : ( و هو الذي كف أيديهم عنكم ... ).

(416)
نبوءة غيبيّة :
    ( وَلَوْ قَاتَلَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوَ لَّوُا الاَدْبَارَ ثُمَّ لاَيَجِدُونَ وَلِيّاً وَلاَ نَصِيراً * سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِى قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً * وَهُوَ الَّذِى كَفَّ اَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَاَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ اَنْ اَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيراً ) ( الفتح/22 ـ 24 ).
    إنّ سورة الفتح اشتملت على أنباء غيبيّة مضى ذكر أكثرها ، والآية الاُولى تتضمن الإشارة إلى واقعة غيبيّة ، فالله سبحانه يبشّر عباده المؤمنين بأنّه لو ناجزهم المشركون لولّوا فراراً مهزومين على أعقابهم لايجدون وليّاً يأخذ بأيديهم ، ويذود عنهم.
    ثمّ الآية الثانية تشير إلى سنّة الله سبحانه في حق أنبيائه وأوليائه ، وهي أنّ نصرتهم هي سنّة الله تبارك وتعالى في أنبيائه والمؤمنين بهم إذا صدقوا وأخلصوا نيّاتهم ، فيظهرهم على أعدائهم ، قال سبحانه : ( كَتَبَ اللَّهُ لاََغْلِبَنَّ اَنَا وَرُسُلِى ) ( المجادلة/21 ).
    ولأجل أنّ سنّة الله سبحانه تقتضي إظهار الأنبياء بمظهر القوّة والغلبة ، فقدكفّ أيدي المشركين عن المؤمنين في معسكر الحديبيّة قبل إنعقاد الصلح ، كما كفّ أيدي المؤمنين عنهم بعد أن أظفرهم بهم ، ولعلّ الآية الثالثة تتضمّن الإشارة إلى أنّ قريشاً كانوا بعثوا أربعين رجلاً منهم أو خمسين رجلاً ، وأمروهم أن يطيفوا بعسكر رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ليصيبوا لهم من أصحابه أحداً ، فاُخذوا أخذاً ، فأتى بهم رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) فعفا عنهم ، وخلّى سبيلهم ، وقد كانوا رموا في عسكر رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) بالحجارة والنبل » (1).
1 ـ السيرة النبويّة لابن هشام : ج2 ص314 ، مضت هذه الرواية في تفسير الآية : ( وعدكم اللّه مغانم كثيرة تأخذونها فعجل لكم هذه وكف أيدي الناس عنكم ) والفرق بين الآيتين ، انّه يذكر هناك كف أيدي الكفار عن المؤمنين ، و في المقام يذكر كف كلاً من الطائفتين عن الاُخرى.

(417)
الأخذ بالحائطة للحفاظ على دماء المؤمنين :
    ( هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُم عَنِ المَسْجِدِ الحَرَامِ وَالهَدْىَ مَعْكُوفاً أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ وَلَوْلاَ رِجَالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِسَاءٌ مُؤْمِنَاتٌ لَمْ تَعْلَمُوهُمْ أَنْ تَطَئُوهُمْ فَتُصِيبَكُم مِنْهُم مَعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْم لِيُدْخِلَ اللَّهُ فِى رَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَاباً اَلِيماً * اِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِى قُلُوبِهِمُ الحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الجَاهِلِيَّهِ فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِيْنَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى المُؤْمِنِينَ وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى وَكَانُوا أَحَقَّ بِهَا وَأَهْلَهَا وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَىْء عَلِيماً ) ( الفتح/25 ـ 26 ).
     الآية الاُولى تشير إلى أمرين :
    1 ـ شدّة قساوة قلوب الكافرين على المؤمنين ، حيث منعوا النبي وأصحابه من المؤمنين عن الدخول الى المسجد الحرام ، والطواف بالبيت ، ومنع الهَدْيَ أن يبلغ محلّه ، وقد عرفت أنّ النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ساق بدنه وكذا المؤمنون حتى بلغ هديهم سبعين بدناً ، ولمّا بلغوا « ذا الحليفة » ، قلّدوا البدنة التي ساقوها واشعروها ، وأحرموا بالعمرة حتى نزلوا بالحديبية ، ومنعهم المشركون ، فلمّا تمّ الصلح نحروا البدن فيها ، مكان نحره في مكّة لأنّ هَدْيَ العمرة لا يذبح إلاّ بمكة كما أنّ هَدْيَ الحج لا يذبح إلاّ بمنى ، وإلى هذا المعنى أشار قوله سبحانه بقوله : ( هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُم عَنِ المَسْجِدِ الحَرَامِ وَالهَدْىَ مَعْكوفاً اَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ ).
    والمراد من قوله ( مَعْكُوفاً ) كونه محبوساً من أن يبلغ مَنحره بالقرب من مكّة.
    2 ـ الإشارة إلى أحد أسباب الصلح مضافاً إلى ما عرفت ، وهو انّه كان بين الكفّار رجال مؤمنون ونساء مؤمنات كانوا يخفون أمرهم ، وما كان جيش المؤمنين يعرفونهم ، فلو اشتبكت الأسنّة لقتلوا بأيدي المسلمين لمحلّ الجهالة بحالهم ،


(418)
وبذلك تصيب المسلمين معرّة ومكروه ، وهو قتل المسلم بيد المسلم ، وبالتالي يعيب المشركون المسلمين بأنّهم قتلوا أهل دينهم ، مضافاً إلى أنّه كان يجب عليهم الكفّارة والديّة ، ولأجل هذه الاُمور مجتمعة ، كفّ أيدي المؤمنين عن المشركين ، وانتهى الأمر بالصلح ، لولا ذلك لأمركم بالجهاد ، وإليه الإشارة فى قوله تعالى : ( وَلَوْلاَ رِجَالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِسَاءٌ مُؤْمِنَاتٌ لَمْ تَعْلَمُوهُم اَنْ تَطَؤُهُم فَتُصِيبَكُم مِنْهُم مَعَرَّةٌ بِغْيرِعِلْم ).
    نعم قضت حكمته بذلك ليدخل في رحمته أُولئك المؤمنين غير المتميّزين ، وينجوبهم من القتل ، ويحفظ جيش المسلمين من لحوق المعرّة والندامة بهم.
    ولو كان المؤمنون مميّزين عن الكفّار ، لعذّب الذين كفروا من أهل مكة ، ولكن لم يعذّبهم ( بأيديكم ) رعاية لحرمة من اختلط بهم من المؤمنين وإليه يشير قوله : ( لِيُدْخِلَ اللَّهُ فِى رَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُم عَذَاباً اَلِيماً ) ( الفتح/25 ). ثمّ إنّه سبحانه يشير إلى جهة استحقاقهم العذاب ، وهي رسوخ حمّية الجاهلية ، واَنَفَتِها وعاداتها في قلوبهم ، والمراد منها التشبّث ، والتمسّك بما كان عليه آباؤهم ، فقد كانت عادة آبائهم في الجاهلية أن لا يذعنوا لأحد ولا ينقادوا له ، وعلى ذلك أصبحوا بعد ظهور الإسلام ، فكانوا يقولون :
    « قد قتل محمد وأصحابه آبائنا وإخواننا ، فلو دخل علينا فى منازلنا لتحدّثت العرب إنّهم دخلوا علينا على رغم أنفنا » ، وهذا هو الذي سمّاه تعالى الحميّة الجاهلية ، أي أنفتهم من الإقرار لمحمد بالرسالة ، وحتى الاستفتاح ببسم الله الرحمن الرحيم ، وإليه يشير قوله سبحانه : ( إذ جعلَ الذينَ كَفَرُوا فى قلوبِهِم الحميّةَ حميّةَ الجاهِلِية ).
    ولكنّه سبحانه لا يترك المؤمنين وأنفسهم ( فأنزل الله سكينته على رسوله وعلى المؤمنين ... ).


(419)
استفسارهم عن علّة عدم تحقّق الرؤيا :
    قد حدّث رسول الله قومه عندما عزم الرحيل لأداء فرض العمرة بأنّه رأى رؤيا انّهم دخلوا المسجد الحرام وحلقوا روؤسهم ، ولكنّهم لمّا رجعوا من الحديبية بعد أن منعوا من زيارة البيت والاطافة به ، قال بعض أصحابه : ألم تقل يا رسول الله انّك تدخل مكّة آمنا ؟ قال : بلى ، اَفقَلت لكم من عامي هذا ؟ قالوا : لا. قال : فهو كما قال لي جبرئيل ، وإليه أشار سبحانه بقوله :
    ( لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ المَسْجِدَ الحَرَامِ اِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُوُؤْسَكُم وَمُقَصِّرِينَ لاَ تَخَافُونَ فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذَلِكَ فَتْحاً قَرِيباً ) ( الفتح/27 ).
    والآية تشير إلى عمرة القضاء التي أتى بها رسول الله في السنة التالية للحديبية ، وهي سنة سبع من الهجرة في ذي القعدة الحرام ، وهو الشهر الذي صدّه فيه المشركون عن المسجد الحرام ، فخرج النبي ، ودخل مكّة مع أصحابه معتمرين ، فأقاموا بمكّة ثلاثة أيام ، ثم رجعوا إلى المدينة ، فلمّا قدم رسول الله مكة أمر أصحابه ، فقال : اكشفوا عن المناكب واسعوا في الطواف ، ليرى المشركون جلدهم وقوّتهم ، وكان أهل مكّة من النساء والصبيان ينظرون إليهم ، وهم يطوفون بالبيت ، وكان عبد الله بن رواحة يرتجز بين يدي رسول الله متوشّحاً سيفه ، ويقول :
خلوا بني الكفّار عن سبيله في صحف تتلى على رسوله كما ضربناكم على تنزيله ويذهل الخليل عن خليله قد أنزل الرحمن في تنزيله اليوم نضربكم على تأويله ضرباً يزيل الهام عن مقيله يا رب إنّي مؤمن لقيله
إنّي رأيت الحق في قبوله (1)

1 ـ السيرة النبويّة لابن هشام : ج2 ص370 ـ 372 ، ومجمع البيان : ج9 ص191 ( طبع بيروت ).

(420)
    والمراد من قوله : ( فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذَلِكَ فَتْحاً قَرِيباً ) هو فتح خيبر ، وتقدمت الإشارة إليه في قوله : ( فَاَنْزَلَ السَّكِينَهَ عَلَيْهِمْ وَاَثَابهُمْ فَتْحاً قَرِيباً ).

التنبّوء بظهور الإسلام على الدين كلّه :
    ثم إنّه سبحانه توطيداً لقلوب المسلمين وطمأنتهم ، تنبّألهم بأنّ رسالة الرسول ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ستنتشر في أرجاء العالم وستظهر على الدين كلّه قال سبحانه : ( هُوَ الَّذِى اَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالهُدَى وَدِينِ الحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيداً ) ( الفتح/28 ).
    وقد جاء هذا التنبّوء في غير موضع من القرآن (1) وهل المراد من ظهوره ، هو ظهوره بالحجّة والبرهان ، وسطوع الدليل ، أو المراد ظهوره بالقهر والغلبة والقوّة ، أو الأعم منهما ، ولعلّ الثالث أوفق ، وذلك كلّما إزدادت المدنيّة ، وتطورت وسائل الإرتباط العالمي بين الشعوب بعضها ببعض ، تجلّت تلك الحقيقة بنحو أكثر وضوحاً ، وهذا يؤيّد دعوى ظهوره بالحجّة والبرهان.
    وأمّا ظهوره بالقوّة والقهر مضافاً إلى ذلك ، فهو مرهون بظهور طلائع وتباشير الدولة الحقّة العالمية ، التي وعدت بها رسالة السماء الخاتمة ، وأسمتها بالدولة المهدية ، وقال الإمام الصادق ( عليه السلام ) في تفسير الآية : « والله ما نزل تأويلها بعد ولا ينزل تأويلها حتى يخرج القائم فإذا خرج القائم لم يبق كافر بالله العظيم » (2).
1 ـ لاحظ سورة التوبة الآية ـ 33 ، و الصف الآية ـ 9.
2 ـ نور الثقلين : ج2 ص212.
مفاهيم القرآن ـ جلد السابع ::: فهرس