مفاهيم القرآن ـ جلد السابع ::: 481 ـ 490
(481)
سبحانه يعد التمسّك بحرمة الحرب فيها جزءاً من الدين القيّم ويقول :
    ( اِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْراً فِى كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ القَيِّمُ فَلاَ تَظْلِمُوا فِيْهِنَّ اَنْفُسَكُمْ وَقَاتِلُوا المُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّهً وَاعْلَمُوا اَنَّ اللَّهَ مَعَ المُتَّقِينَ ) ( التوبة/36 ).
    وبذلك يظهر ضعف سائر الأجوبة التي ذكرت في المقام فلا نطيل بذكرها.

5 ـ ما هي الوثيقة التي بلّغها أميرالمؤمنين ( عليه السلام ) بعد تلاوة الآيات
    لقد اختلفت الروايات في بيان صورة النصّ الذي تضمّن الإنذار السماوي في هذه الحادثة وإليك صوره المختلفة :
    أ ـ أن لا يدخل مكّة مشرك بعد عامه هذا ، ولا يطوف بالكعبة عريان ولا تدخل الجنّة إلاّنفس مسلمة ، ومن كان بينه وبين رسول الله عهد فعهده إلى مدّته ، وفي بعض النصوص مكان مكّة لا يقرب المسجد الحرام مشرك.
    ب ـ لاتدخل الجنّة إلاّ نفس مسلمة ، ولا يحجّ بعد العام مشرك ، ولا يطوف بالبيت عريان ، ومن كان بينه ... الخ.
    ج ـ لايقرب البيت بعد العام مشرك ، ولايطوف بالبيت عريان ، ولاتدخل الجنّة إلاّنفس مسلمة ، وأن يتم كل ذي عهد عهده (1) ولكن بيان حصر استحقاق الجنّة في المسلم لم يكن شيئاً جديداً لم يعهد في صدر الرسالة ، فعدّ ذلك في سياق الوثيقة لايخلو من غرابة وغموض.
     6 ـ لماذا دفع الله سبحانه الأمان عن المشركين ؟
    هذا هو السؤال الأكثر أ همّية في تفسير آيات هذه السورة وذلك إنّ الدعوة
1 ـ لاحظ تفسير الطبري ج49 ص46 ـ 47.

(482)
المحمدية كانت مبنية على أساس البراهين العقليّة والعلميّة كما كانت مبنيّة على رفع الإكراه في الدين.
    قال سبحانه : ( لاَ اِكْرَاهَ فِى الدَّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الغَىِّ ) ( البقرة/256 ).
    مع إنّا نجد في هذه الآيات ما يعلن صريحاً مجابهة المشركين بلاهوادة ويخيّرهم بين طريقين لا ثالث لهما إمّا العزوف عن الشرك والدخول تحت لواء التوحيد وإمّا ترقّب الحرب بعد انقضاء أربعة أشهر من تاريخ بدء إعلان البراءة في قوله سبحانه : ( بَرَاءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ اِلَى الَّذِينَ عَاهَدتُّم مِنَ المُشْرِكِينَ ).
    وهذا هو الذي أثار تساؤل الكثير من المحقّقين والباحثين في العصور المتأخّرة ويمكن الجواب عنه بأحد وجهين :
    1 ـ إنّ البراءة كانت مختصّة بالمشركين الذين كان لهم مع رسول الله عهد ، ولكنّهم غدروا وخانوا ونقضوه. فلأجل ذلك لم يكن بد من رفض العهد المنقوض من جانبهم ، وكانوا في كل زمن على أهبة الهجوم على المسلمين فلا يصحّ لقائد الإسلام السكوت وتركهم حتى يتآمروا على الإسلام والمسلمين وإليك تفصيل ذلك :
    إنّ هذه الآيات ترفع الأمان عن الذين عاهدوهم من المشركين لأجل أنّهم لاوثوق بعهدهم بشهادة أنّهم لم يراعوا حرمة العهد ونقضوا ميثاقهم وقد أباح سبحانه في تلك الفتره إبطال العهد بالمقابل نقضاً بنقض قال سبحانه :
    ( وَاِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْم خِيَانَةً فَانْبِذْ اِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاء اِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الخَائِنِينَ ) ( الأنفال/58 ).
    فأباح إبطال العهد عند مخافة الخيانة ولم يرض مع ذلك إلاّ إبلاغ النقض إليهم لئلاّ يؤخذوا عن غفلة من أمرهم فيكون ذلك من الخيانة.
    والدليل على أنّ ذلك الرفع لم يكن جزافاً هو أنّ الآيات استثنت المتثبين على العهد وقالت : ( اِلاَّ الَّذِينَ عَاهَدتُّمْ مِنَ المُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئاً وَلَمْ يُظَاهِرُوا عَلَيْكُمْ اَحَداً فَاتَمُّوا اِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ اِلَى مُدَّتِهِمْ اِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ المُتَّقِينَ ) ( التوبة/4 ).


(483)
    وقال أيضاً : ( كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ رَسُولِهِ اِلاَّ الَّذِينَ عَاهَدتُّم عِنْدَ المَسْجِدِ الحَرَامِ فَمَا اسْتَقَامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ اِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ المُتَّقِينَ ) ( التوبة/7 ).
    والآيات تصرّح بأنّ استسلامهم أمام قدرة المسلمين إنّما كان لما يعانونه من ضعف وذلّة ، فلو سنحت لهم الأقدار وامتلكوا العدد والعدّة لعاودوا الهجوم على المسلمين وأبادوهم عن بكرة أبيهم وفي ذلك يقول سبحانه : ( كَيْفَ وَاِنْ يَظهَرُواعَلَيْكُمْ لاَيَرْقُبُوا فِيْكُمْ اِلاًّ وَلاَذِمَّةً يُرْضُونَكُم بِاَفْوَاهِهِم وَتَأْبَى قُلُوبُهُمْ وَاَكْثَرُهُمْ فَاسِقُونَ ) ( التوبة/8 ).
    وقال سبحانه في موضع آخر : ( اَلاَ تُقَاتِلُونَ قَوْماً نَكَثَوا اَيْمَانَهُمْ وَهَمُّوا بِاِخْرَاجِ الرَّسُولِ وَهُمْ بَدَؤُكُمْ اَوَّلَ مَرَّه اَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللَّهُ اَحَقُّ اَنْ تَخْشَوْهُ اِنْ كُنْتُم مُؤْمِنِينَ ) ( التوبة/13 ).
    فكل هذه الآيات التي تلوناها عليك وما لم نتلوه صريح في أنّ رفع الأمان كان مختصّاً بلفيف من المشركين الذين كان بينهم وبين الرسول عهد وميثاق ولكنّهم قدنقضوا تلك العهود والمواثيق فحقّت عليهم كلمة العذاب وباؤوا بغضب من الله تعالى على غضب.
    وأمّا الذين التزموا بمواثيقهم أو لم يكن بينهم وبين الرسول أي ميثاق وعهد وماكان يخشى منهم الخيانةوالغدر والقتال للمسلمين فهؤلاء لاتشملهم هذه الآيات.
    وأمّا ما هو واجب القائد الإسلامي أمام الطائفة الاُولى بعد انتهاء عهدهم أو ماهي وظيفته أمام الطائفة الثانية منهما ـ أعني من ليس له عهد بينه وبين القيادة الإسلامية ولا يتوقّع منه أيّة خيانة ـ فتفصيله وبيانه موكول إلى القسم السياسي من الفقه الإسلامي. وسنبيّن حكمه في البحث الآتي.
    ثمّ إنّ في هذه الآيات دلالة صريحة على أنّ الإسلام كان يكن للمشركين بما فيهم الناقضون للعهود الشفقة والرحمة بأبعادهما المختلفة ، نسوق إليك نموذجين منها :


(484)
    أ ـ إنّه إذا استجار المشرك لينظر فيما تندب إليه الدعوة الحقّة ويتبعها أن اتضحت له ، كان من الواجب إجارته حتّى يسمع كلام الله ويرفع عن بصيرته غشاوة الجهل ، وفي ذلك يقول سبحانه : ( وَاِنْ اَحَدٌ مِنَ المُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَاَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلاَمَ اللَّهِ ثُمَّ اَبْلِغْهُ مَأْ مَنَهُ ذَلِكَ بِاَنَّهُم قَوْمٌ لاَيَعْلَمُونَ ) ( براءة/6 ).
    وما ذلك إلاّ لأنّ صرح الدعوة الإسلامية يعتمد على ركيزة تهدف إلى انتشال الناس عن الغي والضلال والانحراف والفساد ، ولازم ذلك بذل العناية المكثّفة في سبيل الوصول إلى هذه الغاية المنشودة وإن ضعف احتمال التأثير وقلّة نسبته.
    ب ـ إنّ المشرك المتحرّف عن العهود والمواثيق لو أظهر التوبة والندامة وشهد على توبته قيامه بالفرائض الدينية كالصلاة والزكاة تقبل توبته ويعد في عداد المسلمين فيشمله من الحقوق ماللمسلمين ، قال سبحانه : ( فَاِنْ تَابُوا وَاَقَامُوا الصَّلاَةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَاِخْوَانُكُم فِى الدِّينِ وَنُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْم يَعْلَمُونَ ) ( التوبة/11 ).
    هذا ما يرجع إلى توضيح هذه الآيات و بيان الأسرار التي تضمّنتها.
    2 ـ نحن نفترض إنّ البراءة كانت عامّة لجميع المشركين الذين يعيشون في ظل الحكومة الإسلامية وأنّها لا تعترف بعد نزول هذه الآيات بدين الشرك أبداً ، وإنّما تعترف بالشرائع الإلهية الإبراهيمية. وتصوّر أنّ ذلك لا يجتمع مع حريّة الإنسان في عقيدته وفكره ، فكر خاطئ يظهر من البحث الآتي الذي عقدناه لبيان الجهاد الإبتدائي ، جهاد دفاعي في الحقيقة وهو مع صلته بالموضوع بحث قرآني مستقل.

الجهاد الإبتدائي ، جهاد دفاعي في الحقيقة
    إنّ البحث عن آيات الجهاد وإن كان يحتاج إلى تأليف رسالة مفصّلة تبحث عن هذه الآيات ، وتبيّن خصوصيّاتها ونكاتها غير اننّا إستكمالاً لما ذكرناه نقف عندها وقفة قصيرة حتّى يتّضح هدف الآيات ، فنقول :
    إنّ الآيات الواردة حول الجهاد وما يرتبط بها من قريب أو بعيد تنقسم إلى


(485)
طوائف خمس لابدّ لكل مفسّر أن يلاحظ مجموعها قبل إتّخاذ الموقف ، وتفسيرها ، وإظهار الرأى فيها.
    وإليك هذه الطوائف :
    الاُولى : الآيات المطلقة التي تدعو إلى مطلق النضال والقتال ، دون أن تقيّد ذلك بقيد ، كقوله سبحانه :
    ( قَاتِلُوا الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلاَ بِاليَوْمِ الآخِرِ وَلاَ يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلاَ يَدِينُونَ دِيْنَ الحَقِّ مِنَ الَّذِينَ اُوْتُوا الكِتَابَ ) ( التوبة/29 ).
    وقوله سبحانه :
    ( يَا اَيُّهَا النَّبِىُّ جَاهِدِ الكُفَّارَ وَالمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ المَصِيرُ ) ( التوبة/73 ).
    فالآية الاُولى تدعو إلى مطلق النضال مع أهل الكتاب ، والثانية تدعو إلى مطلق النضال مع الكفّار والمنافقين دون أن تقيّد مقاتلة هذه الطوائف والجماعات بقيد ، وتعلّق الأمر بشيء مطلق يوجب مقاتلتهم كذلك. سواء أكانوا مقاتلين للمسلمين أم لا ، وسواءً عارضوا الإسلام أم لا.
    الثانية : الآيات التي تقيّد مقاتلة المشركين بقيد وهو قتال المسلمين والعدوان عليهم ، كقوله سبحانه :
    ( وَقَاتِلُوا فِى سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُم وَلاَ تَعْتَدُوا اِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ المُعْتَدِينَ ) ( البقرة/190 ).
    فالقتال ـ حسب هذه الآية ـ يجب إذا تعرّض المسلمون لعدوان الكفّار والمشركين ، ولا يجب قتالهم إذا لم يكونوا مقاتلين.
    وربّما قيّد القتال بقيد آخر وهو تهيّؤ العدو لنقض العهد ، وهو بمعنى التعرّض لقتال المسلمين وبمثابة العدوان ، فلأجل ذلك يجب على المسلمين مقاتلتهم ومحاربتهم. يقول سبحانه ـ بعد أمره بقتال المشركين في مطلع سورة التوبة ـ :


(486)
    ( كَيْفَ وَاِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لاَ يَرْقُبُوا فِيكُمْ اِلاًّ وَلاَذِمَّةً ) ( التوبة/8 ).
    ويقول سبحانه :
    ( لاَ يَرْقُبُونَ فِى مُؤْمِن اِلاَّ وَلا َذِمَّةً وَاُولَئِكَ هُمُ المُعْتَدُونَ ) ( التوبة/10 ).
    ويقول سبحانه :
    ( وَاِنْ نَكَثُوا اَيْمَانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِى دِيْنِكُمْ فَقَاتِلُوا اَئِمَّةَ الكُفْرِ اِنَّهُم لاَ اَيْمَانَ لَهُمْ ) ( التوبة/12 ).
    إلى غير ذلك من الآيات التي توجب مقاتلة المشركين لنقضهم العهود المعقودة بينهم و بين المسلمين لأنّ نقض العهد بمثابة إعلان الحرب ، و إرادة العدوان.
    إنّ ملاحظة هذه الآيات تفيد أنّ القتال لم يشرع على الإطلاق بل لأجل سبب ، و هو إرادة قتال المسلمين و العدوان عليهم ، أمّا بصورة مباشرة و أمّا عن طريق نقض عهود المسالمة ، و الصلح الذي لايعني إلاّ إرادة القتال فيكون القتال هنا من باب الدفاع عن النفس.
    و من هنا تكون هذه الآيات مقيّدة لإطلاق الطائفة الاُولى.
    و من المعلوم أنّ المطلق يحمل على المقيّد و يؤخذ بكليهما حسب ما هو المقرّر في علم « اُصول الفقه ».
    الثالثة : الآيات التي تدعو إلى إنقاذ المستضعفين و نجدة المظلومين وإخراجهم من ظلم الحكّام الجائرين ، و دفع الضيم عنهم.
    و هذا هو أيضاً نوع آخر من الدفاع ... إذ هو دفاع عن الغير ...
    و المعتدى عليه ليس الإنسان نفسه ، أو شعبه ، بل هو شعب آخر مضطهد ولايلزم أن يكون الاعتداء متوجّهاً إلى الإنسان : شخصه أو شخصيّته ، أو قومه بل يكفي أن يكون الإعتداء على الإنسان بما هو إنسان ، فعندئذ يجب في منطق العقل الدفاع عن حقوق الإنسان ، لاعن حقوق الشخص و ما يرتبط به فقط ، بل يكون


(487)
الدفاع عن حقوق الإنسان غير المرتبط بالمقاتل من أفضل أنواع الجهاد و الدفاع ، فإنّ ذلك إيثار و بذل للدم في سبيل حياة الآخرين ، و أيّ عمل أقدس من هذا. ولأجل ذلك نرى أنّ اللّه سبحانه يفرض على المسلمين إغاثة المضطهدين و يقول :
    ( وَ مَا لَكُمْ لاَتُقَاتِلُونَ فِى سَبِيلِ اللّهِ و َ المُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَ النِّسَاءِ وَالوِلْدَانَ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرجْنَا مِنْ هِذِهِ القَرْبَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَ اجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيّاً وَ اجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيراً ) ( النساء/75 ).
    الرابعة : الآيات التي تدلّ على عدم الإكراه في الدين ، لأنّ الدين عقيدة والعقيدة لاتوجد بالإكراه كقوله سبحانه :
    ( لاَإِكْرَاهَ فِى الدِّينَ ) ( البقرة/256 ).
    قيل إنّها نزلت في رجل من الأنصار يدعى أبا الحصين كان له ابنان فقدم تجّار الشام إلى المدينة يحملون الزيت ، فلمّا أرادوا الرجوع من المدينة أتاهم ابنا أبي الحصين فدعوهما إلى النصرانية فتنصّرا و مضيا إلى الشام ، فأخبر أبو الحصين رسول اللّه ( صلى الله عليه وآله وسلم ) فأنزل اللّه تعالى : ( لاإكراه في الدين ) فقال رسول اللّه ( صلى الله عليه وآله وسلم ) : أبعدهما اللّه هما أوّل من كفر ، فوجد أبو الحصين في نفسه على النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) حين لم يبعث في طلبهما ، فأنزل اللّه : ( فَلاَ وَ رَبِّكَ لاَيُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ... ) ( النساء/65 ).
    و قيل : كانت امرأة من الأنصار تكون مقلاتاً (1) فترضع أولاد اليهود ، فجاء الإسلام و فيهم جماعة منهم فلمّا اُجليت بنو النضير إذا فيهم اُناس من الأنصار فقالوا : يارسول اللّه ، أبنائنا و أخواننا فنزلت : ( لا إكراه في الدين ) فقال :
    « خيّروا أصحابكم فإن اختاروكم فهم منكم و إن اختاروهم فأجّلوهم » (2).
1 ـ المقلات : التي لايعيش لها ولد.
2 ـ مجمع البيان ج2 ص363 ـ 364.


(488)
    و كقوله سبحانه :
    ( ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالحِكْمَةِ وَ المَوْعِظَةِ الحَسَنَةِ وَ جَادِلْهُمْ بِالَّتِى هِىَ أَحْسَنُ ) ( النحل/125 ).
    و قوله سبحانه :
    ( وَ قُلِ الحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِن وَ مَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ ) ( الكهف/29 ).
    و قوله سبحانه :
    ( وَ لَوْ شَاءَ رَبُّكَ لاَمَنَ مَنْ فِى الأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكْونُوا مُؤْمِنِينَ ) ( يونس/99 ).
    و قوله سبحانه :
    ( لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ أَنْ لاَيَكُونُوا مُؤْمِنِينَ * إِنْ نَشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ آيَةً فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ ) ( الشعراء/3و4 ).
    إلى غير ذلك من الآيات الكاشفة عن حرّية الإعتقاد.
    الخامسة : الآيات الداعية إلى الصلح و التعايش السلمي كقوله سبحانه :
    ( وَ الصُّلْحُ خَيْرٌ ) ( النساء/128 ).
    و قوله سبحانه :
    ( وَ إِنْ جَنَحُوا لِلسّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا ) ( الأنفال/61 ).
    و قوله سبحانه :
    ( فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقَاتِلُوكُمْ وَ أَلْقَوا إِلَيْكُمْ السَّلَمَ فَمَا جَعَلَ اللّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلاً ) ( النساء/90 ).
    و من المعلوم أنّ الصلح المذكور في الآية الاُولى هو التعايش السلمي و ليس الإستسلام و التسليم للظلم و العدوان.
    إنّ للملاحظ و المتتبّع لهذه الآيات التي تدور حول الجهاد و القتال من قريب


(489)
أو بعيد أن يتساءل :
    إذا كان الإسلام ينشد الصلح و التعايش السلمي مع الطوائف و أهل الملل الاُخرى ، كما تشهد بذلك الطائفة الخامسة ، و إذا كان الإسلام يحترم العقيدة الاُخرى ، و يمنع من إكراه أحد على تقبّل الإسلام و اعتناقه كما تشهد على ذلك الطائفة الرابعة ... فكيف يمكن تفسير الآيات الحاثّة على القتال و المحاربة ؟
    إنّ ملاحظة مجموع الآيات من الطوائف الخمسة تهدينا إلى الجواب الصحيح.
    فإنّ القتال ـ بملاحظة الطائفة الثانية و الثالثة ـ إنّما شرع لأجل الدفاع ، و هذا الدفاع ينقسم إلى ثلاثة أقسام :
    1 ـ الدفاع عن النفس فرداً أو شعباً.
    2 ـ الدفاع عن الغير ( أي المستضعفين و المضطهدين ) فرداً أو شعباً أيضاً.
    3 ـ الدفاع عن القيم الإنسانيّة ، و هو يتحقّق بالجهاد ضد الحاكم المستبد المانع عن نفوذ الدعوة الإسلامية.
    توضيحه : إذا كان الحاكم مستبدّاً مانعاً عن نفوذ دعوة الأنبياء و الأولياء وملهيّاً لشعبه عن التوجّه إلى القيم الرفيعة التي جاء بها الأنبياء ، و دافعاً لهم نحو العقائد الخرافية التي تعتبر سدّاً أمام السعادة الإنسانية ، فعند ذلك يجب النضال ضد هذا الحاكم و نظامه لأمرين :
    1 ـ إنّ الحاكم المستبد ظالم في نظامه ، و معتد على حقوق الشعب حيث سلب عنهم الحقوق الطبيعية و هي الحرّية في الدعوة و الاستماع إليها ، فعند ذلك يكون القتال معه قتالاً مع الظالم المعتدي.
    2 ـ إنّ الدفاع عن النفس و المال و الشعب و ما يرتبط به يعدّ جميلاً عند شعوب العالم. غير أنّ الملاك في كونه جميلاً إنّما هو لأجل كونه دفاعاً عن الحق والحقيقة ، و الدفاع عن الحريّة دفاع عن الحق ، فالحاكم المستبد السالب للحريّة


(490)
عن الأنبياء و الشعوب يضاد عمله الحق و الحقيقة فيحسن قتاله ، و محاربته لأجل تحكيم الحق و نصرته.
    و من هنا يكون الجهاد التحريري في حقيقته جهاداً دفاعياً. لأنّ ذلك الجهاد إنّما هو لأجل إنقاذ المستضعفين الذين تعرّضوا لعدوان و ظلم الظالمين أو لأجل إنقاذ القيم و الحقوق و المثل الإنسانية التي وقعت عرضة لمزاحمة المستكبرين و الحكام المستبدّين ، فأقاموا العراقيل في وجه الدعوة الإسلامية و سلبوا الناس حريتهم في اختيار العقيدة التي يريدونها.
    و بهذا تبيّن أنّ الجهاد بأقسامه المختلفة جهاد دفاعي جوهراً ، و إن كان ينقسم حسب الإصطلاح الفقهي إلى الدفاعي و الإبتدائي.
    و هاهنا نكتة نلفت إليها نظر القاري الكريم و هي أنّ الآيات الاُولى التي نزلت في تشريع الجهاد تدلّ بأوضح الوجوه إلى أنّ الدافع إلى تشريع الجهاد هو الدفاع عن المسلمين و حقوقهم و لم يشرّع لأجل التجاوز و الاعتداء على حقوق الآخرين ، وإليك الآيات :
    ( إِنَّ اللّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا * إِنَّ اللّهَ لاَيُحِبُّ كُلَّ خَوَّان كَفُور * اُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَ إِنَّ اللّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدَيرٌ * الَّذِينَ اُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بَغَيْرِ حَقّ إِلاَّ أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللّهُ وَ لَوْلاَ دَفْعُ اللّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْض لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَ بِيعٌ وَصَلَوَاتٌ وَ مَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللّهِ كَثِيراً وَ لَيَنْصُرَنَّ اللّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللّهَ لَقَوِىٌّ عَزِيزٌ * الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِى الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَ آتَوُ الزَّكَاةَ وَ أَمَرُوا بِالمَعْرُوفِ وَ نَهَوْا عَنْ المُنْكَرِ وَ للّهِ عَاقِبَةُ الاُمُور ) ( الحج/38 ـ 41 ).
    و إليك هذه الدلالات :
    1 ـ قوله سبحانه : ( لاَيُحِبُّ كُلَّ خَوَّان كَفُور ) يدلّ بوضوح إلى أنّ الكافر المقاتل خائن ، و كل خائن معتد يجب محاربته.
مفاهيم القرآن ـ جلد السابع ::: فهرس